الأقليات المسلمة :
ويقصد بالأقلية المسلمة ؟ مجموعة من المسلمين تعيش تحت سلطان دولة غير مسلمة في وسط أغلبية غير مسلمة ، أي أنها تعيش في مجتمع لا يكون فيه الإسلام الدين السائد ، أو الثقافة الغالبة ، ومن ثم لا يحظى فيه الإسلام بمؤثرات إيجابية تساعد على ازدهار مثله ومبادئه ، وقد يعاني المسلمون في حالات كثيرة من جهود ترمي إلى " علمنتهم " وإبعادهم عن مثلهم الدينية ، وإدماجهم في ثقافة المجتمع الغالبة.
وتعريف الأقلية المسلمة لا يكون من حيث المعيار العددي فقط ، وإنما من حيث وجودها الفاعل في الأجهزة السياسية والمدنية أيضاً ، وقد يشكل المسلمون في دولة ما أغلبية عددية ، ولكن ليس لهم نفوذ سياسي واقتصادي فاعل ، أو دور مؤثر في صناعة القرارات المصيرية ,وهناك من الكتاب من يرى أن المعيار العددي هو من أدق المعايير في تحديد ما يطلق عليه دولة إسلامية ، وما يطلق عليه أقلية مسلمة في دولة غير إسلامية ، إذ يرى أولئك أن الدولة التي يزيد عدد المسلمين فيها عن 50 % من السكان هي دولة إسلامية ، وإذا قل المسلمون عن تلك النسبة المئوية كان المسلمون أقلية في الدولة المعنية ، والعقبة في هذا التعريف هو انعدام الإحصاءات السكانية التي يمكن الاعتماد عليها ، وكذلك غياب الانتماءات الدينية للسكان في الإحصاءات إن وجدت ، وسواء أخذنا بهذا التعريف أو ذاك للأقلية المسلمة ، فإن تلك الأقلية تبقى جماعة مسلمة تعيش في مجتمع وبيئة غير إسلامية ،
والتقديرات العامة قد تقترب أو تبتعد عن الحقيقة ، فمثلاً هناك بعض التقديرات المتحفظة التي تقول إن واحداً من بين كل ثلاثة مسلمين في العالم اليوم هو من ضمن أفراد الجاليات الإسلامية المنتشره في أنحاء العالم .
وضمن احصائيات العام 2000 م فإن واحدا من كل أربعة أشخاص في العالم سيكون مسلماً ، وكذلك سيكون من بين كل اثني عشر شخصاً في العالم فرد ينتمي للاقليات المسلمة .
وهناك الآن تواجد إسلامي في نحو تسعين دولة من دول العالم ، بينهما أربعة وأربعين دولة إسلامية ( أي ذات أغلبيات مسلمة ) ، والبقية (46 ) دولة أقليات مسلمة ، فالمسلمون في قارة آسيا مثلاً يقدرون بحوالي 892 مليون مسلم ، منهم 251 مليون مسلم يعيشون كجماعات وأقليات مسلمة ، كما أن عدد الأقليات المسلمة في أوروبا يقدر بحوالي 66 " ستة وستون " مليون نسمة ، من مجموع سكان أوروبا البالغ عددهم 732 مليون نسمة ، ووصل عدد المسلمين في القارة الأمريكية ، وفي استراليا إل حوالي 13 مليون مسلم ،
وتقول هذه الإحصائية الصادرة عن منظمة المؤتمر الإسلامي أن عدد المسلمين في أفريقيا يقدر بحوالي 316 مليون مسلم من مجموع سكان القارة البالغ عددهم 652 مليون نسمة ، وأن 44 مليون مسلم في قارة أفريقيا يعيشون كأقليات مسلمة.
وهناك تقديرات أخرى تجعل عدد الأقليات المسلمة العائشة خارج حدود العالم الإسلامي حوالي 374 مليون نسمة وأن الأغلبية منهم تعيش في قارة آسيا .
ويختلف توزيع المسلمين في القارة الواحدة من دولة إلى أخرى ، ففي آسيا تعيش معظم الأقليات المسلمة في الصين والهند ، ففي الصين يعيش حوالي 100 مليون مسلم ( وإن كانت بعض المنظمات الإسلامية ترى أنهم أكثر من ذلك بكثير ،، وتقول الإحصائيات الهندية الرسمية أن عدد المسلمين في الهند حوالي 90 مليون مسلم ولكن المسلمين أنفسهم يعتقدون أن عددهم حوالي 150 مليون مسلم ..
1- الأقليات المسلمة في أوروبا :
ولابد من دراسة الأقليات المسلمة في أوروبا في إطار العلاقات التاريخية بين الإسلام والمسيحية عبر العصور ، منذ الوجود الإسلامي في إسبانيا ، ثم العلاقات العثمانية الأوروبية ، ثم مرحلة الوجود الاستعماري الأوروبي في البلدان الإسلامية ، ونتج عن كل ذلك ظاهرة " المواجهة بين الإسلامة وأوروبا ، والتي بلغت ذروتها أيام الحروب الصليبية والمرحلة الاستعمارية ، وتتجلى الآن في الدعوات الأصولية الحالية في عالم الإسلام ، والتي تخشاها أوروبا وتظنها دعوات موجهة ضدها ، وتولد عن هذه " المواجهة " سوء فهم لازال يحكم العلاقة بين الأكثرية الأوروبية والأقليات المسلمة التي تعيش في وسطها ، ودراسة الوضع الأوربي أو البيئة التي تعيش فيها تلك الأقليات المسلمة سيمكننا من فهم أعمق للظروف الحياتية والمعيشية ، لتلك الأقليات ، وللمشاكل التي تواجههم وربما إيجاد السبل الصحيحة لحلها .. إذ أن مثل تلك الدراسة ستضع قضية الأقليات تلك في محتواها الصحيح ، فمحاولة فهمنا مثلاً للعلمانية السائدة في أوروبا ، ونظرتها للدين ، وكذلك فهمنا لسلوك المسلمين في تلك المجتمعات الأوروبية ، الذين يحاولون العيش حسب مقتضيات دينهم ، في المأكل ، والمشرب ، والملبس ( حجاب النساء مثلاً ) ، وممارسة عباداتهم مثل الصلاة في أوقات العمل والدراسة ، وهي كلها ممارسات جعلت الأوروبيون ينظرون إليها بشيء من الاستغراب ..
والمسلمون في أوروبا يعانون من مشاكل عديدة : أهمها خطر فقدان هويتهم الإسلامية ، ثم شعورهم بأنهم غرباء عن المجتمع الأوروبي ، غرباء في العقيدة ، وفي التقاليد واللغة ، وحتى في الشكل والعرق ، وشعورهم بأن المجتمع الأوروبي يعاملهم وينظر إليهم كغرباء أيضاً ، ويمارس ضدهم بعض التحزبات ، في العمل ، وفي السكن ، وفي الخدمات الاجتماعية ، وفي التعليم ، واللغة والمواطنة ، وهم يرون في تلك التحزبات والحواجز عقبات رئيسة تقف في طريق ممارستهم لحياة طبيعية في المجتمعات الأوروبية والتي تدعي حماية الحقوق الإنسانية ، ومن ثم فالمسلمون يشعرون بأنهم يعيشون على أطراف ذلك المجتمع ، وفي عزلة دينية وفكرية عنه ، وكنتيجة للمعاملة التي تلقاها تلك الأقليات المسلمة في أوروبا على يد الأغلبية ، فإن شعورها بأنها " أقلية " مغلوبة على أمرها يتزايد باستمرار ، وهو ما يطلق عليه البعض " عقدة الأقلية " ، ولعل هناك أسباباً أخرى لهذا الشعور ، مثل : البحث عن الجذور ، والحنين للأوطان ، وعدم تقبل النساء للعادات والمثل السائدة في المجتمع الأوروبي ، وحواجز اللغة ..
2- الأقليات المسلمة في أفريقيا :
يشكل المسلمون في أفريقيا ثقلا ضخما لا يمكن تجاهله رغم ما به من ضعف فهناك خمس عشرة دولة إفريقية جنوب الصحراء تفوق نسبة المسلمين فيها 70% والإسلام جبهة زاحفة بقوة في القارة الأفريقية ، ولذلك لا غرو إذا احتدام الصراع بين النصرانية والإسلام لتحويل قبلة القارة ودينها وحضارتها ، وقد عمل النصارى وفقا لمخطط تصبح بموجبة أفريقيا قارة نصرانية في عام 2000م ، وها قد جاء هذا العام ولم يحدث ما خطط له النصارى ، بل حدث عكس ما أرادوا ، إذ أن يزداد انتشارا في القارة السمراء ، ورغم ذلك فهناك أقليات مسلمة في أفريقيا تعاني من مشاكل ومصاعب معينة ، ونحن إذ نعرف الأقلية المسلمة لا نعرفها من حيث المعيار العددي وإنما من حيث إنها جماعات مستضعفة – رغم ثقلها العددي في بعض البلدان – لا تتمتع بوجود في السلطة السياسية ، والخدمة المدينة ، وليس لها نفوذ اقتصادي فاعل ، أو دور مؤثر في صياغة القرارات المصيرية ، فهم قابعون تحت سيطرة حكومات أقلية نصرانية ، تتحكم في مصائرهم ، وتعمل في معظم الأحيان على إبقائهما في حالة من التخلف والانحطاط ، ومن ثم فإنه تلك الأقليات المسلمة في أفريقيا تواجه العديد من المشاكل والتحديات .
قضية فلسطين :
قيام دولة الصهاينة في فلسطين المسلمة في 15 مايو 1948 م كان نتيجة جهود كبيرة قامت بها الحركة الصهيونية السياسية ، بمؤازرة ودعم الاستعمار البريطاني الذي جثم على أرض فلسطين قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى عام 1948 م .
1- الصهيونية وفلسطين :
بدأ التحضير لاغتصاب فلسطين على أيدي الصهيونيين خمسين عاماً قبل إعلان دولة الكيان الصهيوني في فلسطين في مايو عام 1948 م ، وذلك عندما أقر المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في مدينة " بال " بسويسرا في مايو عام 1897 م ، وحضره أكثر من مائتي يهودي الجاليات اليهودية في سبعة عشر دولة ، مبدأ إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي يحميه القانون العام .
ويعتبر ثيودور هرتزل ، وهو يهودي مجري ، ومولف كتاب " الدولة اليهودية " ( باللغة الألمانية ) أول من حول آمال العودة لدى اليهود إلى أرض الميعاد – فلسطين – من مجرد أمل وحلم ديني ، إلى هدف سياسي ينبغي الوصول إليه بشتى الوسائل والسبل ، وقد أيد هذه الفكرة يهود قوميون آخرون .
وقد قال هرتزل في كتابه المذكور بضرورة إنشاء وطن قومي لليهود في الأرجنتين أو في فلسطين تدعمه وتسنده بريطانيا ـ إدراكاً منه أن الحركة الصهيونية لن تبلغ أهدافها إلا بدعم من إحدى القوى الأوروبية الفاعلة ، وذلك واضح في البرنامج الصهيوني الذي وصفه مؤتمر " بال " والذي يتلخص في النقاط الآتية :
1- استيطان يهودي لفلسطين بشكل منظم ، وعلى نطاق واسع .
2- تأمين حق شرعي للاستيطان معترف به دولياً .
3- إنشاء منظمة دائمة لتوحيد جهود اليهود من أجل خدمة القضية الصهيونية .
4- اتخاذ الخطوات التحضيرية للحصول على الضمانات الحكومية اللازمة لتحقيق أهداف الصهيونية .
5- تغذية الشعور والوعي القومي اليهودي .
ويتضح من برنامج مؤتمر " بال " أن الصهيونية حركة عنصرية ذات طبيعة استعمارية تهدف إلى اقتلاع يهود العالم من مجتمعاتهم التي يعيشون فيها عبر هجرات متصلة لخلق دولة قومية يهودية في فلسطين ، ومعنى ذلك أن الصهيونية قررت عامدة تحويل اليهود المضطهدين في المجتمعات الغربية إلى مهاجرين إلى فلسطين ، ثم مستوطنين فمحتلين لأراضي السكان المحليين بعد طردهم منها ..
ولم يكن غريباً أن يتجه " هرتزل " إلى القيصر الألماني ثم إلى السلطان العثماني " عبد الحميد الثاني " لنيل سندهما ، وعندما فشل في ذلك وجه جهوده الدبلوماسية نحو انجلترا حيث كانت الحركة الصهيونية تلقى التشجيع والمؤازرة من بعض كبار الساسة البريطانيين ، وقد توجت جهود " هرتزل " تلك في 2 نوفمبر 1917 م ، حينما أصدر وزير خارجية بريطانيا " بلفور " الوعد الشهير القاضي بمساندة بريطانيا لإقامة وطن يهودي قومي في فلسطين ، والوعد عبارة عن رسالة بعث فيها آرثر بالفور – وزير الخارجية الذي عمل بحماس لصالح الصهيوينة – إلى اللورد روتشيلد الثري الصهيوني المعروف ،
وغني عن الذكر أنه لا حق لليهود – تاريخياً – في أرض فلسطين كما يدعي الصهيونيون ، ففلسطين منذ السنة الخامسة عشرة الهجرية أرض إسلامية ، وهي قبل ذلك التاريخ أرض عربية ، وظلت كذلك على مدى خمسة آلاف عام ، والواقع أن الوجود اليهودي في فلسطين لم يتجاوز المائة والأربعين سنة ، وكان ذلك على فترتين :
الأولى : بين عام 1000 قبل الميلاد وحتى عام 927 قبل الميلاد ،
والفترة الثانية : بين سنتي 142 قبل الميلاد وحتى سنة 75 قبل الميلاد ، وواضح أنهما فترتان قصيرتان ، وعلى مدى زمني متباعد .
أما الأسباب التي دعت إلى نجاح اليهود لاستلاب الوطن الإسلامي في فلسطين فهي عدة ، من أهمها :
أ – التخطيط الصهيوني والصبر على المخطط :
أشرنا إلى هدف الصهيونيين في فلسطين ، وهو استيطانها ، عن طريق تنمية الهجرة ، وعن طريق شراء الأرض ، والبحث عن الحماية الدولية ، واستغلالها لمصلحتهم ، فهذا هو هدفهم ومخططهم والذي صبروا في سبيل الوصول إليه ، رغم الأحداث الجسيمة التي تواجه اليهود في شتى بقاع العالم ، مثل الاضطهاد الذي لقوه من ألمانيا النازية وغيرها من دول أوروبا ، ومثل المقاومة العربية التي كان يلقاها مشروعهم ونشاطهم الاستيطاني ، والتي لقيها مشروعهم الصهيوني من قبل الدولة العثمانية وسلطانها عبد الحميد ، والذي – حتى ساعة خلعه من الحكم – رافضاً لهجرة اليهود إلى فلسطين ..
ب – غياب التخطيط لدي الأمة الإسلامية :
وفي مقابل التخطيط للحكم من قبل الحركة الصهيونية ، كان قادة الأمة الإسلامية يفتقدون التخطيط في محاولاتهم الوقوف أمام المطامع الصهيونية في فلسطين ، وكانت مواقفهم لا تخرج عن كونها ردود أفعال لبعض ما كان يقوم به الصهيونيون من عمل منظم بغرض الهيمنة على أراضي فلسطين ، وطرد أهلها منها ، ثم إقامة دولتهم فيها ، ورغم توافر الإخلاص لدى بعض قادة الأمة الإسلامية والكثير من أفرادها ، إلا أن أفعالهم لم تتعد الاستنكار ، والشجب ، والتظاهر ، وغير ذلك من مظاهر الرفض ،
جـ - إبعاد الإسلام عن المعركة :
كان واضحاً للصهيونيين وحلفائهم الاستعماريين أن الإسلام هو الخطر الأول لو أدخل معترك القضية الفلسطينية ، وذلك بما ينطوي عليه من دعوة للجهاد ،واعتباره فرض عين إذا ما غزيت ديار الإسلام ، وبما يدعو إليه من تخطيط ، وإعداد معنوي ، وإعداد عسكري ، { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } ( ألأنفال : 60 ) ، وغير ذلك من الأوامر الربانية التي تدعو لمحاربة أعداء الله ، وبخاصة اليهود والذين كانوا وما زالوا أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين .
د – إقصاء الشعب الفلسطيني عن المعركة :
عندما أدرك الاستعمار البريطاني ، وكذلك الصهيونيون بسالة الشعب الفلسطيني ، وتصميمه الذود عن أرضه ومقدساته ، قرر إقصاء عن المعركة ، وإدخال العرب والجيوش العربية إلى أطراف تلك المعركة مع علمهم وإدراكهم لمدى ضغف تلك الجيوش ، ومدى تخاذلها وكان ذلك عندما قامت سبعة جيوش عربية لتخوض المعركة ضد الصهيونيين ، وبالنيابة عن الشعب الفلسطيني ، وكانت النتيجة التي خطط الاستعمار الغربي سلفاً أن هزمت تلك الجيوش ، وسلمت أراضي فلسطين جزءاً جزءاً إلى دولة إسرائيل المزعومة ، وعندما انتهت حرب فلسطين 1948 م تلك ، كان الشعب الفلسطيني قد تم إقصاؤه حربياً عن المعركة ، وبعد ذلك إقصاؤه سياسياً عنها ، فتحولت قضية فلسطين أمام هيئة الأمم المتحدة إلى نزاع بين دول ذات سيادة : دولة عربية مع دولة الكيان الصهيوني .. أضف إلى ذلك عمليات التصفية والإبادة التي تعرضت وتتعرض لها القيادات الفلسطينية ، خاصة المقاتلة منها ، عل أيدي بعض الحكام العرب ، فهناك المذابح التي تعرضت لها تلك العناصر الفلسطينية الوطنية في أيلول الأسود في الأردن ، وفي تل الزعتر..
2 – مرحلة العمل الصهيوني – البريطاني لتهويد فلسطين – 1337 – 1358 هـ / 1918 – 1939 م :
تعتبر هذه المرحلة من أدق المراحل القضية الفلسطينية ، إذ تمكنت بريطانيا خلالها من فرض انتدابها على فلسطين ، وفيها وقعت البلاد العربية في الشام والعراق تحت قبضة الاستعمار البريطاني والفرنسي ، وتمكنت الصهيونية والعلمانيون من أبناء الأتراك من إسقاط الخلافة العثمانية وإلغائها ، وتبنت دول الحلفاء في مؤتمر السلام وعد بلفور ،
وتمكن الإنجليز من الانفراد بفلسطين يؤسسون لقيام دولة صهيونية فيها .. وكان ذلك عن عدة طرق :
أ – تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين :
تزايدت الهجرة اليهودية إلى فلسطين تحت الانتداب ، وشجعت السلطات البريطانية في فلسطين تلك الهجرة ، ففتحت لها الباب على مصراعيها ، فبعد أن كان عدد اليهود في فلسطين عام 1339 هـ / 1919 م خمساً وخمسين ألفاً ، تزايد حتى وصل في عام 1368 هـ / 1948 م حوالي 650 ألفاً ، ورأى أهل فلسطين سيول المهاجرين اليهود الغرباء تغزو بلادهم دون أن يستطيعوا وقفها ، وكان اليهودي يمنح الجنسية الفلسطينية قبل أن يطأ أرض فلسطين .
ب – انتقال ملكية الأراضي إلى المهاجرين اليهود :
عملت الحكومة البريطانية على تشجيع انتقال ملكية الأراضي لليهود ، بحيث سنت القوانين والتشريعات التي تجعل الزراع الفلسطينيين في حالة من الفقر ، بحيث يتخلون عن أراضيهم للوكالة اليهودية ، والمنظمات الصهيونية الأخرى التي عمدت إلى شراء تلك الأراضي الزراعية ، مع العمل على طرد المزارعين الفلسطينيين منها ، وإحلال المستوطنات اليهودية مكانهم ، كما أن الحكومة منحت اليهود أراضي واسعة مما كان أيام العثمانيين أملاكاً للدولة ليقيموا عليها مستعمراتهم ، فرفعت بذلك نسبة الملكية اليهودية للأراضي في عام 1948 م إلى 14 % ، بينما كانت النسبة في القدس لا تتعدى 4 % .
جـ - اعتراف بريطانيا بالوكالة اليهودية :
اعترفت بريطانيا بالوكالة اليهودية ورئيسها حاييم وايزمان تشرف على أمور اليهود السياسية ، والتعليمية ، والاقتصادية والعسكرية ، فكانت دولة داخل دولة ، في الوقت الذي حرمت فيه العرب أي إشراف عل أمورهم ، كما عملت بريطانيا على تهويد الإدارات الحكومية بجعلها في أيدي اليهود صهيونيين ، أو إنجليز يهود ، أو إنجلترا معروفين بتعاطفهم ومساندتهم للصهيونية ، من أمثال هربرت صموئيل – المندوب السامي البريطاني في فلسطين في عام 1339 هـ / 1920 م ليشرف بنفسه على تهويد فلسطين ، فازدادت الهجرة ، حيث دخل اليهود المهاجرون فلسطين عن عدة طرق مستفيدين من قانون الهجرة الأول الذي أصدرته الحكومة البريطانية لينظم عملية دخولهم رسمياً لفلسطين ، الأمر الذي أدى إلى زيادة أعدادهم بعد أن كانوا أقلية ،
وقامت حكومة الانتداب بتوفير الحماية الاقتصادية لليهود ، وذلك بتقديم المساعدات المالية اللازمة للتنمية ، فخفضت رسوم المواد الخام التي تحتاجها الصناعة اليهودية من الخارج ، كما منحتهم امتيازات أخرى مثل السماح بتسليحهم ، وتجفيف بحيرة الحولة ، والحصول على امتياز من الحكومة البريطانية لمدة سبعين عاماً ، لاستغلال مياه نهر الأردن واليرموك عام 1926 م ، وعدلت الحدود الشمالية لفلسطين لتسهيل عملية تحويل مجرى نهر الأردن ، إضافة إلى كل ذلك مكنتهم حكومة الانتداب من الإدارات الحكومية في فلسطين ، فمثلاً اعترفت باللغة العبرية لغة رسمية إلى جانب العربية والإنجليزية ، ومنحت اليهود حق الإشراف عل شئونهم التعليمية ، بينما ظلت شئون الفلسطينيين في أيدي الموظفين الإنجليز واليهود .
3 – موقف أهل فلسطين :
أدرك أهل فلسطين من الوهلة الأولى أبعاد خطر تصريح بلفور الرامي إلى إقامة دولة يهودية في بلادهم ، فعارضوه بشدة ، كما عارضوا انتداب بريطانيا على فلسطين ، وتضمين وعد بلفور صك ذلك الانتداب آراء عرب فلسطين – كما صورتها المنشورات التي كانت تصدرها جمعياتهم مثل الجمعية الإسلامية المسيحية تتلخص في :
1- وحدة سوريا و فلسطين – سوريا الجنوبية – جزء لا يتجزأ من سوريا .
2- الرفض بالسماح بأن تتحول فلسطين إلى وطن قومي لليهود ،
3- التفريق بين اليهود الفلسطينيين ، واليهود القادمين من الخارج ، واعتبار اليهود الفلسطينيين مواطنين يتمتعون بالحقوق والواجبات التي يتمتع بها بقية سكان فلسطين .
وكان واضحاً للإدارة البريطانية العسكرية في فلسطين آنذاك أن عداء السكان الفلسطينيين للصهيونية عداء ذو جذور عميقة ، وأنه آخذ في التحول إلى عداء للبريطانيين ، وأن فرض البرنامج الصهيوني بالقوة عليهم سيؤدي إلى انفجار خطير ، وأن الفلاحين كانوا أكثر استعداداً من سائر فئات المجتمع للثورة والتضحية ، وذلك للأضرار التي لحقت بهم برامج ومطامح الصهيونية ، فقد قاطع اليهود اليد العربية العاملة في المستعمرات اليهودية ، كما عارضوا برنامج القروض الزراعية للفلاحين..
وهكذا دخل الكفاح ضد الصهيونية والاستعمار مرحلة جديدة ، فعقدت مؤتمرات فلسطينية ، كان أحدها المؤتمر الفلسطيني الثالث في حيفا في ديسمبر 1920 م والذي حضره ممثلون عن الجمعيات الإسلامية المسيحية والجمعيات الأخرى من مختلف أنحاء فلسطين ، وأشار البيان الصادر عن ذلك المؤتمر إلى عدم شرعية الإدارة البريطانية لأنها تمارس سلطاتها دون مجلس تمثيلي ، واعترض الأعضاء على اعتراف الحكومة بالمنظمة الصهيونية هيئة رسمية ، وباللغة العبرية لغة رسمية وكذلك استخدام العلم الصهيوني ، وقبول المهاجرين الصهيونيين ، وأعلنوا عن ميثاق وطني للحركة العربية في فلسطين يقوم على ثلاثة مبادئ :
1- شجب السياسة الصهيونية التي تنطوي على إقامة وطن قومي لليهود ، والمبنية عل تصريح بلفور .
2- رفض مبدأ الهجرة اليهودية .
3- إقامة حكومة تمثيلية وطنية .
وفي ظل الهجرة الصهيونية المتزايدة إلى فلسطين بسبب الاضطهاد النازي لليهود في أوروبا ، وتجاهل الإدارة البريطانية للمطالب الفلسطينية وانحيازها التام للصهيونية ، ظهرت دعوات للجهاد ضد الحكومة الحامية الحقيقية للصهيونية في فلسطين ، كدعوة الشيخ عز الدين القسام ، التي تطورت في عام 1354 هـ / 1935 م إلى ثورة مسلحة ضد البريطانيين والصهيونيين كبديل وحيد للحيلولة دون إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ، ولكن قبل أن يتمكن " القسام " من تدعيم حركته استشهد قرب حنين أثر صدام عرضي وقع بين جماعته وقوات من الجيش والبوليس ، واستشهد معه اثنان من أتباعه ، وأسر خمسة آخرون واختفى الباقون في الجبال وسرعان ما أصبحت ذكرى حركته رمزاً للتضحية والفداء ، وغدت كل محاولة لإقامة تقارب بين الفلسطينيين والسلطات الحكومية مكتوباً عليها بالفشل ،
أ – الثورة الفلسطينية الكبرى : 1355 هـ - 1358 هـ / 1936 م – 1939م :
كان التوتر بين العرب واليهود يزداد حدة طوال عام 1953 م وذلك نتيجة لاعتراض الصهيونية على إنشاء المجلس التشريعي الذي اقترحته الإدارة البريطانية ، وكذلك بسبب استمرار الهجرة اليهودية ، وبيع الأراضي على نطاق واسع ، ومن ثم فقد أدى حادث بسيط إلى اندلاع الثورة ، وهو إنه في الخامس عشر من أبريل عام 1936 م قتل رجل يهودي ، وأصيب يهودياً بجروح خطيرة في الطريق بين نابلس وطولكرم ، وأتهم العرب بأنهم وراء هذا الحادث ، ورد اليهود بقتل عربيين ، وبهجمات على العرب وتفاقم الموقف ، ووقع صدام بين العرب واليهود عند حدود يافا – تل أبيب ، وأصيب عدد من كلا الجانبين بجروح ، وتطور الأمر أكثر عندما أعلنت بعض الجمعيات العربية في نابلس الإضراب العام في البلاد كلها – على أن يستمر الإضراب حتى تستجيب الحكومة للمطالب العربية ، وذلك هو الإضراب الذي استمر ستة أشهر ، ثم تحول إلى حركة مسلحة شملت كل أنحاء فلسطين ، واشترك فيها مجاهدون من مختلف البلاد العربية والإسلامية .
وقد عجزت بريطانيا بقواتها العسكرية ، ووسائلها القمعية عن القضاء على هذه الثورة ، فلجأت إل مناشدة الزعماء العرب بالتدخل ، وبالفعل تدخل الملوك والحكام العرب ، وأوقف أهل فلسطين الثورة ، وأنهوا الإضراب ، بعد أن وعدهم أولئك الزعماء بان بريطانيا ستحل قضيتهم حلاً عادلاً .
وأكد القادة الفلسطينيون أمام لجنة التحقيق الملكية البريطانية التي أرسلت إلى فلسطين لتحري أسباب الثورة عدم شرعية وعد بلفور ، وكذلك الانتداب البريطاني على فلسطين ، وطالبوا بإلغاء الانتداب وبإقامة حكم وطني مستقل ، وقالت اللجنة الملكية في تقريرها أن أسباب ثورة عام 1936 م تعود إلى رغبة العرب في الظفر بالاستقلال الوطني من جهة وخوفهم من إقامة وطن قومي يهودي في بلادهم من جهة أخرى
وكانت الحرب العالمية الثانية على الأبواب ، وبدأت بريطانيا بالخطر الصهيوني ، وأرادت التخلص من المشكلة ، فأصدرت كتابها الأبيض عام 1358 هـ / 1939 م عدلت فيه مشروع التقسيم ، وحاولت فيه تحديد الهجرة اليهودية ـ وتحديد انتقال الأراضي إلى اليهود ، ثم منح البلاد الاستقلال بعد عشرة سنوات وعارض الفلسطينيون الكتاب الأبيض ، بوصفه لا يحقق مطالب العرب التي تتخلص في أن نظفر فلسطين باستقلالها ضمن اتحاد فيدرالي عربي ، وتبقى عربية للأبد وعارض الصهيونيين كذلك الكتاب الأبيض ، وتعاهدوا على مقاومته بالعنف والإرهاب ، فقامت عصاباتهم مثل " شتيرن " و " الأرغون " بغارات على الثكنات العسكرية البريطانية ، والمستودعات والمطارات وأخذت تنسف دور الحكومات والمرافق العامة ، وقتلت عدداً من الضباط والجنود البريطانيين ، واغتالت اللورد " موين " وزير الدولة البريطانية في القاهرة .. كما قامت وسائل إعلامهم خارج فلسطين بحملة دعائية ضد
الكتاب الأبيض مستغلة في ذلك **** " اللا سامية " واضطهاد النازية لليهود ، وغيرها من الأمور التي حاولوا عن طريقتها كسب الرأي العالمي ، وتعاطفه مع آمالهم القومية في فلسطين.
واهتمت الصهيونية أثناء ذلك بالتنجيد والتدريب العسكري فكونوا " الهجاناه " وهي قوة عسكرية تابعة للوكالة اليهودية ، وألفوا المنظمات السرية الإرهابية من أجل إقامة دولة إسرائيل الكبرى الممتدة من الفرات إلى النيل ، وقد اتحدت هذه العصابات لتكون في عام 1947 م جيش الدفاع الإسرائيلي .. وفي مقابل هذه الاستعدادات العسكرية لم يكن للفلسطينيين أي منظمات عسكرية مسلحة ، أو حتى جماعات مسلحة ، وبدأ الفارق العسكري بين اليهود والعرب في فلسطين واضحاً ، وهو فارق استمر وتزايد حتى يومنا هذا وعليه تعتمد إسرائيل في تجاهلها للحقوق الفلسطينية ، بل ولجيرانها العرب الآخرين .
ب – الجهود الصهيونية لإقامة الدولة :
ولم يكن غربياً إذن أن يساند الرئيس الأمريكي " روزفلت " الحركة الصهيونية في مسعاها لإقامة دولة صهيونية في فلسطين ، فاجتمع بالملك عبد العزيز آل سعود عاهل المملكة العربية السعودية في البحيرات المرة في عام 1945 م محاولاً إقناعه بالموافقة على تلك الدولة الصهيونية ، ولكن الملك المسلم رفض ذلك رفضاَ تاماً لأن موقفه كان دائماً إلى جانب الحق العربي في فلسطين وإلى جانب رفض الهجرة اليهودية ، فقد كان مدركاً لمطامع الحركة الصهيونية وإلى خطرها على فلسطين وعلى البلاد العربية أيضاً .. بل إنه كان دائماً يحاول وبكل السبل إثناء بريطانيا عن مساندتها للصهيونية ، وكان يمثل بموقفه هذا موقف كل مسلم غيور على دينه ومقدساته .. المسلم الرافض لتأسيس الكيان الصهيوني على أقدس بقعة من أرض الإسلام بعد الحجاز .
واندفع الرئيس " ترومان " الذي خلف " روزفلت " في تأييد الصهيونية ، وممارسة الضغط على بريطانيا من أجل إعلان الدولة اليهودية ، وزيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين حتى يتحقق لليهود الغلبة العددية ، وقد خضعت الحكومة البريطانية لتلك الضغوط وأظهرت ذلك فيما أوصت به لجنة تحقيق بريطانية – أمريكية في عام 1946 م بالسماح لمائة ألف يهودي بالدخول إلى فلسطين ....
4 - قيام إسرائيل :
بانسحاب بريطانيا ، أعلن بن جوريون قيام دولة إسرائيل في 15 مايو 1948 م ، واعترفت بها بريطانيا لحظات بعد إعلانها ، وأعقبها الاتحاد السوفيتي ، ثم كل دول أوروبا الغربية ، كما اعترفت بها تركيا ، وإيران الشاه – فكانت أول دولتين إسلاميتين تعترفان بدولة الكيان الصهيوني .
ثم تلت من بعد ذلك مرحلة تثبيت الدولة الصهيونية التي امتدت من عام 1368 هـ إلى عام 1387 هـ / 1948 م – 1967 م ، وكانت أولى أحداث تلك الفترة دخول الجيوش العربية أرض فلسطين ، من الأردن ، وسوريا ، ولبنان ، والعراق ، ومصر ، والمملكة العربية السعودية ، وقد لاقت تلك الجيوش بعض النجاح في الطور الأول ، ولكن الضغط الدولي أجبرها على قبول الهدنة ، التي استغلها اليهود في تسليح جيشهم في حين طبق حظر على تسليح الدول العربية ، وعندما استؤنف القتال أصيبت الجيوش العربية بانتكاسات وهزائم متتالية ، ثم كانت هدنة " رودس " مع كل من مصر ، ولبنان ، والأردن وسوريا عام 1949 م ، والتي سيطرت إسرائيل بموجبها على 77 % من الأراضي التي خصصت لليهود بموجب قرار التقسيم ، وفي مارس 1950 م أصدرت الدول الاستعمارية الثلاث : الولايات المتحدة ، بريطانيا ، وفرنسا التصريح الثلاثي بضمان حدود إسرائيل ، والمحافظة على كيانها الصهيوني من أي خطر محتمل يتهددها
مرحلة التوسع اليهودي 1387 – 1409 هـ / 1967 – 1988 م :
اشتركت إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر عام 1376 هـ / 1956 م وقد كسبت فيه : فتح خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية ، والاتصال بأفريقيا ، وهو أمر هام جداً لإسرائيل .
ثم قامت إسرائيل بتحويل مياه نهر الأردن إلى النقب ، لاستيعاب مهاجرين جدد هناك ، وليصبح النقب قاعدة انطلاق لليهود الصهيونيين صوب شبه الجزيرة العربية ، ووادي النيل .
ثم جاءت حرب أكتوبر 1967 م – حرب الأيام الستة ، ونتائجها ماثلة أمام أعيننا الآن ، احتلال القدس الشرقي ، والضفة الغربية وهضبة الجولان ، شبه جزيرة سينا ، ومحاولات الصهيونية إزالة المسجد الأقصى ، وبناء الهيكل المزعوم مكانه .
ثم كانت حرب رمضان 1393 هـ / 1973 م – وعبور الجيش المصري خط بارليف والسند الأمريكي العاجل والهائل لإسرائيل .
ثم جاءت اتفاقيات كامب دافيد – سبتمبر 1978 م ، وما نتج عنها ، من توقيع اتفاق السلام بين مصر ودولة الكيان الصهيوني ، وتمزق الوحدة العربية الذي تلى ذلك السلام ، وتداعيات الأحداث التي نشهدها ونعيشها اليوم .
وتبقى في النهاية النتيجة المرة ، وهي : أن الشعب الفلسطيني اليوم موزع لاجئ ، يعيش أبناؤه مرارة اللجو ، وفلسطين غير موجودة على الخريطة السياسية ، ومكانها دولة الكيان الصهيوني التي أدخلت في روع العرب أنه لابد من الاعتراف بها ، فهي – كما يدعي قادتها – أمر واقع وأنه لا قبل للعرب من استرجاع فلسطين ، فالدولة الصهيونية قوية لا يمكن قهرها ، وأنه لا بد من السلام معها ، شاء العرب أم أبوا .