|
ملتقى المواضيع العامة منتدى المواضيع العامة والنقاش الهادف |
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
ما رأيكم بهذا المقال ؟ " اوروبا وكفاح العقل المستنير"
أوروبا وعصور الظلام.. كفاح العقل المستنير (1) محمد بن علي المحمود يرى بعض الباحثين أن الرجوع الأوروبي، في أواخر القرون الوسطى، إلى الزمن الإغريقي خاصة ؛ كان بسبب الاتصال التاريخي، الذي يربط التاريخ الأوروبي بتاريخ الإغريق، أي Ma573573@hotmail.com
أنه رجوع إلى جذور الذات، وليس رجوعا واعيا بأنه يمارس التعقل من خلال التاريخ. لا يستطيع أكثر المفكرين المعاصرين تعصبا ونرجسية، أن ينكر، أو حتى يتجاهل، حقيقة أن الأفق المعاصر للوعي، هو أفق غربي بامتياز، وأن الغرب كان - ولا يزال- هو مصدر النظريات المعرفية المعتمدة، وصانع الأسئلة الكبرى، ومقرر مسارات المعاصرة. بينما بقية العالم من حوله - بما فيه العالم الشرقي المتقدم في سياق التقانة - يبقى متمحورا حوله، متطلعا إلى آفاقه التي لم تتخلق بعد، بوصفها المستقبل الذي يصنع التاريخ. هذا العالم الغربي الذي يمثل الاستنارة في أبهى صورها الممكنة حتى الآن، هو - في الوقت نفسه - الوجود المادي المتعين للتصورات العقلانية التي صنعها العقل في رحلته الممتدة لأكثر من أربعة قرون. انتصارات العقل، وإحداثيات الواقع التي تستجيب له، وتدعمه في آن، هي الجدلية التي خلقت العقلانية الغربية، منذ التنوير ، وإلى أزمنة ما بعد التنوير، في صورتها التي هي عليه الآن. لم يخرج العقل المستنير من فراغ، لم يخلق هكذا ابتداء، وإنما خرج من رحم الظلام، متوقدا بصراعه مع قوى الظلام. لكن، إذا كان صراعه مع قوى الظلام، هو الذي صنع هويته من خلال النقيض، فهل يستطيع هذا الظلام الحالك، أن يوجد مكونات هذا العقل المستنير الذي سيبدد ظلمته فيما بعد؟. طبعا لا، فلا بد من أن تأتي مكونات هذا العقل من عالم آخر، من زمن مغاير، زمن كان للعقل فيه مكان، وللتعقل فيه إمكان. وكان الزمن الإغريقي، هو الجذوة المقدسة التي اسطلى بها هذا العقل، حتى أوقد شموع المعرفة للإنسانية جمعاء. يرى بعض الباحثين أن الرجوع الأوروبي، في أواخر القرون الوسطى، إلى الزمن الإغريقي خاصة ؛ كان بسبب الاتصال التاريخي، الذي يربط التاريخ الأوروبي بتاريخ الإغريق، أي أنه رجوع إلى جذور الذات، وليس رجوعا واعيا بأنه يمارس التعقل من خلال التاريخ. ومع أن هذا فيه الكثير من الصحة، إلا أنه يتجاهل المستوى (النوعي) من التفكير، ذلك المستوى الذي شكّل إغراء لكل من تماس معه، حتى ولو لم يكن هو إياه في سياق تاريخي واحد، بل حتى وإن كانت البنية الذهنية في تناقض عميق معه. لقد أصبح من بديهيات تاريخ الفكر، أن الثقافة الإغريقية انطوت على مستوى نوعي من التفكير. فالإغريق هم أول من استخدم العقل بطريقة منظمة، وهم أول من اهتم بنسج النظريات العامة، التي تعالج الإشكاليات الكبرى. كما أن تراثهم يتضمن كثيرا من المقدمات التي قامت عليها العلوم الفلسفية والنقدية والسياسية والنفسية والاجتماعية. إنها بذور لا يستهان بها، تم وضعها في سياق نظري، يدل على أنها لم تكن مجرد خواطر عابر، وإنما اشتغال عقلي واعٍ بكنه ممارسته. وهذا هو أساس العلم. هذا التاريخ - وليس غيره - هو الذي رجع إليه الأوروبيون، بداية من القرن الثاني عشر الميلادي، في رحلة انبعاث العقل، بعد أن طمرته القرون الوسطى التي امتدت لألف عام، بداية من القرن الخامس الميلادي، وحتى القرن الخامس عشر. ألف عام، ليست كتلة صامتة من الظلام، ولكنها - في مجمل سياقها - ضمور شديد في مكانة العقل، يقابلها تعزيز أعمى لليقينيات الماورائية، وتوظيف للخرافة، إلى درجة اعتبارها علما!. لم تنته هذه القرون المظلمة بين عشية وضحاها، وإنما احتاج التخلص منها أكثر من ثلاثة قرون من الكفاح الفكري والعلمي. بل ربما كان التخلص التام من هيمنتها، لم يتحقق إلا في نهاية القرن الثامن عشر، أي أن خمسة قرون أو أكثر، امتدت من القرن الثاني عشر، إلى الثامن عشر، كانت ميدان الصراع لتنصيب العقل المستنير، وتجفيف ما بقي من مستنقعات الظلام. وهذا يدل على أن الحد التاريخي الفاصل، الذي تظهره عمليات التحقيب، لا وجود له، وإنما هو مسألة نسبية تطرح للتوضيح ؛ لأنه لا يوجد حدث واحد، ولا قرار واحد، يمكن أن ينقل الوعي من عالم الخرافة إلى عالم العقل. طبعا، وكما يعرف الجميع، كانت العصور المظلمة، هي عصور هيمنة الكنيسة، وتحكمها في مجالي السلطة: الروحي والزمني. كان الوعي بمجمله دينيا، والعقل غائبا ومغيبا. لكن، الكنيسة، لم تزعم يوما أنها ضد العقل، ولا انها تعادي العلم صراحة، فهذا لو حدث، كان كفيلا بزعزعة الثقة فيها. كان للكنيسة عقل، ولكنه رهن الاعتقال. عقل الكنيسة فيه كل المواصفات، إلا صفة التفكير والنقد والفحص والمساءلة. كان عقلا يتدروش على المنقول، يبرر، ويعزز، ويكرر، ويدعم اليقين والجمود. القديس أوغسطين، بما هو روماني بثقافة إغريقية، زاوج بين المبادئ المسيحية، والعقل اليوناني، في بدايات القرن الخامس الميلادي. حاول إنتاج ما يمكن أن يسمى: معقولية الدين. ولهذا اعتبر - بحق - من المؤسسين الكبار للمسيحية ؛ إذ أصبحت بفضله تمتلك الأطر النظرية التي تحجب التناقض الصريح، وتعقلن الخرافة الصارخة!. وهذا العمل التلفيقي، لا شك أنه سيقنع البسطاء والسذج، بأن ما ليس معقولا في تراثهم الديني، أصبح معقولا، فقد درأ تعارض العقل والنقل، وأقام الصلح بين بينهما ؛ فأصبح المنقول الصحيح موافقا للمعقول الصريح. إذن، ليس هذا عقلا مجردا، وإنما هو عقل تم وضعه لخدمة المسيحية التي يتوسل بها الكثير إلى منافذ سلطوية، ومكاسب دنيوية، في غاية الابتذال. وحتى ما قام به القديس تما الأكويني في القرن الثالث عشر، من دمج الفلسفة الأرسطية بالمسيحية، لم يكن تعقيلا حقيقيا للمسيحية، ولكنه كان تديينا للعقل. لم تربح - حقيقة - المسيحية، ولكن خسر أرسطو، ومن ورائه العقل. فيما فعله هذان القديسان، لم يكن هناك عقل فاعل، وإنما هناك عقل معتقل بتفاصيل التهويمات الكنسية. هذا العقل استحال من ممارسة ذات فاعلية متجددة، إلى آلية جدلية، مهمتها الدفاع عن النتائج اليقينية الإيمانية المحددة سلفا. العقل هنا، عقل لا ينتج، ولا يخترع، ولا يبحث، ولا يتساءل، وإنما يحفظ، ويبلغ، ويقرر، ويثبت، ويؤكد، ويشرح. واضح جدا، أن مثل هذا العقل الذي امتهن نفسه في خدمة الخرافة لم يعد عقلا محررا للإنسان، وإنما هو عقل أسطوري، يتم تقييد الإنسان فيه، ومنعه من ممارسة حرية التفكير. وطبيعي أن يساعد مثل هذا العقل على امتهان الإنسان، ويبرر القمع، ومصادرة الحريات، واضطهاد المفكرين، ويدعم نشر الخرافة والدجل باسم الدين. بداية من عصور الظلام في القرن الخامس، لم يعد مسموحا لأحد بمناقشة مسائل الدين المسيحي، ولا أن يرتاب في الحق المقدس لرجال الدين. وساعد على هذا، أن المؤسسات الكنسية ترسخت وتجذرت في الواقع، وأصبحت لها مصالحها التي ترعاها، والتي تتضخم يوما بعد يوم. وكلما ازداد نفوذ الكنيسة، وتوسعت علاقاتها مع القوى المهيمنة، زاد قمعها، وضاقت صدور رجال الدين بكل من يخترع لنفسه طريقا غير طريقهم، أو يشتغل بعلوم ليست من علومهم. كان على الإنسان الذي يريد أن يبحث لنفسه عن مكانة ما، أن يحوز ابتداء على رضا رجال الدين، وان يقدم لهم الولاء الضمني أو الصريح، الذي يؤكد فيه أنه الخادم المطيع لهم، في كل صغيرة وكبيرة من شأنه. وهو إذ يفعل ذلك، يدرك أنه لا وجود له - اجتماعيا - دون هذا الرضا، ولا قيمة لما يقوم به - في اعتقاده - دون هذه المباركة التي تحقق له خيري الدنيا والآخرة!. يزداد الأمر سوءا ومأساوية ؛ عندما يكون الإنسان المسيحي في عصور الظلام من رجال الفكر أو الأدب. ذلك أن الاشتغال في الحق المعرفي أو الأدبي، يعني أن هناك اشتباكا مع المعاني بالضرورة. والإنسان لا يفكر في فراغ، وإنما في سياق ما هو فيه. وهذا يعني خطورة أن يحاول أحد ما، إنتاج المعنى المستقل، أي أن يحاول استخدام عقله خارج نطاق الوصاية المفروضة على الجميع، وعلى رجال الفكر والأدب خاصة. كل شيء يمكن أن يسمح به رجال الدين، وكل شيء يمكن أن تتسامح معه الكنيسة، إلا العقل المستقل بنفسه عن وصايتها. وبما أن الإنسان بطبيعته يميل إلى التفكير والتجريب، ويكره الوصاية والإكراه، فقد عمد رجال الدين إلى سياسة الترغيب والترهيب ؛ لقمع أية بادرة من بوادر التفكير خارج محاضنها. لقد قاموا - ببسالة - بنشر المواعظ الدينية بكثافة هائلة، حتى أغرقوا الوجدان العام بها. وكانت هذه المواعظ، تمتلئ بصور العذاب الرهيب والجحيم السرمدي، الذي ينتظر المتنكرين لأوامر الله (أوامر الله بزعمهم، وإلا فهي أوامرهم)، وبصور النعيم الدائم، والغفران الكامل للمطيعين الخانعين. وزيادة في إلهاب العواطف، وتطويع الوجدان، وتدعيم الوعي الخرافي الذي يسهل اقتياده واستعباده، تتخلل هذه المواعظ قصص المعجزات والكرامات المزعومة للقديسين!، فبعضهم يزعم أن العذراء أنقذته من الغرق، أو ظهرت له في مصلاه، أو..إلخ. قد يعجب المرء، كيف يصدق الناس مثل هذا المستوى المروع من التخريف؟ ويغيب عنه أن هذا كان قبل عصور العلم، قبل القرن الخامس عشر الميلادي في الغرب المسيحي، حينما كان التفكير بمجمله خرافيا، والوعي الأسطوري هو المهيمن على تصرفات الناس. وهم - كجماهير بائسة - معذورون إذ يفكرون بمثل هذه الطريقة، ويصدقون هذه المعجزات ؛ لأن هذا أفق الوعي المسموح به في عصرهم. ولكن، للأسف، لا زال بيننا - في هذا العصر - من يصدق بمثلها، أو ما هو قريب منها!. كان الوعاظ الكنسيون في القرون الوسطى المظلمة، يستخدمون (كل شيء)، في سبيل إشاعة التقوى والورع لدى عامة الناس ؛ حتى يضمنوا أنهم لن يخرجوا عن طوعهم، وأنه سيبقون أوفياء لمقولاتهم، وخانعين لنفوذهم المعنوي. إنها قصص مكذوبة، وأحاديث ملفقة، ودموع جارية، وأصوات متهدجة، يقوم بها رجال الدين - حقيقة أو تمثيلا! - لتحقيق أكبر قدر من التأثير في قلوب وعقول الجماهير، التي تصبح مدمنة على مثل هذا التخدير، الذي تظن أنه طريقها إلى رضا الله، وأنها بهذا تحقق الخلاص، الذي تضمن به النعيم الأبدي في الآخرة. تتحدد مكانة رجل الدين في السلم الكنسي، بمقدار ما يحقق من تطويع الناس للتعاليم الكنسية. والناجح منهم في هذا المضمار، تصبح كلمته مسموعة بين الناس، ورأيه هو الرأي المبارك. ولأجل هذه المكانة العالية لرجال الدين في قلوب الناس البسطاء، ولأجل أن يتوفر للإنسان رزق مضمون من موارد الكنيسة، أصبح الناس يتمنون أن يصبح أبناؤهم رهبانا في الأديرة، بل إن بعضهم كان ينذر ابنه للدير ؛ كي يحوز هذا الابن المكانة الاجتماعية التي يحظى بها الراهب، ويحظى الأب برضوان الله وغفرانه. بهذا شلت الكنيسة وعي المجتمع، وأوقفت حركته الإيجابية، وشرعت للجمود طوال فترة نفوذها في العصور الوسطى. لم يكن هناك تعليم إلا ما كان ملحقا بالكنيسة، ولم يكن هناك متعلمون أحرار، مسموح لهم بممارسة نشاطهم العلمي ؛ إلا رجال الدين. بل إن بداية نشوء المدارس، إنما كانت حول مراكز الأديرة، أو كملحقات بالكاتدرائيات. وفي هذه الحال، فالكنيسة هي التي أسست لما تسميه: علما. ومن حقها - حينئذٍ - أن تحتكره لنفسها!. الناس كانوا جهلة. ولهذا سهل التعالم عليهم، واستغفالهم وتطويعهم. وكان القساوسة هم الذين يعرفون القراءة والكتابة، حتى شاع أن من يعرف القراءة والكتابة فهو قسيس بالضرورة. وكي ينال الإنسان حظا من التعليم، فلا بد أن يلتحق بسلك رجال الدين. هذا حصار رهيب، حفظ المكانة العليمة المرموقة لرجل الدين، ومنعها عن كل أحد سواه ؛ من أجل أن تستمر عملية مصادرة العقل، إلى الدرجة المروّعة، التي يصبح فيها مصدر الجهل والدجل والخرافة، في أعين الناس مصدر العلم، ويغدو منتجو خطاب الجهل، محل تقدير واحترام، بوصفهم منتجي خطاب العلم والمعرفة. هكذا احتكرت الكنيسة المعرفة، أو ما تسميه: معرفة. ولكن ظهور الطباعة أنهى احتكارها للكلمة المطبوعة، وأصبحت قدرتها على الرقابة أقل، وإن كانت قد غدت أشد حرصا على المنع ؛ لأن الكتاب بعد الطباعة لم يعد ينسخ بالعشرات كما كان من قبل، وإنما أصبح عدد النسخ بالآلاف. ومن هنا فخطرها - كما يرى رجال الدين - أشد ؛ لاتساع حجم القراء من جهة، وعدد النسخ من جهة أخرى. لم يجد رجال الدين لمنع انتشار المعرفة إلا المنع، ومصادرة الكتب. وهكذا يفكر التقليدي، في مواجهة الوضعيات غير التقليدية. إحساس رجال الدين أن حزمة الأفكار التي يحملونها، لا تستطيع الصمود أمام العقل الناقد المتسائل، هو ما جعلهم يواجهون هذا الانفراج المعرفي الذي وفرته الطباعة، بإصدار فرمانات المنع المخزية، وبيانات التحذير والتهديد والوعيد، التي تدل على مستوى الرعب الذي أحس به رجال الدين من انتشار المعرفة بين الناس. إنها أساليب - على قدمها في أوروبا - تشبه أساليب التقليدي اليوم، في ملاحقة الكتاب، وإدانة مؤلفه، والتحذير من الاطلاع على بعض ما يكتب هنا أو هناك. إنها عقلية الوصاية. يقول وِل ديورانت، في قصة الحضارة، ج 27، ص 239" وفي عام 1559نشر بولس الرابع أول فهرس بابوي بالكتب المحظورة، وقد ورد فيه ثمان وأربعون طبعة مهرطقة للكتاب المقدس، وأوقع الحرم على واحد وستين طابعا وناشرا. وقد فرض على كل كاثوليكي الامتناع عن قراءة أي كتاب نشر منذ سنة 1519دون أن يحمل اسمي المؤلف والناشر ومكان النشر وتاريخه، وحرمت قراءة أي كتاب بعد ذلك لم يحصل على إذن كنسي..إلخ ". في هذا النص الموجز، نرى رجال الدين الكنسي، بذهنية التحريم، يصادرون حرية الناس في القراءة والاطلاع. وهذا النص لم يكن ليصدر ؛ لولا أن الناس أخذوا في التململ، ولولا أن رجال الدين أحسوا بأن نفوذهم إبان العصور الوسطى - حيث لا يسمع إلا لهم - في طريقه إلى الزوال. زال زمن هذا النص المؤلم وأمثاله من أوروبا، بفضل كفاح العقل المستنير، الذي بدد ظلام القرون الوسطى، وعرى خرافات رجال الدين، ومهد للحضارة المعاصرة. لكننا بعد أربعة قرون ونصف، من هذا الفرمان البابوي، نسمع على امتداد العالم الإسلامي، من يقول: لا تقرأ هذا الكتاب، فهو حرام، ولا تشاهد هذا الفيلم فهو حرام، ولا تتابع هذا المسلسل، فهو حرام، ولا.... فهو حرام!. مما يعني أننا لم نخرج بعد من القرون الوسطى، وأننا لا نزال إلى اليوم نعيش في القرن الخامس عشر الميلادي. |
2007- 9- 21 | #2 |
:: أكــــاديـــمــي ::
|
رد: ما رأيكم بهذا المقال ؟ " اوروبا وكفاح العقل المستنير"
أوروبا وعصور الظلام.. كفاح العقل المستنير (2) محمد بن علي المحمود لم يكن رجال الدين المسيحي ليتخلوا عن نفوذهم الكبير، وهيبتهم المتغطرسة بسهولة. ولهذا فقد استماتوا حتى الرمق الأخير، في سبيل منع انتشار العلم، ومحاصرة الخطاب الفلسفي، بكافة وسائل الرعب المتاحة آنذاك. لكن، وبعد لأي، نجح العقل المستنير في زحزحتهم عن طريقه، إلى أن تم له الانتصار الكامل عليهم في القرن التاسع عشر، حيث أصبح رجل الدين لا يهيمن إلا على الكنيسة وحدها، بل وحتى هذه الهيمنة تزعزعت في القرن العشرين. من يتخيل - ولو للحظة - الحالة التي وصل إليها النفوذ الكنسي في القرن العشرين، ويعود - بذاكرته - قليلا إلى القرن السادس عشر، أو السابع عشر، يدرك - بوضوح - أن هناك معجزة قد حدثت. رجال الدين الذين كانوا يشعلون النار، ويلقون فيها من يختلف معهم في بعض مفردات العقيدة؛ ليموت احتراقا، أصبحوا بعد ثلاثة قرون، يستجدون الناس؛ ليعترفوا بهم، ويقدموا التنازلات تلو التنازلات؛ ليظفروا بتسامح المجتمع معهم، ولينسى الناس أخطاء/ جرائم الماضي. لم يكن هؤلاء الأصوليون القساة، الذين يحرقون الناس أحياء باسم الدين، يستطيعون أن يفعلوا ما فعلوه من جرائم، لو لم يكونوا يحكمون قبضتهم على أفكار ومشاعرهم، ويتصرفون بمجريات الأمور، بقوة النفوذ الجماهيري. بدليل أنهم لما فقدوا هذا الانقياد الجماهيري؛ جراء تطور الوعي الذي صنعه فلاسفة التنوير، لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا، حتى لمن يفضح - صراحة - التاريخ الكهنوتي المقدس!، ويعرضه جهارا في وسائل الإعلام بأنواعها. معظم الأفعال الوحشية التي قام بها رجال الدين، من تقطيع أجساد الناس أحياء، وإحراقهم على الملأ، كانت تتم بتأييد جماهيري؛ لأنها كانت تتم بدعوى الحفاظ على الدين، من خطر المهرطقين. لقد شحنوا الناس بمفردات عقائدية، جعلوها - في تصورهم - هي (العقيدة الإلهية الصحيحة)، أو (العقيدة الصافية)، أو (العقيدة النقية). وصوروا للناس أن من يخل بمفردة من هذه المفردات التي تبنتها الكنيسة في تاريخها الطويل، فهو مبتدع مهرطق، يسعى إلى هدم الدين، وصد الناس عن الطريق القويم. ولهذا كان الناس - جراء شحنهم بهذا الوهم - يؤيدون هذه العقوبات الوحشية، بل ويتفرجون عليها بكل سرور وابتهاج. الأصوليون المسيحيون، كانوا يتصورون، بل ويؤمنون، أنهم ينفذون بهذه الأعمال إرادة الله. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فهم يرون أن العلم لا قيمة له، حتى وإن كان نافعا في هذه الحياة الدنيا، لأنه يصرف الناس عن الاقتناع بالدين، وعن التسليم الكامل لإرادة الله - كما يتصورونها -. فالمهم - عندهم - ليس عمارة الدنيا، بل ولا السعادة فيها، وإنما المهم هو الخلاص الأخروي، حيث السعادة الأبدية. أما الدنيا، فما تستحق غير الازدراء والاحتقار. صحيح أن بعض كبار رجال الدين، كانوا يعرفون أنهم يمارسون دجلا نفاقيا على الناس، وأن تعصبهم ليس إلا متاجرة بالدين. لكن، معظمهم، وخاصة الصغار من رجال الدين، وعموم الجماهير، كانوا يتصورون - بكل يقين وإيمان - أنهم ينفذون إرادة الله، وأن جميع مفرداتهم العقائدية، بكل تفاصيلها، حتى التي يعلمون أنها تمت بصياغة بشرية، هي العقيدة الوحيدة المقبولة يوم الحساب. وهذا ما يجعلهم يرون أن الخارج عليها - فضلا عن الذي يحاول نقدها - يستحق أي عقاب ينزل به، مهما كان قاسيا، والضمير مستريح جدا؛ لأنه - في تصورهم - ينتقد العقيدة الصحيحة الصافية النقية، التي رضيها الله لعباده. ومن يعارض عقيدة الله - في تصورهم - فقد أصبح عدوا لله!. يقول هاشم صالح، في كتابه (مدخل إلى التنوير الأوروبي) وهو الكتاب المتميز بجمال العرض التعليمي، والممعن في التبسيط إلى درجة الإملال، واصفا حال الأصولي المتطرف في كل العصور ص 248"فالشخص الأصولي المتطرف هو شخص سعيد جدا، ومطمئن جداً جداً على عكس ما نتوهم، إنه أسعد خلق الله على الأرض. لماذا؟ لأنه يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، الحقيقة المتعالية، الحقيقة المقدسة، الحقيقة التي لا حقيقة بعدها. وبالتالي فهو يستغرب جدا كيف يوجد أناس آخرون لا يعترفون بهذه الحقيقة أو لا يعتنقونها فورا". وهذه هي أزمة الأصولي، أو - على الأصح - هذه هي أزمة المجتمع معه، فما يتوهمه، يصبح عنده يقينا. ولا يكتفي بهذا، بل هو يسعى إلى فرض هذا اليقين - بالقوة والإرهاب - على الناس. ومن لا يوافقه على كل يقينه، أو على كل تفاصيل يقينه، يصبح حلال الدم والعرض والمال. هذه هي طبيعة التفكير الأصولي، أيا كان منطلقه العقائدي، وأيا كانت سياقاته التي يعمل عليها. ولا يختلف أصولي عن آخر، إلا بما تمليه اشتراطات الواقع، وليس بما تستلزمه مبادئ الأصولية، فهي واحدة، إذ إن (نمط) تفكيرها نمط متطابق. وليست الأصول العقائدية التي يجري ذبح الناس على أساسها، أصولا منذ زمن التنزيل، كما يدعي لها أصحابها، وإنما هي أصول تم استنباطها بفهم بشري، وإضافات تراكمت عبر التاريخ، حتى أصبحت من اليقينيات التي يتم تكفير من يتردد في الإيمان المطلق بها. ففي الكنيسة الكاثوليكية، كانت ألوهية المسيح، وعقيدة التثليث، والمعمودية، والعشاء الأخير...إلخ، أصولا عقائدية، ومن يرتاب في شيء منها، أو يحاول ممارسة التفكير العقلاني عليها، يصبح كافرا، مستحقا للحرمان، ومصيره في الآخرة نار جهنم خالدا فيها - كما يزعمون -. لقد عانت أوروبا طويلا من هؤلاء. فمن يشكك بشيء من هذه العقائد التي أصبحت من صلب العقيدة الصحيحة النقية الصافية، كان يتم إحراقه حيا. فالراهب (يوحنا هوس) الذي كان عميدا لجامعة براغ في بداية القرن الخامس عشر، والذي كان داعية إلى الإصلاح الديني، وكشف الكثير من تجاوزات رجال الدين، واستغلالهم للناس، تم إعدامه حرقا عام 1415م-، بتهمة الهرطقة. إذن، فمجرد الدعوة للتجديد الديني، ولو من رجل دين، ومن داخل الخطاب ذاته، كانت في كثير من الأحيان، تؤدي إلى التصفية الجسدية، على إيقاع اللهب الأصولي. لقد كان هذا العقاب الرادع لمن حاول تجديد الخطاب الديني فحسب. أما التشكيك في الأصول العقائدية صراحة، فقد كانت عملية حرقه حيا، هي أبسط أنواع العقاب. فالفيلسوف (ميشيل سيرفيه) أحرقه رجال الدين حيا، بتهمة التشكيك في عقيدة التثليث، و (توماس مور) انتهى بقطع رأسه، و (جيوردانو برونو) مع أنه كهنوتي، إلا أنه جرد من رداء الكهنوت؛ بسبب آرائه، وتم إعدامه حرقا عام 1600م. ويذكر أن رجال الدين قدموا له قبيل إحراقه مباشرة، صورة المسيح على الصليب، فرفضها بإباء، وأشاح بوجهه عنها. فرجال الدين، يتصورون أنه - وإن أذنب واستحق الحرق حيا - إلا أنه لا بد أن يموت على العقيدة الصحيحة. ولهذا قدموا له الصليب عند إحراقه!. ليس هذا التوحش الأصولي في فرنسا أو إيطاليا، أو البلدان التي كان يسيطر عليها التعصب الكاثوليكي، وإنما حدث الكثير من عمليات الإعدام، حتى في إنجلترا أيضا، وفي وقت متأخر نسبيا. ففي عام 1612م أوقد رجال الدين نارا عظيمة في محرقة سميثفيلد، واجتمع الناس، ليروا (بارثولوميو ليجات) وهو ينفذ فيه حكم الإعدام حرقا؛ لأنه آمن أن المسيح بشر وليس إلها، وأن الإنسان يجب أن يعبد الله وحده، ولرفضه التضرع للمسيح. وفي العام نفسه 1612م تم إحراق (إدوارد وايتمان) لأنه شك في التثليث، والعشاء الأخير، وآمن أن الله واحد. وتم في عام 1633م قطع أذني المحامي (وليم برين) بتهمة الهجوم على الكنيسة. وفي عام 1650م تم إعدام الجندي (دابليو سميث) شنقا؛ لإنكاره ألوهية المسيح. هذه نماذج، وغيرها كثير من ضحايا التعصب الأصولي. والضحايا ليسوا بالعشرات، وإنما بمئات الألوف. يقول هاشم صالح في كتابه السابق، عن هذا النهج من التعذيب الوحشي، والقتل، وأسلوب الحرق للمعترضين على أصولية رجال الدين، وهو النهج الذي مارسته محاكم التفتيش، ص136"ويقال بأنه ذهب ضحيته خمسون ألف شخص بين عامي 1570و1630، أي خلال ستين سنة فقط. وكانت الضحية تُعذَّب أولا ثم تلقى طعمة للنيران، أو تحرق مباشرة. وتركت محاكم التفتيش أثرا سيئا جدا وأسود في الذاكرة الجماعية الأوروبية. وساهمت في تدمير التصور المسيحي القروسطي للعالم: تصور بشع، قائم على الإرهاب والخوف والمراقبة والشبهات. ولم تقم للأصولية المسيحية قائمة بعد أن لوثت نفسها بتلك العملية البشعة وخلعت عليها التبرير اللاهوتي والمشروعية الدينية". وقد أوردت هذا النص؛ حتى لا يتصور أحد أنني بالغت في عدد الضحايا. فإذا كان الضحايا في ستين سنة فقط، قد بلغوا خمسين ألفا، فكيف يكون الأمر في عمر محاكم التفتيش الطويل، الذي امتد لما يقارب سبعة قرون؟!. وبشاعة طريقة القتل، وضخامة العدد، لا شك أنهما يصيبان المرء بالفزع، إذ كيف يمكن أن يتم كل هذا باسم الدين، وكيف كانت الجماهير تؤيد مثل هذا، وهي تعتقد أنها تصون عقيدتها الصافية من عبث العابثين؟!. لا شيء أشد مأساوية من أن تمارس الجماهير اضطهاد نفسها بنفسها، من غير أن تشعر، تحت تصورات مذهبية، أو طائفية، أو دينية. زعماء الأصولية - من كل دين وطائفة ومذهب - قادرون على جعل الجماهير البائسة، تؤيد أن يعدم بعضها بعضا، بل ويحرق بعضها بعضا. ففي عام 1167م، في فيزيلاي، شمال فرنسا، تم القبض على مجموعة اتهمت بالهرطقة؛ لأنها تنكر أسرار الكنيسة (معجزاتها اللامعقولة). وقد عرض رجال الدين على هذه الجماعة التوبة، حتى لا يحرقوا أحياء، فرفض سبعة أفراد الرجوع، وثبتوا على مبادئهم. حينئذ نادى رئيس الدير الجماهير: ما نوع العقاب الذي يستحقون؟، فهتفت الجماهير: الموت حرقا. لقد طلبت الجماهير أن يقتل هؤلاء بالنيران؛ لمجرد أنه اختلفوا معهم في تفسير مسائل دينية مذهبية. لكن - وهنا المشكلة - هذه الجماهير لم تعد ترى هذه المسائل مجرد قضايا اعتقادية خاصة، وإنما تصورت - عبر الشحن العقائدي الأصولي الذي غذيت به في المواعظ الأسبوعية كل يوم أحد - أن هذه الجماعة خطر على الدين، وأن من تمام العقيدة، أن يكره الإنسان هؤلاء. وكلما كانت كراهيته لهم أشد، كلما كان إيمانه أقوى. ومن ثم كانت الجماهير التي تهتف بهذا العقاب الوحشي، تتصور أنها تعبر بهذه القسوة عن صدق إيمانها، وأن ولاءها للدين ورجاله ولاء عميق، وبراءتها من هؤلاء المهرطقين براءة من لا تأخذه في الله لومة لائم. إنها إشكالية التعصب. كل من هؤلاء وهؤلاء يرى أنه على حق صريح، وأن عقيدته هي العقيدة الإلهية التي سوف تنجيه يوم القيامة من عذاب النار. فالمهرطقون يرون أنهم - بإنكار بعض الأشياء - ينفون عن العقيدة ما علق بها - عبر العصور - من شوائب. ولهذا فهم مستعدون للموت في سبيل ما يؤمنون به غاية الإيمان. ونحن نعرف أن رجال الدين قبل أن يحرقوا أي خارج عليهم من جماعات أو أفراد، كانوا يعرضون عليهم التوبة، والرجوع عن آرائهم، ويخبرونهم أنهم إذا لم يرجعوا، فإن مصيرهم الموت حرقا. ومع هذا، يأبى كثير منهم الرجوع عن عقيدته، ويفضلون أن يحرقوا أحياء، على أن يتنازلوا عن عقائدهم. والجماهير من جهتها ترى أنها على حق، وأنهم لن يتسامحوا مع أحد - مهما كان - على حساب دينهم، ولو أن يحرقوا فريقا من أقرب الناس إليهم وهم أحياء. كيف استطاعت أوروبا أن تخرج من كل هذا الظلام الأصولي الرهيب؟. هل اجتمعت الطوائف والمذاهب وجماعات الأصوليين، وقرروا نبذ العنف، وإرساء قيم التسامح، وتشجيع التقدم العلمي؟. طبعا، لا. ولا يمكن لهؤلاء أن يقدموا شيئا؛ لأنهم لا يستطيعون أن يقدموا ما لا يملكونه أصلا. فالتنابذ الأصولي قائم على الاحتراب، ومحاربة كل جديد، والارتياب بقيم العقل، بل وبالفاعلية الإنسانية ذاتها. العقل المستنير، الذي يمثله الفلاسفة والعلماء، هو - وحده - الذي وضع أوروبا على الطريق، وتجاوز بها هذا العبث الأصولي الذي كان يخنق أنفاسها. لقد جاهد هؤلاء في سبيل الخروج من هذا النفق الأصولي المظلم، الذي كان يشد أوروبا إلى الخلف، كلما حاولت التقدم خطوة إلى الأمام، والذي تسبب في تأخر التقدم لأكثر من عشرة قرون. عشرة قرون، كانت أوروبا رهن الاعتقال الأصولي، تقدم الأجيال تلو الأجيال، قرابين لرجال الدين، مصدر البؤس والشقاء. قد يردد بعضهم، أن الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر، هو الذي حرر رجال الدين من التعصب الأعمى، وأنه هو الذي ساعد على نشر التقدمية، باعتباره تطورا في السياق الديني. وفي هذا شيء من الصحة. لكن، لم يكن الإصلاح الديني إلا ثمرة من ثمار الجهد الذي بذله الفلاسفة والمفكرون والعلماء من قبل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فلم تكن البروتستانتية متسامحة، ولوثر نفسه، لم يكن ديمقراطيا، وكان رافضا لحرية الإرادة. وموقفه من ثورة الفلاحين يؤكد هذا. إذن، فما في الإصلاح الديني من إيجابية، فإنما هو بتأثير الثورة التي أحدثها العقل المستنير، منذ بدأ في التخلّق في القرن الثالث عشر. وما فيه من تعصب وجمود، فمن جذره الأصولي. وإذا كان الكاثوليك قد اضطهدوا البروتستانت في فرنسا، إلى درجة ممارسة التطهير المذهبي بالقتل الجماعي، فإن البروتستانت مارسوا الكثير من صور التعصب، في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية. وهذا يدل على أن تجاوز أوروبا لذهنية التعصب، كان في الأساس بجهد العقل المستنير، وكان الإصلاح الديني عاملا ثانويا، وإن كان ضروريا في ذات السياق. إن التغيير الحاسم، لم يأت - ابتداء - عن طريق رجال الدين، وإن كان لا بد أن يمر من خلالهم، وإنما أتى من خلال العقول التي تصنع الاستنارة، وتمتلك التحرر الكامل من التصورات الماضوية، التي تهيمن على الوعي الأصولي الخرافي. ولهذا استمر كفاح العقل، حتى بعد نجاح الإصلاح الديني، وكان هذا العقل يصطدم به أحيانا، ويجبره على التحول في كثير من الأحيان. لقد كان على المفكرين والعلماء التجريبيين، أن يواجهوا - بشجاعة - كل أنواع الخرافة الأصولية، ليس فيما يدخل في الشأن الديني الخاص، أو الاجتماعي المرتبط بالديني ضرورة، وإنما في دقائق الشأن العلمي أيضا. فقد كان رجال الدين من جهتم يحشرون أنفسهم في كل شيء؛ لأنهم يمنحون كل شيء تفسيرا دينيا. ومن ثم يصبح كل شيء له تفسير مقدس، أي ديني. ولهذا، فعندما كافح جاليليو لإثبات دوران الأرض، واجهه رجال الدين بتفسيرهم لهذه المسألة. وهو تفسير - كما يزعمون لأنفسهم - مقدس!. كيف تصبح مسألة فلكية، أصلا عقائديا؟، ما علاقة رجال الدين بمسألة: دوران الأرض؟!. يقول كرين برنتن، في كتابه (أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي) ص 427"وكانت العقيدة المسيحية تلزم نفسها إلزاما كاملا بالنظرية الأخرى التي تقول بأن الأرض ثابتة وأن الشمس تدور حولها. وبفعل المشاعر القوية انحاز كثير من الرجال الأذكياء إلى العقيدة التي ترى أن كوكبنا - المكان الذي ضحى فيه المسيح بنفسه - لا بد أن يكون (مركز) كل شيء". نلاحظ هنا: التفكير عن طريق المشاعر من جهة، وعن طريق اللوازم، من جهة أخرى، حيث لزم - حسب هذه الطريقة في التفكير - أن تكون الأرض مركز الكون. وهذه الطريقة، طريقة التفكير باللوازم يمكن أن توصل - بسهولة - إلى التكفير في أي دين. وللتوضيح، فمثل هذه الطريقة في التفكير، يمكن أن يأتي أحدهم ويعتبر اللغة العربية أفضل اللغات، بلازم كون القرآن نزل بها. وقدسية القرآن مسألة عقائدية، يؤمن بها جميع المسلمين. لكن اللازم المزعوم: قدسية اللغة العربية، ليست عقائدية. ومع هذا، يمكن أن يأتي من يجعلها من لوازم الإيمان بالقرآن، ومن ثم، يتم تكفير من لا يعتقد أن اللغة العربية أفضل اللغات. المهم في سياق قضيتنا: دوران الأرض، أن هذا اللازم (مركزية الأرض) أصبح أصلا عقائديا في المسيحية، يتم اضطهاد عالم كبير بحجم جاليليو، بسبب مخالفته؛ لأنهم يعتقدون أنه بمخالفة هذا الأصل يكفر. ولولا أنه خضع لرجال الدين، في المحاكمة التي أقاموها له، وتراجع فيها - ظاهريا - عن رأيه؛ لتم إحراقه حيا. ويكفي أنه مكث بقية حياته رهن الإقامة الجبرية، يعد عليه رجال الدين أنفاسه، ويراقبون كل ما يصدر عنه. ويكفي - أيضا - أن الفيلسوف العظيم: ديكارت، امتنع عن نشر بعض ما كتب؛ حينما سمع بمأساة جاليليو، وهرب من بلده: فرنسا، حيث النفوذ الكاثوليكي، إلى هولندا، حيث كانت تتمتع بمستوى كبير من التحرر الليبرالي. |
مواقع النشر (المفضلة) |
الكلمات الدلالية (Tags) |
اللقاء, اوروبا وكفاح العقل المستنير, بهذا, رأيكم |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|