عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 2013- 1- 27
ام افنان1
أكـاديـمـي
بيانات الطالب:
الكلية: كلية الاداب الاحساء
الدراسة: انتساب
التخصص: الدراسات الاسلامية
المستوى: المستوى السابع
بيانات الموضوع:
المشاهدات: 12887
المشاركـات: 15
 
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 109692
تاريخ التسجيل: Mon May 2012
المشاركات: 93
الـجنــس : أنـثـى
عدد الـنقـاط : 748
مؤشر المستوى: 49
ام افنان1 will become famous soon enoughام افنان1 will become famous soon enoughام افنان1 will become famous soon enoughام افنان1 will become famous soon enoughام افنان1 will become famous soon enoughام افنان1 will become famous soon enoughام افنان1 will become famous soon enough
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
ام افنان1 غير متواجد حالياً
القضايا المعاصرة وفقه النوازل

اسم المقرر
القضايا المعاصرة وفقه النوازل
د .عبد الله الديرشوي
المحاضرة الأولى
تعريف عام بفقه النوازل

المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن من سنن الله في هذا الكون تبدل أحواله وظروفه بصورة مستمرة، وبتبدل الظروف والأحوال تتبدل كثير من الأدوات والوسائل أيضاً، فتظهر وقائع ونوازل جديدة, يحتاج المسلم معها إلى اجتهاد ونظر جديد لمعرفة أحكام تلك المستجدات في ميزان الشرع. فلو أخذنا على سبيل المثال البنوك التجارية التي وصلت منذ نحو قرن إلى بلاد المسلمين, فسنجد أنها أفرزت أنواع لا حصر لها, ولا تنتهي عند حدٍ من التعاملات والأدوات والوسائل والمسائل التي لم تكن من قبل! كبطاقات الصراف الآلي, والبطاقات الإئتمانية, والحوالات البنكية, وخطابات الضمان, والاعتماد المستندي, والسندات والأسهم بأنواعها, وأساليب البيع والشراء والتأجير والمشاركات ... وغيرها وغيرها كثير, وكلها كانت من إفرازات التطور التقني الهائل الذي شهده العالم ومازال يشهده في هذا القرن في كافة نواحيه, وخصوصاً في مجال الاتصالات التي جعلت كما يقال من العالم قرية صغيرة.
وهذا الذي ذكرناه عن البنوك يعمُّ عالم المال والاقتصاد, فقد دخلت إليه مستجدات كثيرة لا حصر لها, ويقال مثل ذلك في عالم المواصلات براً وبحراً وجواً وما أفرزه من نوازل لم تكن من قبل, ويقال مثله في علوم الطب من زراعة وجراحة وعلاج ...
وهذه القضايا كلها ذات علاقة بالإنسان وسلوكه في الحياة, ومن ثمَّ يتحتم على المسلم البحث عن حكمها في الشريعة من حيث الحِل والحُرمة, أو الصحة والبطلان, قبل الإقدام عليها والتعامل معها. ومن ثَمَّ حظيت ولا تزال تحظى باهتمام علماء العصر لبيان حكم الشرع فيها.
وقبل البدء بتناول نماذج من هذه النوازل سنقوم بالتعريف بفقهها، وبيان أهميته، وحكم الاجتهاد فيها, ومنهجه، وضوابطه، ومصادره, ومراحله, ومدارسه.
تعريف فقه النوازل:
النوازل في اللغة: جمعٌ, مفردها نازلة. وهي: الشديدة من شدائد الدهر تقع بفرد أو جماعة.
وأصلها من الفعل: نزل. بمعنى؛ وقع.
والنوازل في الاصطلاح هي: الوقائع الجديدة التي لم يسبق فيها نص أو اجتهاد.
وأما فقه النوازل فيُقصد به : العلمُ بالأحكامِ الشرعيةِ العمليةِ للوقائع الجديدة التي لم يسبق فيها نصٌ أو اجتهادٌ, المكتسبُ من الأدلة التفصيلية.
وهذا التعريف وضعناه من خلال الجمع بين تعريفي: النوازل والفقه.
وسنقوم فيما يأتي بشرح وتوضيح مفرداته.
شرح التعريف:
يفيد قولنا:
العلم: الاحترازعن الشك والوهم, ويدخل اليقين والظن. فالمراد بالعلم هنا مطلق الإدراك, ويشمل اليقين والظن. وهذا أمرٌ متفق عليه بين أهل العلم؛ لأن الظن كافٍ في بناء الأحكام العملية, بل إن أكثر الأحكام الفقهية ثابتة بأدلة ظنية.
والأحكامِ الشرعيةِ: الاحتراز عن الأحكام اللغوية كالنحو, والأحكام العقلية كعلوم الحساب.
والعملية: الاحتراز عن الأحكام الشرعية الاعتقادية كالإيمان بالله وصفاته, والوجدانية كالإخلاص والتواضع ونحوها, فإن الفقه لا يبحث فيها, بل يبحث في أفعال الجوارح.
والوقائع الجديدة: الاحتراز عن القديمة فإنها لا تدخل في النوازل.
والمكتسبُ: (بالرفع صفةٌ للعلم) أي؛ العلمُ المكتسبُ, ويفيد الاحتراز عن العلم غير المكتسب, كعلم الله سبحانه, وعلم جبريل u وعلم الرسول r.
ومن الأدلة التفصيلية: الاحتراز عن علم أصول الفقه؛ لأنه يُكتسب من الأدلة الإجمالية.
الألفاظ ذات الصلة بمصطلح النوازل:
يعبر كثير من علماء الشريعة عن النوازل بأسماء ومصطلحات أخرى، من أشهرها:
1 – الفتاوى: جمعٌ مفردها فتوى. وهو إخبارٌ بحكم الله تعالى عن دليل شرعي. ويعرفه بعضهم بأنه توقيع عن الله تعالى. وهو دارج على ألسنة الفقهاء منذ القديم.
2- الحوادث: وهو مصطلح شائع أيضاً وبخاصة على ألسنة الأصوليين والفقهاء.
3 – الواقعات: جمعٌ مفردها واقعة, من وقع كذا كالنازلة. وهو مصطلح دارج على ألسنة الفقهاء, وخصوصاً عند الحنفية.
4 – القضايا المستجدة: وهو مصطلح شاع حديثاً.
أهمية الاجتهاد في النوازل:
تظهر أهمية الاجتهاد في النوازل المعاصرة في الجوانب الآتية:
1- رفع الإثم عن الأمة؛ لأن الاجتهاد في النوازل من فروض الكفاية.
2- التأكيد على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان بالدليل العملي.
3- التأكيد على مراعاة الشريعة لحاجات العباد ومصالحهم.
4- تفويت الفرصة على من ينادي بتحكيم القوانين الوضعية، أو يتهم الشريعة بالعجز, ووضع البديل المتمثل بحكم الشرع بين أيدي الناس.
4- تجديد الفقه الإسلامي وتنميته وتحريك هِمم طلبة العلم نحوه للتحصيل الجاد بغية التمكن من الاجتهاد في النوازل والقضايا المستجدة التي لا تنتهي عند حدٍ أو عصر.
6- الرد العملي على من يزعم أن باب الاجتهاد قد أغلق, لأن غلقه يعني تعطيل تحكيم الشرع في القضايا المستجدة, وهو ما لا يقبل به مسلم.
حكم الاجتهاد في النوازل:
الاجتهاد في النوازل من الفروض الكفائية لقَوْله تَعَالَى: {وما كانَ المؤمنونَ لِيَنْفِروا كافةً, فلولا نَفَرَ من كل فِرْقةٍ مِنْهُم طَائِفَةٌ ليتفقهوا فِي الدّينِ ولِيُنْذِروا قَومَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يَحْذَرون} (التوبة: 122) فإذا قام به البعض بحيث يحقق كفاية الأمة سقط الإثم عن الجميع, وإلا كانوا آثمين لتقصيرهم في بيان أحكام الشرع, ولِما يَلزم منه من تعطيله. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) وتعطيل الشرع ضلالة, وقال أيضاً: (لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله). فالنصوص هذه قد دلت على أن الاجتهاد فرض كفاية في كل عصر. يقول الزركشي في البحر المحيط: ”مَسْأَلَةٌ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَعَرُّفِ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْوَقَائِعِ، وَتَعَرُّفُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ –أي بالاجتهاد- غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى التَّعْيِينِ –أي غير واجب على كل مكلف- فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُجْتَهِدِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ قُطْرٍ مَا تَقُومُ بِهِ الْكِفَايَاتُ“.
المنهج الشرعي في استنباط أحكام النوازل:
من الأمور المقررة لدى علماء الأمة أنه ما من واقعة إلا ولله فيها حكمٌ, كما أنهم متفقون على أن النصوص قليلة محصورة، والحوادث كثيرة متجددة وغير محصورة، ويستحيل أن يحيط المحصور بغير المحصور, ومن ثمَّ شُرِع الاجتهاد والنظر لبيان حكم الشرع في الحوادث والنوازل.
ويتمثل المنهج الشرعي في استنباط حكم النازلة في الخطوات التالية:
1- البحث عن حكم النازلة في القرآن الكريم أولاً، فإن لم يجد ففي سنة رسول الله r، فإن لم يجد بحث عن أقاويل من سبقه من أهل العلم, وما إذا كان لهم فيها إجماع سابق. ففي حديث معاذ t لما أرسله الرسول r إلى اليمن, قال له: ( كيفَ تَصنعُ إِنْ عرضَ لك قضاءٌ؟). قال: أقضي بما في كتابِ الله. قال: (فإنْ لم يَكُن في كتابِ الله؟). قال: فبسُنَّة رسول اللهِ r. قال: (فإنْ لم يَكُنْ في سُنَّةِ رسول الله r؟). قال: أجْتهدُ رأيي ولا آلو. قال معاذ t: فضرَبَ رسولُ اللهِ r صدري، ثم قال: (الحمدُ لله الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رسولَ اللهِ).
ولا يعني هذا أننا لا ننظر في سنة رسول الله rإلا إذا لم نجد الدليل في كتاب الله تعالى, بل القصد أننا ننظر بهذا الترتيب, فنقدم كتاب الله أولاً؛ لأنه قطعي الثبوت من جهة, ولأنه لفظاً ومعنىً من عند الله تبارك وتعالى من جهة أخرى, فكان حقه التقديم على السنة المطهرة, والتي تأتي في المرتبة التالية. والسنة مبينة وموضحة لما جاء به القرآن الكريم, فتخصص عامه, وتقيد مطلقه, وتبين مجمله... ومن ثَمَّ وجب الرجوع إليها مع القرآن الكريم.
2- إن لم يظفر المجتهد بحكم النازلة في الكتاب والسنة والإجماع, تعين عليه استنباط حكمها بطريق الاجتهاد كما دل حديث معاذ t آنفاً, والاجتهاد يكون:
إما من خلال القياس, وذلك إن وجد للنازلة الجديدة مسألة شبيهة, في حكمها نص من الكتاب أو السنة.
وإما من خلال قياس الأصول, والقواعد العامة, واعتبار مقاصد الشرع الكلية.
ضوابط الاجتهاد في النوازل:
1 - أن يكون الناظر من أهل الاجتهاد: بأن يكون بالغاً عاقلاً، ثبتت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها، ويتحقق ذلك بما يأتي:
الأول: معرفة كتاب الله، وسنة رسوله، وهما الأصل في الأحكام. ولا يشترط معرفتهما كاملاً بل ما يتعلق منهما بالأحكام. كما لا يشترط حفظهما عن ظهر قلب, بل إمكانية الوقوف على نصوصهما من خلال المصحف وكتب السنة.
الثاني: معرفة مسائل الإجماع؛ لئلا يفتي بخلاف ما وقع عليه الإجماع.
الثالث: أن يكون عالماً بلسان العرب بالقدر الذي يمكنه من فهم نصوص الكتاب والسنة.
الرابع: أن يكون عالماً بالناسخ والمنسوخ؛ لئلا يحكم بحكم فيتبين بأنه منسوخ.
الخامس: أن يكون عالماً بأصول الفقه؛ ليتمكن من استنباط الأحكام من الأدلة،
وأن يبذل جهده في البحث والنظر غير غافل عن مقاصد الشريعة العامة في استنباط الأحكام. جاء في البحر المحيط: "الْمُجْتَهِدُ الْفَقِيهُ وَهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ ذُو مَلَكَةٍ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى اسْتِنْتَاجِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَأْخَذِهَا وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ أَوَّلُهَا: إشْرَافُهُ عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَإِنْ قَصَّرَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْكِتَابِ، بَلْ مَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ بِالْأَحْكَامِ. وَثَانِيهَا: مَعْرِفَةُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ السُّنَنِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ. وَثَالِثُهَا: الْإِجْمَاعُ: فَلْيَعْرِفْ مَوَاقِعَهُ حَتَّى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ حِفْظُ جَمِيعِهِ، بَلْ كُلُّ مَسْأَلَةٍ يُفْتِي فِيهَا يَعْلَمُ أَنَّ فَتْوَاهُ لَيْسَتْ مُخَالِفَةً لِلْإِجْمَاعِ. وَرَابِعُهَا: الْقِيَاسُ: فَلْيَعْرِفْهُ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ، فَإِنَّهُ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ وَأَصْلُ الرَّأْيِ وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ الْفِقْهُ. وَخَامِسُهَا: كَيْفِيَّةُ النَّظَرِ. وَسَادِسُهَا: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ: لُغَةً وَنَحْوًا وَتَصْرِيفًا، فَلْيَعْرِفْ الْقَدْرَ الَّذِي يَفْهَمُ بِهِ خِطَابَهُمْ وَعَادَتَهُمْ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَى حَدٍّ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ صَرِيحِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ، وَمُجْمَلِهِ وَمُبَيَّنِهِ، وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ، وَحَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَسَابِعُهَا: مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مخَافَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحُكْمِ بِالْمَنْسُوخِ الْمَتْرُوكُ وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ وُجُوهِ النَّصِّ فِي الْعُمُومِ والخصوص
وَالْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ، وَالْمُبَيَّنِ، وَالْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَالشَّرْطُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَعْرِفَةُ جُمَلِهِ لَا جَمِيعِهِ، لِأَنَّ هَذَا لَمْ نَرَهُ فِي السَّادَةِ الْقُدْوَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ كَانَ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ، مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ فَيَعْرِفُونَهَا مِنْ الْغَيْرِ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَرِدُ عَلَيْهِ، فَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ: لَا أَدْرِي. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ. أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى قُوَّةِ قَامَةٍ فِي النَّوْعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُجْتَهِدٌ" انتهى ملخصاً.
وكما هو معلوم فإن المجتهد كما يقول الشاطبي: "قائم في الأمة مقام النبي صلّى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك أمور: أحدها: النقل الشرعي في الحديث: "إنّ العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنّما ورثوا العلم".
الثاني: أنّه نائب عنه في تبليغ الأحكام ، لقوله: "ألا ليُبلّغ الشاهد منكم الغائب".
الثالث: أن المفتي شارع من وجه؛ لأنّ ما يبلغه من الشريعة إمّا منقول عن صاحبها، وإمّا مستنبط من المنقول، فالأول يكون فيه مبلّغاً، والثاني يكون فيه قائماً مقامه في إنشاء الأحكام. وإنشاء الأحكام إنّما هو للشارع“. ومن ثمَّ وجب الحذر الشديد منه.
2- فهم واقع الناس: لا يكون الحكم مقبولاً وقابلاً للتطبيق من الناس إلا إذا كان المجتهد قد عرف واقعهم، وفهم ظروفهم وأحوالهم ومشكلاتهم. يقول القرضاوي: "لا يجوز أن يفتي الناس من يعيش في صومعة حسّية أو معنوية، لا يعي واقع الناس، ولا يحس بمشاكلهم” ثم يضيف "ينبغي أن تكون الفتوى: يزدوج فيها فقه الدين وفقه الحياة، وبدون معرفة الناس ومعايشتهم في واقع حياتهم، ومشكلات عيشهم، يقع المفتي في متاهات، أو يهوم في خيالات، ويظلّ في واد والناس في واد".
3- النظر إلى العادات والأعراف: يعتمد الفقهاء على العرف في كثير من الأحكام، ويعتبرونه أصلاً يرجع إليه. فالشرع وسع في أشياء ولم يحدّدها ويفصّل فيها، بل تركها لما تعارف الناس عليه كقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 241). ومن القواعد الفقهية الكبرى: "العادة محكّمة". والأحكام المبنية على العرف تتغيّر بتغيّره مكاناً وزماناً، فإذا تغيّرت وجب النظر إليها، واعتبارها عند الحكم، وما يعتبر عرفاً في بلد أو منطقة معيّنة قد لا يعتبر في مكان آخر.
4 - مراعاة تغير الظروف والأحوال: يجب عند الحكم على النازلة النظر إلى تغيّر أخلاق الناس, وفساد أهل الزمان, وما قد تواجهه الأمة من ظروف توجب عليها رعاية المصالح ودفع الأذى والمفاسد بما لا يتعارض مع قواعد الشريعة ومبادئها ومقاصدها. يقول العلامة ابن عابدين في هذا الأمر : "فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزِم منه المشقّة بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنيّة على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد". من ذلك مثلاً إفتاء المتأخرين بجواز أخذ الأجرة لمعلّم القرآن؛ فقد كان كثير من العلماء السابقين يرون عدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وذهب المتأخّرون إلى الجواز. قال ابن عابدين: "ولو اشتغل المعلّمون بالتعليم بلا أجر يلزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين". فإذاً كان تغير أحوال الناس سبباً في تغير الفتوى.
5 - ذكر البديل المباح عند وجوده: إنّ من أهداف الشريعة الإسلامية التيسير ورفع الحرج عن الناس، فإذا أُقفل باب المحظور عليهم فإنّه ينبغي على الفقيه أن يوضّح لهم سبب الحظر، ويرشدهم إلى المباح. يقول ابن القيم: "من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه، وكانت حاجته تدعوه إليه، أن يدلّه على ما هو عوض له منه، فيسدّ عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح، وهذا لا يتأتّى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر مع الله وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطّباء يحمي العليل عما يضرّه، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان".
مصادر الأحكام الشرعية للاجتهاد في النوازل:
لا بد للباحث في النوازل من معرفة مصادر الأحكام الشرعية، وهي على نوعين:
مصادرٌ متفق عليها بين أهل العلم, وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
ومصادرٌ محل اختلاف بين أهل العلم، وهي: الاستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف, والاستصحاب، وسد الذرائع, ومذهب الصحابي, وشرع من قبلنا.
وسبب الاختلاف في بعض هذه المصادر يرجع إلى التسمية, وإلا فجميعهم يأخذون بها ويعتبرونها, كما في العرف والاستصحاب. فجميع الفقهاء يأخذ بالقاعدة الفقهية التي تقول: (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً) و(العادة مُحَكَّمةٌ) و(الأصل بقاء ما ما كان على ما كان) و(الأصل براءة الذمة), لكنهم يخالفون في تسميتها بالمصادر.
وبعضها الآخر محل خلاف حقيقي كشرع من قبلنا ومذهب الصحابي فإن بعض الفقهاء يأخذ بها على أنها أدلة مستقلة قائمة برأسها, وبعضهم الآخر لا يأخذ بها.
المحاضرة الثانية
مراحل النظر في النوازل الفقهية ومدارسه

مراحل النظر في النوازل الفقهية:
ينبغي على الباحث عند النظر والاجتهاد في حكم النازلة الفقهية القيام بما يأتي:
1- تصوّر النازلة وفهمها فهماً دقيقاً.
2- تصنيف النازلة وتكييفها فقهياً.
3- تطبيق وتنزيل الحكم الفقهي على النازلة.
وفيما يلي تفصيل القول في كل مرحلة من هذه المراحل:
المرحلة الأولى: التصور والفهم:
الحكم على الشيء فرع عن تصوّره, ومن ثم كان من واجب المجتهد تصوّر النّازلة وفهمها فهماً دقيقاً ليتمكن من الحكم عليها. وكذلك تصوّر الواقع الذي يحيط بها. وهذا ما أرشد إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب tأبا موسى الأشعري t والي البصرة" في كتابه الذي وجهه إليه حيث جاء فيه: " الفهم الفهم فيما أُدلي إليك ممّا ورد عليك ممّا ليس في قرآن ولا سنّة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبّها إلى الله وأشبهها بالحق".
ويستدعي تصور النّازلة الأمور التالية :
أ - النّظر في جذور النازلة، وتاريخ نشأتها والمراحل التي مرت بها.
ب – البحث والتّحري عن الدّراسات السّابقة حول النّازلة. يقول ابن عبد البر: "لا يكون فقيهاً في الحادث من لم يكن عالماً بالماضي".
جـ - جمع المعلومات المتعلّقة بالنازلة، من حيث موضوعها وماهيّتها، وهذا يتطلّب استقراءً عملياً كإجراء جولات ميدانية، أو مقابلات شخصية، بالإضافة إلى الاستقراء النظري.
د - وجوب الرجوع إلى أهل العلم والاختصاص لأخذ معلومات صحيحة ووافية عن النّازلة، يقول سبحانه وتعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، فإذا كانت النازلة تختصّ بالطّب، كان على المجتهد الرجوع إلى الطّبيب الثّقة لسؤاله، وتوضيح ما استشكل عليه. وإذا كانت تتعلق بالبنوك رجع إلى المتخصصين فيها. وإذا كانت تتعلق بالتجارة أو الزراعة أو حرفة معينة رجع إلى الثقات المتخصصين فيها. وهكذا. فكما يقال: فهم السؤال نصف الجواب, فإن فهم النازلة نصف الاجتهاد فيها, أو نصف الحكم فيها. فمثلاً: الذين لم يعرفوا حقيقة النّقود الورقية المعاصرة أفتوا بأنه لا زكاة فيها! والربا لا يجري فيها!! بحجة أنها ليست ذهباً ولا فضة, وألحقوها بالفلوس التي تباع على أنها عروض وليست نقوداً. ولو علموا حقيقة النقود الورقية لتلافوا الوقوع في ذلك الخطأ الفادح.
المرحلة الثانية: تصنيف النازلة وتكييفها فقهاً:
ويعني التصنيف: إرجاع المسألة إلى الأصل الذي تنتمي إليه.
وأما التكييف الفقهي فيعني: تحرير المسألة، وبيان الأصل الذي تنتمي إليه.
وهو متوقّف على أمرين:
أولاً: التصور التام للنازلة، ومعرفة الناظر بأحكام الشريعة. فاستيعاب النّازلة من جميع جوانبها، وإحكام تصورها تصوّراً سليماً، يمكن من تكييفها فقهاً بتحرير الأصل الذي تنتمي إليه، والبحث عن الحكم الشرعي المناسب لها، وهو ما يعرف عند الأصوليين بتحقيق المناط.
ثانياً : المنهج الذي يتّبعه المجتهد لاستخراج الحكم ويكون باتّباع أحد الأمور التالية مرتبة :
أ - البحث عن حكم النّازلة في نصوص الكتاب والسنة أو إجماع الأمة. وعليه كان الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم.
ب - الاجتهاد في إلحاق النازلة بما يشابهها من النّوازل المتقدّمة لتقاس عليها، وتأخذ حكمها. وهذا ما يسمى بالتخريج، وهو نوع من القياس. ومثال ذلك : قياس عمليات التجميل باتخاذ أعضاء صناعية ولو من الذهب على إجازة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا لعرفجة بن أسعد tحيث قال: "أصيب أنفي يوم الكِلاب في الجاهلية فاتّخذت أنفاً من ورِق فأنتن علي، فأمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أتّخذ أنفاً من ذهب".
جـ - النظر في اندراج حكم النازلة تحت بعض القواعد الفقهية، أو الأصول الشرعية، أو ضمن فتاوى بعض الأئمة المتقدمين.
وتعتبر القواعد الفقهية خير معين لمن أراد البحث عن حكم نازلة أو واقعة أحاطت به، وذلك لاستيعابها لمفاهيم مقررة في الفقه الإسلامي تسهل استخراج الأحكام
الفقهية. يقول الإمام الزركشي: "وقد بلغني من الشيخ قطب الدين السنباطي رحمه الله - أنّه كان يقول : "الفقه معرفة النظائر"، وقال ابن سراقة في كتابه في الأصول : "حقيقة الفقه عندي الاستنباط"، قال الله تعالى : َ{إِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83).
د - الاجتهاد في استنباط حكم مناسب لهذه النازلة بطريق الاستصلاح أو سدّ الذرائع أو غيرهما، وهو ما يسمى بالاستنباط.
أمّا فتاوى الأئمة المتقدّمين، فيمكن معرفتها من خلال النظر في كتب المذاهب الفقهيّة، والمصنّفات التي تفيد الباحث عن حكم نازلة من النوازل، وخاصة كتب الفتاوى المتخصّصة بالمستجدّات، فقد يجد الباحث فيها من المعلومات النافعة "وكم من مسألة يظنّها الباحث جديدة حادثة، فيتبيّن بعد أنّها ليست كذلك، وقد وقعت أو نحوها في بلدة كذا ، وأفتى فيها العلماء".
المرحلة الثالثة: التطبيق والتنزيل ومعرفة مقاصد الشريعة:
أولاً: التطبيق والتنزيل:
وهو تنزيل الحكم الشرعي على المسألة النازلة مع الأخذ بالاعتبار العمل بمقاصد الشريعة ومعرفة مدى تطبيقه على الواقع .
ثانياً: معرفة مقاصد الشريعة:
أ - مقاصد الشريعة هي: "المعاني والحِكم التي راعاها الشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها -عموماً وخصوصاً- من أجل تحقيق مصالح العباد في الدارين"
والمقصد العام هو حفظ نظام الأمّة، واستدامة صلاحه بصلاح الإنسان، الذي يشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله. فلا بدّ من معرفة مقاصد الشريعة ، وفهمها لمن أراد البحث عن حكم نازلة أو واقعة.
ولذلك فقد اشترط الإمام الشاطبي لحصول المجتهد درجة الاجتهاد شرطين ، أوردهما في قوله : "إنّما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصّف بوصفين : أحدهما : فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني : التمكّن من الاستنباط بناء على فهمه فيها"
ب - أنواع مقاصد الشريعة: يوضّح الإمام الشاطبي أنواع المقاصد بقوله :"وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام : أحدها: أن تكون ضرورية ، والثاني : أن تكون حاجّية ، والثالث : أن تكون تحسينية . فأمّا الضرورية فمعناها أنّها لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا ، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة " ، ويتابع قائلاً : "ومجموع الضروريات خمسة ، وهي : حفظ الدين ، والنفس ، والنسل ، والمال ، والعقل ..... وأما الحاجيات فمعناها : أنّها تفتقر إليها من حيث التوسعة ، ورفع الضيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامّة ، وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات ....وأما التحسينات فمعناها : الأخذ بما يليق من محاسن العادات ، وتجنّب الأحوال المدنّسات التي تأنفها العقول الراجحات ، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق "
جـ - أهم مقاصد الشريعة :
1- رفع الحرج : فكلّ الأحكام الشرعية جاءت لرفع الحرج عن العباد ، ورفع المشقة عنهم، وفي هذا مراعاة لأحوالهم .
2- مراعاة المصلحة: تعتبر المصلحة أصلاً شرعياً يُبنى عليه، ويُرجع إليه عند عدم النص يذكر الإمام الغزالي في تعريفه للمصلحة بأنها: "عبارة في الأصل عن جلب منفعة، أو دفع مضرّة، فإن جلب المنفعة ودفع المضرّة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم" ومن أهمّ المصالح: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل. فكلّ ما يتّفق مع أسس الشرع ومقاصده يُعدّ مصلحة، وكلّ ما يتعارض مع هذه الأسس يُعدّ مفسدة.
3- النظر إلى المآلات: هذا الأصل العظيم قد يغفل عنه بعض من ينادي بأمور مباحة أصلاً فيقع عند الإقدام عليها ما لا تحمد عاقبته. يقول تعالى في كتابه الكريم {َلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 108) ولحديث: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه“ قيل يا رسول الله: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ”يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه" ويقرّر الإمام الشاطبي هذا الأصل بقوله: "النظرُ في مآلاتِ الأفعالِ معتبرٌ مقصودٌ شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلّفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل”.
ويذكر بعض الباحثين أسلوباً آخر لاستنتاج حكماً للنازلة؛ وذلك بترديدها بين الحظر والإباحة، ويمكن استنباط الحكم بطريق الافتراض، واختبار كل فرضية حتى يتمّ الوصول إلى نتيجة، وذلك بافتراض القول بالجواز، والنظر في أثر هذا القول، وما يترتّب عليه من مصالح ومفاسد. وكذلك افتراض القول بالحظر، والبحث في أثره وما يترتب عليه، ثم إجراء موازنة بين النتائج في الخطوتين مراعياً المصالح والمفاسد المترتبة، ويسترشد في ذلك بالقواعد الفقهيّة الكلية.
ثم يقوم الباحث بعد ذلك بعرض القول الذي ترجّح لديه في النازلة على مقاصد الشريعة.
وإذا لم يستطع الباحث بعد إجراء الخطوات السابقة أن يستنتج حكماً للنازلة فعليه حينئذ أن يتوقف ولا يفتي فيها حتى يغلب على ظنه حكم ما.
مدارس الفتيا في النوازل المعاصرة:
هناك ثلاثة مدارس للنظر في أحكام النوازل، هي:
الأول: مدرسة التضييق والتشديد.
الثاني: مدرسة المبالغة في التساهل والتيسير.
الثالث: مدرسة التوسط والاعتدال.
وفيما يلي سنقوم بتوضيح منهج كل مدرسة من هذه المدارس الثلاثة:
المدرسة الأولى: مدرسة التضييق والتشدد:
وهؤلاء يميلون إلى التشديد وتغليب جانب الحرمة في كل جديد بحجة أنه الأحوط والأسلم في الدين.
وهذا من الغلو في الدين, وهو مذمومٌ. نعم قد يكون ذلك مقبولاً إذا كان يتعلق به في خاصة نفسه, وأما أن يُلزم غيره به, ويحمل الناس على التضييق والتشدد فهو مخالف ليسر الدين, وسماحة الشريعة ما لم يكن إثماً.
والدوافع إلى التشدد والتضييق متعددة منها:
1- التعصب للمذهب, ورفض الخروج عنه مهما كان قوله ضعيف المأخذ, ومهما خالفه فيه غيره من أئمة العلم من داخل المذهب وخارجه. يقول الإمام أحمد رحمه الله: (من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحملهم على مذهبه ويشدد عليهم). إن مذهباً واحداً من المذاهب الأربعة المتبوعة لن يسع الناس كلهم لاختلاف أحوالهم, وتنوع مجتمعاتهم, وفي اختلاف الفقهاء سعة ورحمة, وبإمكان المفتي
أن يختار من الأقوال الأنسب لأحوال الناس, والأكثر تحقيقاً لمصالحهم, من غير خروج عن نصوص الشرع, أو أخذ بأقوال شاذة ضعيفة, وفي هذا يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ”مَا أُحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلاً وَاحِداً كَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ, وَإِنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ, وَلَوْ أَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ كَانَ فِي سَعَةٍ“ وبمثله قال آخرون من السلف. وإلى هذا أيضاً يشير الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في كلامه لتلميذه إِسحاق بن بهلول الأَنباري حين جاءه بكتابٍ ألفه وسمَّاه: "كتاب الاختلاف" فقال له أَحمد: سَمِّهِ "كتاب السعة”. وهو معنى قول ابن قدامة: ”اختلافهم -أي أئمة المذاهب الأربعة- رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة“. أي لما فيه من التوسعة على العباد، ونفي الحرج عنهم.
2- التمسك بظواهر النصوص: إن اتباع النصوص وتقديمها أصل شرعي لا خلاف فيه, ولكن محل الاعتراض والرفض في الأمر أن يقف المفتي عند ظواهر بعض النصوص دون التفقه في معناها, ودون جمعها مع غيرها من النصوص والتوفيق بينها, ودون النظر إلى مآلات رأيه, وتعارضه مع مقاصد الشريعة القاطعة! كمن يأخذ بظاهر حديث (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) فيبطل كل شرط في عقد! مع أن الصحيح في معناه, والذي ينسجم مع الأدلة الأخرى هو: كل شرط يتعارض مع كتاب الله فهو باطل كما ذكره علماؤنا. أو من يقول بتحريم تأجير الأراضي الزراعية بحجة ورود أحاديث صحيحة في النهي عنها! مع أن العلماء بينوا أن هذا النهي كان من باب حث الأنصار على مساعدة إخوانهم المهاجرين بمنحهم الأراضي التي لا يزرعونها, ومن ثمَّ فإن تلك الأحاديث قد قيلت في ظروف معينة, وتعميمها على جميع الأوقات مصادم لأدلة أخرى, ومن ثمَّ لم يأخذ بها أئمة المذاهب الأربعة, وقالوا بجواز تأجيرها.
إن مثل هذا النوع من المفتين لم يمارسوا الفقه, ولم يقفوا على مدارك الفقهاء في الاستنباط، وتعليل الأحكام, وإلا لكان أمرهم مختلفاً.
3- المبالغة في الأخذ بمبدأ سد الذرائع أخذاً بالاحتياط: إن كثيراً من الفقهاء أخذوا بمبدأ سد الذرائع حماية لمقاصد الشريعة, وتوثيقًا للأصل العام الذي قامت عليه الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد, ومن ثمَّ فلا إشكال في الأخذ به.
إلا أن الإشكال يحدث حين يتحول إلى هاجس للفقيه فيُحرِّم بناءً عليه كثيراً من المعاملات خوفاً من الحرام, وتغليباً لجانب الاحتياط في الدين, فيضيع كثيراً من المصالح الراجحة أو يعطلها للحفاظ على مصالح أو درء مفاسد موهومة، كمن يمنع رؤية المخطوبة خوفاً من أن لا يتم الزواج ويكون الخاطب قد اطلع على أعراض الناس، وكمن يمنع من زراعة العنب خوفا من تصنيع الخمر منه.
ومن المقرر شرعاً أن الدين قد بُني على اليسر ورفع الحرج، وأدلة ذلك كثيرة كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة: 185). ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلماً ميسراً). وكان عليه الصلاة والسلام يترك بعض الأفعال خشيه أن يشق على أمته فلا يطيقوها، كما قال صلى الله عليه وسلم في السواك: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة). ونظائرها من السنة كثير.
المدرسة الثانية: مدرسة المبالغة في التساهل والتيسير:
على عكس المدرسة السابقة في التضييق والتشدد هناك من يميل إلى المبالغة في التساهل والتيسير، وهم أكثر عدداً, وأوسع انتشاراً من الفريق السابق, فلا تكاد تجد في قاموس هذا الفريق المحرم والممنوع إلا مسائل مجمعٍ عليها, وقد جاء فيها أدلة قطعية الثبوت والدلالة معاً, وهي قضايا قليلة ومعدودة.
ويعتمد هؤلاء في منهجهم المتساهل هذا على مبدأ التيسير, ورفع الحرج, وتحقيق ما فيه المصلحة! ولا شك أن هذه المبادئ ثابتة في الشرع, ولا ينكرها عالم مسلم, إلا أن هؤلاء يبالغون في الأخذ بها إلى درجة ردِّ بعض النصوص, أو تأويلها بما لا تحتمل, بدعوى أن هناك من قال بهذا القول, وبدعوى ضغط الواقع, ولتحبيب الدين إلى النفوس وجعلها تتقبله! فتجدهم يفتون بالمعاملات الربوية التي تجريها البنوك الربوية, وبالعمل في تلك البنوك, والاستثمار فيها! وبأنواع من القمار أو الميسر, , وبتصنيع الخمور وبيعها لغير المسلمين, بحجة أن ناساً من أهل العلم قالوا بذلك مع
يقينهم بضعف مأخذهم! ويمكن أن نجمل أهم ملامح هذا الاتجاه فيما يلي:
1- الإفراط في العمل بالمصلحة التي يرونها ولو كانت تعارض النصوص. كما أسلفنا قبل قليل في ترخيصهم بتصنيع الخمور, والاستثمار في البنوك الربوية.
2- تتبع الرخص الاجتهادية, والتلفيق بين المذاهب جرياً وراءها, دون حاجةٍ يضطرهم إليها، وقد يستدل أحدهم بحديث (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه). والحديث صحيح لا خلاف فيه, ولكن هناك فرق بين الرخص الشرعية التي وردت فيها النصوص كقصر الصلاة وجمعها في السفر, والرخص الاجتهادية, بحيث يختار من كل مذهب أيسر أقواله في المسألة! وهذا التتبع للرخص الاجتهادية هو المرفوض, إذ يصبح صاحبه هارباً من التكليف, ساعياً في التخلص من حكم الله, ويصبح متبعاً لهواه وليس لحكم الله, ومن ثمَّ قال الفقهاء في أمثال هؤلاء بأنهم عصاة. يقول الإمام النووي في فتاويه: لا يجوز تتبع الرخص جزماً. بل حكى ابن حزم، وابن الصلاح، وابن عبد البر الإجماع على حرمة تتبع الرخص قال الإمام أحمد رحمه الله: (لو أن رجلاً عمل بكل رخصه؛ بقول أهل الكوفةفي النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، كان فاسقًا).
3- الأخذ بالحيل والتي يسمونها بالحيل الشرعية, والحقيقة أنها هادمة لمقاصد الشريعة, ومبطلة لأحكامها, وقد جاء النهي عنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ”لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه، فإن حَسُن قصده في حيلةٍ جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة، لتخليص المستفتي بها من حرج, جاز ذلك، بل استحب, وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا فيضرب به المرأة ضربةً واحدة، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى بيع التمر بدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمراً آخر، فيخلص من الربا. فأحسن المخارج ما خلّص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم, أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم“.
وقد أفتى كثير من المعاصرين بجواز معاملات محرمة تحايلاً على أوامر الشرع؛ كصور من بيع العينة المعاصرة، أو التورق المصرفي، أو التحايل على إسقاط الزكاة، أو الإبراء من الديون الواجبة،، وكل ذلك من التحايل المذموم في الشرع.
الدرسة الثالثة: مدرسة التوسط والاعتدل:
شريعة الإسلام شريعة الوسطية والاعتدال؛ كما قال تعالى: { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً} (البقرة: 143) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (خير الأمور أوساطه) ومن ثمَّ كان على المجتهد والمفتي حمل الناس على الوسط دون إفراط أو تفريط. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: ”المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال“.
وهذا الاتجاه هو اتجاه أهل العلم والورع والاعتدال، وهي الصفات اللازمة لمن يفتي, ويتحدث باسم الشرع، وخصوصًا في هذا العصر.
فالعلم هو العاصم من الحكم بالجهل. والورع هو العاصم من الحكم بالهوى. والاعتدال هو العاصم من الغلو. وهذا هو الاجتهاد الشرعي الصحيح. يقول الإمام سفيان الثوري رحمه الله: ”العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد“.
المحاضرة الثالثة
حكم استعمال مياه الصرف الصحي بعد تنقيتها بالوسائل الحديثة

النازلة وأسبابها:
يواجه كثيرٌ من المسلمين اليوم في مختلف بلدان العالم مشكلةً كبيرة بسبب نقصان المياه النقية للشرب وللطهي وللغسيل ولغيرها من الاستعمالات. فالتطور الصناعي والتقني والعلمي الذي شهدته معظم دول العالم, وزيادة عدد السكان, وارتفاع مستوى المعيشة, وسهولة الحصول على المياه من خلال تمديدها إلى البيوت والمساكن, وجعلها متوافرة بين أيدي الناس من غير عناءٍ ولا مشقة, وتركيب الحنفيات (أو الصنابير) عليها, كل ذلك أدى إلى تزايد استهلاك المياه بشكل كبير, فأصبح استهلاك الفرد منا لوضوئه أو غُسله أربعة أضعاف ما كان عليه الوضع من قبل أو أكثر, وأصبحت الغسالات تستهلك لغسل الملابس أضعاف أضعاف ما كان يُستهلك سابقاً, ويقال مثل ذلك في تنظيف البيوت والأرصفة والشوارع, وسقي الحدائق والزروع الخاصة والعامة, وغسيل السيارات, وغيرها من الاستعمالات الكثيرة والمتنوعة بحيث لا يمكن عَدُّها أو حصرها. كل ذلك دفع بعض الدول إلى تنقية مياه الصرف الصحي (المجاري)، من خلال مشاريع تعمل على ذلك.
فهل يجوز شرعاً استعمال هذه المياه بعد تنقيتها؟ وهل تعتبر طاهرة بعد معالجتها؟.
تحرير محل البحث في هذه النازلة:
الماء الطاهر الذي يصح استعماله في جميع الاستعمالات هو الماء المطلق؛ أي الباقي على أصل خِلْقته, ولم يتغير أحد أوصافه الثلاثة, وهي: اللون, والطعم, والرائحة.
فإذا تغير أحد أوصافه الثلاثة بمخالطة نجس, تنجَّس, ووجب تطهيره قبل استعماله.
ومحل بحثنا هنا إنما هو مياه المجاري؛ إذ هي نجسة بلا خلاف بين أهل العلم. فإذا تمت تنقيتها في محطات تنقية مياه المجاري بالوسائل العلمية الحديثة, بحيث يزول معها كل أثر للنجاسة من لونٍ أو طَعمٍ أو ريحٍ, فهل تطهر بذلك, وتعود إلى أصل طهوريتها؟
هذا هو محل البحث. وقبل الإجابة على ذلك نشير إلى أن هذه نازلة حديثة, لم يسبق للعلماء في فيها بحث من قبل. ليس لأنهم لم يبحثوا في كيفية تطهير المياه المتنجسة؟! لا فلقد بحثوا, ودونوا ذلك في مصنفاتهم الفقهية, ولكن الجديد هنا هو أن هذه المياه يتم معالجتها من خلال وسائل حديثة لم تكن من قبل, فتمر بأربع مراحل هي: الترسيب, والتهوية, وقتل الجراثيم, والتعقيم بالكلور. وبذلك يزول كل أثر للنجاسة من طعمٍ أو لونٍ أو رائحةٍ, ويعود للماء نقاؤه وصفائه. فاحتاجت المسألة إلى بحث فيها.
طرق وأساليب تطهير المياه النجسة:
للعلماء في تطهير المياه النجسة أساليب وطرق:
منها أن يتم تكثير المياه النجسة, بأن تصب عليه مياه نقية بكميات كبيرة, تزيل عنها صفات النجاسة من طعم أو لون أو ريح, وتتجاوز القلتين. لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث). وهذا ما عليه عامة العلماء. وعليه فيمكن تطهير مياه المجاري هذه بأن يرد عليه مياه كثيرة من بحر أو نهر أو نحوهما فيزيل آثار النجاسة, ويطهر. إلا أن هذا الحل ليس بعملي, وتكثير المياه بهذا الشكل لا يمكن تحقيقه بسهولة, لأن هذه الكميات غير متوافرة في معظم الأماكن.
ومنها أن تزول آثار النجاسة من خلال مرور فترة من الزمن تحت تأثير التعرض للشمس وللهواء, فيطهر بذلك أيضاً إذا كان أكثر من القلتين. إلا أن هذا الحل أيضاً ليس بالعملي.
فكانت الحاجة داعية إلى اللجوء إلى الطريقة التي ذكرناها قبل قليل, وهي معالجتها بالآلات ومن خلال المراحل الأربع التي ذكرناها (الترسيب, والتهوية, وقتل الجراثيم, والتعقيم بالكلور) فهل هذه الطريقة مقبولة شرعاً؟
يرى كثير من العلماء المعاصرين أن الجواب: نعم؛ هذه الطريقة مقبولة شرعاً. وذلك أن المطلوب شرعاً هو تنقية المياه المتنجسة بإزالة كل أثر للنجاسة, فإذا تمَّ ذلك عاد الماء إلى أصل طهوريته؛ لأن الحكم بنجاسة الماء مُعَللٌ بعلةِ تغيره, فإذا زالت هذه العلة, رجع الحكم إلى أصله؛ إذْ الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً كما يقول علماء الأصول. بمعنى أنه إذا وُجِد تغيرٌ في الطعم أو اللون أو الريح بمخالطة متنجسٍ, تنجست المياه. وإذا زال التغير ورجعت نقية, عاد حكم الطهورية إليها. واستدلوا على ذلك بما ورد في الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الوضوء من بئر بضاعة, وكانت تُلقى فيها النجاسات, فقال صلى الله عليه وسلم: (الماء طهورٌ لا يُنجسه شيءٌ). وفي بعض الروايات: (الماء طهور لا ينجسه شيء؛ إلا ما غَيَّر طعمه أو لونه أو ريحه). وفي رواية أخرى: (إن الماء لا ينجسه
شيء إلا ما غَلَب على ريحه وطعمه ولونه). وهذه الزيادة في هذه الروايات: (إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه) أو (إلا ما غلب...) لا تثبت مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المحدثين, لكن العلماء مجمعون على العمل بذلك. قال الحافظ ابن حجر: "قال الشافعي: ما قُلتُ من أنه إذا تغير طعم الماء وريحه ولونه كان نجساً، يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهٍ لا يُثْبِتُ أهلُ الحديث مثلَه, وهو قول العامة -أي من أهل العلم- لا أعلم بينهم خلافاً. قال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه -أي هذه الزيادة- وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعماً أو لوناً أو ريحاً فهو نجس". فإذاً الأصل في الماء الطهورية, فإذا تغير بنجس, تنجس, فإذا زال التغير عاد إلى أصله, وهو الطهورية.
ويمكن تخريج هذه الفتوى على مسألة استحالة النجاسة ومواقف العلماء منها, وفيما يلي توضيحها:
معنى الاستحالة:
تعني الاستحالة التغير والتحول. أي تحول الشيء من حقيقة إلى حقيقة أخرى.
مثال ذلك: أن تتحول شاةٌ ميتةٌ في أرضٍ سبخةٍ إلى ملحٍ, فهل يجوز استعمال ذلك الملح؟ وهل هذا التحول من ميتةٍ إلى ملح يكسبها صفة الطهارة؟
مثال آخر: إذا احترقت فضلات الإنسان أو الدواب وتحولت إلى رمادٍ, فهل هذا الرماد يكون طاهراً؟
مذاهب العلماء في استحالة النجاسة:
اختلف العلماء في حكم استحالة النجاسة, وما إذا كان ذلك يكسبها الطهارة:
فذهب أكثر الحنفية والمالكية وبعض الحنابلة (وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله) إلى القول بطهارتها بالاستحالة، سواء أكان نجساً لعينه، أم كان نجساً لمعنىً فيه. والنجس لعينه: كالخنزير والميتة إذا تحول إلى ملح كما أسلفنا, والنجس لمعنىً فيه كجلد الميتة إذا دُبِغ, وكالخمر إذا تخلل بنفسه.
وقال أبو يوسف: لا تطهر. وهو أحد القولين في مذهب مالك، وهو قول الشافعي فيما كان نجساً نجاسة عينية. وإحدى الروايتين في مذهب أحمد, وهي ظاهر المذهب.
واستثنى هؤلاء من ذلك الخمر إذا انقلبت بنفسها خلاً، وجلد الميتة إذا دُبِغ, لورود الأدلة من الأحاديث النبوية فيهما, وأما ما عداهما من النجاسات فلا تطهر بالاستحالة.
أدلة القول بالطهارة بالاستحالة:
استدل من قال بتطهير النجاسات بالاستحالة بالكتاب والسنة والاستقراء والمعنى.
فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: 157). وجه الدلالة أن هذه الأشياء بعد استحالتها وزوال أوصاف النجاسة عنها صارت طيبة، فهي طاهرة.
وأما السنة فما ورد من الأدلة في طهارة الخل والمسك وجلود الميتة بعد الدبغ كقوله r(أيُّمَا إيهاب دُبِغ فقد طَهُر) و (نِعم الأدم الخل). وجلد الميتة تحول بالدباغة من نجس إلى طاهر, والخل متحول من الخمر, فيلحق بهما غيرهما من النجاسات إذا تحولت.
وأما الاستقراء (وهو التتبع. أي تتبع نصوص الشرع وأحكامه) فقد ذكره ابن تيمية رحمه الله فقال: "كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلى جنس، مثل جعل الخمر خلاً، والدم منياً، والعلقة مضغةً، ولحم الجلالة الخبيث طيباً، وكذلك بيضها ولبنها، والزرع المستسقى بالنجس إذا سقي بالماء الطاهر، وغير ذلك، فإنه يزول حكم التنجس، ويزول حقيقة النجس واسمه التابع للحقيقة، وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه؛ فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض فإن الله يحولها من حال إلى حال، ويبدلها خلقاً بعد خلق، ولا التفات إلى موادها وعناصرها. وأما ما استحال بسبب كسب الإنسان؛ كإحراق الروث، حتى يصير رماداً، ووضع الخنزير في الملاحة، حتى يصير ملحاً ففيه خلافٌ مشهور. وللقول بالتطهير اتجاه".
وأما من جهة المعنى؛ فهو أن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، فكيف بالكل؟! فإن الملح غير العظم واللحم، فإذا صار ملحاً ترتب حكم الملح عليه. يقول ابن تيمية: (وتنازعوا فيما إذا صارت النجاسة ملحاً في الملاحة، أو صارت رماداً، أو صارت الميتة والدم والصديد تراباً كتراب المقبرة, فهذا فيه خلاف... ثم قال: والصواب أن ذلك كله طاهر؛ إذْ لم يبق شيء من النجاسة لا طعمها ولا لونها ولا ريحها). ويقول ابن حزم: (إذ استحالت صفات عين النجس أو الحرام، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم، وانتقل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر، فليس هو ذلك النجس ولا ذلك الحرام، بل قد صار شيئاً آخر ذا حكم آخر).
أدلة القول بعدم الطهارة بالاستحالة:
استدل القائلون بأن الاستحالة لا تطهر النجاسة بأن رماد النجاسة المحروقة أجزاء تلك النجاسة، فتبقى النجاسة من وجه، فالتحقت بالنجس من كل وجه احتياطاً, ولأن نجاستها لم تحصل بالاستحالة، فلم تطهر كما في الدم إذا صار قيحاً وصديداً, فإن أحداً لا يقول بطهارته بهذا التحول.
الراجح من الأقوال:
والقول الأول القائل بالطهارة بالاستحالة أرجح, والله أعلم, إذ ثبت عن ابن عمر t أنه قال: كانت الكلاب تُقبِل وتُدبر، وتبول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك.
وفي السنن أنه قال: (إذا أتى أحدكم المسجد لينظر في نعليه فإن كان بهما أذى فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور).
وقوله صلى الله عليه وسلم في ذيول ثياب النساء إذا أصابت أرضاً طاهرةً، بعد أرضٍ خبيثةٍ: (فتلك بتلك) وقال: (يطهره ما بعده).
وهذا ما انتهى إليه هيئة كبار العلماء في المملكة بنص قراره رقم (64)
نص قرار هيئة كبار العلماء في هذه النازلة:
جاء في نص القرار: "الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: ففي الدورة الثالثة عشرة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الآخر من شهر شوال (1398هـ) بمدينة الطائف، وبناء على رغبة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في إحالة موضوع الاستفتاء الوارد إلى الرابطة من رئيس تحرير جريدة (مسلم نيوز) الصادرة بـ(كيب تاون) إلى هيئة كبار العلماء؛ لإعداد بحث في الموضوع، وتقرير ما تراه الهيئة نحوه، والمتضمن الإفادة بأن المسلمين في تلك الجهة يواجهون مشكلة كبيرة بسبب ما أقدم عليه مجلس مشروع التحقيقات العالمية والصناعية الذي يعمل على إنتاج ماء للشرب النقي من مياه المجاري، وأنهم يسألون عن حكم استعمال هذه المياه بعد تنقيتها للوضوء.
بناء على ذلك فقد اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، كما اطلع المجلس على خطاب معالي وزير الزراعة والمياهرقم (1/ 1299) وتاريخ 30/5/1398هـ وبعد البحث والمداولة والمناقشة قرر المجلس ما يلي: بناء على ما ذكره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيره بنفسه، أو بإضافة ماء طهور إليه أو زال تغيره بطول مكث، أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه، أو نحو ذلك لزوال الحكم بزوال علته.
وحيث إن المياه المتنجسة يمكن التخلص من نجاستها بعدة وسائل، وحيث إن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لإعمال التنقية يعتبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير، حيث يبذل الكثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات، كما يشهد بذلك ويقرره الخبراء المختصون بذلك ممن لا يتطرق الشك إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم.
لذلك فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة، بحيث تعود إلى خلقتها الأولى لا يرى فيها تغير بنجاسة في طعم ولا لون ولا ريح، ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل الطهارة بها منها، كما يجوز شربها إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع ذلك؛ محافظة على النفس، وتفاديا للضرر لا لنجاستها.
والمجلس إذ يقرر ذلك يستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب متى وجد إلى ذلك سبيل؛ احتياطا للصحة، واتقاء للضرر، وتنزها عما تستقذره النفوس وتنفر منه الطباع.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم".
هيئة كبار العلماء .
المحاضرة الرابعة
مستجدات العلاج الطبي وأثرها على صحة الصيام

مقدمة :
سنتناول الآن بمشيئة الله الحكم الشرعي لبعض ما استجد في مجال العلاج الطبي وأثره على صحة الصيام، وهي مسائل يكثر السؤال عنها مع مقدم شهر رمضان من كل عام، وتشتد الحاجة إلى معرفتها.
ونقول بداية لا خلاف بين العلماء قديماً وحديثاً في أن الصيام هو الإمساك عن المطعوم والمشروب والجماع؛ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وهذا القدر محل إجماع أهل العلم لثبوته بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة. وأما ما سواها من المسائل المسكوت عنها، أو التي تعارضت فيها الآثار فقد وقع فيها الخلاف. ويلحق بهما في ذلك المستجدات الطبية في مجال التداوي والعلاج في ضوء ما توصل إليه العلم الحديث.
المرض وعلاقته بالصيام:
صوم رمضان ركن من أركان الدين, وعزيمة واجبة في حق جميع المكلفين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) وقال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185).
إلا أن الله سبحانه رحمةً منه بعباده, رخص للمريض والمسافر بالفطر، فقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184). وظاهر الآية يفيد أن كل من صدق عليه وصف المرض يُرخص له في الفطر, إلا أن عامة الفقهاء على أن هذا الإطلاق غير مرادٍ, بل هو واحدٌ من هؤلاء:
1- مَنْ يقدر على الصيام ولكن بجهدٍ ومشقةٍ. فهذا لا يُكلف به.
2- مَنْ يقدر عليه من غير جهدٍ ولا مشقةٍ، ولكن يُتوقع أن يُضاعف الصيام مرضه, وهذا يستحب له الفطر عند جمهور العلماء.
3- صحيح الجسم (أي غير المريض) الذي يغلب على ظنه أنه سيمرض إنْ صام.
أقسام مستجدات العلاج الطبي:
يمكننا أن نقسم مستجدات العلاج الطبي إلى قسمين:
ما يؤخذ عن طريق المنافذ. وهي: الفم والأنف والعين والأذن والسوْأتان.
وما يؤخذ عن غير طريق المنافذ. (أي الجلد).
ولن نتمكن من الإحاطة بجميع المسائل المستجدة في مجال التداوي والعلاج الطبي –والتي يمكن أن يكون لها أثر على صحة الصيام- ولذلك فسنقتصر على الصور الأهم منها من خلال محاضرتين:
أولاهما: للحديث عن الذي يتم تناوله من خلال الفم.
والثانية: للحديث عن بفية المنافذ المعتادة وغير المعتادة.
المنفذ الأول - الفم:
ما يؤخذ من خلال الفم قد يبقى في الفم ولا يتجاوزه إلى الحلقوم.
وقد يتجاوزه ويصل إلى الحلقوم, أو إلى ما وراءه.
فما الحكم في ذلك؟
ما يبقى في الفم ولا يتجاوزه:
الفم هو: ما بين باطن الشفتين وأقصى الحلق. (وأقصى الحلق يعني آخره وهو عند مخرج حرفي الهمزة والهاء).
اختلفت آراء الفقهاء تجاه ما يدخل الفم ولا يتجاوزه, ومدى تأثيره على صحة الصيام:
فذهب الحنفية إلى أن ما يدخل الفم لا يؤثر على صحة الصيام ما لم يجاوز أقصى الحلق (أي آخره).
وقال المالكية والحنابلة: الحَلْقُ كله من الداخل, وكل ما يصل إليه من مائعٍ يكون سبباً في الفطر وفساد الصيام ولو لم يتجاوز الحلق (فالحلق كله من الجوف عندهم, ويبدأ الحلق من مخرج حرفي الغين والخاء).
ويترتب على هذين الرأيين في باب التداوي ما يلي:

استعمال الغرغرة:
بناءً على ما تقدم فإن وضع الدواء في الفم بقصد الغرغرة لا يؤثر على صحة الصيام عند الحنفية؛ لأن الوصول إلى الحلق لا يؤثر ما لم يتجاوزه. ولكن ينبغي على مستعمل الغرغرة أن يبصق بعد مَجِّ الدواء حتى يكون في مأمن من دخول بعض آثاره العالقة بريقه إلى جوفه. ولا يطالب بالمبالغة في البصق؛ لأن الباقي بعد المج مجرد بلل ورطوبة لا يمكن التحرز منه.
وقال المالكية والحنابلة: الغرغرة تُفطر وتفسد الصيام؛ لأنها تصل إلى الحلق, والحلق كله من الجوف.
وقد تبنى مجمع الفقه الإسلامي الرأي الأول, فعدد ما لا يُفطر, وذكر منها: ”المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق“.
لو مَضغ دواءً لا يتحلل منه شيء إلى المعدة لم يُفطر باتفاق الفقهاء, وكذا المضمضة به؛ لأنه لا يصل إلى الحلق, ولأنه كالمضمضة بالماء, وهي غير مؤثرة على صحة الصيام إجماعاً.
الجامد (أي غير المائع) إذا وصل إلى الحلق ولم ينفذ إلى الداخل, ولَفَظَه الصائم، لم يُفطر.
حفر السن ومداواته لا يُفطر إذا لم ينزل شيءٌ منه إلى المعدة، وهو لا يختلف عن الذي يتمضمض بالماء ثم يمجه.
جاء في قرارات مجمع الفقه الإسلامي وهو يُعدد ما ليس بمفطر, فذكر منها: ”حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق“.
الأقراص التي توضع تحت اللسان: من المعلوم أن معالجة الأزمات القلبية المفاجئة تتم أحياناً من خلال أقراص يضعها المريض تحت لسانه، فيمتصها الفم بطريقة مباشرة وسريعة, ثم يحملها الدم إلى القلب، ولا يدخل إلى جوف المريض شيءٌ منها.
هذه الأقراص لا تفطر؛ لأنه لا يدخل شيءٌ منها إلى الجوف، وهي أشبه بمعجون الأسنان في أثرها، وتكفي المضمضة بعد ذوبانها لتنظيف الفم من بقاياه. والله أعلم. وهو ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي في قراره حول المفطرات, فقال: مما لا يُفطر: ”الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق“.
الأوكسجين: يتعرض بعض الصائمين لضيق في التنفس، لأمراض يعانونه في جهازهم التنفسي، أو لوجودهم على ارتفاع شاهق أو انخفاض سحيق، حيث يقل الهواء الطبيعي، ويلجؤون إلى الاستعانة بأجهزة التنفس الاصطناعي (الأوكسجين).
وهذا التنفس (بالأوكسجين الصناعي) لا يؤثر على الصيام؛ لأنه ليس بطعام ولا شراب، وهو من جنس الهواء الطبيعي، فيأخذ حكمه. وهو ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي.
ما يُدْخل عبر الفم ويتجاوز الحلقوم:
المائع والمتحلل المتجاوز للحلق مفطرٌ بالإجماع. سواءٌ أو صل المعدة أم لا.
الجامد المتجاوز للحلق كجهاز الكشف أو العلاج الذي ينفذ إلى ما وراء الحلقوم من المريء أو المعدة. اختلف الفقهاء في حكمه فذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يُفطر مادام قد تجاوز الحلق ودخل إلى الجوف. وخالفهم الحنفية واشترطوا لتحقق الفطر: الاستقرار. والاستقرار هو: الانفصال الكامل عن الخارج, وحوز ما بعد الحلق له بتمامه. أي أن يصبح هذا الجامد بصورة كاملة وراء الحلق. يقول ابن عابدين: " ما دخل الجوف إن غاب فيه فسد الصوم، وهو المراد بالاستقرار، وإن لم يغب بل بقي طرف منه في الخارج أو كان متصلًا بشيء خارج لا يفسد لعدم الاستقرار". وبناء على هذا، فإن المنظار النافذ من المريء إلى المعدة والذي بقي طرفه الأعلى خارج الفم لا يُفسد الصوم، إلا إذا تم طلاؤه بمرهم ميسر لدخوله، فإن الفطر حينها يكون بالطلاء لا بالمنظار ذاته.
وهذا الأخير رأي لبعض المالكية أيضاً ولابن تيمية والشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي مصر سابقاً والشيخ ابن عثيمين رحمهم الله جميعاً, انطلاقاً من أن هذه الأجهزة ليست غذاءً, ولا يطلق عليها اسم الأكل لا لغة ولا عرفاً. يقول ابن رشد في بداية المجتهد وهو يبين سبب الخلاف في بعض المفطرات كالحقنة الشرجية: "وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الصَّائِمِ الْإِمْسَاكُ زَمَانَ الصَّوْمِ عَنِ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْجِمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] .وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا، وَمِنْهَا مَنْطُوقٌ بِهَا. أَمَّا الْمَسْكُوتُ عَنْهَا: إِحْدَاهَا: فِيمَا يَرِدُ الْجَوْفَ مِمَّا لَيْسَ بِمُغَذٍّ، وَفِيمَا يَرِدُ الْجَوْفَ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِثْلِ الْحُقْنَةِ، وَفِيمَا يَرِدُ بَاطِنَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَلَا يَرِدُ الْجَوْفَ مِثْلُ أَنْ يَرِدَ الدِّمَاغَ وَلَا يَرِدَ الْمَعِدَةَ". وهو ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي فقد عدد ما ليس بمفطر, فذكر منها: ”منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى“.
ما ينفذ إلى ما وراء الحلقوم من دخان وغبار وبخار:
أولاً- الدخان: وهو تحول كيميائي يحصل في المادة عند الاحتراق. ويدخل من الفم ثم إلى البلعوم الفمي، ثم ينزل جزء منه إلى البلعوم الحنجري ومنه إلى الرغامي فالرئتين وينزل الجزء الآخر إلى المريء فالمعدة.
وقد نص جمهور الفقفهاء على التفريق بين إدخال الدخان بقصدٍ فيفطر, ولو كان عوداً أو عنبراً لإمكان التحرز عنه. وبين دخوله بغير قصدٍ فلا يفطر.
حكم التداوي بالدخان: يظهر مما سبق أن الدواء الذي يُقذف به في النار ليجذبه المريض من فمه إلى الداخل مفطرٌ, ويأخذ حكم الأكل.
ثانياً- البخار: وهو تحول في تماسك جزيئات الماء؛ حيث يتخلخل بالحرارة. ثم يتجمع ويعود إلى ما كان عليه.
حكم التداوي بالبخار: كل دواء مائع ينقلب إلى بخار، ويدخله المريض إلى باطنه من منفذ الفم مُفطرٌ، سواء كان تحوله إلى بخار بالحرارة أو بالأجهزة المخلخلة.
ثالثاً- الغبار والمساحيق: يرى جمهور الفقهاء أنه لا فارق بين الدخان والغبار، فإذا دخل بنفسه بدون قصد فإنه لا يؤثر (كغبار الطريق، أو ما يدخل الجوف نتيجة الصنعة من غير قصد كالطحان والكيال وصناع الجبس). وأما ما أمكن الاحتراز منه فدخل جوفه بتقصير منه, أو بتعمد إدخاله فإنه يُفطر.
حكم التداوي بالمساحيق: القصد إلى التداوي بمادة مسحوقةٍ سحقاً ناعماً بجذبها عن طريق الفم, ونفوذها إلى ما وراء الحلق؛ مُفطرٌ ومُفسدٌ للصيام.
رابعاً: بخَّاخ الربو: وهو عبارة عن دواء سائل مركب من ثلاثة عناصر هي: مواد كيميائية (أو مستحضرات طبية), وماء, وأوكسجين. ويتم استعماله بأخذ شهيق عميق مع الضغط على البخَّاخ في نفس الوقت, وعندئذ يتطاير الرذاذ ويدخل عن طريق الفم إلى البلعوم الفمي، ومنه إلى الرغامي، فالقصباتِ الهوائية، ولكن يبقى جزء منه في البلعوم الفمي، وقد تدخل كمية قليلة جداً إلى المريء.
اختلف المعاصرون فيه على قولين:
الأول: أنه لا يفطر، ولا يؤثر على صحة الصيام. وهو قول كثير من المعاصرين منأبرزهم الشيخ ابن باز, والشيخ ابن عثيمين والشيخ ابن جبرين، والدكتور الصديق الضرير، واللجنة الدائمة للفتوى في المملكة. واستدلوا لرأيهم بأن الداخل من بخّاخ الربو إلى المريء ومن ثم إلى المعدة قليل جداً، فلا يفطِّر قياساً على المتبقي من المضمضة والاستنشاق. وذلك أن البخة تشكل أقل من قطرة واحدة، وهذه القطرة الواحدة ستقسم إلى أجزاء يدخل الجزء الأكبر منه إلى جهاز التنفس، وجزء آخر يترسب على جدار البلعوم الفمي، والباقي قد ينزل إلى المعدة وهذا المقدار النازل إلى المعدة يعفى عنه قياساً على المتبقي من المضمضة والاستنشاق، فإن المتبقي منها أكثر من القدر الذي يبقى من بخة الربو. يضاف إلى ذلك أن دخول شيء منه إلى المعدة ليس قطعياً، بل مشكوك فيه، فقد يدخل وقد لا يدخل، والأصل صحة الصيام وعدم فساده، واليقين لا يزول بالشك. كما أن رسول الله r كان يستاك وهو صائم, والسواك يفرز مواد, وما يعلق منه باللثة واللسان والأسنان, أكثر مما يعلق من بخاخ الربو, ومع ذلك فإن الشرع لم يلتفت إليها؛ لكونها قليلة وغير مقصودة، وبخاخ الربو مثله.
الثاني: أن بخاخ الربو يفطِّر، ويفسد الصيام. ومن أبرز من تبنى هذا الرأي الشيخ محمد المختار السلامي, والشيخ محمد تقي الدين العثماني، والدكتور وهبة الزحيلي والدكتور فضل عباس. لأن جزءاً من محتوى البخاخ يصل إلى الجوف عن طريق الفم, فيكون مفطراً.
المحاضرة الخامسة
مستجدات العلاج الطبي وأثرها على صحة الصيام (تابع)

مستجدات العلاج الطبي:
استعرضنا في المحاضرة السابقة ما يتعلق بالمنفذ الأول وهو الفم , وننتقل الآن لاستعراض ما يتعلق بالمنافذ الأخرى, وهي الأنف والعين والأذن , ثم ما يدخل من غير المنافذ المعتادة ونعني به من خلال الجلد أو الشرايين.
المنفذ الثاني - الأنف:
الأنف كما هو معلومٌ منفذ إلى الحلق وما وراءه, فإذا نفذ ما دخله إلى الحلق, فما مدى تأثيره على صحة الصيام؟
ذهب جمهور العلماء من المذاهب الأربعة إلى أن ما تجاوز الأنف إلى الحلق يُفطر. واستدلوا على ذلك بالحديث الصحيح الذي يرويه لقيط بن صبرة t، أن النبي rقال له: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، فقد نهاه r عن المبالغة في الاستنشاق وهو صائم, مخافة أن يدخل شيءٌ منه إلى جوفه, فيُفسد صيامه.
وبناء عليه فإن ما يدخله الصائم إلى أنفه ويتجاوزه إلى الجوف يُفسد صومه، يستوي في ذلك أن يكون قطرةً أو بخاخ زكامٍ، أو سعوطاً أو مسحوقاً أو دخاناً أو بخاراً.
وأما إذا دهن داخل أنفه بدواء ولم ينفذ إلى الحلق، فإن صيامه صحيحٌ, كمن تمضمض في وضوئه, ولم يتجاوز الماء حدود الفم, فإن صيامه صحيح بالاتفاق.
وكذا إذا احتاج الصائم لاستعمال قناع الأوكسجين لضيق في تنفسه، أو لانخفاض الضغط الجوي في الطائرة مثلاً، فإن صومه لا يبطل، لأنه لا يختلف عن التنفس بالهواء الطبيعي.
وأما إدخال أنبوب لإخراج إفرازات المعدة؛ فمفطر عند الجمهور؛ لأنه قد دخل جوفه. وقال الحنفية لا يُفطر كما أسلفنا في حديثنا عن الفم؛ لأنه لم ينفصل عن الخارج, ولم يستقر بشكل كاملٍ في جوفه. وهو رأي لبعض المالكية أيضاً في كل ما ليس بمطعوم.
فائدة: صرح كثيرٌ من علمائنا قديماً بأن ما يؤخذ عن طريق الأنف يصل إلى الدماغ! ويقول علم التشريح اليوم: لا صلة بين الدماغ والأنف البتة. ولعل السبب الذي دفع الأقدمين إلى ذاك القول هو: أن جهاز الشم في الأنف يستقبل المواد الطيارة، فيذيبها في طبقة المخاط، ثم ينقلها عن طريق العصب الشمي إلى مركز الشم بالمخ، فأوهمهم ذلك بسيلان مواد من الدماغ إلى الأنف, وهو تصور مجانب للصواب كما يذكر علماء التشريح اليوم.
المنفذ الثالث - العين:
ترتبط العين بالأنف من خلال قناة. فإذا وضع شخص قطرة في عينه, فإنها قد تصل إلى أنفه, ومنه إلى بلعومه. ومع هذا الاحتمال فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ما مدى تأثير ذلك على صحة صيامه إذا وصل إلى أنفه؟.
ذهب الحنفية والشافعية إلى أن الكحل في العين لا يفطر؛ وإنْ وجد طعمه, أو أثره في حلقه. وقالوا في تعليل ذلك: العين ليست بجوف, كما أنه لا يوجد منفذ بين العين والحلق. يقول السرخسي في مَنْ اكتحل وهو صائم: " ما وَجَد من الطعم في حلقه, أثرُ الكُحل لا عينُه. كمن ذاق شيئاً من الأدوية المرة يجد طعمه في حلقه, فهو قياس الغبار والدخان. وإن وصل عين الكحل إلى باطنه, فذلك من قبل المسام لا من قبل المسالك, إذ ليس من العين إلى الحلق مسلك, فهو نظير الصائم يشرع في الماء, فيجد برودة الماء في كبده, وذلك لا يضره".
وذهب المالكية والحنابلة إلى أن العين منفذ إلى الحلق كالفم والأنف, ومن ثمَّ إذا اكتحل الصائم ووجد طعمه, أو أثره في حلقه فقد أفطر.
والطب الحديث يؤيد قول المالكية والحنابلة في أن هناك قناة تصل بين العين والأنف، ثم البلعوم، إلا أن هناك اعتبارات أخرى منها: أن جوف العين لا يتسع لأكثر من قطرة واحدة، والقطرة الواحدة حجمها قليل جداً، إذ إنها لا تمثل أكثر من جزءٍ من خمسة وسبعين جزءاً مما يوجد في ملعقة الشاي الصغيرة. وعليه فقد يقال: إن ما يبقى من القطرة أقل من القدر المعفو عنه مما يبقى في المضمضة. كما أن هذه القطرة تُمتص جميعها أثناء مرورها في القناة الدمعية, ولا تصل إلى البلعوم. والطعم الذي قد يشعر به المرء في الفم وهمٌ, أو عن طريق المسامات, أو عن طريق المجاورة, وإلا فإنها لن تصل إلى البلعوم, ولو وصلت فإن البلعوم لن يتذوقها, لأن حاسة الذوق موجودة في اللسان فقط دون البلعوم.
وقد بحث الإمام ابن تيمية خلاف الفقهاء في الكحل، وانتصر لعدم التفطير به. فقال: "الكحل ونحوه مما تَعُمُّ به البلوى, كما تَعُمُّ بالدهن والاغتسال والبخور والطيب. فلو كان هذا مما يُفطر لبينه النبيr كما بين الإفطار بغيره, فلما لم يبين ذلك, عُلِمَ أنه من جنس الطيب والبخور والدهن والبخور, قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل فى الدماغ ... فلما لم يُنه الصائم عن ذلك, دل على جواز تطييبه وتبخيره وإدهانه وكذلك اكتحاله".
وهذا هو الذي ذهب إليه كثير من العلماء المعاصرين منهم الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والدكتور فضل عباس رحمهم الله تعالى والدكتور وهبة الزحيلي والدكتور الصديق الضرير وغيرهم كثير.
جاء في قرارات مجمع الفقه الإسلامي وهو يُعدد ما ليس بمفطر, فذكر منها: ” قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق“.
المنفذ الرابع - الأذن:
ذهب عامة الفقهاء من المذاهب الأربعة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) إلى أن ما يدخل الأذن من المائعات ويتجاوزه إلى الحلق يُفطر، لأنه واصل إلى جوفه باختياره. إلا أن الذي دل عليه علم التشريح اليوم هو أنه ليس بين الأذن والحلق قناة ينفذ منها المائعات, فالأذن الخارجية (وتشمل الصيوان وقناة السمع الخارجية) يفصلها عن الأذن الوسطى غشاء الطبل, وهو غشاء جلدي يحول دون وصول إفرازات الأذن الخارجية أو ما يوضع فيه من دواء أو ماء إلى الأذن الوسطى إلا من خلال مساماته, تماماً كما هو الحالات فيما يتشربه الجسم من خلال مسامات الجلد فيما لو اغتسل المرء.
وعليه فإن الذي ينبغي الجزم به أن قطرة الأذن أو غسوله ليست مفطرة, لأن ما يوضع فيه لن يصل إلى البلعوم, إلا أن يكون غشاء الطبل مثقوباً أو ممزقاً فينفذ منه.
وهو ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي كما أردناه في الفقرة السابقة.
التداوي من غير المنافذ المعتادة:
نعني بالمنافذ غير المعتادة ما يدخل الجسم عبر المسامات أو الأوعية الدموية أو الشرايين. فهل يؤثر ذلك على صحة الصيام؟
1- الادهان بالمراهم والزيوت ونحوها:
أجمع الفقهاء على أن الادِّهَان لا يُفطر؛ لأنه لا ينافي الصوم البتة؛ إذ ليس هو من الطعام أو الشراب, ولا في معناهما. بل هو كالاستحمام تماماً, ولم يقل أحد من علماء الأمة أن الاستحمام يُفطر.
وهو ما يؤكده العلم التجريبي اليوم, إذ لا منفذ يجمع بين ظاهر الجسم والجوف إلا من خلال المسامات, وما يدخل من خلالها معفو عنه شرعاً.
2- التداوي بالحُقَن: وهي أيضاً وسائل لمعالجة المرضى، ولها أغراضٌ وأنواع متعددة, سنستعرض أهمها فيما يأتي:
أ- الحُقَنْ تحت الجلد, والحُقَنْ في العضلة:
يتم حَقْن الجلد أو العضلة بالدواء, ليتم امتصاصه من قبل الجلد أو العضلة, وليتم توزيعه على الجسم. فهل تؤثر هذه الحقن على الصيام وتفسدها؟
الذي عليه عامة الفقهاء المعاصرين والمجامع الفقهية أن هذا النوع من الحُقَنْ لا تُفطر, لأنها ليست طعاماً ولا شراباً, ولا في معناهما. والجسم إنما يتشربه من خلال الجلد والأوعية الدموية, وهي مختلفة عن المنافذ المعتادة, وهي أشبه ما تكون بتشرب مسام الجلد للماء والمراهم وغيرها.
ومثلها في الحكم تلك الحقن التي يحقن بها ما بين المفاصل لتغذية المفصل الذي جفت مادته المساعدة على الحركة. فهذه أيضاً لا تُفطر.
ب- الحُقَنْ الوريدية:
قد يأخذ المريض الحُقن عبر أوردته للمداواة أحياناً, ولتزويد الجسم بما يحتاجه من سعراتٍ حراريةٍ وماء أحياناً أخرى بدلاً من الغذاء. فما مدى تأثيرها على صحة الصيام؟
أما ما يحقن به الجسم من خلال الوريد للمداواة, فمعظم الفقهاء المعاصرين على أنها لا تُفطر؛ لأنها ليست طعاماً ولا شراباً, ولا في معناهما؛ ولأنها لم تدخل من منافذ الجسم المعتادة. وهذا ما تبناه المجمع الفقهي في قراراته حول المفطرات.
وأما ما يحقن به الجسم من خلال الوريد لتغذيته, فإن أكثر الفقهاء المعاصرين على أنها تُفطر؛ لأنها في معنى الطعام والشراب, وتصادم الحكمة التي من أجلها شرع الله الصيام, وهي شعور الإنسان بضعفه وحاجته إلى مولاه, وشعوره بشعور المحرومين الفقراء الذين لا يجدون ما يأكلون, وكذلك تعويده على الصبر والتحكم في شهواته, وعدم الانسياق وراءها. وهذه الإبر المغذية تفقده هذه المشاعر, وهي في معنى الأكل والشرب, ومن ثم فلا تتحقق الحكمة من الصيام. وهو ما تبناه المجمع الفقهي أيضاً.
قرار المجمع الفقهي الإسلامي حول المفطرات:
وفي ختام المحاضرة نستعرض نص القرار الذي انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي بخصوص المفطرات في مجال التداوي: وهو القرار: رقم: 99/ 1/ د 10 بشأن المفطرات في مجال التداوي:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية، خلال الفترة من23 إلى 28 صفر 1418 هـ (الموافق 28 يونيو -3 يوليو 1997 م) .
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع المفطرات في مجال التداوي، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية، في الفترة من 9 إلى 12 صفر 1418هـ (الموافق 14 - 17 يونيو 1997 م) ، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، والنظر في الأدلة من الكتاب والسنة، وفي كلام الفقهاء. قرر ما يلي:
أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات:
1 - قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
2 - الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
3 - ما يدخل المهبل من تحاميل (لبوس) ، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع للفحص الطبي.
4 - إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم.
5 - ما يدخل الإحليل - أي مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى - من قثطرة (أنبوب دقيق) أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.
6 - حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
7 - المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
8 - الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية.
9 - غاز الأوكسجين.
10 - غازات التخدير (البنج) ما لم يعط المريض سوائل (محاليل) مغذية.
11 - ما يدخل الجسم امتصاصاً من الجلد؛ كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية.
12 - إدخال قثطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء.
13 - إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها.
14 - أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء، ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل.
15 - منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى.
16 - دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي.
17 - القيء غير المتعمد، بخلاف المتعمد (الاستقاءة) .
ثانياً: ينبغي على الطبيب المسلم نصح المريض بتأجيل ما لا يضر تأجيله إلى ما بعد الإفطار من صور المعالجات المذكورة فيما سبق.

المحاضرة السادسة
زكاة شركات المساهمة

مقدمة عامة:
من أهم ما شهدته الساحة المالية في عصرنا هذا ظهور شركات المساهَمة.
وهي شركات ذات رؤوس أموالٍ ضخمة, يشترك فيها أعدادٌ غفيرة من الناس, وتستثمر أموالها في مشاريع كبيرة, يعجز عنها الأفراد غالباً.
ولما كانت هذه الشركاتُ شركاتِ أموالٍ, وكان الله عَزَّ وجلَّ قد فرض في المال زكاةً بضوابط وشروط معينة, كان من واجب القائمين على إدارة هذه الشركات ومالكيها والمستثمرين فيها معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بزكاتها, لإخراجها, وتبرئة ذممهم أمام الله سبحانه.
والبحث الذي بين أيدينا, يتناول جانباً من هذا الموضوع, وإجابة على بعض تساؤلاته.
تعريف شركة المساهمة والسهم:
تعرف شركة المساهمة بأنها: شركة يتكون رأس مالها من أسهم متساوية, قابلة للتداول، وكل شريك فيها مسؤولٌ بمقدار حصته في رأس مالها.
ويعرف السهم بأنه: عبارة عن حصّة شائعة معلومة في موجودات الشركة.
كأن نقول:
رأس مال هذه الشركة المساهمة /5 مليون/ سهم.
قيمة كل سهم 1000 ريال.
وهذا الشخص يملك 100 سهم, وذاك 500 سهم, وآخر 1000 سهم وهكذا.
أي أن رأس مال الشركة ما قيمته 5 مليار ريال.
والشخص الأول يملك ما قيمته 100 ألف, والثاني 500 ألف والثالث مليون.
تعريف الزكاة, وحكمها, وشروط وجوبها:
- تعريف الزكاة: الزكاة في الشرع اسمٌ لقَدْرٍ مخصوص، من مال مخصوص، يجب صرفه لأصناف مخصوصة، بشرائط.
وهي ثالث أركان الإسلام, ومن آكد فروضه, ومنكر وجوبها مرتد خارج عن الإسلام.
- شروط وجوب الزكاة: ليجب الزكاة في المال لا بد من توافر شروط, وهي:
1- الإسلام: فلا تجب على الكافر؛ لكونها عبادة كالصَّلاة والصِّيام, والعبادات لا تصح إلا من المسلم لحاجتها إلى النية, والنية لا تصح إلا من المسلم.
2- الملك التام: وتعني أن يجتمعَ في المال المِلكُ واليدُ. فلا زكاة في المال العام كأموال الدّولة، أو المال الموقوف على جهة عامّة (كالفقراء والمساجد) لعَدَم تَعَيُّن المالك فيها. ولا زكاة على من عليه دين يستغرق ماله أو ينقصه عن النصاب؛ لكون ملكه على ماله ليس تامّاً.
3- أن يكون المال نامياً: حقيقةً، أو تقديراً بأن يكون قابلاً للنَّماء، كالمال المُعَدِّ للنَّماء بالتجارة، ومن ثمَّ فلا زكاة في المركب وأدوات الحرفة ودور السُّكنى وأثاث البيت، لأنها ليست نامية. يقول r: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة). قال النووي رحمه الله:"وبهذا قال العلماء كافةً من السلف والخلف".
4- أن يبلغ المال نصاباً: وهو يختلف من مالٍ إلى مال.
5- أن يحَوَل عليه الحَوْل: وهو شرط في الأنعام والنقود وعروض التجارة؛ لقولهr: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول). وأما الزّروع والثمار فلا يشترط لها ذلك, بل زكاتها مرتبط بموسمها؛ لقوله تعالى: {وآتوا حقَّه يوم حصاده} الأنعام 141.
- الأموال التي تجب فيها الزَّكاة هي: الأنعام (الإبل والبقر والغنم), والذهب والفضَّة (ويلحق بهما النقود الورقية اليوم), والزُّروع والثِّمار, وعروض التجارة: وهي ما يُعَدُّ للبيع والشِّراء بقصد الرِّبح. وتُقَوَّم كالنقود الورقية, فإذا بلغت قيمتها نصاب الذهب أو الفضة وجب فيها الزكاة.
هذه مقدمة ضرورية لا بد منها لدراسة أحكام زكاة شركات المساهمة.
مدى وجوب الزكاة في أموال شركات المساهمة:
شركات المساهمة نوع جديد من الشركات لم تكن من قبل, إلا أننا إذا ما تأملنا فيها, وجدنا لا تختلف كثيراً عن شركتي العنان والمضاربة المعروفتين في فقهنا القديم, ووجدنا أن السهم لا يعدو أن يكون اسماً لحصةٍ شائعةٍ معلومةٍ في رأس مال تلك الشركة, وهذه الحصة تتجسد في نقودٍ وعروضٍ وآلاتٍ وخدمات, سواءٌ أكانت منها جميعاً, أم من بعضها.
إذاً فالسهم في حقيقته مالٌ. وقد أجمع أهل العلم قديماً وحديثاً على وجوب الزكاة في النقود وأموال التجارة إذا توافرت شروطها.
ولكن مَنْ الذي يُخرج زكاة الأسهم؟ الشركة, أم الفرد (الشريك)؟ وهل يختلف الواجب أو هو بنفس القدر على الجهتين؟ هذا ما سنتناوله فيما يأتي.
إخراجُ الشركةِ زكاة أموالها بنفسِها:
إذا كانت الشركة هي التي تتولى إخراج زكاتها بنفسها, فإنها تقوم بذلك كما يقوم به الشخص الطبيعي من حيث نوع المال الذي يجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب, والحول, والمقدار الذي يؤخذ. أي: أن الشركة إن كانت زراعية أخرجت زكاة الزراعة. وإن كانت تجارية أخرجت زكاة التجارة, وإن كانت صناعية أو خدمية أخرجت الزكاة من الغلة. وتستثني من ذلك أسهم غير المسلم, وأسهم الجهات العامة كمؤسسات الدولة والمساجد والأوقاف العامة؛ لأنها لا زكاة فيها. جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة, رقم (3) د4/08/88 بشأن زكاة الأسهم: "تُخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يُخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد, وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي ... ويُطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين".
نوع الزكاة الواجبة في أموال الشركة المساهمة:
تختلف الزكاة الواجبة في أموال الشركة المساهمة بحسب نوع الشركة ونشاطها, كما أن ذلك قد يختلف بحسب نية مالك الأسهم. وفيما يلي تفصيله:
أولاً- الشركات الزراعية وشركات الثروة الحيوانية:
لا خلاف في أن الزكاة الواجبة على الشركة الزراعية إذا بلغ الناتج نصاباً:
العشر إن سقت زرعها بماء السماء.
نصف العشر إن سقته بالآلة وما فيه كلفة مالية.
والمقصود بالشركة الزراعية: تلك التي تستثمر أموالها في مجال الزراعة بصورة مستمرة. أي أنها اتخذت الزراعة مهنة لها, ومجالاً لنشاطها.
ولا خلاف في أن الواجب على شركة الثروة الحيوانية زكاة الماشية إن توافرت شروطها من السوم والنصاب وحولان الحول.
والمقصود بشركة الثروة الحيوانية تلك التي تستثمر أموالها في مجال تربية الماشية وتسمينها للاستفادة من منتجاتها من أصواف وألبان وللحصول على زوائدها. أي أنها اتخذت من تربية الماشية مهنة لها, ومجالاً لنشاطها.
غير أن بعض الشركات التجارية التي تتعامل بالبيع والشراء, وتبتغي الربح من خلاله, قد تقدم على شراء أرض فيها زرع بنية بيعه, وطلباً للربح. فإذا أدرك الحصاد قبل بيعه, فهل تخرج زكاة الزرع يوم الحصاد؟ أم تنتظر اكتمال حولها, وتخرج زكاة التجارة؟.
ويُقال مثل ذلك فيما لو كانت الشركة تجارية, وأقدمت على شراء الماشية السائمة بنية بيعها طلباً للربح. هل تخرج زكاة الماشية؟ أم تخرج زكاة التجارة؟.
قال الحنفية: إذا عملت الشركة في مجال الزراعة, تُقَدَّم الزراعة, ويُخرجْ زكاتها. وإذا عملت الشركة في مجال تربية الماشية, تُقَدَّم التجارة, ويُخرج زكاتها وليس زكاة الماشية. والسبب في ذلك أن لهم نظرة خاصة في الأرض الزراعية, ويرون بمقتضاها أنها لا تصلح أن تكون محل تجارةٍ, ومن ثَمَّ فلا تجب فيها زكاة التجارة. وأما الماشية فتصلح للتجارة, فتجب فيها زكاة التجارة.
وقال المالكية والشافعية: يُقدم زكاة الزراعة وزكاة الماشية على زكاة التجارة, لأن أدلة وجوب الزكاة في الزراعة والماشية أقوى من أدلة وجوب الزكاة في مال التجارة, ولأنما يجب إخراجه في الزراعة والماشية هو نفس الزرع ونفس الماشية, بخلاف زكاة التجارة, فإنهل ليست من نفس البضاعة التي يتاجر بها التاجر, بل يُخرِجُ قيمتها.
وقال الحنابلة: يُغَلَّبُ جانب التجارة في الحالتين. فتجب زكاة التجارة ما دامت نيته التجارة عند شرائه السائمة, أو الأرض المزروعة, أو الأرض والبذر للزراعة. لحديث سمرة بن جندب t: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُنا أنْ نُخرج الصدقةَ من الذي نُعِدُّ للبيع). قالوا: نص الحديث عامٌ في كل ما يُتاجر به, من غير تفريق بين مال للزراعة, ومال للماشية, ومال للعقار. قالوا (أي الحنابلة): وفي هذا إعمال لأدلة كل نوع فيما يخصه. فأدلة زكاة الزراعة, أو زكاة سائمة الغنم, تُعْمَل عندما تكون هي المقصودة. وأدلة زكاة التجارة تُعْمَل عندما تكون هي المقصودة. وهذا ما ذهبت إليه الندوة السابعة لقضايا الزكاة المعاصرة المنعقدة في الكويت عام 1417هـ, حيث جاء في توصياتها: "إذا اجتمع مع عروض التجارة سبب آخر للزكاة كالسوائم أو الزرع تزكى زكاة عروض التجارة". وهذا هو الراجح في المسألة -والله أعلم- وهو الأقوى دليلاً.
ثانياً- نوع الزكاة الواجبة في الشركات الصناعية والخدمية:
لم يختلف العلماء المعاصرون في أن الواجب في زكاة عروض التجارة ( والشركات التجارية) ربع العشر من قيمة العروض السوقية.
وأما الشركات الصناعية أو الخدمية أو شركات النقل والسياحة وما شابهها من الأصول الاستثمارية الثابتة أو المستغلات فقد اختلفوا في الواجب في زكاتها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الواجب في هذه المستغلات وفي غلتها معاً ربع العشر. بمعنى أن المصانع والمعامل والفنادق ...وغلتها جميعاً تُقَوَّمُ بصفتها عروض تجارة, ثم يؤخذ منها الزكاة بمقدار ربع العشر, تماماً كما هو الحال في عروض التجارة. ذكر هذا ابن عقيل تخريجاً على رواية وجوب الزكاة في حُليِّ الكراء. وهو رواية عن الإمام مالك رحمه الله أيضاً. وتبنى هذا الرأي بعض المعاصرين, منهم الدكتور منذر قحف, والدكتور رفيق المصري, والدكتور حسن الأمين. واستدلوا لهذا الرأي بعموم النصوص التي وردت في فرضية الزكاة, مثل عموم الأموال في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103). وعموم الأغنياء في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين أرسله لليمن: (... فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عليهم صَدَقَةً في أَمْوَالِهِمْ, تُؤْخَذُ من أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ على فُقَرَائِهِمْ). قالوا: هذه المصانع والفنادق أموال, وأصحابها أغنياء, فيجب أخذ الزكاة منهم عن تلك الأموال كلها مع غلاتها.
القول الثاني: ليس في هذه المستغلات من مصانع وفنادق ونحوها زكاة, ولكن في غلتها (أو نِتاجها) العشر من صافي الغلة بعد حسم المصاريف. أو نصف العشر من الغلة الإجمالية. قياساً على الأرض الزراعية والأشجار المثمرة؛ حيث إن الشرع لم يوجب زكاة في أعيانها, بل أوجبه في نتاجها؛ عُشْراً إنْ سقيتْ بماء السماء, ونِصفَ العُشْر إن سُقيتْ بالآلة وما فيه كلفة مالية ومشقة. قالوا: والمصانع والفنادق تشبهها من حيث كونها ثابتةٌ منتجةٌ, فتُعفى من الزكاة أصولها, وتؤخذ من غَلَّتها. وممن تبنى هذا الرأي الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ مصطفى الزرقاء والشيخ يوسف القرضاوي.
القول الثالث: ليس في المصانع والعمائر والفنادق, وإنما الزكاة في غلتها إنْ بلغت نصاباً وحال عليها الحول. وهذا ما عليه عامة الفقهاء المعاصرين والمجامع الفقهية. وهو ما يتفق مع ما ذهب إليه عامة الفقهاء من المذاهب الأربعة, ومن سبقهم من الصحابة والتابعين, حيث ميزوا بين أموال التجارة, وغيرها من الأموال مما أُعِدَّ للكراء والغَلَّة. فأوجبوا الزكاة في الأول (أي أموال التجارة), لقيام الأدلة عليه, دون الثاني (ما أُعِدَّ للكراء والغَلَّة)؛ لعدم قيام الأدلة عليه. بل الأدلة تُرجح عدم وجوب الزكاة فيما أعِدَّ للكراء والغلة, ومن ذلك:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: (ليس على المسلم صدقةٌ في عبده ولا فرسه), وقوله r: (ليس في الإبل العوامل صدقة), و (ليس في البقر العوامل صدقة). وجه الدلالة فيها أن النبي r أخبر أنه لا زكاة في آلات الركوب أو الاستعمال أو الحرفة أو الاستغلال. والسبب والله أعلم أن هذه الأموال لا تنمو بالعمل, والزكاة إنما تجب في المال النامي. فإن وجدت لها غلة, وبلغت نصاباً, وحال عليها الحول زكاها. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: " كانت النواضح على عهد رسول الله ثم خلفائه, فلم أعلم أحداً روى أن رسول الله أخذ منها صدقة, ولا أحداً من خلفائه".
- روي عن ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد صحيح قوله: "ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة". والمصانع والعمائر والفنادق ليست عروض تجارة, بل استثمار واستغلال, وهذا قول لصحابي, ولا يُعرف له مخالفٌ في الصحابة, فيكون إجماعاً.
- القياس, وذلك بإلحاق العروض الأخرى غير المنصوص عليها (الآلات والمباني والمعدات ..) بالفرس والعبد المنصوص عليهما؛ لأنها في معناهما.
- الاستصحاب, وذلك لأن الأصل عدم وجوب الزكاة في المال إلا إذا قام دليل الوجوب, ولا دليل على إيجاب الزكاة في عروض القُنية والغلة خلافاً للتجارة.
- المعقول, وذلك أن الزكاة إنما تجب في الأموال النامية كالمواشي والزروع, فإذا انتفى النماء كما في الآلة والعقار سقطت الزكاة لانتفاء علة الوجوب.
والنصوص الفقهية في هذا الباب كثيرة نذكر منها: ما جاء في (المدونة) عن ابن القاسم عن مالك قال: "ليس فيها (أي غلة الدور) زكاة حتى يحول عليها الحول من يوم يقبض الثمن". وفي كتاب (الأم للشافعي) : "من كانت له دورٌ أو حمَّاماتٌ لغَلَّةٍأو غيرها ... فلا زكاة فيها, وكذلك لا زكاة في غلاتها حتى يحول عليها الحول في يدي مالكها". وفي (الفتاوى الهندية للحنفية) : "لو اشترى قدوراً من صُفْرٍ يُمْسِكُهَا ويؤاجرها لا تجب فيها الزكاة, كما لا تجب في بيوت الغلة... ; لأنه اشتراها للغلة لا للمبايعة". وفي (كشاف القناع للحنابلة) : "ولا زكاة فيما أعد للكراء من عقار وحيوان وغيرهما؛ لأنه ليس بمال تجارة". والشركات الصناعية والخدمية من هذا القبيل كما لا يخفى.
المناقشة والترجيح:
يرد على ما استدل به الفريق الأول (في المصانع والعمائر نفسها زكاة): إن نصوص الإمام مالك رحمه الله على خلاف هذا القول, والاستثناء الوحيد كان للحلي لأنها من الذهب والفضة , وقد أعدت للكراء, فأصبحت مالاً نامياً كالذهب والفضة إذا اتخذت للتجارة. وعليه فلا حجة لهم في هذه الرواية, ولا يجوز التخريج عليها. ومثله ما أورده ابن عقيل تخريجاً على رواية (في الحلي المعدة للكراء), فإنه لا حجة فيه؛ لأن ابن عقيل قد اختار رواية : لا زكاة في الحلي البتة. ثم هو حكم خاص بالحلي.
ويناقش القول الثاني (قياس المصانع ونحوها على الأراضي الزراعية): بأنه قياس مع الفارق, ومردود. وأوجه الفرق تتمثل في الآتي:
- للمصانع والعمائر ونحوها عمرٌ محدود, وتستهلك بصورة مستمرة, حتى تنتهي, والأراضي الزراعية ليست كذلك, فإنها لا تفنى ولا تبيد بمرور الأيام.
- مؤنة المصانع ونحوها كبيرة, وتحتاج إلى صيانة دائمة ومصاريف تشغيل, والأراضي ليست كذلك.
- إنتاج المصانع ونحوها يكون يومياً, بخلاف إنتاج الأراضي فإنه يكون موسمياً.
- تجب زكاة الخارج من الأرض من زرع أو ثمر في عينه من جنس الزرع والثمر, وإنتاج المصانع ونحوها لا تجب الزكاة في عين المُنْتَج, بل في قيمتها من النقود, وزكاة النقود تختلف عن زكاة الزروع والثمار.
وعليه فإن الراجح - والله أعلم- ما ذهب إليه عامة الفقهاء قديماً وحديثاً من عدم وجوب الزكاة في المستغلات من مصانع وعمائر ونحوها, بل تجب الزكاة في غلتها, وتزكى زكاة التجارة بإخراج ربع العشر. وهو ما تبناه المجمع الفقهي وندوات الزكاة.
الخلاصة:
إذا أخرجت الشركة زكاتها, فإنها تُخرجها كما يُخرجه الشخص الطبيعي. فإن كانت زراعية أخرجت زكاة الزراعة, وإن كانت مواشي أخرجت زكاة المواشي. وكل ذلك بشروطها.
وإذا كانت الشركة تجارية وتعمل في الزراعة أو الماشية فالراجح أنها تخرج زكاة التجارة.
وإذا كانت الشركة خدميةً أو صناعيةً فالراجح أنها تُخرج زكاةَ الغَلة (ربع العشر) كما في زكاة النقود وزكاة أموال التجارة.
المحاضرة السابعة
زكاة شركات المساهمة (تابع)

إخراجُ الشريك زكاة أسهمه بنفسه:
إذا لم تُخرج الشركة زكاة أموالها وتركت ذلك للشركاء كي يُخرج كل واحدٍ زكاته بنفسه, فإن القدار الواجب على الشريك في زكاة أسهمه يختلف تبعاً للغرض الذي من أجله اقتنى تلك الأسهم. فقد يكون غرضه الاتجار بها, وقد يكون غرضه الاحتفاظ بها للاستفادة من غلتها أو أرباحها, وقد يجتمع له كلا القصدين معاً.
ولكل حالةٍ أحكامٌ تَخُصها, سنستعرضها فيما يأتي:
أولاً - شراء الأسهم للاتجار بها:
يوجد في الناس قِطاعٌ كبير ممن يتعاملون بالأسهم على أنها أموالٌ للتجارة, ويعرضونها في السوق بصورةٍ مستمرةٍ, ويراقبون وضعها, فإذا وجدوا في بيعها مكسباً سارعوا إلى بيعها, وإذا توقعوا في شرائها مكسباً سارعوا إلى شرائها, وهكذا. فالأسهم عندهم تماماً كعروض التجارة من ملابس وأغذية وأجهزة وغيرها مما هو معروض للبيع, ويتعامل بها التجار بهدف الاسترباح منها. ولربما باع أحدهم واشترى في نفس اليوم أكثر من مرة, أو في فترات متقاربة أو متباعدة, حسب السوق, وحسب ما يتحقق له من مكاسب, ومدى اقتناعه بها.
والواجب شرعاً على هؤلاء أن يزكوا أسهمهم زكاة عروض التجارة, وهي (2,5 %) من قيمة السهم السوقية (أي بسعر السهم في السوق يوم تمام الحول ووجوب الزكاة في المال), وذلك بغض النظر عن مجال عمل الشركة, أو نوعية أنشطتها.
فسواءٌ أكانت الشركة تجارية أم صناعيةً أم خدميةً, فإن على هذا الشريك أن يزكي أسهمه جميعها زكاة التجارة من بعد تقويمها في السوق؛ لأن أسهمه تمثل حصة مالية في هذه الشركة, وهي مال تجارة. والزكاة واجبة في مال التجارة باتفاق المذاهب الأربعة, إذا بلغ المال نصاباً, وحال عليه الحول. والمقدار الواجب في زكاة التجارة إنما هو ربع العشر. أي (2,5 %).
ولو افترضنا أن لهذا الشخص أرباحاً من هذه الأسهم, وأموالاً أخرى غير الأسهم أيضاً, فإن عليه ضَمَّ أمواله جميعها إلى بعضها, وتزكيتها زكاةً واحدةً إذا حال حولها. وهذا ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة 1408هـ في قراره رقم (3) د4/08/88 بشأن زكاة الأسهم حيث جاء فيه: "وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة. فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية, وإذا لم يكن لها سوق زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر (2.5 %) من تلك القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح".
ثانياً - شراء الأسهم بغرض الاستفادة من الغَلَّة:
يوجد في الناس من يشتري أسهماً في شركةٍ, لا ليبيعها ويتجر بها, بل ليحتفظ بها لنفسه, ويستفيد من غلتها. فهل على هؤلاء زكاة؟ وما مقدارها؟.
اختلف الباحثون المعاصرون في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا زكاة في هذه الأسهم, ولا في غلتها (أو أرباحها). بل يقوم صاحب الأسهم بضم غلَّة أسهمه إلى بقية أمواله, ويزكيها مع أمواله الأخرى عند مجيء الحول إذا بلغ مجموعها نصاباً. وهذا الرأي هو ما ذهب إليه معظم الباحثين المعاصرين, وتبناه مجمع الفقه الإسلامي في قراره المشار إليه سابقاً.
القول الثاني: أن هذه الأسهم تزكى كلها زكاة تجارة, ولا فرق بينها وبين ما نوى صاحبها الاتجار بها. أي أن أصحاب هذا القول لا يلتفتون إلى نية مالك الأسهم, بل يعتبرون جميع الشركاتِ تجارية مهما كانت طبيعة عملها. فسواءٌ أكانت هذه الشركاتتمثل فنادق أو معامل نسيج أو مشافي... وسواءٌ أكانت نيتة المالك استغلال أسهمه أو الاتجار بها فإنها تزكى زكاة عروض التجارة (أي: 2,5 %). وقد تبنى هذا الرأي جمعٌ من الشيوخ والباحثين المعاصرين كالشيخ محمد أبو زهرة والشيخ عبد الوهاب خلاف. وحجتهم أن معظم الشركات تجارية, وتبحث عن الربح, والناس يشترون الأسهم ويبيعونها على أنها صكوكاً بحصص مالية, وليست أجزاءً شائعة من الشركة.
ولا شك أن هذا التصور مجانبٌ للحقيقة, لأن أموال التجارة تدار, ويكون الاسترباح فيها من خلال التداول. وهنا في هذه الصورة لا تدار الأسهم, ولا يعرضها صاحبها في السوق ليربح من وراء بيعها, ولو عرضها مرةً فهو لم يشترها بهذه النية, بل يريدالاحتفاظ بها, وربما استمر احتفاظه مددةً طويلة. كما أن واقع الشركة هنا مختلفٌ عن الشركة التجارية؛ لأنها هنا تتمثل في فنادق, أو مصانع أو شركات سياحية أو نقليات ... والفارق بينها وبين مال التجارة واضحٌ.
القول الثالث: أن الواجب في زكاة هذه الأسهم هو العُشْر (10%) من العائد الصافي الذي توزعه الشركة؛ لأن هذه الأسهم تشبه الأراضي الزراعية, فتزكى الغلة فقط, كما تزكى غلة الأراضي الزراعية فقط, دون الأرض ذاتها. وقد تبنى هذا الرأي الشيخ مصطفى الزرقاء والشيخ يوسف القرضاوي والدكتور رفيق المصري.
وقد سبق أن ناقشنا هذا في المحاضرة السابقة وبينا أوجه الفرق بين هذه الأموال التي تقتنى للخدمة أو للاستفادة من غلتها, وبين مال التجارة, فلا حاجة للتكرار.
وعليه فالراجح القول الأول (لا زكاة في الأسهم التي تقتنى من أجل ريعها), وإنما تضم غلتها إلى بقية أموال الشخص, وتزكى معها زكاة النقود, وهو رأي الفقهاء عامة قديماً وحديثاً, وتبناه المجمع الفقهي كما أسلفنا.
ثالثاً - الأسهم التي تقتنى للاستفادة من ريعها والمتاجرة معاً:
يوجد في الناس من يقتني أسهماً في شركةٍ معينةٍ بغرض الاستفادة من ريعها وغلتها, ولكنه ينوي في الوقت ذاته بيعها إذا ما ارتفعت قيمتها بشكلٍ مرضٍ, وحققت له ربحاً مرضياً, فما نوع الزكاة الواجبة فيها؟ وأي الغرضين يُغَلَّب؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
الأول: وهو للمالكية (وهو الراجح عندهم), يُغَلَّب قصدُ التجارة, وتجب زكاتها فيها. جاء في شرح الخرشي على خليل: "وكذلك تجب الزكاة في هذا العرض إذا نوى به التجارة والغلة معاً. كما إذا نوى عند شرائه أن يكريه, وإن وجد ربحاً باع. وكذلك تجب الزكاة في هذا العرض إذا نوى به عند المعاوضة عليه التَجْر والقنية معاً".
الثاني: وهو لجمهور العلماء من المذاهب الثلاثة الأخرى ومعهم بعض المالكية أنه لا يجب في هذه الأسهم زكاة. وعللوا ذلك: بأن الجمع بين نيتي (التجارة والقنية), أو (التجارة والغلة) معاً غير ممكن! لأنه إما أن يمسك أسهمه للانتفاع بها وبغلتها, فتكون هذه النية هي السابقة, وهي المعتبرة. أو أنه يعرضها مباشرة على البيع, ويسعى للاتجار بها, فتكون نية التجارة هي السابقة والمعتبرة. أي أنه لا بد أن يتجه قصده إلى فعلٍ واحدٍ يقترن بالعقد, فيكون هو السابق والغالب من النيتين, ويكون هو المعتبر, ويكون الثاني تابعاً, ويُلغى لضعفه.
وتعليلٌ آخر: وهو أن النية تكون بالجزم, والترديد بين نيتين يتنافى مع الجزم, فتبطل النيتان معاً. ويتم الرجوع إلى الأصل. والأصل في الأشياء أنها وجدت للانتفاع لا للتجارة. فلا تجب الزكاة فيها. جاء في شرح فتح القدير: " لو اشترى عبداً للخدمة ناوياً بيعه إن وجد ربحاً, لا زكاة فيه". وقال ابن النجيم: "لو اشترى شيئاً للقنية ناوياً أنه إنْ وجد ربحاً باعه لا زكاة عليه". وقال الشافعية في معرض بيان شروط وجوب الزكاة في عروض التجارة: "أن تقترن نية التجارة بحال المعاوضة ... وأن لا يقصد بالمال القنية وهي الإمساك للانتفاع. ومثله عند الحنابلة أيضاً.
والراجح والله أعلم ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الزكاة في حالة الجمع بين النيتين, للتعليل الذي ذكروه, ولأن المخالف (وهم غالبية المالكية) القائل بتغليب جانب التجارة, لم يخالف طعناً في استدلالهم, ولا تبنياً لإمكانية الجمع بين النيتين معاً, بل تغليباً لجانب الاحتياط في الدين كما صرحوا به. ومن ثَمَّ رأينا جمعاً من فقهائهم كابن القاسم وابن المواز وغيرهما يخالفون مذهبهم, ويتبنون رأي الجمهور في القول بتغليب جانب القنية والاستغلال, وعدم وجوب زكاة التجارة فيها.
كيفية احتساب الزكاة:
عندما تكون الشركة هي التي ستخرج الزكاة, فإنها تقوم بذلك من خلال الخطوات التالية:
1- تُقوِّم الشركة ما عندها من السلع والبضاعة المعروضة للبيع (أي أنها تقدر قيمة البضاعة في السوق يوم تمام الحول).
2- تضم تلك القيمة إلى ما لديها من النقود.
3- تضيف إليهما ديونها الحية المرجوة على الآخرين.
4- تطرح من المال جميعه الديون التي عليها.
5- تزكي الباقي زكاة النقود ربع العشر (2,5 0/0).
وأصل هذه الطريقة في احتساب الزكاة مأثور عن ميمون بن مهران التابعي الفقيه, حيث جاء عنه قوله: (إذا حَلَّت عليك الزكاة, فانظر ما كان عندك من نقدٍ, أو عَرض للبيع, فقوِّمْه قيمة النقد, وما كان من دينٍ في ملأة -أي على أغنياء سيدفعونه وهو مضمون- فاحسبه, ثم اطرح منه ما كان عليك من الدين, ثم زكِّ ما بقي).
ما الذي يعفى في أسهم القنية من الزكاة؟
عندما نقول: لا تجب الزكاة في أسهم القنية, فهل يعني ذلك أن هذه الأسهم بكل ما تقابلها من مالٍ لا زكاة فيها؟
الجواب: لا؛ بل المعفو من الزكاة رأس مال الشركة الثابت, وهو الذي لا يتم تداوله كالمصنع وسيارات الخدمة, وأجهزة الحاسوب وما إلى ذلك مما هو ثابت وغير متداول. وأما ما لدى الشركة من النقود, وعروض يتم تداولها بيعاً وشراءً, وديونٍ على مستحقين أغنياء, فإن فيها الزكاة, وزكاتها هو زكاة النقود. فالشركة إن زكتها برئت ذمة هذا المالك, وإلا كان عليها أن يحسبها ولو تقديراً من خلال السؤال عنها, وتزكيتها.
وقد نبه إلى هذا مجمع الفقه الإسلامي في قراره المشار إليه سابقاً.
إذا كانت نية مالك الأسهم تختلف عن واقع الشركة فماذا عليه؟
قد تكون الشركة تجارية (أي مجال نشاطها البيع والشراء, كبندة أو العثيم مول مثلاً) ويشتري الشخص فيها أسهماً بنية الاقتناء والاحتفاظ بها؟ أو تكون نيته الاتجار والشركة خدمية مثلا؟ فماذا عليه؟
الجواب: إذا كانت الشركة تجارية لا يكفيه تزكية الغلة فقط, وإن كانت نيته الاحتفاظ بأسهمه, ولا تعتبر نيته, بل يجب عليه زكاة التجارة في أسهمه؛ لأن شرط اعتبار النية أن لا يكذبها الواقع. وفي مثل هذه الصورة يُكذب واقع الشركة التجارية نيته ويردها, فتكون نيته باطلة. مَثَلُه كمثل مَنْ نوى الإقامة وهو في السفر على متن الطريق, فإن نيته في الإقامة باطلة, وسفره مستمر, ورُخص السفر باقية له.
وإذا كانت نية مالك الأسهم المتاجرة بأسهمه, والشركة صناعية أو خدمية, لم يكفه إخراج الشركة للزكاة؛ لأنها ستكون قد أخرجت الزكاة من الغلة فقط, وواجب الشريك إخراج زكاة التجارة من جميع ما تمثله الأسهم من مال, وليس من الغلة فقط كما فعلته الشركة.
هل تبرأ ذمة الشريك بإخراج الشركة الزكاة؟
إذا أخرجت الشركة التجارية زكاتها ربع العشر فقد أبرأت ذمتها, ولكن ذلك لا يعني أن ذمة مالك الأسهم أيضاً قد برئت إذا كان قد نوى بشراء الأسهم الاتجار بها!
وذلك لأن الشركة ستخرج زكاة أموالها النامية, والتي تدار بيعاً وشراءً, وأما المباني والسيارات والأجهزة والتراخيص فلن تزكيها, لأنها من رأس مالها الثابت, وهو لا يزكى إجماعاً. وأما الشريك المتاجر بأسهمه فإنه عليه تزكية أسهمه بكل ما تحمله هذه الأسهم من قيمة مادية ومعنوية (فيدخل في تقويم الأسهم زيادة عن النقود والعروض, الأصول الثابتة كالمباني والأدوات, والحقوق المعنوية كالتراخيص والامتيازات)؛ لأنها جميعاً قد تحولت عنده إلى أموال تجارة, وأصبحت معروضةً للبيع, وحين يبيع سهمه في السوق, يبيعه بكل ما يقابله من حصته في الشركة.

المحاضرة الثامنة
الأسهم ومدى مشروعية التعامل بها

المقدمة:
تلعب شركات المساهمة دوراً كبيراً في الاقتصاد المعاصر، لضخامة رؤوس أموالها التي قد تصل إلى مئات الملايين من الدولارات, وربما المليارات! حيث يشترك فيها أعدادٌ هائلة من الناس, لضآلة قيمة السهم, وصغر حجمه, الأمر الذي يمكن من لديه فائضاً من المال مهما كان قليلاً أن يجد فرصته للاكتتاب في أسهم هذه الشركات. يضاف إلى ذلك أمرٌ آخر في غاية الأهمية وهو أن بإمكان هذا الشريك طرح أسهمه في السوق وبيعها, في أي وقت شاء, ولأي شخصٍ كان, من غير أن تفرض عليه قيود في ذلك, الأمر الذي يجعل من أسهمه هذه أوراقاً ماليةً في يده, يستطيع تحويلها إلى نقد بسهولة ويسر في الوقت الذي يشاء, وهو ما جعل الناس يقبلون على المشاركة في هذه الشركات, ويُكسبهم الثقة بها.
إلا أن هذه الشركات ولِدَتْ في بلاد الغرب, وفي مجتمعات لا تدين بالإسلام, فمن البدهي أن تتضمن في صيغ عقودها شروطاً أو حقوقاً أو امتيازاتٍ تتعارض مع أحكام شرعنا, ومن ثَمَّ كان على المسلم أخذ الحيطة والحذر في تعامله بها, وكان عليه الرجوع إلى أهل العلم لمعرفة حكم الشرع فيها قبل الإقدام عليها, أو إجراء التعديل المطلوب شرعاً على صيغتها, والذي قد لا يكون في كثير من الأحيان سوى إلغاء شرطٍ أو قيد.
وفي الصفحات القادمة نقدم فكرة عن هذه الشركات بصفتها من القضايا المالية المستجدة, ونستعرض أقوال الفقهاء المعاصرين في حكم المشاركة فيها.
تعريف شركة المساهمة والأسهم:
شركات المساهمة هي: شركات أموالٍ, يُقَسَّمُ رأسُ مالِها إلى أسهمٍ متساويةِ القيمة، قابلةٍ للتداول.
وهذه الشركات لا تسمى باسم أحد من الشركاء, بل باسم الغرض أو النشاط الذي تزاوله.
وتقوم فكرتها على اشتراك أعدادٍ كبيرة من الناس في رأس مال الشركة, إلاَّ أن بعض أعضائها فقط يقومون بإدارة أموالها, وهم المؤسسون لها, وأما بقية الشركاء فلهم حصصٌ فيها, ولهم حق التصرف في حصصهم بيعاً وهبة ورهناً من غير قيد أو شرط, غير أنهم لا يملكون حق إدارتها.
وأما السهم فهو في اللغةً بمعنى النصيب. وفي الاصطلاح: "حصّة شائعة في موجودات الشركة". أي نصيب المساهم وحصته في أموال الشركة.

أنواع الأسهم:
للأسهم أنواع متعددة باعتبارات مختلفة, نقتصر على ذكر اثنين منها:
1) أنواعها بالنظر إلى حقوق أصحابها المساهمين فيها:
‌أ- أسهم عادية تتساوى في قيمتها, وتعطي المساهمين حقوقاً متساوية, فلا ميزة لأحدٍ على أحد.
‌ب- أسهم ممتازة, تعطي صاحبها حقوقاً خاصة لا توجد في الأسهم العادية. وتكون الغاية منها جذب الجمهور للاكتتاب (كأن يُعطى الحق في استرجاع قيمة أسهمه عند تصفية الشركة, أو الأولوية في الحصول على الربح, أو يمنح أكثر من صوت في الجمعية العمومية).
2) أنواعها بالنظر إلى استهلاكها وعدمه:
‌أ- أسهم رأس المال: وهذه لا يسترد صاحبها قيمتها من الشركة ما دامت قائمة.
‌ب- أسهم التمتع: وهذه يسترد صاحبها قيمتها من الشركة قبل انقضائها, ويبقى مع ذلك شريكاً فيها, وله حق الحصول على الأرباح, والتصويت في الجمعية العمومية).
قيمة السهم:
للسهم قيمٌ متعددة باعتبارات مختلفة, منها:
1. القيمة الاسمية: وتعني القيمة المحددة في صك إنشاء الشركة, والتي على أساسها يتم تحديد رأس مال الشركة. (كأن نعلن أمام الجهات الرسمية في الدولة وللجماهير أننا بصدد إنشاء شركة للأغذية رأس مالها 100 مليون ريال, مقسم إلى مليون سهم, قيمة السهم 100 ريال, فتكون الـ 100 ريال هي القيمة الاسمية للسهم).
2. القيمة الحقيقية: وتعني نصيب السهم من صافي أصول الشركة بعد حسم ديونها, وفقاً للأسعار الجارية. (أي أننا نأتي إلى ممتلكات الشركة, ونقومها بسعرها الآن في السوق, ونحسم من المجموع ديونها, ثم نقسم الباقي على عدد الأسهم المكونة للشركة, فيظهر لنا القيمة الحقيقية لكل سهم) وهذه القيمة قد تكون أكثر من القيمة الاسمية أو أقل, وذلك حسب وضع الشركة, فإذا كانت الشركة رابحة, فإن القيمة الحقيقية تكون أعلى من الاسمية, وإذا كانت خاسرة فإنها تكون أقل من القيمة الاسمية.
3.القيمة السوقية: وتعني قيمة السهم في السوق ساعة عرضه للبيع, وتلاقي العرض مع الطلب. وهذه القيمة قد تزيد عن القيمة الحقيقية للسهم, وقد تنقص. فالشركة إذا كانت في وضع جيد, وكان الناس يثقون بمكانتها, ويرغبون في شراء أسهمها, فستكون قيمة السهم أعلى من القيمة الحقيقية له. وكذلك العكس, أي إذا كانت الشركة في وضع سيئٍ أو مهزوزٍ, وكان الناس لا يثقون بمكانتها, ولا يرغبون في شراء أسهمها, فستكون قيمة السهم أقل من قيمته الحقيقية.
خصائص الأسهم:
للأسهم خصائصٌ متعددة أهمها:
‌أ- أنها متساوية القيمة, فلو كانت الشركة مكونة من مليون سهم, ورأس مالها 100 مليون ريال, وجب أن يكون قيمة كل سهم 100 ريال.
‌ب- أنها غير قابلة للتجزئة, فليس هناك نصف سهم, وربع سهم! وعليه فلا يجوز لأحد أن يبيع نصف سهم, أو يهب ربعه, بل هو وحدةٌ واحدةٌ لا تتجزأ.
‌ج- أنها قابلة للتداول بالطرق التجارية, فيمكن للشريك أن يبيع أسهمه كلها أو بعضها, أو يهبها, أو يرهنها.
الحكم الشرعي للتعامل بالأسهم:
رأينا أن فكرة هذه الشركات تقوم على أساس المشاركة بالمال من بعض الأعضاء, والمال والإدارة من بعض آخر, وعليه فإن هذه الشركات لا تخرج عن شركة المضاربة المعروفة في فقهنا, والتي تكون بتقديم طرف المال, والآخر العمل, على أن يكونا شريكين في الربح على النصف و الربع والثلث حسب اتفاق الأطراف, وهنا كذلك الآلاف يقدمون أموالهم لجهة محددة, كي تتاجر بها وتستثمرها لقاء حصة معلومة شائعة من الربح لكل طرف.
إلا أن لهذه الشركة شروطاً محددة في شرعنا فيجب التقيد بها, وعلى هذا الأساس فإن ما يسمى بالأسهم الممتازة, وأسهم التمتع غير مشروعة, إذا كانت تتضمن شروطاً وامتيازات مالية من شأنها أن تقطع الشركة, أو تجعل الخسارة على مال طرف دون مال طرف آخر, أو تشترط له مبلغاً محدداً من الربح يأخذه أولاً, ثم يقسم الباقي من الربح بين الأطراف لتنافي ذلك مع مبدأ الشركة, القائم على أن كل الأطراف شركاء في الربح, وعلى أن الخسارة على المال دون العمل وغير ذلك من الشروط المذكورة في باب المضاربة في كتب الفقه.
وأما الامتيازات الإدارية فلا مانع منها شرعاً كأن يحسب له أكثر من صوت في الجمعية العمومية فلا حرج فيه.
يضاف إلى ذلك ضوابط وشروط أخرى يجب أن تتوافر في الشركة, وهي :
أولاً: أن تكون الأسهم صادرة من شركات ذات أغراض مشروعة بأن يكون موضوع نشاطها حلالاً مباحاً مثل الشركات الإنتاجية للسلع والخدمات كشركة الكهرباء وشركة الأدوية وشركة اتصالات, وغير ذلك. أما إذا كان موضوع نشاطها محرماً كشركات إنتاج الخمور أو شركات إنشاء البنوك الربوية فلا يجوز امتلاك شيء من أسهمها وتداوله بين المسلمين, كما تحرم أرباحها؛ لأن شراء الأسهم من تلك الشركة من باب المشاركة في الإثم والعدوان.
ثانياً: أن تكون الأسهم صادرة عن شركة معروفة ومعلومة لدى الناس بحيث تتضح سلامة تعاملها ونزاهته, ولذلك لا يجوز التعامل بأسهم سلة شركات مساهمة, دون أن يعرف المشتري حقيقة تلك الشركات (وهي من الأساليب الجديدة في الاستثمار في الغرب, حيث يستثمر المال في سلة مشتركة لشركات مساهمة, وكل سلة لها مدير مشرف يديرها, وهو غير جائز لعدم معرفة ماهية تلك الشركات التي تتضمنها تلك السلة).
ثالثاً: أن لا يترتب على التعامل بها أي محظور شرعي كالربا والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل فلا يجوز للمسلم قبول أسهم الامتياز التي تعطي له حق الحصول على ربح ثابت سواء أربحت الشركة أم خسرت لأن هذا ربا محرم شرعاً ولا يجوز للمسلم قبول أسهم التمتع التي تعطي صاحبها حق الحصول على الأرباح دون أن يكون شريكاً في المال والعمل لأن هذا أكـل لأمــوال النــاس بالباطل .
المشاركة في الشركات ذات الأنشطة المختلطة:
تتعامل بعض الشركات أحياناً بالربا أخذاً أو إعطاءً، وذلك بأن تقوم الشركة بتوظيف السيولة النقدية المتوفرة لديها في بعض الأوقات في البنوك, وتأخذ فائدة عليها، أو تحتاج مثلاً إلى توسعة نشاطها ومصانعها, فتقوم بالاقتراض بالفائدة. فما مدى مشروعية المشاركة في مثل هذه الشركات؟
اختلف الفقهاء والباحثون المعاصرون في ذلك على قولين:
الأول: وقد ذهب إلى المنع من شراء تلك الأسهم, والمشاركة فيها؛ نظراً لوجود الربا، ولو كان عارضاً في نشاطها. وممن ذهب إلى هذا الرأي مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره السابع المنعقد في جدة 1412هـ حيث جاء في قراراته: ( ج. الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات كالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة). وهو قرار اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة وكذلك جمع كبير من الفقهاء والباحثين المعاصرين.
وقد استدلوا بعامة الأدلة الواردة في النهي عن أكل الربا, والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان, ولأنا لو افترضنا الشركة بين اثنين لكان يحرم عليهما المتاجرة بالربا مهما كان يسيراً, ولحرم عليهما البقاء في هذه الشركة, فكذا لو كان الشركاء بالآلاف. قالوا: ومن ثَمَّ كره فقهاؤنا منذ القديم مشاركة غير المسلم.
الثاني: وقد ذهب إلى الجواز ولكن بشروط, هي:
الشرط الأول: ألا ينصّ نظام الشركة أو عقد تأسيسها على أنها سوف تمارس أية أعمال محرمة أو تُقرض بالربا أو تَقترض بالربا.
الشرط الثاني: ألا يتجاوز المبلغ المقترض لتمويل النشاط أو المبلغ المقرض ثلث رأسمال الشركة، وإنما حددوا نسبة الثلث قياساً على تحديد الشريعة لهذه النسبة في بعض المعاملات المالية.
الشرط الثالث: أن يتم التخلّص من الأرباح المتولدة عن العمليات الربوية إذا علم بها, وأن لا ينتفع بها مطلقاً فلا يحتسبها من زكاته ولا يدفعها عن ضريبة لأنه انتفاع.
وممن تبنى هذا الرأي بهذه الشروط الشيخ مصطفى الزرقاء والشيخ عبد الله بن منيع والشيخ محمد تقي العثماني والدكتور علي القرداغي والدكتور نزيه حماد وبعض الهيئات الشرعية للبنوك.
وقد استدلوا على ذلك بأن المحرم فيها يكون تبعاً, والقاعدة الفقهية تقول: (يُغتفر في التبع ما لا يُغتفر في الأصل), بدليل أن مال العبد يباع معه بالنقود, وهو من الصرف, لأنه بيع نقد بنقد, لكن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز ذلك فقال: (من باع عبداً وله مال, فماله للبائع إلاّ أن يشترطه المبتاع), وهذا إنما جاز هنا تبعاً للعبد.
وقالوا أيضاً: اختلاط جزءٍ محرم يسير بكثير مباح لا يجعل المجموع محرماً. يقول السرخسي الحنفي في المبسوط: "وإذا دفع المسلم إلى النصراني مالا مضاربة بالنصف فهو جائز لأن المضاربة من المعاملات وأهل الذمة في ذلك كالمسلمين إلا أنه مكروه لأنه جاهل بشرائع الإسلام فلا نأمن أن يؤكله حراما أما لجهله أو لقصده فإنهم لا يؤدون الأمانة في حق المسلمين... ولأنه يتصرف في الخمر والخنزير ويعمل بالربا ولا يتحرز في ذلك فيكره للمسلم أن يكتسب الربح بتصرف مثله له ولكن مع هذا جازت المضاربة لأن الذي من جانب المضارب البيع والشراء والنصراني من أهل ذلكفإن اتجر في الخمر والخنزير فربح جاز على المضاربة في قول أبي حنيفة رحمه الله وينبغي للمسلم أن يتصدق بحصته من الربح وعندهما تصرفه في الخمر والخنزير لا يجوز على المضاربة ".
وقال ابن تيمية في الفتاوى: "وإذا علم أن في أموالهم شيئاً محرماً لا تُعلم عينه, فهذا لا يحرم معاملتهم, كما إذا عَلم أن في السوق ما هو مغصوب أو مسروق ولم يَعلم عينه, والحرام إذا اختلط بالحلال, فهذا نوعان: أحدهما أن يكون محرماً لعينه كالميتة ... والثانى ما حرم لكونه أخذ غصباً, والمقبوض بعقود محرمة, كالربا والميسر, فهذا إذا اشتبه واختلط بغيره, لم يحرم الجميع, بل يميز قدر هذا, من قدر هذا, فيصرف هذا إلى مستحقه, وهذا إلى مستحقه".
بيع الأسهم بالنقود:
غالباً ما يكون في رأس مال الشركة نقود وديون, فإذا باع مالك الأسهم أسهمه بالنقود, وقعت تلك النقود (قيمة الأسهم) في مقابلة أعيان ونقود وديون, وهو غير جائز إلا بضوابط وشروط! لأن بيع النقد بالنقد (صرف فيجب شروطه من التماثل والتقابض عند اتحاد الجنس, والتقابض فقط عند اختلاف الجنس) وبيع الدين لغير من عليه الدين لا يجوز! فكيف يُباع السهم هنا بالنقود, وهو يمثل أعياناً ونقوداً وربما ديوناً, وكلها تنتقل إلى ملكية المشتري؟
والجواب: أن ذلك لا يؤثر ما دامت النقود والديون تابعة للأعيان, إذ الأعيان هي الغالبة وهي الأصل في موجودات الشركة. ويدل للجواز تبعا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع عبداً وله مال, فماله للبائع إلاّ أن يشترطه المبتاع).
رواه مسلم. وجه الدلالة أن العبد وما معه من النقود, صاروا في مقابلة النقود, ومع ذلك فقد سمح به الرسول إذا اشترطه المشتري, لأن النقود كانت تابعة للعبد.
ودليل آخر يدل للجواز, وهو أن تماضر الأشجعية (زوجة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه) في عهـد عثمان بن عفان رضي الله عنه وبعد استشارة الصحابة أُعْطِيَتْ مقابل سهمها من التركة 80 ألف دينار، وكانت التركة نقوداً وأعياناً, وربما ديوناً أيضاً. وقد أقر الصحابة ذلك, لكون النقود والديون في التركة تابعة للأعيان, والقاعدة الفقهية تقول: (يُغتفر في التبع ما لا يُغتفر في الأصل).
وفي الختام نورد نص قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 7/1/64 في دورة مؤتمره السابع عام 1412هـ في حكم التعامل بالأسهم, ونقتصر على أهم ما جاء فيه:
1- الإسهام في الشركات:
‌أ- بما أنَّ الأصلَ في المعاملات الحِلُّ, فإن تأسيس شركةٍ مساهمةٍ ذاتِ أغراضٍ وأنشطة مشروعة, أمرٌ جائز.
‌‌ب- لا خلاف في حرمة الإسهام في شركاتٍ غَرَضُها الأساسي محرمٌ، كالتعامل بالربا, أو إنتاج الخمور, أو المتاجرة بها.
ج- الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، بالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.
2- السهم لحامله: بما أن المبيع في (السهم لحامله) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعاً من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها.
3- محل العقد في بيع السهم: إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصل الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة.
4- الأسهم الممتازة: لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح أو تقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح. ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية.
5- التعامل في الأسهم بطرق ربوية:
‌أ- ‌لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشترى لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن.
‌ب- لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع, للنهي عن بيع ما لا يملك.
6- بيع السهم أو رهنه: يجوز بيع السهم أو رهنه مع مراعاة ما يقضي به نظام الشركة.
7- تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة: لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة.
8- حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقها جائز شرعاً, لما في ذلك من المصالح المشروعة.
المحاضرة التاسعة
بطاقات الائتمان المصرفي

المقدمة:
البطاقات الائتمانية معروفة لدى أكثر الناس اليوم, ويتعامل بها قطاع واسعٌ جداً من الناس, لما في استخدامها من تسهيلات وميزات وسرعة إنجاز يستجيب لحاجات العصر ومتطلباته.
وتتميز هذه البطاقات بإمكانية استخدامها في أجهزة الصرف الآلي التابعة للبنك, وربما غير التابعة له أيضاً, وعلى امتداد أرض الوطن, وربما خارجه على امتداد العالم, لسحب النقود, وللحصول على الخدمات والسلع, ولحجوزات الفنادق والطيران, ولتسديد الفواتير, وإجراء الحوالات ...
إلا أن هذه البطاقات كغيرها من الأدوات المالية الكثيرة (كالأسهم والسندات وخطابات الضمان ...) ولدت في بلاد الغرب, وفي أحضان الرأسمالية, واستوردناها منهم كما هي بعُجَرِها وبُجَرِها, فكان لا بد من الحذر والتوخي في استعمالها, خشية الوقوع في المحاذير الشرعية, وكان من الواجب الرجوع إلى أهل العلم لمعرفة حكم الشرع فيها, وتبيين صحيح تعاملاتها من فاسدها.
وفي الصفحات القادمة سنقوم بالتعريف بهذه البطاقات وأنواعها وأحكامها في شرعنا الحنيف.
تعريف بطاقة الائتمان:
عُرفت بطاقة الائتمان بتعريفات متعددة, منها تعريف مجمع الفقه الإسلامي, حيث عرفها بأنها: (مستند يعطيه مُصدره لشخص طبيعي أو اعتباري بناء على عقد بينهما، يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند، دون دفع الثمن حالاً، لتضمنه التزام المصدر بالدفع).
وعرفها آخرون بأنها: (أداة يُصدرها مصرفٌ أوشركة مالية،يتمكن بها حاملها من الحصول على سلع أو خدمات أو نقود ممن يقبل التعامل بهذه الأداة، ليستوفيها من الجهة التي أصدرتها, على أن يسدد حاملها لمُصدرها فيما بعد قيمة السلع أو الخدمات أو النقود التي حصل عليها).
وكلمة الائتمان: تعني الثقة والطمأنينة والأمان الذي يقدمه البنك للعملاء عند التعامل بالدين. فكأن البنك يقول للتاجر بعه بالدين وكن على ثقة بأن دينك سيسدد, وأنا أكفله. فالائتمان يعني إذاً: منح الثقة للأطراف للتعامل بالدين بضمانه.
أنواع بطاقات الائتمان:
لبطاقات الائتمان أنواعٌ ثلاثة, هي:
الأول: كِرِدتْ كارد (Credit Card): هذا النوع من البطاقات يقوم على أساس الفائدة (أو الربا), حيث يلتزم حامل البطاقة بدفع الفائدة التي يحددها البنك المُصدر للبطاقة لدى استخدامه لها. فالعلاقة بين الطرفين هي علاقة: إقراض (من البنك المُصدر) واقتراض (من حامل البطاقة) ابتداءً, ومن ثَمَّ لا يشترط أن يكون للعميل رصيد لدى البنك المُصدر للبطاقة حين استخدامها, لأن التعاقد في أصله قائم بين الطرفين على الإقراض بفائدة, ثم يُترك للعميل الحرية في اختيار طريقة الدفع.
ثانياً: الشارج كارد (Charge Card): وهي بطاقة تمكن حاملها من استخدامها في عمليات الشراء المختلفة وتلقي الخدمات، والسحب النقدي، والأصل في هذه البطاقة أن يدفع العميل ما عليه من مستحقات في آخر كل شهر عندما يرسل إليه البنك مصدر البطاقة الحساب، أي أن العميل يجب أن يكون له رصيد عند إرسال كشف الحساب، ولا يلزم أن يكون الرصيد موجودا عند استعمال البطاقة، لأن العميل يحصل عند كل استخدام للبطاقة على قرض بقيمة مشترياته بدون فائدة، لكن إذا لم يسدد العميل ما عليه في الموعد المحدد يأخذ البنك فوائد على التأخير في السداد. بمعنى أن البنك يعطي للعميل فترة سداد مجانية, فإذا سدد خلالها فلا فوائد عليه, وإذا تخلف عن السداد في كل تلك الفترة المجانية, بدأ البنك باحتساب الفوائد عليه عن أيام التأخير. وبعض البنوك (وهي الإسلامية) لا تأخذ الفوائد، ولكنها تلجأ إلى سحب البطاقة من العميل, وإلغاء عضويته.
والفارق الأساسي بين هذا (الشارج كارد) والسابق (الكردت كارد): أن العميل هنا مطالب بدفع المبلغ كاملا في نهاية الشهر من غير فائدة, وأما في الكردت كارد فإن البنك يقدم قرضاً بفائدة، ويترك لحاملها الحرية في اختيار طريقة الدفع.
ويشار هنا إلى أن بعض البنوك الإسلامية لا تشترط إضافة الفوائد عند التخلف عن السداد، بل تلجأ إلى وسائل أخرى لردعه وإلزامه بالسداد.
ثالثاً: الدِبِتْ كارد (Debit Card): وهي بطاقة تُمَكِّنُ صاحبَها من السحب النقدي وتسديد أثمان السلع والخدمات من رصيده لدى البنك المُصدر للبطاقة.
أطراف البطاقة الائتمانية:
تجمع البطاقة الائتمانية أطرافاً لا تزيد عن خمسة غالباً وقد تنقص عنها, وهي:
الطرف الأول: المنظمة العالمية، وهي التي تملك العلامة التجارية للبطاقة وتشرف عليها وتشرف على إصدار البطاقات وفق اتفاقيات مع البنوك المصدرة، ومن أشهر هذه المنظمات العالمية منظمة فيزا ومنظمة ماستر كارد ومنظمة أمريكان إكسبرس.
الطرف الثاني: مُصدِر البطاقة وهو البنك أو المؤسسة التي تصدر البطاقة بناء على ترخيص معتمد من المنظمة العالمية بصفته عضو فيها، ويقوم بالسداد وكالة عن حامل البطاقة للتاجر التي تمثل البنوك مثلا الآن، هذا هو مصدر البطاقة.
الطرف الثالث: حامل البطاقة وهو عميل البنك الذي صدرت البطاقة باسمه.
الطرف الرابع: قابل البطاقة، وهو التاجر الذي يتعاقد مع مصدر البطاقة على تقديم السلع والخدمات التي يطلبها حامل البطاقة.
الطرف الخامس: بنك التاجر الذي يتسلم مستندات البيع من التاجر ويقوم بمتابعة تسديد البنوك الأعضاء للديون المترتبة على استخدام البطاقة مقابل رسوم يأخذها من التاجر.
عمليات المقاصة الإلكترونية في بطاقات الائتمان:
تتم عملية المقاصة بين البنوك من خلال الخطوات الآتية:
يقوم التاجر بقبول بطاقة الائتمان, وينفذ عملية البيع أو تقديم الخدمة مع حامل البطاقة.
يرسل التاجر قسائم المبيعات أو الخدمات إلى بنكه هو ليقوم بتحصيل قيمتها من بنك المشتري.
يقوم بنك التاجر بإرسال بيانات تلك القسائم إلى البنك المصدر للبطاقة عن طريق المنظمة الراعية للبطاقة, ومن خلال شبكة إلكترونية تسمى (BASE II).
تقوم المنظمة بإجراء عملية المقاصة (التطارح) بين البنكين, بنك التاجر وبنك حامل البطاقة.
وقد أقامت هذه المنظمات العالمية شبكات الصرف الآلي (ATMs) على مستوى العالم لتسهيل السحب النقدي بالبطاقة, وتسميها الفيزا (Visanet) والماستر كارد (Banknet).
ومن الجدير ذكره أن جميع المخاطبات بين البنوك للحصول على الموافقة, سواءٌ من أجل سداد قيمة سلعة, أو خدمة أو منحه نقوداً ولو من خارج البلاد, وإجراء عملية المقاصة كل ذلك لا يأخذ أكثر من ثوانٍ معدودةٍ, وبصورة عالية الدقة والكفاءة.
الحكم الشرعي لبطاقات الائتمان:
يختلف الحكم الشرعي لهذه البطاقات من واحدة إلى أخرى, حسب موقفها وتعاملها بالربا أو اشتراطها لذلك:
فأما كِرِدِتْ كارد, فإنه لا خلاف في عدم جواز إصدارها شرعاً, أو الاشتراك فيها, لما في ذلك من الربا الصريح, وهو ربا القرض المجمع على تحريمه, والمنصوص عليه في القرآن الكريم, وهو ربا الجاهلية.
وأما الشارج كارد فهي أيضاً من النوع المحرم شرعاً, ولا يجوز إصدارها لوجود شرط الربا فيه, مهما كان حامل البطاقة عازماً على السداد ضمن فترة السماح المجانية, وذلك لأنه لا يضمن التمكن من السداد في فترة السماح, فالأمور راجعة إلى تقدير الله تعالى, ولا أحد يستطيع ضمان ظروفه في المستقبل. ثم إنه بغض النظر عن قدرته على السداد في الوقت المحدد له, ووثوقه من نفسه بعد الوقوع في الربا, فإن مجرد توقيعه على هذه البطاقة, يعني قبوله ورضاه بهذا التعاقد القائم على أساس الربا!. وهذا غير جائز قطعاً؛ لأنه إقرارٌ والتزامٌ منه بمنكرٍ ومحرم, بل بكبيرة من الكبائر وهي الربا, وهو مأمورٌ بإنكاره وتغييره, وليس بالمشاركة فيه. يقول r: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان)! فكيف بمن يشارك فيه عياذاً بالله!.
غير أن بعض البنوك الإسلامية لا تشترط إضافة الفوائد عند التخلف عن السداد, بل تلجأ إلى إلغاء عضويته, أو وضعه في اللائحة السوداء مثلاً فهنا لا حرج في إصدار مثل هذه البطاقات أو الاشتراك فيها, لانتفاء المحذور وهو الربا. فعلى سبيل المثال: يُصدر بنك الراجحي بطاقات الفيزا بأنواعها ولا يشترط أي شكل من الفوائد، وهذا جائز. وهذا ما جاء في قرار المجمع الفقهي: (ثانياً: يجوز إصدار البطاقة غير المغطاة إذا لم تتضمن شرط زيادة ربوية على أصل الدين).
وأما الدِبِتْ كارد, وهي البطاقة المغطاة, والتي يكون لصاحبها لدى البنك حساباً جارياً, وفيه رصيده. فالعميل هنا حين يسحب نقوداً أو يشتري سلعاً باستخدامه لهذه البطاقة إنما يدفع من حسابه, وليس اقتراضاً من البنك, ومن ثَمَّ فلا خلاف بين العلماء المعاصرين في جواز إصدار هذا النوع من البطاقات, والاشتراك فيها, والتعامل بها؛ لأن أموال العميل لدى البنك إما أن يُنظر إليها على أنها وديعة (أي أمانة) لدى البنك, وقد وكله العميل بدفع المبلغ للجهة التي اشترى منها السلع أو النقود. أو يُنظر إليها على أنها قرض حالٌ (غير مؤجل) ومضمون على البنك, وقد أحال عليه الجهة التي قدمت له البضاعة أو الخدمة أو النقود, وكل ذلك جائز شرعاً, من غير خلاف.
شراء الذهب والفضة والعملات الأخرى بالبطاقة:
من المعلوم أن الشرع قد أمر عند مبادلة الذهب والفضة بالالتزام بشروط محددة, وهي التقابض يداً بيد في مجلس العقد عند اختلاف الجنس, والتماثل والتقابض عند اتحاد الجنس, وقد ذهب معظم أهل العلم إلى أن علة تحريم ذلك هو الثمنية, فتكون نقودنا الورقية اليوم مثل الذهب والفضة في هذا الحكم, وبناءً عليه, فإذا تم مبادلة نقد بنقد كريال بجنيه, فإن الواجب فيهما التقابض في المجلس, وكذا شراء الذهب أو الفضة بالريال, يجب فيهما التقابض وإلا كان الربا. فهل الحسم من البطاقة يقوم مقام التقابض؟ الجواب: نعم؛ يقوم الحسم من هذه البطاقات مقام التقابض يداً بيد إذا كانت البطاقة مغطاة (أي لها رصيد)، وتبرأ ذمة المشتري بمجرد الحسم من حسابه من خلال البطاقة. وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء, وهو ما تبناه المجمع الفقهي الإسلامي الدولي.
سحب حامل البطاقة النقود من غير جهاز بنكه؟
أي إذا كانت بطاقة الصراف من الراجحي مثلًا، فهل يجوز السحب من رصيده من خلال صراف بنك آخر كبنك البلاد مثلاً؟.
قيل: لا يجوز لشبهة الربا؛ لأن البنك المسحوب منه يدفع المبلغ, ثم يرجع على بنك العميل, ويطالبه بالمبلغ وزيادة أربع ريالات مثلاً, فتكون هذه الزيادة من الربا, ويكون قرضاً جر نفعاً.
وقيل: يجوز. لأن صاحب البطاقة إنما يسحب من رصيده, وليس من حساب البنك الآخر، بدليل أنه لو لم يكن له رصيد إلا ألفي ريال في حسابه لدى بنكه, وطلب من البنك الآخر ثلاثة آلاف ريال لتعذر السحب, وأُخبر بأن رصيده لا يسمح. وأما الريالات الأربعة الزائدة التي يطالب بها البنك المسحوب منه, فإنما يطالب بها بنك العميل أجرة على الخدمة التي قدمها لعميله, وهذا لا حرج فيه. ودليل كونه رسم خدمة أنه لا يزيد بزيادة المبلغ، فسواء سحبت مائة ريال أو خمسة آلاف فالرسم ثابت.
أحكام البطاقات غير المغطاة:
قلنا إن بعض البنوك الإسلامية تصدر مثل هذه البطاقات (الشارج كارد) ولا تتقاضى عليها الفوائد, إلا أن هذه البنوك تأخذ رسوماً عند إصدار البطاقة أو تجديدها, أو تأخذ عمولة من بعض الأطراف, فما الحكم؟.
أولاً: يجوز للبنك المصدر للبطاقة أخذ رسومٍ مقطوعة عند الإصدار أو التجديد من العميل, ويعدُّ ذلك أجرةً فعليةً على الخدمات المقدمة منه.
ثانياً: يجوز للبنك المُصدر للبطاقة أخذ عمولةٍ من التاجر على مشتريات العميل منه شريطة أن لا يزيد التاجر في سعر المبيعات مقابل كونها بالبطاقة, بل يبيع بمثل السعر الذي يبيع به بالنقد, ويكون ما يأخذه البنك من العمولة من التاجر من قبيل السمسرة. كأن البنك قال للتاجر: سأحضر لك الزبائن ولي عليها عمولة، وهذا لا حرج فيه.
ثالثاً: السحب النقدي من قبل حامل البطاقة:
السحب النقدي من قبل حامل البطاقة اقتراض من مُصدرها، ولا حرج فيه شرعاً إذا لم يترتب عليه زيادة ربوية. ولكن ما حكم الرسوم التي تؤخذ على هذا السحب؟ وما التكييف الفقهي له؟
السحب نوعان: سحب يدوي وسحب آلي.
فأما السحب اليدوي (بأن يذهب إلى البنك ويطلب منهم النقد) فلا يجوز أخذ الرسوم عليه؛ لأنه سيكون من الربا؛ إذ لم يبذل في سحبه جهداً يُذكر ليستحق عليه عمولة.
وأما السحب الآلي فقد اختلف فيه العلماء المعاصرون على أربعة أقوال:
القول الأول: لا يجوز أخذ الرسوم مطلقاً؛ لأن العلاقة بين حامل البطاقة ومُصدرها علاقة قرض، وأَخْذ الرسوم من قبيل النفع المحرم في القرض، وكل قرض جر نفعاً فهو ربا.
القول الثاني: يجوز أخذ الرسوم مطلقاً، وأنها مقابل خدمات فعلية، من مكائن الصرف.
القول الثالث: يجوز أخذ الرسوم إذا كانت مبلغاً مقطوعاً لا نسبة مئوية.
القول الرابع: يجوز أخذ الرسوم بشرط أن تكون مبلغاً مقطوعاً في مقابل النفقات الفعلية الحقيقية لعملية القرض، ولا يجوز الزيادة على التكلفة الفعلية.
وهذا القول الأخير هو رأي مجمع الفقهي الإسلامي،
قرار المجمع الفقهي رقم: 108 (2/12) بشأن البطاقات الائتمانية:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشر 1421هـ وبعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع (بطاقات الائتمان غير المغطاة) ، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله من الفقهاء والاقتصاديين، ورجوعه إلى تعريف بطاقة الائتمان في قراره رقم: (63/1/7) قرر ما يلي:
أولاً: لا يجوز إصدار بطاقة الائتمان غير المغطاة، ولا التعامل بها إذا كانت مشروطة بزيادة فائدة ربوية حتى ولو كان طالب البطاقة عازماً على السداد ضمن فترة السماح المجاني.
ثانياً: يجوز إصدار البطاقة غير المغطاة إذا لم تتضمن شرط زيادة ربوية على أصل الدين
ويتفرع على ذلك:
أ - جواز أخذ مُصدِرِها من العميل رسوماً مقطوعة عند الإصدار أو التجديد بصفتها أجراً فعلياً على قدر الخدمات المقدمة منه.
ب - جواز أخذ البنك المُصدِر من التاجر عمولةً على مشتريات العميل منه، شريطة أن يكون بيعُ التاجرِ بالبطاقةِ بمثل السعر الذي يبيع به بالنقد.
ثالثاً: السحب النقدي من قبل حامل البطاقة اقتراض من مصدرها، ولا حرج فيه شرعاً إذا لم يترتب عليه زيادة ربوية، ولا يعد من قبيلها الرسوم المقطوعة التي لا ترتبط بمبلغ القرض أو مدته مقابل هذه الخدمة. وكل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة، لأنها من الربا المحرم شرعاً، كما نص على ذلك المجمع في قراره رقم 13 (10 /2) و13 (1 /3) .
رابعاً: لا يجوز شراء الذهب والفضة وكذا العملات النقدية بالبطاقة غير المغطاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
قرار رقم 139 (5/15) بشأن بطاقات الائتمان:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورته الخامسة عشرة 1425هـ. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع بطاقات الائتمان، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وبعد استحضاره ما سبق إصداره عن مجلس المجمع من قرارات بشأن هذا الموضوع، وهي القرار 63(6/7) المشتمل على تعريف بطاقات الائتمان، وصورها، والقرار 108(2/12) المشتمل على بيان حكم إصدار البطاقة غير المغطاة والتعامل بها، والرسوم المرتبطة بها، والحسم ( العمولة ) على التجار ومقدمي الخدمات القابلين للبطاقة، والسحب النقدي، وشراء الذهب أو الفضة أو العملات بها. قرر ما يأتي:
أ‌- يجوز إصدار بطاقات الائتمان المغطاة، والتعامل بها، إذا لم تتضمن شروطها دفع الفائدة عند التأخر في السداد.
ب‌- ينطبق على البطاقة المغطاة ما جاء في القرار 108(2/12) بشأن الرسوم، والحسم على التجار ومقدمي الخدمات، والسحب النقدي بالضوابط المذكورة في القرار.
ج‌- يجوز شراء الذهب أو الفضة أو العملات بالبطاقة المغطاة.
المحاضرة العاشرة
البنوك الإسلامية

المقدمة:
لعل أهم حدث شهدته الساحة المالية في عالمنا الإسلامي في عصرنا الراهن, ولادة البنوك الإسلامية, ونموها بشكل كبيرٍ كماً وكيفاً!.
أما كماً, فقد تجاوز عددها /450/ بنكاً إسلامياً في ظرف أقل من /40/ سنة!
يضاف إليها إقامة العشرات من الأقسام الإسلامية في البنوك العالمية تلبية لطلبات العملاء بتقديم خدمات بنكية متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وأما كيفاً, فمن حيث حجم أصولها وودائعها التي جاوزت التريليون دولار (1000 مليار).
وليس هذا فحسب, بل إن هذه البنوك استحوذت على اهتمام الغرب بشكلٍ كبير, وفرضت واقعاً جديداً على السوق المصرفية, فقد نشرت صحيفة (الإيكونومست) البريطانية المعنية بالأخبار الاقتصادية العالمية, تقريراً يؤكد أن البنوك الإسلامية قدفرضت واقعاً جديداً على السوق المصرفية العالمية، وأدخلت مصطلحات جديدة مثل المشاركة والصكوك والتكافل إلى قواميس البنوك الغربية.
ولعل خير دليل يثبت النجاح الباهر لهذه البنوك, الواقع المشاهد هذه الأيام! ففي الوقت الذي أشهر فيه ما يزيد عن /150/ بنكاً أمريكياً إفلاسه, وكذلك العشرات من البنوك الأوربية, تأثراً بالأزمة المالية العالمية الراهنة, لم يثبت أن بنكاً إسلامياً واحداً قد أفلس! الأمر الذي أدهش الغرب بمنظماته المالية العتيدة, وانتزع منهم الإعجاب بهذه البنوك, ودفعهم للإقبال على التعامل معها.
وفيما يلي نقدم نبذة عن هذه البنوك, ومواردها, وطرق استثمارها للأموال.
تعريف البنك:
كلمة البنك غير عربية وهي مشتقة من (بانكو Banco ) الإيطالية، وتعني المنضدة أو الطاولة. ويعود السبب في تسمية البنوك بهذا الاسم إلى أن صيارفة أوربا في العصور الوسطى كانوا يجلسون إلى المناضد في الأماكن العامة، يبيعون ويشترون النقود، فاشتهروا بذلك، حتى أصبحت علَماً عليهم، واسماً لهم.
ويقابل البنك في اللغة العربية كلمة مصْرِف -بكسر الراء- وهو مكان بيع النقد بالنقد، كالريال بالدولار.
واصطلاحاً: تُعَرَّفُ البنوك بأنها: منشآت مالية تقبل الودائع لأجل أو تحت الطلب، لاستثمارها. هذا تعريف البنوك عامة, وإذا أردنا تعريف البنوك الإسلامية على الخصوص قلنا: منشآت مالية تقبل الودائع لأجل أو تحت الطلب، لاستثمارها وفق أحكام الشريعة. أي؛ بإضافة قيد: (وفق أحكام الشريعة).
نشأة البنوك الإسلامية:
بدأت التجربة الأولى للبنوك الإسلامية بمصر عام (1963م) بمدينة ( ميت غمر ) تحت اسم بنك الادخار، ثم أوقفت من قبل السلطة الحاكمة عام (1967م).
ثم أعيدت التجربة ثانية في القاهرة عام (1971م) باسم بنك ناصر الاجتماعي.
ثم في عام (1972م) أدرجت فكرة إقامة البنوك الإسلامية في جدول أعمال وزراء خارجية الدول الإسلامية بباكستان, وأقرت. وأحيلت الفكرة إلى وزراء المالية ليقوموا بدراستها وتبنيها. وفي عام (1973م) اجتمع وزراء مالية الدول الإسلامية في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية وناقشوا الجوانب العملية والنظرية لإقامة هذه البنوك، وانتهوا إلى إقرار الفكرة، وأوصوا بوضعها موضع التنفيذ، وكان لجهود الملك فيصل آل سعود رحمه الله أكبر الأثر في إنجاح هذا المؤتمر حيث أبدى حرصه الشديد على أن ترى هذه البنوك النور.
وفي عام (1390هـ/ 1975م) أقيم أول بنكين إسلاميين هما: البنك الإسلامي للتنمية بجدة، و بنك دبي الإسلامي. ثم تزايدت أعدادها على النحو الذي أسلفناه حتى جاوزت 450بنكاً اليوم
موارد البنوك الإسلامية:
تتكون موارد البنوك الإسلامية كغيرها من البنوك من موارد ذاتية, وموارد خارجية.
الموارد الذاتية: وتتكون من رأس المال المدفوع. أي مجموع المبالغ التي دفعها المشتركون في تأسيس البنك ليكون رأسماله. وهي غالباً تمثل النسبة الأقل من مجموع أموال البنك.
الموارد الخارجية: وتتمثل في الودائع الجارية والودائع الاستثمارية.
الودائع الجارية (تحت الطلب). وهي التي لا يحصل أصحابها على أي عائدٍ لها, بل يستثمرها البنك لنفسه, على أن يردها في أي وقت يطلبها أصحابها. وقد اختلف الباحثون المعاصرون في تكييف هذه الودائع من الناحية الفقهية على قولين: الأول: أنها أمانة (وديعة) لدى البنك, مأذون له في التصرف فيها, ويضمنها البنك لأنه خلطها بأمواله. والثاني: أنها قرضٌ حالٌ مضمون, وإن سميت وديعة. ومآل القولين واحدٌ, والخلاف لفظيٌ, لأن الوديعة مضمونة على المصرف بالاتفاق, ويجب عليه تقديمها لصاحبها عند الطلب.
ودائع استثمارية: وتعني الأموال التي يودعها أصحابها لدى البنك بهدف استثمارها, وما تتحقق من أرباح تكون بين الطرفين حسب النسبة المتفق عليها بينهما.
جوهر عمل البنوك الربوية والإسلامية:
كثيرٌ من الناس يتساءل كيف نميز البك الربوي من الإسلامي؟ وما الفارق بين الاثنين؟
والجواب ببساطة: أن يذهب المرء إلى البنك ويقول لهم: عندي مبلغ /100 ألف ريال/ أريد استثماره عندكم لسنتين, فكم ستعطوني عليه؟ فإن حسبوا له الزيادة (أو الربح) الذي سيأخذه خلال سنتين بمبلغ مقطوع كـ /8 ألف/ مثلاً فهذا البنك ربوي. وإن قالوا: لا ندري كم سيكون المبلغ بالضبط؛ لأن الأمر مرتبط بالأرباح التي سيحققها البنك في آخر السنة, ولكن سنعطيك (4 0/0) من الربح, أو (6 0/0) مثلاً, فهذا التعامل صحيح وغير ربوي.
فإذاً جوهر عمل البنوك الربوية قائم على الإقراض والاقتراض بالفائدة, ويستطيع الموظف أن يعطي المبلغ النهائي للعميل بمجرد أن يخبره بالمدة التي سيترك أمواله فيها لديهم, ولا شأن له بالبنك بعد ذلك هل خسر أم ربح؟ فالقرض مضمون, وفائدتهمضمونة, بغض النظر عن نتيجة الاستثمار.
وأما البنك الإسلامي فإنه لا يتعامل بالإقراض بالفائدة, ولا الاقتراض بالفائدة, ولا يستطيع أن يحسب مبلغ الزيادة سلفاً, بل يستلم المال من العميل بصفته شريكاً للعميل يقدم له العمل, ويقوم باستثمار أمواله، مقابل نسبة شائعة من الأرباح (كـ60 0/0 أو 70) وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالمضاربة, فإن ربح البنك, كانوا شركاء في الربح على حسب ما اتفقا عليه, وإن خسر, كانت الخسارة على رأس المال, ويكون البنك قد خسر جهده وعمله. فرأس المال ليس بمضمونٍ, والربح غير معلومٍ سلفاً, بل قد لا يكون ربح أصلاً, أو قد تكون الخسارة.
وأما في حال حاجة العميل إلى المال, وطلبه من البنك, فإن البنك لا يقرضه, بل يقدم له المال من خلال المشاركة إذا قدم له نقوداً, أو من خلال تقديم السلع والخدمات إذا لم يرغب في تقديم النقود له.
الحكم الشرعي للتعامل مع البنوك الربوية:
المتعامل مع البنوك الربوية إما أن يكون مساهماً في رأس مالها, أو مودعاً أمواله لديها! والمودع إما أن يتقاضى فوائد على الوديعة, أو لا يتقاضى فوائد, بل له حساب جاري عندهم.
فأما المساهمة في رأسمال البنك الربوي, أو الإيداع لديه بالفائدة فهو من باب التعامل بالربا, وهو من الكبائر المهلكة في الدين. وقد قال الله تعالى فيه:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة 275). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة 278-279). وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه, وقال: هم سواء) رواه مسلم.
وأما الإيداع فيه بغير فائدة فهو أيضاً محرم, ولكن ليس من باب الربا، بل من باب التعاون على الإثم، وقد قال تعالى:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة 2), يضاف إلى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان قد لعن كاتب عقد الربا وشاهديه, كما رأينا في الحديث السابق, فلأن يستحق اللعن من يدفع المال لآخر ليتعامل فيه بالربا من باب أولى؛ لأنه يعينه على الربا أكثر من الكاتب والشاهد, فكان أولى باللعن.
والبديل: أن يضع أمواله في بنك إسلامي. فإن لم تكن ثمة بنوك إسلامية, وضع أمواله في صناديق الأمانات, ولو كان هذا الصندوق في بنك ربوي, لأنه استئجار للصندوق, وهو جائز ,وذلك كما لو استأجراً داراً لسكناه من رجل مرابي.
فإن لم توجد هذه الصناديق وخشي على ماله خشية حقيقية, فلا بأس حينئذ أن يضعه في بنك ربوي. والأولى هنا –والله أعلم- أن لا يترك الفوائد للبنك, بل يأخذها, ويوزعها على الفقراء لا طلباً للأجر – لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم- ولكن تخلصاً من الإثم، وذلك لكي لا يكون عوناً لتلك البنوك على المعصية, ولا يكون سبباً في تقويتهم من خلال ترك هذه الفوائد لهم.
معاملات البنوك الإسلامية:
تقوم البنوك الإسلامية بأعمال كثيرة, بعضها من قبيل التمويل والاستثمار, وبعضها من قبيل الخدمات, وفيما يلي ذكر لأهم تلك الأعمال:
أ- أعمال التمويل والاستثمار:
لما كانت البنوك الإسلامية لا تتعامل بمبدأ الإقراض والاقتراض بالفائدة، كان لا بد لها من البحث عن بدائل تقرها الشريعة من جهة، ويتيح لها استثمار أموالها بصورة مقبولة تحقق لها الربح من جهة أخرى، وقد تحقق لها ذلك من خلال التعاون الكبير الذي قام بينها وبين المتخصصين في العلوم الشرعية والاقتصادية، حيث أمكن إيجاد كثير من الصيغ التمويلية المفيدة, وأهمها:
1- المشاركة المتناقصة (أو المنتهية بالتمليك): وتعني أن يقدم كل واحد من الطرفين (البنك والعميل) المال والعمل معاً, ويعطي البنك الحق للعميل في شراء حصته، والحلول محله بالتدرج، من خلال شراء أسهمه حسب ما يتفقان عليه. كأن يتفق الطرفان على إقامة سوقٍ تجاريٍ مناصفة, ثم يقومان بتأجير هذه المحلات, ثم يتنازل العميل عن حصته لهذه السنة من الإيجارات, مقابل أن يتنازل البنك عن جزءٍ معلومٍ من حصته في السوق, فيصبح 60 0/0 من السوق للعميل, مقابل, 40 0/0 للبنك . وفي السنة التالية يشتري العميل 10 0/0 أخرى من أسهم البنك في السوق, وهكذا إلى أن يمتلك العميل كامل السوق, ويصبح الإيجار كله له, ويكون البنك قد استوفى رأس ماله, مع أرباح مرضية.
2- المضاربة: وتعني أن يقدم البنك المال، والعميل العمل، على أن يكون الربح بينهما حسب ما يتفقان عليه، والخسارة على رأس المال. ومثالها: أن يتقدم مدرسٌ ناجحٌ للبنك بطلب تأسيس مدرسة أو جامعة خاصة, فيقوم البنك بدراسة الفكرة, فإذا اقتنع بها, أقدم على إنشائها, وسلمها للمدرس لإدارتها, مقابل نسبة معلومة من الريع السنوي له.
3- البيع بالتقسيط: وهو البيع الذي يتم فيه دفع الثمن على مراحل. كما لو أقام البنك مجموعة مبان مؤلفة من شقق سكنية، ثم عرضها للبيع تقسيطاً مثلاُ قيمة الشقة (240,000 ريال)، على أن يدفع المشتري كل شهر (2000) ريال, ولمدة (10سنوات). فإذا قبل المشتري ذلك, تم عقد البيع بالتقسيط.
4- بيع المرابحة للآمر بالشراء: وهو أن يطلب شخص من البنك شراء سلعة معينة، أو موصوفة بأوصاف محددة، ويَعِدُ البنك أن يشتريها منه بما اشتراه وزيادة ربح قدره كذا. كأن يرغب شخص في شاء سيارة معينة من معرض للسيارات، ولكنه لا يملك ثمنها نقداً، وهم لا يبيعونها إلا نقداً، فيأتي البنك ويطلب منهم شراء تلك السيارة التي صفتها كذا وكذا في معرض كذا والتي تباع بـ (100,000 ريال) نقداً، ويقول: إن اشتريتموها فسأشتريها منكم تقسيطاً بـ (120,000 ريال)، أدفعها على مدى سنتين، كل شهر (5000 ريال)، فيتفقان على ذلك، فيرسل البنك مندوبه ليشتريها نقداً، ثم يبيعه إياها بالتقسيط مع زيادة متفق عليها بينهما هي ربح البنك . وقد أجاز المجمع الفقهي هذا العقد بشرط أن تدخل السلعة ملكية البنك وضمانه أولاً بقبض صحيح، وأن لا يكون الثمن قابلاً للزيادة في حالة عجز العميل عن السَّداد.
والفارق بين هذا وبين بيع التقسيط، أن البنك هنا لا يمتلك السلعة, بل يشتريها ليبيعها للعميل، بينما في بيع التقسيط يمتلكها.
5- البيع الإيجاري: وهو أن يملك البنك معدات أو آلات أو مبانٍ، ويؤجرها للعميل، ويَعِدُه إنْ هو وفَّى بالتزاماته، وسدد جميع دفعات الإيجار المستحقة عليه في أوقاتها المحددة، فإن البنك سيهبه تلك الآلات أو المعدات، أو أنه سيبيعه إياها بسعر رمزي يتفقان عليه.
6- التمويل الإيجاري: وهو مثل البيع الإيجاري إلا أن الفارق بينهما أن البنك في البيع الإيجاري يمتلك السلعة، وههنا لا يمتلكها, وإنما يشتريها ليؤجرها لعميله. وفي كليهما ينتهي التأجير بالتمليك .
7- المتاجر بالأسهم بيعاً وشراء: إذا كانت تمثل حصصاً حقيقة في شركات أو مصانع وما شابهها، ويشترط أن يكون مجال عملها مما تقره الشريعة الإسلامية، ومثلها السندات شريطة أن لا تكون بالفائدة.
ويلاحظ في جميع هذه الأنواع من التمويل وجود مشروع إنتاجي ينتج سلعاً أو خدمات كما في المشاركة والمضاربة، أو سلعة تنتقل من يد إلى أخرى كما في البيع والإجارة, ومن ثم كانت البنوك الإسلامية بنوك استثمار, لا إقراض.
ب- أعمال خدمية :
ويمكن إجمال أهم الخدمات فيما يأتي:
1- صناديق التأجير الحديدية: أو صناديق الأمانات والودائع العينية، وهي صناديق مخصصة يمكن للشخص أن يضع فيه مجوهراته، أو نقوده أو وثائقه المهمة، ليجنبها مخاطر السرقة والضياع، ويقوم المصرف بتقديم هذه الخدمة لعملائه مقابل أجرة سنوية ضئيلة.
2- الحوالات النقدية: يقوم البنك بعملية نقل النقود من حساب إلى حساب آخر، أو من بنك إلى بنك آخر، أو من بلد إلى بلد آخر، وقد يتقاضى عن ذلك عمولة, وهو جائز شرعاً؛ لأنها أجرة عن خدمة مباحة شرعاً.
وقد يقوم البنك مع التحويل بتبديل العملة المحلية إلى الأجنبية, أو العكس (وهو ما يسمى بالصرف) فيجتمع الصرف مع الحوالة, ويتقاضى عن ذلك عمولة (أو أجرة).
وهنا نكون أمام وكالة بنقل النقود، وبيع لعملة بعملة أخرى, وفي بيع العملة بعملة أخرى يجب أن يكون ذلك يداً بيد, وفي نفس مجلس العقد, وإلا كان ربا, وكان حراماً, فكيف السبيل إلى ذلك؟ والجواب: أن أعضاء مجمع الفقه الإسلامي الدولي اعتبروا القيد في دفاتر البنك في حكم القبض الحكمي, وبناءً عليه قالوا بجوازه, في قرارهم رقم (84 )، 1/9.
3- خدمة الصرف الآلي: ظهرت خدمة الصرف الآلي لتسهيل عملية تقديم معظم الخدمات المصرفية للعميل، وجعلها في متناول يده بشكل مستمر على مدار الليل والنهار، والأعياد والجمع وأيام التعطيل، وأهم هذه الخدمات هي (السحب والإيداع، والحوالات، وتسديد الفواتير ...) ويتم الاستفادة من خدماته عن طريق الحصول على البطاقة التي يصدرها البنك، وقد يتقاضى البنك لقاء ذلك رسوماً, وهذا جائز شرعاً لأنه يعتبر من قبيل الأجرة على تقديم خدمة مباحة شرعاً.
4- الوساطة في بيع الأسهم وشرائها: تقوم البنوك الإسلامية بالوساطة بين بائعي الأسهم ومشتريها لقاء عمولة معلومة تأخذها من الطرفين, أو من أحدهما, وهو أمر مشروعٌ؛ لأنه من قبيل السمسرة بمال, وهو جائز شرعاً.
5- تحصيل الكمبيالات: يقوم البنك بتحصيل سندات الديون، وقد يأخذ أجراً أو عمولة مقابل هذه الخدمة, وهو جائز شرعاً.
6- الاعتمادات المستندية: وهي عبارة عن تعهُّد من البنك، بأن يدفع لمصدِّر البضاعة ثمنَها متى قدّم له الوثائق التي تثبت أن الشحن قد تمّ، وأن البضاعة موافقة للمواصفات المطلوبة. فيكون البنك وكيلاً عن المشتري بدفع ثمن البضاعة، ويجوز للبنك أخذ العمولة لأن أخذ الأجرة على الوكالة جائز. وهذا إذا كان للمشتري رصيد لدى البنك يغطي ثمن البضاعة, وإلا فإن كان البنك سيدفع عن العميل ويتقاضى عنه الفوائد كما هو الحال في البنوك الربوية فلا يجوز شرعاً لما فيه من الربا.
7- خطابات الضّمان: وهي من أهم الخدمات التي تقدّمها البنوك لعملائها لتسهيل أعمالهم، وهو عبارة عن تقديم نسبة من تكاليف مشاريع المناقصات التي يدخل فيها المقاولون ونحوهم مع الدُّوَل أو الشركات. والغاية منها إثبات جدّية العميل في تعهّده بتنفيذ الالتزام. وقد قرّر مجمع الفقه الإسلامي عدم جواز أخذ الأجرة لقاء عملية الضمان لأنه كفالة، ولا يجوز أخذ الأجرة على الكفالة. أما المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان فيجوز أخذها.
المحاضرة الحادية عشرة
التأمين ومدى مشروعيته

الحاجة إلى التأمين:
يعيش الإنسان على ظهر هذه الأرض و المخاطر تلاحقه كل يوم، بل كل لحظة، وهذه المخاطر قد تشكل تهديداً له بالموت، أو الإعاقة، أو بإتلاف ماله، أو تهديداً لغيره بإلحاق الأذى بهم نتيجة لفعل صادر منه, مما يوجب عليه تعويضهم.
وهذه المخاطر، والخوف من وقوعها، تشغل تفكير كثير من الناس، وتسبب لهم القلق، خصوصاً في ظل الحضارة المادية السائدة اليوم، والتي تسببت في توهين الروابط الأسرية، والقبلية، مما جعل كثيراً من الناس يشعرون بالخوف مما يخبأ لهم المستقبل .... ومن هنا ظهرت الحاجة إلى التأمين, لإدخال الأمن والطمأنينة إلى النفوس.
فلسفة التأمين:
تنقسم المخاطر التي يتعرض لها الإنسان في حياته- من حيث إمكانية دفعها- إلى قسمين:
1- أخطار إن وقعت أمكن إزالتها، وتدارك آثارها. كما لو اصطدمت سيارة بسيارته فألحقت بها الضرر وتم إصلاحها، أو إبدالها بجديدة، أو احترق محله التجاري فتم تعويضه بالخسارة التي لحقت به, فيكون آثار الحادث قد زالت.
2- أخطار لا يمكن إزالتها بعد وقوعها، ولكن يمكن التخفيف من الآثار المترتبة عليها كالموت أو الإعاقة الدائمة، إذ لا أحد يمكنه دفع الموت, أو إزلة الإعاقة التي لحقت به (كما لو فقئت عينه أو قطعت رجله), غير أن من الممكن التخفيف من آثار هذه الحوادث من خلال التعويض على أسرته باستمرار راتب شهري لها, أو لشخصه في حالة الإعاقة الدائمة.
وتقوم فلسفة التأمين على أن يشترك جمع غفير من الناس في تحمل آثار هذه المخاطر بدلاً من أن يتحملها شخص واحد أو أسرة واحدة, وبذلك تكون آثار الحادثة قد توزعت, وتشتت, ويكون وقعها وأثرها قد خفَّ على الجميع.
تعريف التأمين:
التأمين لغة: التأمين مصدر، وفعله أمّن بتشديد الميم، وهو من الأمن ضدّ الخوف.
والتأمين اصطلاحاً: عرف بتعريفات متعددة بحسب نوعه، ولكنها جميعاً يمكن أن تندرج تحت التعريف التالي: "عقد بين طرفين، أحدهما يُسمّى المؤمِّن، والثاني المستأمِن (أو المؤمَّن له، أو طالب التأمين)، يلتزم فيه المؤمِّن بأن يؤدّي للمستأمن (أو المؤمَّن له) مبلغاً من المال، أو إيراداً مرتَّباً، في حالة وقوع حادثٍ مذكورٍ في عقد التأمين، وذلك في مقابل قسط أو أقساط مالية، يؤدّيها المستأمن (أو المؤمَّن له) إلى المؤمِّن".
أركان عقد التأمين:
يتبين من خلال التعريف السابق أن لعقد التأمين أركانٌ أربعة هي:
- المؤمِّن: ويقصد به شركة التأمين أو مؤسسته التي تلتزم بالتعويض.
- والمستأمِن: ويقصد به المؤمَن له أو طالب التأمين الذي يلتزم بدفع أقساط التأمين.
- ومحل العقد: الحادث المتوقع حصوله في المستقبل كالحوادث, أو المحقق وقوعه كالموت.
- أقساط التأمين: وهي الأقساط التي يجب على المستأمن سدادها لشركة التأمين.
وأما الجهة المستفيدة من عقد التأمين (أو من يُجْرى العقد لمصلحته) فقد يكون هو نفسه المستأمن, كمن يؤمن على محله من الحريق أو السرقة, وقد تكون أسرته أو غيرهم. وهو بهذه الصفة ليس ركناً في العقد, بل هو غاية العقد وهدفه. وكذلك مبلغ التعويض, فإنه ليس بركن في العقد, إذ قد يوجد بوقوع الحادث, وقد لا يوجد لعدم وقوعه.
أنواع التأمين:
للتأمين أنواع كثيرة جداً يصعب حصرها حيث تتفنن شركات التأمين في طرح أنواع جديدة منها بشكل دائم ومستمر, لجلب أكبر عدد ممكن من العملاء, وأهم هذه الأنواع هي:
أ - التأمين على الأشياء من الضرر, كالتأمين على المحلّ التجاري من الحريق.
ب - التأمين على الأشخاص, كالتأمين لحالة الوفاة، حيث يقوم الشخص المستأمن بدفع أقساط متفق عليها، مقابل أن تدفع الشركة لمن عينه مبلغ التأمين بعد الوفاة.
ج - التأمين من المسؤولية عن الغير (ضدّ الغير) كتأمين صاحب السيارة عمّا تُحدِثه سيّارته من أضرار تجاه الغير.
أقسام التأمين:
يقسم التأمين من حيث المؤسساتُ التي تقوم به، إلى ثلاثة أقسام:
التأمين التّجاري: وهو أكثر أنواع التأمين شيوعاً، وهو التأمين الذي تقوم به شركة مساهمة تجارية تسعى لتحقيق الربح لنفسها من خلال هذا النشاط. مثلها كمثل أيه شركة تجارية تسعى للربح من خلال تقديم خدماتها. وهنا تقوم الشركة بأخذ أقساط ثابتة من المستأمِنين، في مقابل تحمُّلها ما يلحق بهم من المخاطر, وضمن الحدود المتفق عليها بين الطرفين, من غير أن يكون لذلك علاقة بميزانية الشركة المؤمِّنة, أو بكونها رابحة, أو خاسرة. فشركة التأمين تتحمل وحدها آثار الحادثة، دون تضامن مع المستأمنين، وتدفع المبالغ المطلوبة منها, فإن فضل شيء من المال كان ربحاً لها, وخاصّاً بها, وإن لم يفضل أو كانت الخسارة تحملتها وحدها.
التأمين التعاوني (الاجتماعي): وهو الذي تقوم به الدّوَل عادة لمصلحة الموظّفين، فتؤمِّنهم من إصابة المرض والعجز والشيخوخة، ويسهم في حصيلته الموظَّفون والعمّال والدّولة، ولا تقصد الدولة من وراء ذلك تحقيق الأرباح، وهو يشمل نظام التقاعد، ونظام الضّمان الاجتماعي، والتأمين الصِّحّي.
التأمين التعاوني (التبادلي): وتقوم به الجمعيات والجهات الخيرية لتأمين حاجات المنتسبين إليها، فيتّفق أعضاء كلّ جمعية فيما بينهم على تعويض مَن ينزل به خطرٌ ما، ويرتِّبون على كلِّ عضو دفعَ مبلغٍ معيَّن من المال على سبيل التبرُّع والمؤازرة لمن تنزل به مصيبة، ولا يقصد هؤلاء من وراء هذا العمل ربحاً ولا تجارة.
حكم التأمين في الشريعة الإسلامية:
من المعلوم أن مسألة التأمين من المسائل التي استجدت على الأمة, ولم تكن في العصور السابقة، ومن ثَمَّ فلا نجد لها ذكراً في مصادر الأحكام الشرعية من القرآن الكريم والسنة المطهرة، أو كتب الفقه الإسلامي القديمة، وأول مَن تكلّم في حكم التأمين من فقهائنا القدامى, الفقيه الحنفي ابن عابدين رحمه الله، المتوفّى (1252هـ /1836م) عندما تحدث عن التأمين على السفن التجارية والبضائع المحمولة عليها, وقد أفتى بحرمتها.
ثم بعد ذلك انتقل التأمين إلى بلاد المسلمين, وانتشر, وتعددت أنواعه, فتناوله العلماء بالبحث والبيان, وأصدروا الفتاوى في حكمه, وفيما يلي بيان لحكم كل نوع من أنواعه على حدة :
حكم التأمين التجاري في الشريعة الإسلامية:
اتجه رأي معظم المعاصرين بما فيهم مجمع الفقه الإسلامي الدولي, وهيئة كبار العلماء في المملكة إلى حرمة التأمين التجاري (ولم يشذ إلا قلة من العلماء أفتوا بإباحته منهم الشيخ مصطفى الزرقاء والشيخ عبد الله بن منيع والشيخ العبيكان)، وقد استند الفقهاء القائلون بالتحريم, وكذا المجمع الفقهي بمجموعة من الأدلة, أهمها:
1- التأمين التجاري من عقود الغرر, وهو منهي عنه في العقود, فيكون محرماً. ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الغرر. والغرر هو: الشيء المستقبلي المجهول, الذي يكون على خطر الوجود والعدم, ولا يستطيع الإنسان التحكم فيه بإرادته, كالموت والحريق.
ولا يخفى ما في عقد التأمين التجاري من الغرر, بل لا ينكره إلا معاند! فالغرر يكتنف هذا العقد من جميع جوانبه:
- فمن جهة المستأمِن, لا يدري كم قسطاً سيدفع إلى أن يحل به الموت في حالة التأمين على الحياة, ولا مجموع المبالغ التي سيدفعها في التأمين على الأضرار.
- ومن جهة شركة التأمين, فإنها لا تدري كم ستأخذ من المستأمِن؟ كما أنها لا تدري كم ستدفع له أو لمن جرى عقد التأمين لمصلحته؟.
- ومن جهة الخطر ذاته, وهو محل العقد, لا يدري أحدٌ من الطرفين ما إذا كان سيقع الخطر أو الحادث أم لا ؟ وإن وقع فكم سيكون حجمه؟.
- ومن جهة الأجل, لا يدري أحدٌ من الطرفين متى سيقع الخطر؟
فالغرر أو الجهالة إذاً تحيط بهذا العقد من معظم جوانبه, إن لم تكن من جميعها, بل حتى القوانين المدنية الوضعية حين قَننت هذا العقد, وضعته مع القمار والرهان وعقود المخاطرة.
2- في التأمين التجاري شبه بالقمار, لأن آلاف المستأمِنين وربما عشرات الآلاف منهم يدفعون أقساط التأمين، في حين أن الحوادث تقع من بعضهم فقط كالعشرات أو المئات, فتغطى خسائر هؤلاء من تلك الأقساط جميعها, وما فضل من تلك الأقساط
يكون ملكاً للشركة, وربحاً لها. فالجميع إذاً يشترك في الدفع, ولم يدفعوا لوجه الله, بل كل واحد يطمح أن يكون قد حمى نفسه بذلك من المخاطر وغَنِم, ولو علم أن الحادث لن يقع له لما دفع تلك الأموال, ومن ثمَّ أشبه القمار, حيث الجميع يغرم, لمصلحة البعض فقط, فيكون حراماً مثله, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) المائدة.
3- يلزم من التأمين التجاري الوقوع في ربا الفضل أو ربا النَّساء, أو أكل المال بالباطل, وذلك: أن المستأمِن (أو أسرته, أو المستفيد من التأمين) إما أن يأخذ من الشركة أكثر مما دفع لها, فيكون ربا الفضل, أو مثله وسيكون بعد فترة من الزمن فيكون ربا النساء, أو أقل فتكون الشركة قد أكلت ماله بالباطل. فلو افترضنا مثلاً أن مجموع ما دفعه المستأمِن خلال السنوات العشر الماضية لشركة التأمين /20/ ألف ريال لتأمين محله ضد الحريق, ثم وقع الحريق, فكانت خسائره نصف مليون ريال, فإن الشركة ستدفع نصف مليون, مع أنها لم تأخذ سوى /20/ ألف ريال, فكأن الشركة قبضت /20/ ألف عاجلاً على أن ترده نصف مليون آجلاً, فيكون ربا الفضل للزيادة!
وكذا ربا النساء للتأخير, لأن الواجب شرعاً في مبادلة الريال بالريال المثلية, والتقابض في المجلسي يداً بيدٍ, وكلاهما لم يتحقق.
وإن أخذ مثل ماله, كان ربا النساء, للأجل. ولا يكون قرضاً؛ لأن القرض من عقود التبرعات, وهنا لم يقصد الدافع التبرع, بل المقابل والمعاوضة.
وإن أخذ دون ما دفع كما لو أخذ /10/ آلاف فقط, أو لم يأخذ شيئاً؛ لأن محله سلم من الحرائق, فإن شركة التأمين تكون قد أكلت ماله بالباطل؛ لأنها أخذت المال بلا مقابل، وأخذ المال بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرّم، ويدخل في عموم النهي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (29) سورة النساء.
تنبيه مهم: إذا أخذت دولة من الدول برأي القلة التي أفتت بجواز التأمين التجاري كالشيخ مصطفى الزرقاء والشيخ ابن منيع والشيخ العبيكان وغيرهم, وألزمت الناس بالتأمين التجاري, وجب الالتزام بذلك؛ لأن المسألة اجتهادية, ولا إجماع فيها, وحكم الحاكم يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية الخلافية, ما دام لا يصادم نصاً صريحاً.
حكم التأمين التعاوني:
تكاد كلمة العلماء والمجامع الفقهية تتفق على مشروعية التأمين التعاوني بنوعيه (الاجتماعي والتبادلي)، بل الترغيب فيهما؛ لأنهما من قبيل التعاون على البر، ومن التعاطف والتكاتف الذي ينبغي أن يكون بين المؤمنين، وقد قال تعالى:{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } (2: المائدة), ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
وقد وجدت صور عديدة في التشريع الإسلامي مشابهة لهذين النوعين من التأمين منها:
مطالبة العاقلة -وهم عصبة القاتل أو الذكور من قرابته من جهة أبيه- بتحمل دية المقتول خطأً مع الجاني.
الغارم : وهو الذي نزلت به مصيبة فأتلفت ماله وأصبح عاجزاً عن سداد الديون التي في ذمته, حيث جعله الإسلام مصرفاً من مصارف الزكاة، وأوجب له الحق في بيت المال حتى يبرأ من التزاماته، ويستعيد عافيته.
التكافل في أوقات القحط والشدة، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا جمعوا فضول زوادهم ثم تقاسموها فيما بينهم فهم مني وأنا منهم).
التأمين الإسلامي البديل للتأمين التجاري:
ذكرنا فيما سبق أن ما تقدمه الدولة لموظفيها وما أشبه ذلك مما الغاية منه التبرع جائز, ولا يكاد يخالف فيه أحد, إلا أن ذلك لا يفي بالغرض, فليس كل الناس موظفين في الدولة, كما أن الدولة لا تغطي كل الحوادث, ومن ثم كانت الحاجة إلى التأمين, وكان لا بد من بديل يسد عن التأمين التجاري المحرم, وهذا البديل هو التأمين التبادلي, القائم على مبدأ التعاون والتبرّع من جهة, والشركة من جهة أخرى.
فيقوم مجموعة من الناس بتأسيس شركة للتأمين الإسلامي, وتتشكّل لها هيكلة فنية وإدارية. ثم تقوم هذه الإدارة بإبرام العقود والاتّفاقيات, وجمع الأقساط ودفع التعويضات، وكل أعمال التأمين نيابة عن المشتركين, وبصفتها وكيلة عنهم. كما أنها تقوم– على ضوء النظام الأساسي للشركة- باستثمار أموال الصندوق من خلال عقد المضاربة (القراض)، وتكون لها نسبة محددة شائعة من الربح باعتبارها مضارباً كـ 60 0/0 مثلاً، ويكون الباقي للمشتركين بصفتهم أرباب المال.
والتخريج الفقهي لهذا النوع من التأمين هو أنه شديد الشبه بما يُعرف بالنِّهْدة بكسر النون، أو التناهد، وهو: "إخراج القوم نفقاتهم على قدر عدد الرُّفْقة". بمعنى أن الرفقة حين يكونون في سفر، فيدفع الجميع مقادير متساوية من المال لأجل نفقات سفرهم، ولكنهم يتفاوتون في الأخذ منها، فربما أكل بعضهم أكثر من بعض، وربما مرض أحدهم فأخذ كثيراً منه لأجل العلاج، فلا يُشترط تساويهم في الاستفادة ممّا جمعوه من المال؛ لأنهم جميعاً متبرِّعون في إخراجه، ثم ما تبقّى من هذا المال يُرَدُّ إليهم بعد الانتهاء من السفر.
فكذا هنا في التأمين الإسلامي، فإن كلّ مشترك فيه يدفع قسطه على سبيل التبرُّع، ثم في نهاية كلّ عام يوزَّع الفائض -وهو ما تبقّى من الأقساط و عوائده، بعد خصم المصاريف والتعويضات (أي جميع التزامات التأمين)- على المشتركين بحَسَب الأقساط، بطريقة مُتَّفَقٍ عليها مسبقاً.
الفوارق بين التأمين الإسلامي والتأمين التجاري:
ويمكن إجمالها في الآتي:
- الأقساط في شركة التأمين الإسلامي ملك للمشتركين، وفي التأمين التجاري ملكٌ لشركة التأمين.
- غرض الشركة في التأمين الإسلامي تحقيق التعاون بين المشتركين، وليس الربح, وفي التأمين التجاري الربح، إذ هي شركات تجارية.
- في التأمين الإسلامي يعود الفائض على المشتركين، ولذا فإن كلّ واحد منهم يكون حريصاً على تقليل المخاطر، وفي التأمين التجاري يذهب الفائض لشركة التأمين.
- تلتزم شركة التأمين الإسلامية بأحكام الشريعة في جميع أنشطتها، في حين أن شركة التأمين التجاري لا تلتزم بها في شيء من أنشطتها.
وفي الختام نسوق نص قرار المجمع الفقهي بخصوص التأمين:
قرار المجمع الفقهي رقم: 9 (9/2)[1] بشأن التأمين:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمر الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الآخر 1406هـ، (ديسمبر) 1985م،
بعد أن تابع العروض المقدمة من العلماء المشاركين في الدورة حول موضوع التأمين وإعادة التأمين، وبعد أن ناقش الدراسات المقدمة، وبعد تعمق البحث في سائر صوره وأنواعه والمبادئ التي يقوم عليها والغايات التي يهدف إليها، وبعد النظر فيما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية بهذا الشأن، قرر ما يلي:
أولاً: أن عقد التأمين التجاري ذي القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد. ولذا فهو حرام شرعاً.
ثانياً: أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون، وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني.
ثالثاً: دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين، حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة.
والله أعلم.
المحاضرة الثانية عشرة
الإجهاض وحكمه شرعاً

المقدمة:
الإجهاض من المسائل القديمة الحديثة؛ أما كونه قديماً فمن حيث تناوله بالحديث والبيان من قِبَل فقهاء السلف, وأئمة المذاهب, في مصنفاتهم الفقهية, وبيان حكمه, والآثار المترتبة عليه شرعاً. وأما كونه حديثاً فلأنه استشرى في هذا العصر, وكثر الخوض فيه حتى صار ورقة انتخابية في كثير من الدول! يلجأ إليه من يسعى لكسب المزيد من أصوات الناخبين, بدعوى أنه من الحرية الشخصية والتقدم! بل أصبحت المؤتمرات الدولية والندوات تعقد من أجل تشريعه وتسهيله. ويكفي لكي نقف على مدى استفحاله وانتشاره أن نعلم أن عدد حالات الإجهاض تقدر بـ /45/ مليون حالة سنوية على مستوى العالم! بل إن عدد حالات الإجهاض في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية تصل إلى واحدة مقابل كل ثلاث حالات ولادة طبيعية! ولا شك أنها أرقام مهولة, تدل على عظم حجم المسألة, وشدة أهميتها, وحاجتها إلى المعالجة.
وقد جاءت مواقف الدول إزاء الإجهاض متباينة, فمنها من سنت القوانين لإباحته وتسهيله, ومنها من حرمته وجَرَّمت فاعله, ما لم يكن لسبب معقول كالخوف على حياة الأم من بقاء الجنيين أو نحو ذلك.
تعريف الإجهاض:
يطلق الإجهاض في اللّغة على إلقاء الحمل ناقص الخلق، أو ناقص المدّة. سواء أكان الإلقاء من المرأة أم من غيرها. وسواء أكان بفعل فاعل, أم تلقائيّاً.
واستعمال الفقهاء لكلمة الإجهاض لا يخرج عن هذا المعنى.
وكثيراً ما يعبّرون عن الإجهاض بمرادفات أخرى مثل: الإسقاط والإلقاء والطّرح والإملاص.
دواعي الإجهاض:
هناك أسباب متعددة للإجهاض, لكنها عموماً ترجع إلى واحدة من الأسباب التالية:
1. المساعدة على إخفاء آثار البغاء أو الفاحشة, والمساعدة على انتشار الرذيلة, والتشجيع عليها. وتشير الدراسات إلى أن (85 0/0) من حالات الإجهاض التي وقعت في نيويورك ولندن كانت نتيجة لانتشار الزنا.
2. تنظيم الأسرة, والحَدُ من عدد أفرادها, إما لرغبة الزوجين في ذلك, أو بتوجيه من الحكومة وإلزام للحد من تنامي السكان.
3. الخوف على صحة الجنين أو الأم إذا استمرت حياة الجنين, خصوصا بعد التطور التقني والطبي الذي أصبح باستطاعته في كثير من الحالات الكشف عن الأمراض المتحققة والمحتملة, والتشوهات التي يمكن أن يكون الجنين مصاباً بها.
حكم الإجهاض بعد نفخ الروح:
يختلف حكم الإجهاض بحسب المرحلة التي يمر بها الجنين, وبحسب دواعي ومسوغات الإجهاض. وبصورة عامة يفرق الفقهاء بين مرحلتين يمر بهما الجنين, مرحلة ما قبل نفخ الروح, ومرحلة ما بعد نفخ الروح. ونفخ الرّوح إنما يكون بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل بالاتفاق, للحديث الصّحيح الّذي رواه ابن مسعود مرفوعاً : (إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يوماً نطفةً ، ثمّ يكون علقةً مثل ذلك ، ثمّ يكون مضغةً مثل ذلك ، ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الرّوح...).
وقد أجمع الفقهاء على تحريم الإجهاض بعد نفخ الرّوح, أي مرور مائة وعشرين يوماً ما لم تكن هناك ضرورة لإسقاطه, لأن في إسقاطه من غير ضرورة قتلاً للنفس المحترمة بغير حق.
يقول الإمام أبو بكر ابن العربي المالكي رحمه الله: "وأما إذا نفخ فيه الروح, فهو قتلُ نفسٍ بلا خلاف". ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين, وهو من الوأد الذي قال الله فيه :"وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت".
حكم اسقاط الجنين قبل نفخ الروح:
اختلف الفقهاء في حكم إسقاط الجنين قبل نفخ الروح على أقوال ثلاثة:
القول الأول: تحريم الإسقاط في جميع الأطوار. أي منذ اللحظة الأولى التي يقبض الرحم فيها مني الزوج. وهذا قول معظم المالكية، وبعض الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
القول الثاني: جواز الإسقاط في طور النطفة, وعدم جوازه فيما وراء ذلك. وهذا هو المذهب عند الحنابلة, وقول لبعض المالكية.
القول الثالث: جواز الإسقاط في جميع الأطوار ما لم ينفخ فيه الروح. أي: قبل مضي مائة وعشرين يوماً. وهذا قول معظم الحنفية والشافعية، وبعض الحنابلة.
أدلة القول الأول:
استدل من ذهب إلى عدم جواز الإجهاض في جميع مراحله بما يلي:
1. حديث أبي هريرة t أن رسول الله r (قضى في جنين امرأة من بني لحيان بغرة عبد أو أمة).
وجه الاستدلال: أن الجنين اسم لما في البطن، وإيجاب الغرة فيه دليل على أنه محترم, ويأثم المتعدي عليه, وإذا كان المعتدي عليه آثماً, فإن إسقاطه يكون محرماً.
2. قوله تعالى: {ثم جعلناه نطفة في قرار مكين}. قال الشوكاني رحمه الله: المراد بالقرار المكين؛ الرحم. وعبر بالقرار الذي هو مصدرٌ, مبالغةً. فإذا كانت النطفةُ محفوظةً في قرار مكين, كان القصد إلى استخراجها من قرارها المكين, إتلافاً لها, وتعدياً عليها, ومخالفة لمقصود الشارع من الرحم.
3. النطفة مبدأ الحياة، وإذا كان لا يجوز إتلاف الحي, فكذلك السقط الذي هو مبدأ الحياة.
4. الإسقاط يشبه الوأد لاشتراكهما في القتل، إذ الإسقاط قتل ما تهيأ ليكون إنساناً، وإذا كان الوأد محرماً بالإجماع, فكذلك ينبغي أن يكون الإسقاط.
5. من المعلوم إن إقامة الحد أو القصاص واجبٌ, ومع ذلك فإن الشرع أخَّرَ إقامتهما على المرأة الحامل بغض النظر عن الطور الذي هو فيه. قال ابن المنذر: (أجمع العلماء على أن الحامل لا ترجم حتى تضع) وتأخير تنفيذ الحد والقصاص من أجل الحمل ولو كان نطفة، يدل على أنها محترمة, ولا يجوز الاعتداء عليها.
6. قياس الإسقاط على العزل. فمن قال بالمنع فيه, يقول بالمنع هنا من باب أولى.
7. الإسقاط مخالفة لحكمةٍ من حِكم النكاح وهو طلب الولد.
وهذا القول أخذ به جمع من الأطباء المعاصرين الذين لهم اهتمام فقهي استناداً إلى أن للجنين تحركات, وتسمع له نبضات قلب, فلا يجوز والحالة هذه عندهم إسقاطه. يقول الطبيب حسان حتحوت في معرض سرد ما تبين له وللأطباء في هذا الجانب: "الجنين حي من بدء حمله... وأن قلبه ينبض في شرايينه منذ أسبوعه الخامس، وأن جنين الأشهر الثلاثة تام الخلقة, وإن كان صغير الحجم، وأنه تكوّن, وإنما يكبر وينضج بعد ذلك، وأن الجنين يتحرك ونرصد بأجهزتنا حركته ونسمع دقات قلبه قبل أن تحس أمه بحركاته بزمان طويل، وأعلم من الناحية الطبية أن قتل الجنين قتل نفس).
مناقشة أدلة القول الأول:
1. يمكن أن يرد على استدلالهم بالحديث بأنه واردٌ في واقعة عين محتملة فلا يصلح للاستدلال. بمعنى أن الحديث لم يذكر الطور الذي كان فيه جنين تلك المرأة من بني لحيان, فقد يكون نطفة وقد يكون علقة وقد يكون مضغة, وقد يكون نفخ فيه الروح.. ومع هذه الاحتمالات لا يصلح الاحتجاج بالحديث, لأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال, بطل به الاستدلال.
وأمرٌ آخر, وهو أن الحديث يخبرنا عن حالة اعتداء من طرف آخر على المرأة وجنينها, ولا يتحدث عن حالة رغبة الزوجين في ذلك مثلاً.
وأمرٌ ثالث, وهو أنه لا أحد من الفقهاء يقول بوجوب الغرة في إسقاط النطفة والعلقة. وعليه فإن من الممكن القول: الإجهاض محرم في الحالة التي يكون إسقاطه مضموناً, دون النطفة والعلقة التي لا تضمن عند الفقهاء.
. قياس الجنين قبل نفخ الروح على الوأد, مناقش بالإجماع بالفرق بين المقيسين, في كثير من الأحكام, كالقصاص والدية ونحوها.
3. استدلالهم بحرمة العزل, يمكن أن يُرَد بالأدلة التي جاءت بجواز العزل ومن أظهرها حديث جابر (كنا نعزل والقرآن ينزل) وهو قول جماهير الفقهاء إذا كان بإذن الزوجة.
4. أما بقية الأدلة فهي إنما تدل على أن للجنين قبل نفخ الروح حرمة, لكنها لا تضاهي حرمته بعد نفخ الروح, ولا حرمته حال خروجه للحياة إجماعاً.
أدلة القول الثاني:
استدل هذا الفريق على الجواز في طور النطفة دون غيره بما يلي:
1. البراءة الأصلية, إذ الأصل الحل حتى يرد دليل التحريم, ولم يرد دليل على التحريم حال كون الجنين نطفة.
2. حديث ابن مسعود t :(إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً على حالها لا تغـيّر، فإذا مضت الأربعون صارت علقة، ثم مضغة كذلك ...).
وجه الاستدلال: أن النطفة تبقى على حالها ولا تنعقد، وما لا ينعقد يجوز إسقاطه.
3. حديث جابر t:(كنا نعزل والقرآن ينزل)، فالنبي rأقرهم على العزل, والعزل إتلاف للنطفة, فدل ذلك على أن النطفة لا حرمة لها.
4. قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}. وجه الدلالة: أن التخليق لا يكون إلا في مرحلة المضغة, ومرحلة النطفة لا تخليق فيها، ومن ثَمَّ فلا حرمة لها, ويجوز إسقاطها.
مناقشة أدلة القول الثاني:
1. يُرَد على استدلالهم بالبراءة الأصلية, بأدلة القائلين بالتحريم, ولعل من أظهرها تأخير رجم الزانية الحامل إجماعاً مما يدل على أن للجنين نوع حرمة ولو كان في بداياته.
2. يُردّ على استدلالهم بحديث ابن مسعود tمن وجهين: أن الحديث بهذا اللفظ ضعيف. ولو ثبت فلا دليل على التفريق بين ما انعقد وما لم ينعقد. بل يرده حديث ابن مسعود الصحيح " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً" فإن هذا يقتضي أن الله قد جمع فيها خلقه جمعاً خفياً، وهذا التخليق يتزايد شيئاً فشيئاً إلى أن يظهر للحس ظهوراً لا خفاء به كله. بل إن الأطباء يقطعون بأن الإنعقاد يكون في الأسبوع الأول.
3. أما استدلالهم بقوله تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}.
فالجواب عنه: أنكم تقولون بحرمة إسقاط الجنين حال كونه علقة, قبل المضغة وقبل التخليق, وإذا جاز حال كونه علقة, جاز حال كونه نطفة, وعليه فلا حجة لكم في الآية.
أدلة القول الثالث:
استدل الفريق الثالث على جواز الإسقاط قبل نفخ الروح بما يلي:
1. أن كل ما لم تحلّه الروح لا يبعث يوم القيامة، وما لا يبعث فلا اعتبار لوجوده، ومن ثَمَّ فلا حرمة في إسقاطه.
2. أن الجنين ما لم يتخلق وتنفخ فيه الروح فإنه ليس بآدمي، وإذا لم يكن كذلك فلا حرمة له.
3. الحياة التي في أول الحمل إنما هي امتداد للحياة التي في الحيوان المنوي، بخلاف الحياة الحادثة من نفخ الروح بعد مائة وعشرين يوماً، فهي حياة إنسانية ذات احترام خاص. واستدلوا على التفريق بين الحالتين بقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين}. قال الطبري:"قال بعضهم: إنشاؤه إياه خلقاً آخر: نفخه الروح فيه، فيصير حينئذ إنساناً، وكان قبل ذلك صورة….. وبنفخ الروح فيه يتحول عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية، كما تحول أبوه آدم بنفخ الروح في الطين التي خلق منها إنساناً، وخلقاً آخر غير الطين الذي خلق منه".
مناقشة أدلة القول الثالث:
1. يمكن أن يجاب عن دليلهم الأول: بأن هذا اعتداء على ما مصيره اكتمال الآدمية, وحلول الروح فيه. وهذا الاعتداء بغير حق إيقاف له، والاعتداء بغير حق محرم.
2. نعم؛ نُسَلِّم أن حرمته ليست كحرمة من نفخت فيه الروح الا أن هذا لا يعني انعدام حرمته لذلك.
3. استدلال البعض بالقياس على العزل يُناقش بالفرق بين حال استقرار النطفة في الرحم, وما قبل ذلك. والفرق بين الحالين ظاهر. ففي حالة العزل لم تستقر النطفة في الرحم ولم يحصل لها تكوين أو تخليق, بخلاف حال كون النطفة في الرحم فإنها مستقرة فيه في قرار مكين. والقاعدة الفقهية: أن الدفع أهون من الرفع. فدفع النطفة والعزل أهون من إخراجها من مكانها الذي أودعت فيه.
الترجيح:
لعل الأحرى في المسألة أن يقال:
إن أدلة القول الأول وتعليلاتهم تدل على أن للجنين نوع حرمة لذا أُخِّر الحد والقصاص عن المرأة حتى تضع حملها.
وأدلة القول الثالث تدل على أن حرمته لا تظاهي حرمة ما نفخت فيه الروح.
والاحتياط في الأنفس والدماء مطلوب, وحرمتها عظيمة عند الله, ومن ثمَّ وجب المنع إلا لضرورة جمعاً بين الأدلة, ومن الضرورة الخوف على حياة الأم, أو التسبب في أمراض لها, وأما أن يكون للخشية من النفقة, أو للحفاظ على الشباب, أو لراحة النفس من عناء تربية العيال, فلا يجوز.
عقوبة الإجهاض :
اتّفق الفقهاء على أنّ الواجب في الجناية على جنين الحرّة هو غرّة. لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره : (أنّ امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى، فطرحت جنينها، فقضى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بغرّة عبد أو وليدة).
واتّفق فقهاء المذاهب على أنّ مقدار الغرّة في ذلك هو نصف عشر الدّية الكاملة ، وأنّ الموجب للغرّة كلّ جناية ترتّب عليها انفصال الجنين عن أمّه ميّتاً، سواء أكانت الجناية نتيجة فعل أم قول أم ترك، ولو من الحامل نفسها أو زوجها، عمداً كان أو خطأً.
ويختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة -وهي العقوبة المقدّرة حقّاً للّه تعالى- مع الغرّة. (والكفّارة هنا هي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) فالحنفيّة والمالكيّة يرون أنّها مندوبة وليست واجبةً؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقض إلاّ بالغرّة. كما أنّ الكفّارة فيها معنى العقوبة؛ لأنّها شرعت زاجرةً، وفيها معنى العبادة؛ لأنّها تتأدّى بالصّوم. وقد عرف وجوبها في النّفوس المطلقة فلا يتعدّاها لأنّ العقوبة لا يجري فيها القياس، والجنين يعتبر نفساً من وجه دون وجه لا مطلقاً. ولهذا لم يجب فيه كلّ البدل، فكذا لا تجب فيه الكفّارة لأنّ الأعضاء لا كفّارة فيها. وإذا تقرّب بها إلى اللّه كان أفضل. وعلى هذا فإنّها غير واجبة. ويرى الشّافعيّة والحنابلة وجوب الكفّارة مع الغرّة؛ لأنّها إنّما تجب حقّاً للّه تعالى لا لحقّ الآدميّ؛ ولأنّه نفس مضمونة بالدّية، فوجبت فيه الكفّارة. وترك ذكر الكفّارة لا يمنع وجوبها.
الإجهاض المعاقب عليه:
يتّفق الفقهاء على وجوب الغرّة بموت الجنين بسبب الاعتداء، كما يتّفقون على اشتراط انفصاله ميّتاً، أو انفصال البعض الدّالّ على موته, إذ لا يثبت حكم المولود إلاّ بخروجه؛ ولأنّ الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت، وبالإلقاء يظهر تلفه بسبب الضّرب أو الفزع أو نحوهما.
تعدّد الأجنّة في الإجهاض:
لا خلاف بين فقهاء المذاهب في أنّ الواجب الماليّ من غرّة أو دية يتعدّد بتعدّد الأجنّة, فإن ألقت المرأة بسبب الجناية جنينين أو أكثر تعدّد الواجب بتعدّدهم؛ لأنّه ضمان آدميّ، فتعدّد بتعدّده، كالدّيات. والقائلون بوجوب الكفّارة مع الغرّة - وهم الشّافعيّة والحنابلة كما تقدّم - يرون أنّها تتعدّد بتعدّد الجنين أيضاً.
من تلزمه الغرّة:
تجب الغرّة على عاقلة الجاني على ما ذهب إليه فقهاء الحنفيّة والشافعية، لخبر (أنّ رسول اللّه r قضى بالغرّة على العاقلة)، قالوا: لأنّ الجناية على الجنين لا عمد فيها حتّى يقصد بالجناية، بل يجري فيها الخطأ وشبه العمد. سواء أكانت الجناية على أمّه خطأً أم عمداً أم شبه عمد.
ويرى المالكيّة وجوب الغرّة في مال الجاني في العمد مطلقاً، وكذا في الخطأ.
أمّا الحنابلة فقد جعلوا الغرّة على العاقلة إذا مات الجنين مع أمّه وكانت الجناية عليها خطأً أو شبه عمد. أمّا إذا كان القتل عمداً، أو مات الجنين وحده، فتكون في مال الجاني. ولعل هذا هو الراجح لأن العمد يتصور وخصوصاً في زمننا هذا, كما أن الأدلة في التفريق بين حالة العمد والخطأ ثابتة في الشرع, فيكون في حالة الخطأ على العاقلة, وفي العمد على الجاني. والله أعلم.