و أهل العلم والإيمان وسط في باب العلم بين الغلاة والجفاة، فمن غلا في هذا الباب قضي عمره وليله ونهاره منهمكا في المعرفة حتى عطل أوامر الله عز وجل، وترك العبادة الواجبة بحجة طلب العلم و اكتشاف الحقيقة، حتى أن بعض العلماء المعاصرين يري أن العلمانية قدمت العلم على الإيمان فجعلوا العلم وثنا يعبد من دون الله عز وجل، فحياتهم وليلهم ونهارهم في طلب الحقيقة كما يقولون، و في اكتشاف المخبوء، و في البحث عن المعرفة، و مع ذلك تركوا مسائل الإيمان لما انهمكوا في ذلك، و قد يطلق على مثل المكتشفين و المخترعين الذين كفروا بالله و ألحدوا ولكنهم وجهوا طاقاتهم إلى العلم فقط، قال سبحانه وتعالى:(يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7) فلم يؤتوا مع العلم إيمانا، و الله إنما مدح العلم والإيمان في قوله تعالى:(الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ)(الروم:الآية56)، فهؤلاء ليس منهجهم بصحيح ولا مقبول، مهما قدموا للبشرية فسيبقي عليهم إثم الكفران بالله عز وجل و الأعراض عن دينه سبحانه وتعالى.
و قابلهم الجفاة الذين تنكروا للعلم، و لم يطلبوا المعرفة ولم يبحثوا عن الحقيقة، و لم يجهدوا أنفسهم في التحصيل، سواء في علم الآخرة أو علم الدنيا، و هؤلاء مذمومون جفاة جهلة، و مهما كان عندهم من الثراء، و مهما جمعوا من الأموال، فان الجاهل جاهل، و الله سبحانه وتعالى يقول:(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(الزمر: من الآية9)، و هؤلاء ينكروا على من اسهر ليله في طلب العلم أو اكتشاف الحقيقة، لعدم معرفتهم بفضائل العلم، و الإنسان عدو ما جهل.
و توسط أهل العلم والإيمان في ذلك، فطلبوا العلم وحققوا الإيمان، و رأوا إن العلم طريق إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال صلي الله عليه وسلم: ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة)، و حملوا نصوص فضائل العلم على انه العلم الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة، و هؤلاء العلماء الربانيون، و هم الناصية في الباب والذروة في هذه المسالة، قال سبحانه وتعالى :(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ)(آل عمران:الآية18) ، وقال سبحانه وتعالى:( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)(المجادلة: من الآية11) ، و أوجب الإسلام طلب علوم الدنيا التي لا تخالف الدين من طب وهندسة و أعمار للأرض و بحث عن خيراتها وإخراجا لكنوزها، كل ذلك مع ما يوافق ما انزل الله على رسوله صلي الله عليه وسلم، وكما قال على رضي الله عنه: قيمة كل امرئ ما يحسن، فهؤلاء هم المحسنون في باب العلم، لانهم جمعوا بين العلم والإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام: (مثل ما بعثني الله به من الهدي والعلم)، فالهدي هو العمل الصالح و العلم هو العلم النافع، فعمل بلا صلاح ضلال وعلم بلا عمل غضب، فالضلال الحال على النصارى لانهم عملوا بلا علم، والغضب الحال على اليهود لانهم تعلموا ولم يعملوا ، فنجانا الله منهم ومن عملهم و امرنا أن نستعيذ من أفعالهم، قال سبحانه وتعالى:(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهِمْ وَلا الضالين)(الفاتحة: الآية7) و هم اليهود والنصارى.
د. عائض القرني