ملتقى طلاب وطالبات جامعة الملك فيصل,جامعة الدمام

العودة   ملتقى طلاب وطالبات جامعة الملك فيصل,جامعة الدمام > .: سـاحـة التعليم عن بعد (الانتساب):. > ملتقى طلاب التعليم عن بعد جامعة الملك فيصل > كلية الأداب > اللغة العربية
التسجيل الكويزاتإضافة كويزمواعيد التسجيل التعليمـــات المجموعات  

اللغة العربية ملتقى طلاب وطالبات تخصص اللغة العربية - التعليم عن بعد جامعة الملك فيصل

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
  #1  
قديم 2015- 12- 18
الصورة الرمزية ماذا لو ؟!!
ماذا لو ؟!!
أكـاديـمـي نــشـط
بيانات الطالب:
الكلية: كلية الآداب
الدراسة: انتساب
التخصص: لغة عربية
المستوى: المستوى الثالث
بيانات الموضوع:
المشاهدات: 4973
المشاركـات: 7
 
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 189610
تاريخ التسجيل: Thu May 2014
المشاركات: 101
الـجنــس : أنـثـى
عدد الـنقـاط : 4390
مؤشر المستوى: 48
ماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enough
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
ماذا لو ؟!! غير متواجد حالياً
محتوى النقد العربي القديم من تجميعي

· النقد العربي القديم
· المحاضرة الأولى
التعريف بالنقد في اللغة والاصطلاح وابراز الصلة
تعريف كلمة (نقد) في المعاجم العربية:
إن أي مصطلح ينبغي أن نعرف به في اللغة واصطلاح العلماء، وعندما نتناول النقد في اللغة فينبغي أن ننظر في المعاجم العربية فهي التي تعطينا الدلالة اللغوية لمصطلح ما، ونتجول هنا مع عدد من المعاجم العربية الشهيرة، ونتخير منها أربعة معاجم لعلماء مشهورين:
الأول: (مقاييس اللغة) لابن فارس.
الثاني: (أساس البلاغة) للزمخشري.الثالث:المصباح المنيرللفيومي.
الرابع: (لسان العرب) لابن منظور، ثم يكون لنا بعد التجوال تعليق واستنتاج؛ لنصل بالمصطلح من اللغة إلى الاصطلاح.
أولا : ابن فارس ومعجمه (مقاييس اللغة ):
إن ابن فارس يعد أول من أدار الجذور اللغوية -وخاصة الثلاثية- حول معنى واحد أو -كما يقول- أصل معنوي واحد، وقد وُفّق في ذلك توفيقًا كبيرًا، فنجح في ردجذور ثلاثية كثيرة إلى أصول معنويةعامة ولكنه لم يوفق في بعضها، فوجد لها أحيانًا أصلين معنويين، وأخرى وجد لها أكثر من ذلك فردها إلى ثلاثة أو إلى أربعة أصول؛ لكن الغالب الذي وفق فيه هو ردّه الجذور الثلاثية أغلبها إلى أصول معنوية عامة.
ومن هذه الجذور الجذر الذي معنا, وهو النون والقاف والدال؛ فقد رده إلى أصل معنوي عام أو إلى دلالة عامة وهي إبراز الشيء وبروزه.
يقول: "النون والقاف والدال أصلٌ صحيح يدل على إبراز شيء وبروزه، من ذلك: النَّقَد في الحافر وهو تقشره, حافر نَقِد: متقشر، والنقَد في الضرس: تكسره، وذلك يكون بتكشف لِيطِه عنه، ومن الباب: نقد الدرهم، وذلك أن يكشف عن حاله في جودته أو غير ذلك،
ودرهم نقْد: وازن جيد؛ كأنه قد كُشف عن حاله فعلم، ويقال للقنفذ: الأنقد، يقولون: بات فلان بليلة أنْقَد، إذا بات يسري ليله كله، وهو ذلك القياس؛ لأنه كان يسري حتى يسْرُو عنه الظلام. ويقولون: إن الشيْهَم -وهو من أصناف القنافذ- لا يرقد الليل كله. وتقول العرب: ما زال فلان ينقد الشيء؛ إذا لم يزل ينظر إليه،
ومما شذ عن الباب: النقَد، صغار الغنم، وبها يشبّه الصبي القَمِي الذي لا يكاد يَشِبّ" ...انتهى كلام ابن فارس.
ثانيا : الزمخشري في كتابه (أساس البلاغة ):
إن الزمخشري في أساسه يتميز بميزة انفرد بها عن كثير من أقرانه، لقد قسّم معاني ألفاظ جذوره أو ألفاظ الجذور اللغوية إلى قسمين:
الأول: قسم يحتوي على دلالات حقيقية.
الثاني: القسم الدلالي المجازي.
قال الزمخشري: "نقَدَه الثمن ونقده له فانتقد، ونقد النقاد الدراهم: ميز جيدها من رديئها، ونقْد جيد ونقود جياد وتُنوقِد الورِق -أي الفضة –“ ثم يواصل الزمخشري ألفاظ المادة فيقول: "وأسرى من أنقد وبات بليلة أنقد، والطائر ينقد الفخ: ينقره، ونقد الصبي الجوزة بإصبعه، ونقدت رأسه بإصبعي نقدة.
ثم يقول: ومن المجاز: هو من نُقَادة قومه؛ من خيارهم، ونقد الكلام ،وهو من نقدة الشعر ونقاده.
قوله: "ومن المجاز قولهم: هو من نقدة الشعر ونقاده، ومن المجاز قولهم: انتقد الشعر على قائله".
هنا ارتبط النقد بالشعر، وهو معنًى مجازي نص عليه الزمخشري، وإن كان هذا الارتباط لم يرد في كتاب (مقاييس اللغة) لابن فارس.
ثالثا: ( المصباح المنير)للفيومي:
إن الفيومي في مصباحه تميز بميزة تفرد بها عن كثير من أقرانه، حيث اعتنى بضبط أبنية الأفعال والأسماء ضبطًا صرفيًّا.
فعن النون والقاف والدال في (المصباح) نجد الآتي: “ نقدت الدراهم نقدًا من باب قتل، والفاعل ناقد، والجمع نقّاد مثل: كافر وكفّار، وانتقدت كذلك: إذا نظرتها لتعرف جيدها وزيفها،
ونقدت الرجل الدراهم بمعنى: أعطيته، فيتعدى إلى مفعولين، ونقدتها له على الزيادة أيضًا فانتقدها، أي: قبضها " ..انتهى
رابعا: ( لسان العرب ) لآبن منظور:
يقول ابن منظور:النقد: تمييز الدراهم وإعطاؤكها إنسانًا، وأخذها ، الانتقادوالنقد: مصدر نقدته دراهمه ونقدته الدراهم ،ونقدت له الدراهم، أي: أعطيته فانتقدها أي: قبضها، ونقدت الدراهم وانتقدتها؛ إذا أخرجت منها الزيف. وفي حديث أبي الدرداء أنه قال: "إن نقدت الناس نقدوك؛ وإن تركتهم تركوك“ معنى نقدتهم أي: عِبتهم واغتبتهم؛
قابلوك بمثله، وهو من قولهم: نقدت رأسه بإصبعي أي: ضربته، ونقدت الجوزة أنقدها ،إذا ضربتها، ونقدته الحية: لدغته، والنقد: تقشر في الحافر وتآكل في الأسنان، تقول : نقِد الحافر ونقِدتْ أسنانه ونقد الضرس والقرن نقَدًا، فهو نقِد: ائْتُكِل وتكسر. والنقد أكل الضرس، ويكون في القرن أيضًا.
التعريف الاصطلاحي للنقد الادبي :
إنه التقدير الصحيح لأي أثر فني، وبيان قيمته في ذاته ودرجته بالنسبة إلى سواه؛ إنه تقدير النص الأدبي تقديرًا صحيحًا, وبيان قيمته ودرجته الأدبية.
وإن النقد الأدبي يختص بالأدب وحده، وإن كانت طبيعة النقد واحدة أو تكاد، سواء أكان موضوعه أدبًا أم تصويرًا أم موسيقى.




المحاضرة الثانية
ارتباط النقد بالأدب
ارتباط كل من النقد والأدب:
إن النقد الأدبي يرتبط بالأدب ارتباطًا قويًّا، والمعروف أن الأدب هو: هذه النصوص الخالدة التي يقرؤها الناسُ مرةً إثر مرة؛ فهو مجمل الكلام الجيد المروي سواء أكان نثرًا أم شعرًا، والنثر: هو الكلام البليغ الذي يجري مجرى السليقة، دون تقيد بوزن أو قافية أو بحر معين، والمعروف عند كثير من الباحثين أن النثر قد بدأ قبل الشعر، وإن رأى بعض الباحثين أن الحِكم والأمثال والأشعار تكاد ترجع إلى التواريخ المتقاربة.
والمعروف أيضًا أن الشعر إنما: هو الكلام الموزون المقفَّى المطرز بالإيحاء، وعناصرُه هي: الإيقاع، والوزن، والموسيقى، والنغم، والخيال، والصورة المُبْدِعة، والعاطفة المُجْنِحة.
والنقد قديم قدم الإنسان الذي خُلق نَزّاعًا إلى الكمال، ومن الناس من لديهم استعداد فطري للنقد، ولا بد لهذا الاستعداد الفطري من أن يُنمّى ويُصقل بالتربية، وهذا أمر اكتسابي يتطلب من الناقد الموهوب أن يكون على حظ كبير من العقل والذوق ورهافة الحس، بالإضافة إلى ثقافة متنوعة واطلاع واسع على الآداب.
إن الأدب أسبق إلى الوجود من النقد، وهذا يعني كما يقول كثير من علماء النقد: أن الشاعر الأول قد سبق إلى الوجود الناقد الأول، سواء كان نقده يقف عند تذوق الشعر فقط، أو يتجاوز ذلك إلى التعبير عن انطباعاته والتعليل لها. والأدب يتصل بالطبيعة اتصالًا مباشرًا، أما النقد فيرى هذه الطبيعة من خلال الأعمال الأدبية التي ينقدها.
وإذا كان الأدب ذاتيًّا من حيث إنه تعبير عما يحسه الأديب، وعما يجيش بصدره من فكرة أو خاطرة أوعاطفة نابعة من تجربته الشخصية أو من تجارب الآخرين، فإن النقد ذاتي موضوعي، أي: يجمع بين الذاتية والموضوعية، فهو ذاتي من حيث تأثره بثقافة الناقد وذوقه ومزاجه ووجهة نظره، وهو موضوعي من جهة أنه مقيد بنظريات وأصول علمية.
إذا كان الأدب يرتبط بالنقد ، فإن تاريخ الأدب يتصل بتاريخ النقد اتصالًا كبيرًا، وإن كان بينهما فرق واضح؛ فتاريخ آداب اللغة في كل أمة هو تاريخ عقول أبنائها، وما أنتجته قرائحهم من أدب وعلم، هو تاريخ المأثور من بليغ شعرها ونثرها، ومن أسباب الصعود والهبوط في مختلف العصور، مع الإلمام بصناع هذا التاريخ من حيث حياتهم وآثارهم الأدبية والعلمية، وتأثير بعضهم في بعض فكرًا وصناعة وأسلوبًا.
ولمؤرخي الأدب في عرض هذا التاريخ منهجان معروفان:
الأول: المنهج الزمني، الذي يعرض المؤرخ فيه لتاريخ الأمة الأدبي، على أساس تقسيمه إلى عصور زمنية، تتطابق مع عصور تاريخها السياسي، ثم يعرض بالبحث والتأريخ لنتاج الأمة العقلي في كل عصر على حدة.
الثاني: منهج يعالج المؤرخ من خلاله كل نوع من أنواع الأدب والعلوم.
أما تاريخ النقد الأدبي الذي هو جزء من تاريخ الأدب العام، فهو تاريخ التغيرات التي تطرأ من عصر إلى عصر على فهم الناس للأدب وتذوقه ويدخل في ذلك تاريخ النظريات والمذاهب النقدية المختلفة، وتاريخ رجال النقد ومناهجهم، وآثارهم العلمية التي أسهموا بها في نهضة النقد وإثرائه وتطويره.
إنه عرضٌ تاريخي للنقد الأدبي منذ نشأته، وتتبعٌ لحركاته مع الإلمام بالمؤثرات التي أثرت فيه، والتجارب التي مر بها، والقواعد أو المبادئ التي استنّها النقاد له، واتخذوا منها مقاييس لتقدير الأعمال الأدبية، والتمييز بين جيدها ورديئها.
وهكذا نخلص إلى ارتباط النقد بكل من الأدب وتاريخ الأدب، فإذا كانت وظيفة النقد الأدبي هي تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية والتعبيرية والشعورية، وتوضيح منزلته وآثاره في الأدب؛ فإن النقد يوجه ويثري الأدبَ ويُعلي من منزلته في الحياة.
المحاضرة الثالثة
النقد في العصر الجاهلي
نشأة النقدالأدبي ومعالمه في العصر الجاهلي:
إن الشعر أظهرُ فنون القول عند العرب وأشهرها وأسيرها ذكرًا، حتى عد العلماء هذا الشعر ديوان العرب، فكان الشعر فن العرب إذًا وصناعتهم المفضلة المحببة، حتى لو أن قائلًا قال: إن العرب لم يكن لهم صناعة أو فن غير هذا الشعر؛ لم يبعد عن الواقع كثيرًا، حتى أُثر عن عمر بن الخطاب أنه قال عن الشعر: "كان الشعر علم قوم, لم يكنلهم علم أصح منه".
ذلك الشعر الذي عمّ البيئة الجاهلية, وأصبح مظهرًا من مظاهر حيوية العرب ودليلًا على نشاطهم الفني في حياتهم البادية.
لقد جدّت عوامل أدت إلى نضوج الشعر في هذا العصر؛ فلقد تغلبت لهجة قريش على سائر اللهجات، وأصبحت لغة الشعراء من جميع القبائل.
والعامل الآخر يتصل باللغة؛ فلقد اهتدى العرب إلى تفاعيل وأعاريض كثيرة, نظموا بها أشعارهم.
والعامل الثالث يتصل بالمعاني؛ حيث ساعدت الأحداث السياسيةوالاجتماعية التي أخصبت الخيال، ومن هذه تلك الرحلات التي كانوا يقومون بها، ومنها الحروب التي دارت بينهم حتى شاع فن الهجاء للخصومة بينهم، ومنها تعدد الديانات التي ظهرت بينهم.
إن نظرة في شعر من شهدوا أخريات العصر الجاهلي -كامرئ القيس وعلقمة وعمرو بن كلثوم والنابغة وعنترة- ترينا أنه شعر عربي محض بلغ غاية الإتقان، وهذا الإتقان إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشعر الجاهلي, قد مر في تاريخ تطوره بضروب كثيرة من التهذيب، فبين طفولته ممثلة في البيتين والثلاثة من الرجز، إلىالقصيدة الطويلة المحكمة النسج، مر عصر طويل قام فيه النقد الأدبي بإصلاح الشعر وتقويم معوجه وتهذيبه؛ حتى وصل إلى ما نرى فيه من الصحة والجودة, والإحكام والإتقان، وهذا التهذيب هو النقد.
وإذا كان الناقد الأول قد ظهر إلى الوجود بعد الشاعر الأول، وإذا كانت أوليات الشعر العربي غير معروفة لنا؛ فإن أوليات النقد العربي تبعًا لذلك قد غابت عنا، ولما كانت معرفتنا بالشعر العربي المتقن المحكم ترجع إلى أواخر العصر الجاهلي؛ فإن تاريخ النقد المعروف يبدأ في ذلك العهد أيضًا، وأقدم النصوص التي تجلى فيها نقد الشعر الجاهلي تعزى إلى شعراء هذا العصر, الذين نهضوا بالشعر وارتقوا به.
انواع النقد وقيمته في العصر الجاهلي:
إن من يتتبع حركة النقد الأدبي في أخريات هذا العصر الجاهلي، يرى أن ميادين نشاطه كانت تتمثل في أسواق العرب، وفي المجالس الأدبية العامة، وفي ارتحال الشعراء إلى ملوك الحيرة والغساسنة.
معنى هذا: أن نواة النقد العربي الأول ما كانت إلا الأحاديث والأحكام والمآخذ، التي كانت تقال في الأسواق والمجالس الأدبية،وأفنية الملوك في الحيرة وغسان؛ إذ كان بعضهم ينقد بعضًا.
ففي كل هذه الأماكن والبيئات المختلفة، كان العرب يجتمعون ويتناشدون الأشعار ويتناقدون، فكان ذلك عاملًا اجتماعيًّا في ترقيق ألفاظ الشعر، وإحكام معانيه, وتهذيب حواشيه، ونهضة النقد المتصل به.
إن نواة النقد العربي الأول تظهر في هذه الملاحظات النقدية، التي رُويت في بعض ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي، ومن النظر في هذه الملاحظات يمكن القول بأن ملكة النقد عند الجاهليين كانت مبنية على الذوق الفطري، لا الفكر التحليلي؛ فهو نقد ذوقي غير مسبب، نقد يقف عند الجزئيات، فإذا ما انفعل بها الناقد اندفع إلى التعميم في الحكم، فجعل فلانًا أشعر الناس لبيت أو أبيات أو قصيدة واحدة قالها، فالأحكام في الغالب غير معللة.
وقد اتخذ النقد في هذا العصر صورًا متنوعة، وهذا بعضٌ من هذه الصور:
الصورة الأولى: تتناول اللفظ أو الصياغة، وهذا أمر يشير إلى عدم تمكن الشاعر في بعض الأحيان من دلالات الألفاظ؛ من ذلك ما يروى أن طرفة بن العبد سمع المُسيب بن عَلَس يقول:
وقد أتناسى الهمّ عند احتضاره *
بناجٍ عليه الصيْعَرِية مُقْدَم
وينسب هذا البيت إلى المُتلمس أيضًا، والمراد بقوله: ناجٍ: جمل سريع، ومعنى مقدم: صلب قوي، فقال له طرفة: "اسْتَنْوَق الجمل؟" أي: أنت كنت في صفة جمل، فلما قلت: الصيعرية عدت إلى ما توصف به النوق؛ لأن الصيعرية سمة حمراء تعلق في عنق الناقة خاصة. لقد نقل الشاعر لفظًا من صفات الناقة، وجعله صفة من صفات الجمل على غير المعهود عند العرب.
الصورة الثانية: تتناول الصورة الشعرية من حيث قدرة الشاعر أو عدم قدرته على أدائها؛ من ذلك خبر احتكام علقمة بن عبدة وامرئ القيس إلى امرأته أم جُنْدُب، في أيهما أشعر، وهذه القصة كانت سببًا في تسمية علقمة بالفحل؛ لأنه احتكم مع امرئ القيس إلى امرأته أم جندب لتحكم بينهما، فقالت: "قُولا شعرًا تصفان فيه الخيل, على رويّ واحد وقافية واحدة. فقال امرؤ القيس:
خليلي مرَّا بي على أم جندب * لنقضي حاجات الفؤاد المعذب
وقال علقمة:
ذهبت من الهجران في كل مذهب * ولم يكُ حقًّا كل هذا التجنب
ثم أنشداها جميعًا, فقالت لامرئ القيس: علقمة أشعر منك. قال: وكيف ذاك؟ قالت: لأنك قلت: فللسوط أُلهوب وللساق دِرة * وللزجر منه وقع أهوج مِنْعَب
تقول الرواية عن أم جندب :
إنها قالت لامرئ القيس: فجهدت فرسك بسوطك, ومرَيْتَهُ بساقك، أي: استخرجت ما عنده من الجري بساقك. وقال علقمة:
فأدركهن ثانيًا من عنانه *
يمر كمر الرائح المُتَحَلِّب الرائح أي: السحاب، والمتحلب: السائل عرقه. تقول أم جندب لامرئ القيس: فأدرك طريدته - أي: أدرك فرس علقمة طريدته - وهو ثانٍ من عنان فرسه، لم يضربه بسوط ولا مَرَاه بساق ولا زجره. قال امرؤ القيس لأم جندب: ما هو بأشعر مني, ولكنك له وامِقَة. فطلقها، فخلف عليها علقمة, فسمي بذلك الفحل".
المحاضرة الرابعة
القيم النقدية الجديدة ومقاييس النقد في عصر صدر الاسلام
اولا : الرسول الكريم والشعر :
إن الحديث عن النقد في هذا العصر، يتطلب أن نوضح حالة النقد في عصر الرسول ثم في عصر الخلفاء الراشدين من بعده، وهذا العصر -عصر صدر الإسلام- يزيد قليلًا على نصف قرن، فنبدأ ببيان حالة الأدب والنقد في عصره وقد علمنا مدى ارتباط الأدب بالنقد ارتباطًا كبيرًا:
إن الرسول الكريم لم يرفض الشعر رفضًا مطلقًا، ولم يقبله قبولًا مطلقًا، وإنما ذم الشعر الذي يجافي روح الإسلام، ويبتعد عن الأخلاق النبيلة؛بينما يمدح من الشعر ما يغلب عليه روح التدين، يمدح من الشعر ما يدعو إلى فضائل الأخلاق وإلى مكارمها ؛ لذلك جاءت الآيات الكريمات في سورة الشعراء بما يظهر ذم الشعراء البعيدين عن روح الدين الجديد، ويمدح الشعراء الذين اعتنقوا مبادئه. يقول الله تعالى في سورة الشعراء
{ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} والملاحظ على الشعراء في عصره أن بعضهم آمن بدعوته، وانتصر للفضائل التي أتى بها ، وآمن بالله ربًّا وبمحمد نبيًّا ورسولًا.
وبطبيعة الحال فإن هذا الصنف من الشعراء كانوا من المناصرين لدعوته ، وهنالك فريق آخر من الغاوين؛ من الذين انضموا إلى المعاندين المشركين، وبطبيعة الحال فإن هذا الصنف كان شعره حقدًا على الدين الجديد، وعلى الداعي إليه
وما من شك في أن المعركة بين الصنفين –أي: بين شعراء المسلمين وشعراء المشركين- نهضت بالشعر نوع نهضة، وأظهرت بلا شك شعراء جددًا لم يكونوا معروفين، وإنما كانوا مغمورين، وبطبيعة الحال فإن فن الهجاء في هذا العصر كان باديًا ظاهرًا بجانب ضده وهو المدح؛ لذلك فإن شعر صدر الإسلام يكاد يكون محصورًا على هذين الفنين: الهجاء والمدح، بخلاف الشعر الجاهلي مثلًا الذي تنوعت أغراضه.
إذًا: الشعر في عهده حينما يقتصر على الهجاء والمدح، فإنه يكون قد قَل من ناحية الموضوع، وما من شك في أنه قَل أيضًا من ناحية الكم والكيف، وإن ظل جاهليًّا في صورته ومضمونه وروحه.
ونخلص من هذا إلى أن الشعر في عهده كان من أمضى الأسلحة في النيل من الأعداء، وبخاصة حين انتصر للدعوة فريق من الشعراء، في مقابل صنف آخر ما يزالون معاندين للدعوة ومناهضين لها، فبرز فنَّا الهجاء والمدح وتوارت بقية الأغراض.
ثانيا : حالة النقد في عصر الرسول :
هذا عن حال الأدب وبخاصة الشعر؛ فماذا عن حال النقد؟
لقد استمع الرسول إلى الشعر في مجلسه، والرسول - وهو أفصح العرب - كان يتذوق الكلام الجيد، ويخوض في حديث الشعر مع الوافدين عليه ممن أسلموا، كما كان يفضل منه ما كان يتناسب مع الدين الجديد، الذي حض على مكارم الأخلاق؛ ومن ثم لم يكن عجبًا أن يتحدث الناس في الشعر بمجلسه، وكان يُعجب بالشعر إعجاب أصحاب الذوق السليم،
ومما يؤكد هذا إنشاد النابغة الجَعْدِي رسول الله :
ولا خيرَ في حِلم إذا لم يكن له.... بوادر تحمي صفوَه أن يُكَدَّرا
ولا خير في جهْل إذا لم يكن له.... حليمٌ إذا ما أورد الأمرَ أصدرا
فاستحسن الرسول هذا الشعر، وقال له: ((أجدت، لا يَفْضُضِ اللهُ فاك)).
ومثال آخر: حينما أتاه كعب بن زهير وأنشده قصيدته "بانت سعاد“ فاستحسنها وبلغ من إعجابه بها أن صفح عن كعب، وخلع عليه بردته التي اشتراها منه معاوية، ثم توارثها الخلفاء من بعده وتبركوا بها، ولما بلغ كعب في قصيدته إلى قوله:
إن الرسولَ لنور يستضاء به ... مُهنَّد من سيوف الله مسلول
أشار الرسول إلى الناس أن يسمعوا شعر كعب بن زهير
ومما يؤيد استحسان الرسول لسماع الشعر، الداعي إلى الفضائل ومكارم الأخلاق؛ أنه كانت تحدث مساجلات ومحاكمات شعرية أمامه.
من ذلك ما يروى أن وفدًا من عرب بني تميم المعادين له، قدموا عليه ومعهم من شعرائهم: الزِّبرِقان بن بدر والأقرع بن حابس، ومن خطبائهم: عُطارد بن حاجب، ثم راحوا ينادونه من وراء الحجراتقائلين : يا محمد؛ اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك، فإن مدحنا زَين وذمنا شين؛ فرماهم الرسول بخطيبه ثابت بن قيس وشاعره حسان بن ثابت، فساجل ثابت عطاردًا خَطابَةً، وساجل حسان الزبرقان شعرًا، وردا عليهما ردًّا بليغًا مفحمًا، دفع الأقرعُ بن حابس لأن يقول: "والله إن هذا الرجل -أي الرسول - لمؤتًى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شعرائنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا"، ثم أسلم القوم جميعًا.
إذًا: استخدم الرسول سلاح الشعر من حسان, وسلاح الخطابة من ثابت في هذه المساجلة، وكانت نتيجتُها إسلامَ القوم جميعًا؛ فالرسول كان يستحسن من الشعر ما يناسب الأخلاق الكريمة، ويستهجن منه ما كان بعيدًا منه، فكان مقياس النقد إذًا مقياسًا دينيًّا، في مدى مطابقته للحق الذي جاء به أو عدم مطابقته، فما خالف الحقَ ذُم، وكان مستهجنًا، وما طابقه مُدح وكان مستحسنًا،
ومما يؤيد ما قلناه في هذا المقياس النقدي الديني: ما يروى أن قُتيلة بنت النضر بن الحارث بعد مقتل أبيها، عرضت للنبي- - وهو يطوف فاستوقفته، وجذبت رداءه حتى انكشف عن منكبه - - ثم أنشدته قصيدة، ويروى أن الرسول-- لما سمع شعرها؛ رق لها وقال: ((لو سمعت شعرها هذا قبل قتله؛ لمننت عليه)).
فالرسول تأثر بشعر قُتَيْلة إلى الحد الذي لو كان سمعه قبل مقتل أبيها لعفا عنه.
وقد كان حسان بن ثابت الشاعر المفضّل لرسول الله -- حيث كان يقدمه ويفضله على معاصريه من شعراء المسلمين، وقد بنى له وحده منبرًا في المسجد ينشد عليه الشعراءُ، كما كان ينتدبه دون غيره لهجاء قريش والمشركين، فقد روي أنه قال لحسان: ((اهجُ قريشًا ومعك روح القدس))، كما روي عنه قوله: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَه، خير له من أن يمتلئ شعرًاهجيت به) كما روي أنه - - قال: ((أَمرتُ عبد الله بن رواحة =
فقال وأحسن، وأمرت حسان بن ثابت فشفى واشتفى). ويروى أيضًا عن الشعبي قال: "لما كان عام الأحزاب، وردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرًا، قال النبي- -: ((من يحمي أعراض المسلمين؟)) فقال كعب بن مالك: أنا يا رسول الله، وقال عبد الله بن رواحة: أنا يا رسول الله، وقال حسان بن ثابت: أنا يا رسول الله، فقال: ((نعم اهجُهم أنت؛ فإنه سيعينك عليهم روح القدس))".
إن مقياس النقد في هذه الفترة النبوية مقياس ديني خلقي، فما جاء موافقًا للحق والهَدْي النبوي والنور السماوي استُحسن وقُبل، وما كان بخلاف ذلك استُهجن ورُفض، وإن ظل متأثرًا أيضًا نوع تأثير بالحال في الجاهلية؛ حيث ظل نقدًا فطريًّا مجردًا عن التعليل، نقدًا يفاضل بين الشعراء ويحكم لشاعر على آخر أو على آخرين دون ذكر للأسباب أو للعلل،
تلك كانت حالة النقد الأدبي في عصر النبوة أو الوحي.
رد مع اقتباس
قديم 2015- 12- 18   #2
ماذا لو ؟!!
أكـاديـمـي نــشـط
 
الصورة الرمزية ماذا لو ؟!!
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 189610
تاريخ التسجيل: Thu May 2014
المشاركات: 101
الـجنــس : أنـثـى
عدد الـنقـاط : 4390
مؤشر المستوى: 48
ماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enough
بيانات الطالب:
الكلية: كلية الآداب
الدراسة: انتساب
التخصص: لغة عربية
المستوى: المستوى الثالث
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
ماذا لو ؟!! غير متواجد حالياً
رد: محتوى النقد العربي القديم من تجميعي

المحاضرة الخامسة
النقد الأدبي في عهد الخلفاء الراشدين
عوامل قللت من دواعي الشعر في هذا العصر :
لقد قَلَّ الشعر في عصر الخلفاء الراشدين، وهنالك عوامل قللت من دواعي الشعر، منها: وقف المساجلات الشعرية التي شبَّت في عصرالرسول بين شعراء المشركين من قريش وشعراء الإسلام، فوقْف هذه المساجلات من عوامل قلة الشعر في عصر الخلفاء.
ومن العوامل أيضًا: اشتراك كثير من الشعراء في الفتوحات الإسلامية، ففضلوا الجهاد في سبيل الله فانصرفوا إليها، وليس معنى ذلك أن الشعراء الذين خرجوا للجهاد في سبيل الله ونشر دينه، لم ينفعلوا بالأحداث التي واكبت هذه الفتوحات، ولم يتأثروا بالمشاهد الجديدة التي حدثت في هذه الآونة، فلقد اهتزت شاعريتهم بلا شك، وانطلقوا يفخرون بشجاعتهم ويتباهون بالنصر, ويصفون المعارك وآلات القتال... إلخ.
ضعف النقد في هذا العصر
لكن الروح الدينية في هذا الشعر الذي تطالعنا به كتب الفتوح والمغازي ضعيفةُ النقد، مع أن مواقف الجهاد في سبيل الله كانت كفيلةً بأن تضفي عليهم روحانيته، وأن تثير وجدانهم الديني، وتُطلق على ألسنتهم شعرًا يُشرق بنور العقيدة والإيمان، كما قَل شعر الهجاء حتى كاد أن ينعدم، وسبب هذا أن الخلفاء كانوا يحذّرون منه لمنافاته تعاليمَ الإسلام، وكان عمرُ أشدَهم وطأة على شعراء الهجاء.وأسهم الخلفاء الراشدون في الكلام عن الشعر ونقده، وإن ظل عمر أرجحَهم كفة في ذلك، لكنهم جميعًا متأثرون برأي الرسول - - في أن أحسن الشعر ما وافق الحق.
أبوبكر وعمر وموقفهما من الشعر والنقد
ونبدأ بأبي بكر -الذي قدم النابغة، وقال فيه: "هو أحسنهم شعرًا، وأعذبهم بحرًا، وأبعدهم قعرًا". فهو يفضل إذًا بين النابغة وغيره من الشعراء، ثم يحكم له بهذا الحكم من حيث المعاني، وقد علل لحكمه بأن النابغة في نظره يستقي معانيه من معين عذب سائغ.
أما عمربن الخطاب فقد ظل أرجحَهم كفة في الكلام عن الشعر ونقده، فقد كان أعلم الناس بالشعر، وكان ذا بصرنافذ فيه، يحب الاستماع إليه . وكانت معرفته بالحياة العربية معرفة دقيقة شاملة، كما كان-أيضا- راوية للشعر، جيد الاستحضار له، ويتأثر بالرسول- - في الانتصار للشعر الداعي إلى الفضيلة، فمنهجه يلتقي مع منهج رسول الله --أو هو امتداد له في نقد الكلام والحكم عليه.
وفي حياة عمر مواقف كثيرة، تؤكد أن أقواله المأثورة كانت تنبع من تجربته الشخصية الخالصة، ومن قيمه الإنسانية ومعرفته بأثر الشعر وفاعليته في النفوس الكريمة، ومن ذلك مايلي :
1- تأثرعمر بشعر الحطيئة وعفا عنه، وأطلق سراحه من أجل أبنائه، فيذكر أن يزيد بن أسلم روى عن أبيه قوله: "أرسل عمر إلى الحطيئة وأنا جالس عنده، وقد كلمه فيه عمرو بن العاص وغيره، فأخرجه من السجن فأنشده قوله:
ماذا تقول لأفراخ بذي مَرَخٍ .... زُغْب الحواصل لا ماء ولا شجر؟
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
فبكى عمر حين قال الحطيئة: ماذا تقول لأفراخ بذي مَرَخٍ...؟ فقال عمرو بن العاص: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة".
2- كما رَوى ابن سلام أن الشاعر سُحَيْمًا عبد بني الحَسْحَاس, أنشد عمر بن الخطاب قوله:
عميرة ودِّع إن تجهزْتَ غاديا ........ كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال عمر: "لو قلت شعرك كله مثل هذا لأعطيتك عليه". والمعروف أن سحيمًا شاعر مخضرم من أصل حبشي، كان ينطق الحاء هاء والشين سينًا، وورد أن عمر قال له:"لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، فقال سحيم: ماسعرت يريد: ما شعرت، جعل الشين سينًا.
3- كما روي أيضًا أن رجلًا أنشد عمر قول طرفة:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ........ وجدِّك لم أحفل متى قام عُوَّدِي
فقال عمر: "لولا أن أسير في سبيل الله, وأضع جبهتي لله، وأجالس أقوامًا ينتقون أطايب الحديث كما ينتقون أطايب التمر -لم أبالِ أن أكون قد مِتّ".
فالخصال الثلاث التي يحبها طرفة ويعيش من أجلها، ولا يبالي الموت إذا تحققت له، قد فصلها في معلقته في الأبيات التالية للبيت السابق، وهي: مباكرته الشراب قبل انتباه العواذل، وإغاثة المستغيث, والتمتع بالنساء.
4- وقد كان زهير شاعر عمر المفضل، وذلك يرجع إلى ما يمتاز به شعره من جودة وإتقان، ويرجع كذلك إلى الصوت الذي كان ينبعث من خلاله، داعيًا إلى السلام والوئام في مجتمع قبلي جاهلي، وتتجاوب فيه كل أصوات الشعر إشادة بالحرب.
5- كما كان النابغة في رأي عمر أشعرَ غطفان، فلقد تحدث مرة مع وفد غطفان وقد نزل ببابه فقال: "يا معشر غطفان، أي شعرائكم الذي يقول:حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ....... وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلِّغت عني خيانة ........ لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولستَ بمستبق أخًا لا تلمه ........... على شعث أي الرجال المهذب؟
قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين. قال: فأيكم الذي يقول:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ..... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
خطاطيف حُجْن في حبال متينة
تمد بها أيد إليك نوازع؟
أي: أنت في قدرتك عليَّ كخطاطيف عُقْف يمد بها، وأنا كدلو تمد بتلك الخطاطيف.
قالوا: النابغة. قال: فأيكم الذي يقول:
إلى ابن مُحَرِّق أعملتُ نفسي ...... وراحلتي وقد هَدَت العيون
أتيتك عاريًا خَلَقًا ثيابي ..... على خوف تُظن بي الظنون
فألفيتُ الأمانة لم تخنها ..... كذلك كان نوح لا يخون؟
قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين. قال: هذا أشعر شعرائكم".
6- روي أن الزبرقان بن بدر أتى عمر بالحطيئة، وقال له: "إنه هجاني، قال عمر: وما قال لك؟ قال: قال لي:
دع المكارم لا ترحلْ لبغيتها ....... واقعد؛ فإنك أنت الطاعم الكاسي
فقال له عمر الذي يقف هنا موقف القاضي، لا موقف الأديبِ العليم بالشعر: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة! فقال الزبرقان: أوما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس، فاستدعى عمر حسانًا وسأله فقال: لم يهجُه ، ولكنه سَلَح عليه،
أي: هجاه وأفحش في هجائه، ولم يكن عمر يجهل موضع الهجاء في هذا البيت، ولكنه كره أن يتعرض لشأنه، فبعث إلى شاعر مثله ويقال: إنه سأل لبيدًا عن ذلك فقال: ما يسرني أن لحقني من هذا الشعر ما لحقه، وإن لي حمر النعم". وقد أخذ عمر القاضي في هذه القضية بشهادة حسان ولبيد، على أن البيت مؤلم فأمر بحبس الحطيئة وقال: "يا خبيث؛ لأشغلنك عن أعراض المسلمين”.
المحاضرة السادسة
مقاييس النقد في عهد الخلفاء الراشدين
تنمية القيم النقدية في عهد الخلفاء الراشدين
إن عمر بن الخطاب > كان يخشى أن ينال الهاجي من أخلاق المهجو ومروءته وعرضه؛ خوفًا من أن يقع في القذف الذي حرمه الإسلام، ونؤكد هذا المبدأ الخلقي بذكر نموذج آخر: فقد كان بنو العَجْلان -وهم رهط الشاعر ابن مُقْبِل- يفخرون بهذا الاسم، لقصة كانت لصاحبه في تعجيل قِرَى الأضياف، إلى أن هجاهم النجاشي الشاعر، فضجروا منه فاسْتَعْدَوا عليه عمر وقالوا: "يا أمير المؤمنين؛ إنه هجانا فقال: وما قال فيكم؟ فأنشدوه:
إذا الله عادى أهل لؤم ورِقة ....... فعادى بني عجلان رهط ابن مقبل
فقال عمر: إنه دعا عليكم ولعله لا يجاب، وفي رواية أخرى أن عمر قال: هذا رجل دعا، فإن كان مظلومًا استجيب له وإن لم يكن مظلومًا لم يستجب له، قالوا: فإنه قال أيضا:
قبيلة لا يغدرون بذمة .... ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر: "ليتني من هؤلاء” قالوا:
فإنه قد قال بعد هذا: ولا يرِدون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوُرّاد عن كل منهل
فقال عمر: "ذلك أقلّ للّسِكَاك" أي: الزحام. قالوا: فإنه قال بعد هذا:تعاف الكلاب الضاريات لحومهم
وتأكل من كعب بن عوف ونهشل فقال عمر: "كفى ضياعًا بمن تأكل الكلاب لحمه"، قالوا: فإنه يقول بعد هذا:
وما سمي العجلان إلا لقولهم ...... خذ القَعْب واحلب أيها العبد واعجلِ
فقال عمر: "سيد القوم خادمهم، وكلنا عبيد الله، ما أرى بهذا بأسًا "، فقالوا: "يا أمير المؤمنين هجانا، فقال عمر: ما أسمع ذلك، فسأل حسان بن ثابت، فقال: ما هجاهم ولكنه سلح عليهم، أي: هجاهم هجاء مرًّا، فسجن عمر النجاشي، وقيل: إن عمرهدد النجاشي وقال له: إن عدت قطعتُ لسانك.
فعمر أراد أن يدرأ الحدود بالشبهات، فقد كان أبصر الناس بما قال النجاشي، ولكنه مِن تجاهل العارف، وروى الجاحظ تعليق العائشي على موقف عمر من الهجاء والهجائين فقال: "كان عمر بن الخطاب أعلم الناس بالشعر، ولكنه كان إذا ابتلي بالحكم بين النجاشي والعجلاني، وبين الحطيئة والزبرقان؛ كره أن يتعرض للشعراء، واستشهد للفريقين رجالًا مثل حسان بن ثابت وغيره، مما تهون عليه سِبَالهم،[أي خصومتهم] فإذا سمع كلامهم حكم بما يعلم.
وكان الذي ظهر من حكم ذلك الشاعر مقنعًا للفريقين، ويكون هو قد تخلص بعرضه سليمًا، فلما رآه من لا علم له يسأل هذا وهذا، ظن أن ذلك لجهله بما يعرف غيره.
وعمر في موقفه هذا ينتهج نهج الرسول- - ويقتفي أثره، فما وافق الحق من الشعر فمقبول ومستحسن، وما لم يوافق الحق فمرفوض ومستهجن.
وعمر بوصف كونه الناقد الأول في هذا العصر، نراه يستحسن شعر زهير وينظر فيه ويستمع إليه ويعجب به، وينقده نقدًا معللًا:
1- فقد روى أبو الفرج الأصفهاني عن ابن عباس قوله: خرجت مع عمر في أول غزوة غزاها، فقال لي ذات ليلة: يابن عباس، أنشدني لشاعر الشعراء. قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ابن أبي سلمى
قلت: وبم صار ذلك؟قال: لأنه لا يتبع حوشي الكلام، ولا يُعَاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون فيه،
أليس الذي يقول:
فلو كان حمد يخلد الناس لم يمت ..... ولكن حمد الناس ليس بمخلدِ؟
أنشدني له, فأنشدته حتى برق الفجر فقال: حسبك، الآن اقرأ القرآن، قلت: وما أقرأ؟ قال: اقرأ الواقعة، فقرأتها ونزل فأذن وصلى".
فهذا النقد يتناول شعر زهير من ناحية الألفاظ، وكذلك من ناحية المعاني، فحينما رأى أنه لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاظل في المنطق، فإنما يكون قد نقده من ناحية الألفاظ، وحينما قال: "لا يقول إلا ما يعرف، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون فيه"؛ فإنما يكون قد نقده من ناحية المعاني، فالصفات أو الخصائص التي تميزت بها صياغة زهير اللفظية عند عمر هي: تجنبه حوشي الكلام، وتجنبه المعاظلة، فحوشي الكلامووحشيه هو الذي لا يتكرر في كلام العرب كثيرًا، وهو الغريب المستهجن من الألفاظ، والذي يخلّ بفصاحة الكلام، وابن أبي سلمى براء من هذا.
لقد استحسن عمر شعر زهير، وفضله على سائر الشعراء لهذه الأسباب الفنية التي بنى عليها حكمه؛ فزهير بذوقه الأدبي يتخير ألفاظه وينتقيها، وينأى بشعره عن التعقيد اللفظي الذي يؤدي بدوره إلى التعقيد المعنوي.
2- ومن القيم النقدية عند عمر > أنه كان يردد التقسيم الذي يأتي في شعر الشعراء، مما يدل على ذوقه الأدبي، ويرى في هذا التقسيم مبدأ من مبادئ النقد، وهو أن يصدر الشاعر عن علم وتجربة، رأى هذا في شعر كل من زهير، وعبدة بن الطبيب ، وأبي قيس بن الأسلت.
أما بالنسبة لزهير فقد أنشدوا عمر شعرًا له، فلما انتهوا إلى قوله:
وإن الحق مقطعه ثلاث: يمين أو نِفار أو جِلاء
النفار: أن يتنافروا إلى حاكم يحكم بينهم، والجلاء: البينة والشهود. قال عمر كالمتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها، وإقامته أقسامها:
وإن الحق مقطعه ثلاث ....... يمين أو نِفار أو جِلاء
يردد البيت من التعجب، ولقد عد علماء البلاغة هذا التقسيم فنًّا من فنون البديع حيث يُقصد به استيفاء المتكلم أقسام المعنى .
*أما عثمان بن عفان ؛ فقد استحسن شعر زهير لما يتجلى فيه من الصدق، فقد استمع إلى قوله:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ...... وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ
فقال عثمان: "أحسن زهير وصدق، لو أن رجلًا دخل بيتًا في جوف بيت لتحدث به الناس. قال: وقال النبي : (لاتعمل عملًا تكره أن يُتحدث عنك به)". فمقياس استحسان عثمان شعر زهير هو مقياس الصدق في القول، وهو مقياسإسلامي نبوي، يُظهر عثمان متأثرًا فيه برأي الرسول المستمد من تعاليم الإسلام .
* أما الخليفة الرابع الامام علي بن أبي طالب فقد كانت له كلمة نقدية تكشف عن ذوقه الأدبي، وتعبر عن رأيه في السابق من الشعراء المتقدمين، حيث توقف عن إصدار حكمه بالمفاضلة بين الشعراء، إلا إذا اتحدت أغراضهم وتشابهت ظروفهم، وعُرف السابق واللاحق وتميز الإمام من المؤتم به.
لقد حُكي عنه أنه قال: "لو أن الشعراء المتقدمين ضمهم زمان واحد، ونُصبت لهم راية فجَرَوا معًا؛ علمنا من السابق منهم، وإذا لم يكن ، فالذي لم يقل لرغبة ولا لرهبة، فقيل: ومن هو؟ فقال: الكِندي. قيل: ولم؟ قال: لأني رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة“، ومنها يتضح أن الإمام لا يجري مع النقاد الذين يُصدرون أحكامًا نقدية غير معللة، ويقفون عند القول بأن هذا أو ذاك هو أشعر العرب، أو أشعر الناس؛ وإنماأساس الحكم عنده هو الموازنة بين الشعراء لمعرفة السابق منهم.
فإذا لم تتحقق الموازنة بين الشعراء على النحو الذي رآه، فالسابق منهم في نظره هو الذي لم يقل الشعر لرغبة أو رهبة ومعنى ذلك أن الشاعر الذي ينبعث إلى القول بدافع الرغبة أو الرهبة – في نظر الإمام- قد ينزلق إلى الكذب تحقيقًا لرغبته أيًّا كانت، أو درءًا لخطر متوقع يخشاه، فالشاعر المقدَّم عنده هو من تجرد عن الهوى والخوف.
وهنا نرى أن الامام علي – عليه السلام - أيضًا متأثر بالمقياس النبوي، هذا المقياس القائم على أساس أن ما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه.
هذا هو موقف الخلفاء الراشدين من النقد الأدبي ومدى إسهامهم في حركته.
المحاضرة السابعة
تعدد بيئات النقد وطوائف النقاد في العصر الأموي
العصر الأول : نهوض النقد وتعدد بيئاته في العصر الأموي
إن العصر الأموي يبدأ بسنة إحدى وأربعين من الهجرة وذلك بخلافة معاوية، وينتهي بتغلب العباسيين على الأمويين سنة اثنتين وثلاثين ومائة من الهجرة، وقد جدّت عوامل نهضت بالأدب والنقد بصفة عامة في هذا العصر؛ فقد ظهرت الأحزاب وشاعت روح العصبية القبلية البغيضة التي نهى عنها الإسلام، فكما نعلم أن الإسلام قضى على روح العصبية البغيضة منذ أن بعث الرسول -عليه الصلاة والسلام-وظلت هذه الروح بغيضة إلى عهد الشيخين أبي بكر وعمر، فقد قُضي عليها في هذه الآونة، حيث أُخذت الأمور بالعدل والحزم، وانشغل المسلمون بأهداف كبرى هي نشر الدين في أرجاء المعمورة، ثم بدأت روح العصبية القبلية تنمو رويدًا رويدًا بعد عهد الشيخين، وعندما وَلي عثمان بن عفان الخلافة استعان بأهل بيته، فحكموا الناس بعصبيتهم الأموية لا بقوميتهم العربية؛ مما أغضب نفوس العرب، وأدى إلى تحرك الفتنة الكبرى التي انتهت بمقتل عثمان.
ثم بدأ التحزب يظهر بصورة كبيرة عندما نشأ الخلاف بين المسلمين على الخلافة، وتطور إلى حرب بين معاوية والإمام علي ،حيث قُتل الإمام، فانقسم العرب أحزابًا وشيعًا.
ففي الشام حزب يشايع الأمويين، وفي الحجاز حزب يؤيد عبد الله بن الزبير وفي العراق حزب يشايع العلويين، ويعمل لاسترداد حقهم في خلافة الرسول -عليه الصلاة والسلام - ثم هنالك أحزاب متعددة متباينة الآراء والمفاهيم ، لدرجة أنبعضهم يكفر بعضا .
وقد استطاع معاوية أن يثبت ملكه، وقد اصطنع مع معارضيه سياسة الدهاء والعطاء والإغضاء والحزم، حتى استقرله الأمر طوال خلافته إلا من جهة الخوارج.
كما اشتدت المعارضة في خلافة عبد الملك بن مروان، وكثر المطالبون بالخلافة، كما امتد سلطان العرب في هذه الآونة، وزاد دخل الدولة، واختلط كثير من المسلمين العرب بأجناس شتى من الناس.
وما كان للشعر أن يقف بعيدًا عن كل ما ذكرنا، فقد كان لسان الأحزاب، حيث كان لكلّ حزبٍ شعراؤه الذين يناضلون عنه ويعبرون عن آرائه، وقد استمال الأمويون كثيرًا من الشعراء بالمال والعطاء، وأشعلوا بينهم روح المنافسة والهجاء، حتى أصبح الشعر في هذا العصر صناعة يتكسب بها بعض الشعراء؛ لذلك نهض الشعر ونما في هذا العصر، مع ملاحظة أن الشعر لم يكن سياسيًّا كله، أو جدلًا دينيًّا كلهوإنما وجد أيضًا شعراء يُبدعون شعرًا غنائيًّا عاطفيًّا, له جماله وقيمته الأدبية. والنقد يساير الأدب نهوضًا وصعودًا كما يسايره انحطاطًا وضعفًا، ونظرًا لنهضة الأدب في هذه الآونة، فإن النقد سايره في النهوض والقوة أيضًا في بيئات نما فيها الأدب والنقد معًا، هذه البيئات هي الحجاز وباديتها، ثم العراق والشام، ونظرًا لأن الأدب لم يزدهر في بيئات أخرى- كفارس واليمن ومصر والمغرب والأندلس- فإن النقد سايره أيضًا فلم يزدهر فيها.
النقد في بيئة الحجاز ، وأثر ابن أبي عتيق فيه .
لقد تغيرت الحياة في الحجاز في هذا العصر، ومن مظاهر هذا التغير انتقال الخلافة إلى الشام، كما انتقلت المعارضة أيضًا إلى العراق، ومكث أبناء الهاشميين فيه مشغولين بالمال والعطايا عن الملك، فقد عمل الأمويون على شغل شباب الحجاز بمظاهر الترف والثراء، وأبعدوهم عن السياسة، وشجعوا مجالس اللهو والطرب وقد لقي هذا هوى في نفوس الحجازيين ساعتئذ؛ لما فيهم من رقة الطبع ورهافة الحس، وسرعة الاستجابة والتأثر.
وقد ترتب على وجود مجالس اللهو شيوع الغزل الإباحي في مدن الحجاز، كما شاع أيضًا الغزل العفيف بين شعراء بادية الحجاز، من أمثال جميل ومجنون ليلى وذي الرُّمة، وفي الوقت الذي شاع فيه الغزل ضعف فيه الفخر والحماسة، وكاد يختفي الهجاء أيضًا لاختفاء كثير من مثيراته، كما قَل المدح في البيئة الحجازية؛ لأن أغلب شعراء الحجاز في هذا العصر كانوا في رغد من العيش، فلم يكونوا بحاجة إلى التكسب بشعرهم.
أما الغزل فقد صار لونًا جديدًا، افتتن المجتمع الحجازي به على اختلاف طبقاته وكان أول من حمل لواء هذا اللون الشعري في الحجاز عمر بن أبي ربيعة، ثم سار على دربه كثيرون غيره من شعراء مكة والمدينة، من أمثال العَرْجِي وأبي دَهْبَل ،والحارث بن خالد المخزومي، وعبيد الله بن قيس الرُّقَيات والأحوص، ونُصَيْب بن رَباح، وقيس بن ذُرَيْح.
وأكبر شخصية ناقدة ظهرت في بيئة الحجاز في العصر الأموي، هي شخصية ابن أبي عتيق وهو عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بن أبي قحافة، وقد اتسم نقده بروح الدعابة، فضلا عن ذوق مرهف وحس رقيق، وقد جمعت صداقة بين ابن أبي عتيق وعمر بن أبي ربيعة، وهذه الصداقة لم تمنع ابن أبي عتيق من أن ينقد عمر بن أبي ربيعة نقدًا منزهًا عن الهوى.
لقد كان نقد ابن أبي عتيق لعمر ولغيره أيضًا نقدًا نزيهًا بنّاء، يهدف من ورائه إلى التصحيح والتوجيه؛ مما كان لآرائه النقدية أثر ملحوظ في رقي النقد في هذه الفترة. وهذه الصورة نلمح من خلالها أن نقد ابن أبي عتيق جاء نقدًا معللًا, محدِّدًا خصائص الفن وسماته، مفاضلًا بين الشعراء مبيِّنًا خصائص الألفاظ والمعاني، كل هذا بروح الفكاهة التي كان يتميز بها، حيث وازن بين عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد.
فقد ذُكر شعر كل منهما عند ابن أبي عتيق، في مجلس رجل من ولد خالد بن العاص ابن هشام، فقال المتحدث: "صاحبنا –أي: الحارث بن خالد- أشعرهما، فقال له ابن أبي عتيق: بعض قولك ياابن أخي، لشعر عمر بن أبي ربيعة نَوْطَة في القلب وعُلُوق بالنفس ودَرْك للحاجة، وما عُصي الله -جل وعز- بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة، فخذ عني ما أصف لك، أشعر قريش من دق معناه ولطف مدخله، وسَهُل مخرجه ومَتُن حَشْوهوتعطفت حواشيه، وأنارت معانيه, وأعرب عن حاجته، فقال المفضّل للحارث: أليس صاحبنا الذي يقول:
إني وما نحروا غداة مِنى ........ عند الجمار يئودها العقلُ
لو بدلت أعلى مساكنها ........ سُفلًا وأصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بها ........ فيرده الإقواء والمَحْلُ
لعرفت معناها لما احتملت ........ مني الضلوع لأهلها قبْلُ
فقال له ابن أبي عتيق: يابن أخي، استر على نفسك واكتم على صاحبك، ولا تشاهد المحافل بمثل هذا، أما تطيَّر الحارث عليها حين قلَبَ رَبْعها فجعل عاليه سافله؟ ما بقي إلا أن يسأل الله تعالى لها حجارة من سجيل، إن ابن أبي ربيعة كان أحسن صحبة للربع من صاحبك، وأجمل مخاطبة حيث يقول:
سائِلا الرَّبْع بالبُلَي وقولا: هجتَ شوقًا لي الغداة طويلا
أين حي حلّوكَ إذ أنت محفو ...... ف بهم آهل أراك جميلا؟
قال: ساروا وأمعنوا فاستقلوا ..... وبرغمي لو استطعت سبيلا
سئمونا وما سئمنا مقامًا ...... وأَحَبّوا دَماثة وسهولا
. قال: فانصرف الرجل خَجِلًا مذعنًا". فهذا النص يشير إلى سمات نقدية معللة، تتصل بالألفاظ والمعاني والمفاضلة.
كما يشير أيضًا إلى أن المقياس النبوي الذي سار عليه نقاد الصدر الأول في الإسلام - وخاصة عمر- قد اهتز في هذه البيئة الحجازية في عهد الأمويين؛ إذ يقول ابن أبي عتيق: "وما عصي الله - جل وعز- بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة". وإذا تجاوزنا نقد ابن أبي عتيق لعمر بن أبي ربيعة إلى نقد غيره من الشعراء، نجد أن ابن أبي عتيق عد غموض المعنى عيبًا في الشعر، حين نقد عبيد الله بن قيس الرقيات في بيته الذي يقول فيه:
تَقَدَّتْ بي الشهباء نحو ابن جعفر ....... سواء عليها ليلها ونهارها
معنى تقدت: أي: سارت سيرًا ليس يعجل ولا يبطئ. قالوا: إن ابن قيس الرقيات مر به فسلم عليه، فقال له ابن أبي عتيق: "عليك السلام يا فارس العمياء، فقال له: ما هذا الاسم الحادث يا أبا محمد - بأبي أنت؟! قال: أنت سميت نفسك حيث تقول: سواء عليها ليلها ونهارها، فما يستوي الليل والنهار إلا على عمياء. قال: إنما عنيت التعب. قال: فبيتك هذا يحتاج إلى ترجمان يترجم عنه".
المحاضرة الثامنة
من طوائف النقاد في الحجاز في العصر الأموي
أثر النسوة النقاد في حركة النقد في الحجاز
لقد ظهرت مجموعة من النسوة اللائي أثرين حركة النقد في الحجاز في هذا العصر الأموي، نذكر منهن: السيدةَ سكينة، وعقيلة بنت عقيل بن أبي طالب، وعائشة بنت طلحة.
أولًا: السيدة سكينة:
إنها سُكينة بنت الحسين بن علي -رضي الله عن الجميع- المتوفاة سنة سبع عشرة ومائة من الهجرة، واسمها آمنة أو أمينة، أما سكينة فلقبها.وهي زوجة مصعب بن الزبير، وقد منحها الله تعالى فصاحة اللسان وأدب الحديث، وتميزت بجمال الخلق، ومجالسها الأدبية كانت مقصدَ الشعراء وأهل الأدب من كل مكان؛ فكانت سيدة نساء عصرها، كما عرفت بذوقها الأدبي ونقد الشعراء، وكان الشعراء والأدباء ورواة الشعر يتحاكمون إليها، وتُجيز ما تراه حسنًا من أشعار الشعراء.
بعض ما يروَى من مجلسها:
يروى أنها وقفت على شعر لعروة بن أذينة، وكان من أعيان الأدباء والعلماء والصالحين وله أشعار جيدة، فقالت له: "أنت القائل:
إذا وجدتُ أوار الحب في كبدي ........ ذهبت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ........ فمن لنار على الأحشاء تتقد؟
فقال لها: نعم، فقالت له: وأنتَ القائل:قالت وأبثثتها حبي وبحتُ به: قد كنتَ عندي تحب الستر فاستترِ
ألست تُبصر مَن حولي؟ فقلت لها: غطي هواكِ وما ألَقى على بصري؟
قال: نعم، فالتفتت إلى جَوارٍ كنَّ حولها، وقالت: هن حرائر إن كان خرج هذا من قلب سليم".
ونموذج آخر يبين تذوقها الأدبي والنقدي، حيث دخل عليها كُثير عَزة ذاتَ مرة، فقالت له: "أخبرني عن قولك في عزة:
وَما رَوضَةٌ بِالحَزنِ طَيِّبَة الثَّرَى ...... يَمُجُّ النَّدى جَثجاثُها وَعَرارُها
بأطيبَ من أردان عزة موهنًا ...... وقد أُوقدت بالمندل الرطب نارُها
الجثجاث: نبات سهل يموت في الربيع، إذا أحس بالصيف جَفَّ، والعرار: نبت طيب الريح، والأردان: جمع ردن وهو
كُمّ الثوب، والموهن: بعد ساعة من الليل، أو نحو من نصفه، أو حين يدبر، والمندل: العود الطيب الرائحة يُتبخر به.
فقالت له: ويحك! وهل على الأرض زنجية منتنة الإبطين توقِد بالمندل الرطب نارها إلا طابَ ريحُها؟ أَلا قلتَ كما قال عمُك امرؤ القيس:
ألم ترياني كلما جئتُ طارقًا ...... وجدتُ بها طيبًا وإن لم تطيب؟"
فمن هذه الروايات وغيرها نرى أن سكينة كانت تسمع الشعر وتستحسن ما تراه منه جيدًا، وتنقد ما تراه أهلًا للنقد، وهذا يدل على مجموعة من الأمور:
الأول: الحياة الأدبية والنقدية في تلك الفترة بلغت درجةً عاليةً من الرقي والازدهار، فقد شاركت فيها أديبات العصر ومنهن سكينة.
الثاني: لنقد المرأة طبيعة خاصة، فهي ترضى عن الشعر الذي يرفع شأنَ المرأة، ويعلي قدرها، ويبرز جمال عفتها، وطهرها، وحياءها.
الثالث: أن النقد كان يشمل الشكل والمضمون، ويتناول العاطفة، مما يؤكد أن الصدق الشعري مبدأ من مبادئ النقد لدى هؤلاء النسوة الناقدات.
الرابع: أن النقد في هذه البيئة الحجازية بصفة خاصة يركّز حول شعر الغزل؛ لأن شعر الغزل في هذه البيئة الحجازية ساد على غيره من أغراض الشعر الأخرى، وكان مثارَ اهتمام الذوق الحجازي العام.
وقد اتضح أن سكينة ذات خبرة بالأدب .
ثانيًا: عقيلة بنت عقيل بن أبي طالب:
روى أنها كانت تجلس للناس، فَبَيْنَا هي جالسة إذ قيل لها: العذري جَميل بالباب؟ فقالت: "ائذنوا له، فدخل، فقالت: أأنتَ القائل:فلو تركتْ عقلي معي ما بكيتُها ..... ولكن طِلابها لِمَا فات من عقلي؟
قالت: إنما تطلبها عند ذهاب عقلك، لولا أبياتٌ بلغتني عنك ما أذِنتُ لكَ، وهي:
علقت الهوى منها وليدًا فلم يزَلْ ... إلى اليوم يَنْمي حبُها ويزيد ...إلخ الأبيات.
فمن هذا وذاك دليلٌ على شيوع الذوق الأدبي الرفيع في هذه البيئة الحجازية في العصر الأموي، وتنقّل ملَكة النقد من النقاد، وتجاوزه من الرجال إلى النساء من أمثال سكينة وعقيلة.
ثالثًا: عائشة بنت طلحة:
وهي من اللائي تذوقْنَ الشعر، وكان والدها من أثرياء الحجاز وكذا العراق، وكان ثراؤه حديث الناس، كما كان جوده محل تقدير وإعجاب، ووالدة عائشة هي أم كلثوم بنت أبي بكر . وكانت عائشة على قَدْرٍ عالٍ من العِفة والطُّهرة، وقد أثّرت البيئة الحجازية فيها تأثيرًا كبيرًا، وكذا حياتُها التي تميزت بالثراء والترف، وكانت تجالس الأدباء والشعراء والخطباء، ومجالسها في الأدب والنقد نالت اهتمام الرواة والمؤرخين؛ نظرًا لتمتعها بموهبة واسعة في العلم، والمعرفة بالأدب، والأخبار، والأنساب .
-مر بها الشاعر النميري فقالت: "ائتوني به، فلما حضَر قالت له: أَنْشِدني مما قلتَ في زينب -وهي زينب بنت يوسف أختالحجاج بن يوسف الثقفي- فامتنع وقال: ابنة عمي، وقد صارت عظامًا باليةً، قالت: أقسمتُ لَمَا فعلتَ، فأنشدها قوله:
نزلنَ بفخ ثم رحن عشيةً ........ يلبين للرحمن معتمرات
يخبئن أطراف الأُكف من التقى ..... ويخرجن شطرَ الليل معتجرات
ولما رأت ركبَ النميري أعرضت ...... وكن مِن أن يلقينه حذرات
فلما أنشدها هذه الأبيات قالت له: والله ما قلتَ إلا جميلًا، ولا وصفت إلا كرمًا وطِيبًا وتقًى ودينًا، أعطوه ألف درهم".
من هذا يتضح أنها استجادت هذا الشعرَ الذي يُفصح عن معانٍ استحسنتها، فهذه العبارات تفصح عن الرضا والارتياح من عائشة؛ لنجاح الشاعر النُّميري، وتوفيقه في تصويره لمشاعره نحو محبوبته.
وإذا أردنا الاستزادة من الناقدات في هذه البيئة الحجازية، فإننا نسوق روايةً لمحبوبة جميل بن معمر، وهي بُثينة.
حيث قالت لعمر بن أبي ربيعة: "والله يا عمر، لا أكون من نسائك اللاتي يزعمنَ أن قد قتلهن الوجدُ بك. فذكَّرها بأبيات قالها جميل لها:
وهُمَا قالتَا: لو انَّ جميلًا ...... عرض اليومَ نظرةً فرآنا
بينما ذاك منهما وإذا بي .... أعمل النص سيرة زفيانا
نظرتْ نحو تِربها ثم قالت: قد أتانا وما علمنا منانا
قوله في البيت الثاني: "أعمل النص" أي: السير الشديد الذي يُستخرج فيه أقصى ما لدى الناقة من السير. وقوله في البيت نفسه: "زفيانا" الزفيان: شدة هبوب الريح، و"سيرة زفيانا" أي: سيرةً سريعةً
فقالت بثينة لعمر بن أبي ربيعة, لما أسمعها قولَ جميل: إنه استملى منك فما أفلح، وقد قيل: اربط الحمار مع الفرس، فإن لم يتعلم من جريه تعلم من خلقه".فهي بهذه الكلمة تشير إلى تأثر جميل بطريقة عمر في الحوار القصصي، وعجزه عن بلوغ مستواه في ذلك، مما يدل على أن الشعراء يُؤخذ عليهم أحيانًا تقليد بعضهم بعضًا في الأسلوب الشعري، أو الطريقة الفنية التي عرف بها.
أثر الشعراء في النقد في البيئة الحجازية :
لقد استمع الشعراء إلى أشعار بعضهم، ونقد بعضهم بعضًا، فلقد مدح عمرَ بنَ أبي ربيعة نُصيبُ، والفرزدقُ، وجريرُ، وجميلُ؛ فلقد سمِع الفرزدق شيئًا من تشبيب عمر، فقال: "هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته، وبكت الديار، ووقع هذا عليه". ففي رواية: أن الفرزدق سمع عمرَ يُنشد قولَه:
جرَى ناصح بالود بيني وبينها
فقربني يومَ الحصاب إلى قتلي
أراد بـ"يوم الحصاب" يوم رمي الجمارفي مَوْسم الحج في مِنًى.
ولما بلغ قوله:فقمنا وقد أفهمنا ذا اللب أننا ...... أتينا الذي يأتينا من ذاك من أجلي
صاح الفرزدق قائلًا: "هذا والله الذي أرادته الشعراء فأخطأته, وبكت على الديار". فالفرزدق يرى أن عمر بن أبي ربيعة زعيم الغزل على الإطلاق، وفي رأيه أن أي شاعر آخر لا يستطيع أن يرقى إلى مستواه في النسيب.
الخصائص النقدية في هذه البيئة الحجازية .
أولًا: أن الشعراء قد نقد بعضهم بعضًا، ولعل أوفاهم نصيبًا من ذلك عمر بن أبي ربيعة، فقد أقر له معاصروه بالتقدم في الغزل شكلًا وموضوعًا واتجاهًا.
ثانيًا: أن أحكامَهم في جملتها أتت غير معللة، وهذا يذكرنا بأحكام نقاد العصر الجاهلي وكذا عصر صدر الإسلام،
ثالثًا: أن هؤلاء النقاد فطنوا إلى دور العاطفة في الشعر والنقد، وأثرها في قيمة الشعر والحكم عليه، فأجمل الشعر وأجوده في نظرهم ما عبر بصدق عن عاطفةصاحبه، وأثر كذلك في عواطف سامعيه.
رابعًا: أن مقياس النقد في هذا العصر قد تحول نوعَ تحولٍ؛ حيث حاول ابن أبي عتيق أن يتخذ من إباحية عمرَ في غزله مقياسًا جديدًا يقيس به الشعر، ويفاضل به بين شعر وآخر، على أساس أن هذا اللونَ من الشعر هو الذي يمثل ذوقَ مجتمعه المترف. ونرى آخرين من النقاد أعربوا عن تخوفهم من هذا الشعر الذي يغري بالمعاصي، ويرفضون اتخاذه مقياسًا للنقد،
خامسًا: أنه قد ظهرت في صور النقد في هذه البيئة وفي هذه الفترة بعض الأحكام المعللة؛ حيث حَكَم ابنُ أبي عتيق لعمر بن أبي ربيعة بأنه أشعر شعراء قريش؛ لدقة المعنى، ولطف المدخل، وسهولة المخرج، ومتانة الحشو.
سادسًا: ظهور بعض الموازنات الشعرية، ولكن الأحكام بالتفضيل كانت في جملتها غير معينة.كما بان أن تشبيب عمر بن أبي ربيعة بنفسه عُدّ مأخذًا من المآخذ التي رآها الشعراء في شعره، ورأوا فيها نوعًا من الانحراف ينافي الطبيعةَ التي تحكم العَلاقةَ العاطفية بين الرجل والمرأة.
كما أظهرتْ بعضُ الملاحظات النقدية عن ظهور السرقات الشعرية، أو أخذ بعض الشعراء عن بعض.
  رد مع اقتباس
قديم 2015- 12- 18   #3
ماذا لو ؟!!
أكـاديـمـي نــشـط
 
الصورة الرمزية ماذا لو ؟!!
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 189610
تاريخ التسجيل: Thu May 2014
المشاركات: 101
الـجنــس : أنـثـى
عدد الـنقـاط : 4390
مؤشر المستوى: 48
ماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enough
بيانات الطالب:
الكلية: كلية الآداب
الدراسة: انتساب
التخصص: لغة عربية
المستوى: المستوى الثالث
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
ماذا لو ؟!! غير متواجد حالياً
رد: محتوى النقد العربي القديم من تجميعي

المحاضرة التاسعة
مظاهر النقد في كل من العراق والشام في العصر الأموي
العنصر الأول : النقد في العراق :
إن النقد يرتبط بالشعر صعودًا وهبوطًا، رقيًّا وانحطاطًا، وينبغي أن نعلم أن الشعر في العراق كان منوعًا بين شعر سياسي وآخر قبلي، لقد كانت العراق مركزَ المعارضة السياسية للأمويين في الشام، حيث وُجد حزبان، ولكل حزب شعراؤه يؤيدونه وينتصرون له، بل يدعون للثورة على الأمويين؛ الحزب الأول: الخوارج، والحزب الثاني: الشيعة.
والمعروف أن أدب الخوارج تميز بالقوة،والشجاعة، وصِدق التعبير عن مذهب شعرائه، أما أدب الشيعة فيتميز بالسخط على الأمويين، والحزن على ما أصاب آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم-فأدب الخوارج والشيعة يتلون بلون سياسي في مجمله، وهذا الشعر يقابل شعرًا آخرَ يُطلق عليه الشعر القَبلي، حيث أحيا الأمويون عصبياتٍ قبلية بين قبائل عدنانية في العراق وأخرى قحطانية في الشام بهدف سياسي، وخير مَن يمثل هذا الشعر الفرزدق الذي كانيقيم في بادية البصرة في بني تميم، وكذا جرير في بادية اليمامة في قيس عيلان، وهي قبيلة تميمية أيضًا، وكان يمثله الأخطل النصراني الذي يمثل بادية قبيلة بني تغلب، ويضم إلى هؤلاء أيضًا من أعراب البوادي كل من الراعي، وذي الرمة، وكذا القطامي النصراني . والمعروف أن الأخطل قد انحاز إلى الأمويين ضد قبيلة جرير، وهي قيس عيلان؛ ليحمي قبيلته تغلب من غارات قيس، كما انضم إلى الفرزدق أيضًا ضدجرير؛ لأن جريرًا كان لسان قبيلته قيس على قبيلة تغلب، فهؤلاء يمثلون هذا النوعَ من الشعر المسمى بالشعر القبلي
وهؤلاء الفحول عاشوا في ظل الخلافة الأموية دون أن ينغمسوا في سياستها بصفة عامة، وإنما شغلوا بمصالحهم الخاصة ومصالح قومهم، وكانوا يستغلون السياسة أحيانًا؛ لتحقيق غايات قبلية، وغلبت على حياتهم تقاليد الجاهلية من لهو وشراب، ومفاخرات وعصبيات.
والصورة الشعرية عند هؤلاء الفحول تميزت بجزالة الأسلوب، وكثرة الغريب من الألفاظ، والمحافظة على النظام الجاهلي للقصيدة في ديباجتها ومعانيها وخيالها البدوي القديم، وإن كانوا قد انزلقوا في الهجاء إلى الفحش والتعرض للحرمات. وليس معنى أن الفن الهجائي كان السائد عندهم أنهم لم يخوضوا في فنون أخرى، بل خاضوا في فنون المدح، والفخر، والوصف، والنسيب، علاوةً على فن الهجاء.
في هذا الجو العلمي الأدبي نشط الشعر ومِن ثَمَّ نشط النقد؛ لأن البيئة بيئة علمية أدبية شعرية، فعُقدت للشعر مجالس عامة وخاصة في الأسواق، كمربد البصرة، وكُناسة الكوفة، علاوةً على تلك المجالس التي كانت تعقد في المساجد، وفي قصور الخلفاء، ودور الأمراء، ومجالس الأدباء والوجهاء... إلى غير ذلك. واهتم بالنقد طوائف, منهم الشعراء أنفسهم وكذا الرواة والنحاة، والخلفاء والأمراء .
بعد هذه الإلمامة بالأدب والشعراء في هذه البيئة العراقية، نود أن نذكر صورًا نقدية تكشف عن هذه الحركة النقدية في العراق:
لقد فاضلوا بين الشعراء بوجه عام وبين الفحول الثلاثة -أي: جرير والفرزدق والأخطل- بوجه خاص, مع اتفاق كثير من النقاد على أنهم أشعر أهل الإسلام، ولكن الاختلاف كان في تقديم بعضهم على بعض، وكانت هذه المفاضلات مفاضلات تقوم على أحكام عامة غير معللة، تعود إلى الذوق الفطري، فهنالك روايات تكشفعن تفضيل تام للأخطل، وأخرى تكشف عن تفضيل للفرزدق وجرير في بعض شعرهم، وكذا تفضيل لجرير في الهجاء وحده، وأخرى تفضله في الهجاء والنسيب وحسن التشبيه، وأخرى تفضله في النسيب والرثاء، أي: في موضوع أو أكثر من موضوعات الشعر.
ولكن هناك أحكام نقدية صدرت عن بعض الرواة، تقوم على بيان العلةمن ذلك: ما جاء في رواية لأبي عبيدة تكشف حججَ مَن فضل جريرًا على غيره، فقد روى أبو عبيدة حججَ مَن فضل جريرًا بقوله: "يحتج مَن قدَّم جريرًا بأنه كان أكثرَهم فنونَ شعر، وأسهلهم ألفاظًا، وأقلهم تكلفًا، وأرقهم نسيبًا، وكان دينًا عفيفًا".
وقد نقد الشعراء بعضهم بعضًا، فقد اتفق الفرزدق والأخطل معًا على أن جريرًا أَسْيَرُ شعرًا منهما. كما أُثر عن جرير بعض الأخبار التي رأى أنه أشعر الناسمن ذلك: أن ابنه عكرمة قال: "قلت لأبي: يا أبت، مَن أشعرُ الناس؟ فقال: الجاهلية تريد أم الإسلام؟ قلت: أخبرني عن الجاهلية، قال: شاعر الجاهلية زهير، قلت: فالإسلام؟ قال: نَبعة الشعر الفرزدق، قلت: فالأخطل؟ قال: يجيد صفة الملوك ويصيب نعت الخمر، قلت: فما تركتَ لنفسك؟ قال: دعني، فإني بحرت الشعر بحرًا"، أي: إنه فجر ينابيعَ الشعر، حتى صارت كالبحر عمقا واتساعًا، أي: إنه تفنن في دروب القول.
ونذكر صورة نقدية أخرى من صور النقد عند الأدباء والنقاد، تكشف عن مقارنتهم في الجَودة بين البيتين في الموضوع الواحد، وهو حوار بين معاوية بن أبي عمرو بن العلاء وبين محمد بن سلَّام في بيت لجرير وآخر للأخطل.
فقد سأل معاويةُ ابنَ سلام: "أي البيتين عندك أجود؟ قول جرير:
ألستُم خيرَ مَن ركِب المطايا ..... وأندى العالَمين بطون راح؟
أَمْ قول الأخطل:شُمس العَداوة حتى يستقاد لهم ........ وأعظم الناس أحلامًا إذا قدروا؟
فقال ابن سلام: بيت جرير أحلى وأسير، وبيت الأخطل أجزل وأرزن. فقال معاوية: صدقتَ، وهكذا كانا في أنفسهما عند الخاصة والعامة". والملاحظة النقدية أيضًا: أنهم وقفوا على طول القصيد وقصره، فقد قيل للفرزدق: ما اختيارك في شعرك للقصار؟ فقال: "لأني رأيتُها أثبت في الصدور، وفي المحافل أجول".
كما لاحظ النقاد أيضًا في هذا العصر: أخذ الشعراء بعضهم عن بعض، أو ما سمي بالسرقات الشعرية.
ومن صور النقد البارزة في هذه البيئة العراقية في هذا العصر الأموي، تلك الصورة التي تكشف عن النقد المعنوي، فقد عاب النقاد على شعراء العراق فساد بعض معانيهم، أو قصورها عن الوفاء بغرضها، فقد عابوا على الراعي، وجرير، والأخطل، وذي الرمة، والفرزدق، وغيرهم بعضَ معانيهم ، كما ظهر النحاة في العراق في هذه الآونة ناقدين الشعراء، مما يكشف أن نقدهم للشعراء قام على أسس موضوعية علمية لُغوية؛ بغرض العلم والتوجيه.
ومن أوائل اللغويين والنحاة الذين دخلوا مَيْدانَ النقد في هذا العصر: يحيى بن يعمر البصري، وعنبسة الفيل، وعبد الله بن إسحاق الحضرمي، وأبو عمرو بن العلاء، وكان عبد الله بن إسحاق الحضرمي أكثرعلماء هذا الجيل نقدًا للفرزدق وتكلفًا في شعره.
أكثر ما وُجِدَ في بيئة الشام من الشعر كان وافدًا عليها من الخارج، من مصدرين:
الأول: وفود الشعراء على دمشق؛ لمدح الخلفاء والأمراء لنيل العطايا؛ اتقاءً لألسنتهم، أو تقديرًا للشعر نفسه.
الثاني: شعر الحروب القبلية بين القبائل اليمنية بالشام, والقبائل القيسية المهاجرة من الحجاز ونَجْد إليها.
ولم ينبع من بيئة الشام شعر يعتد به في هذا العصر، غير ما أثر عن بعض الخلفاء الأمويين.كشعر الوليد بن يزيد بن عبد الملك في الغزل والخمر، وكان الغالب على أدب الشام المدح اللائق بأصحاب القصور، مقارنةً بأدب الحجاز الذي كان يغلب عليه الغزل، وعلى أدب العراق حيث يغلب الفخر والهجاء.
وكان الشعراء الموالون للخلفاء الأمويين أكثر من شعراء أي حزب آخر، وأهمهم الشعراء الفحول: الفرزدق، والأخطل، وجرير.بالإضافة إلى أعشَى ربيعة، وعدي بن الرقاع العاملي، والنابغة الشيباني، وأبي صخر الهذلي، والأحوص، وعبد الله بن الزبير الأسدي، وإسماعيل بن يسار، وغيرهم. وأدى الإكثار من المدح إلى الإكثار من نقده، وكان أكثر النقد من الخلفاء والأمراء؛ لسعة إحاطتهم باللغة والأدب، ولمعرفتهم الوثيقة بمحاسن الكلام، وأشهر هؤلاء عبد الملك بن مروان، الذي يعد الناقدَ الأدبي الأولَ في الشام؛ حيث كان يحب الشعر والفخر والمدح، ويعقد للشعر المجالسَ الحافلةَ بالشعراء والأدباء، ويشجع على الشعر، ويتمثَّل به وينقده، حيث كان يطرح أسئلةً على جلسائه، وينقد المعاني الجزئيةَ للشعراء، ويفضل بعضهم، ويأخذ مآخذَ على كثير منهم.
فقد دخل عليه ابن قيس الرقيات بعد أن أعطاه الأمان، وقد كان من قَبْلُ زبيري الهوى، فأنشده مادحًا، حتى إذا قال:
إن الأغر الذي أبوه أبو ال ......... عاصي عليه الوقار والحجب
يعتدل التاج فوق مفرقه
على جَبين كأنه الذهب
فقال له عبد الملك: "يابنَ قيس، تمدحني بالتاج كأني من العَجم، وتقول في مُصعب بن الزبير:
إنما مصعب شِهاب من الله ..... تجلت عن وجهه الظلماء
مُلكه ملكُ عزة ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء
أما الأمانُ فقد سبق، ولكن والله لا تأخذ مع المسلمين عطاءً أبدًا".
كما نرى أولادَه مِن بعده يمارسون النقد أيضًا، ومن هؤلاء: الوليد، وسليمان، وهشام ، وكان لكل من سليمانَ وهشام اهتماماتٌ نقدية أيضًا؛ فكان سليمان يفضل نُصيبًا على الفرزدق؛ لأنه أرضاه بالمدح، وكانت الفحول الثلاثةُ تُنتقَد في مجلسه. أما هشام فكان يتمثل بالشعر مع أخيه يزيدَ.
المحاضرة العاشرة
حركة النقد في العصر العباسي
تمهيد:
إن العصر العباسي -كما هو معلوم- بدأ في سنة اثنتين وثلاثين ومائة من الهجرة، وخُتم سياسيًّا سنة ست وخمسين وستمائة من الهجرة، حينما استولى هولاكو على بغداد، وإن كان ختم فعليًّا بتولي الأتراك مقاليد الحكم في زمن المتوكل.
والمعروف أنّ هذا العصر العباسي قد اشتمل على عدة دويلات، بعضها عربي وبعضها الآخر غير عربي ولا عباسي، وبانتقال السلطة من الأمويين إلى العباسيين انتقلت حاضرة الخلافة من الشامإلى العراق، وزالت دولة العصبية القبلية، وحلَّت محلها دولة دينية جامعة، وقد تنازع الدولة فريقان؛ فريق العلويين الشيعة؛ حيث يظاهرهم الفرس وعرب الجنوب عامة، والفريق الآخر العباسيون، ويظاهرهم أهل السنة والجماعة وأبناء الدولة.
كما تطورت الحياة الاجتماعية في هذا العصر تطورًا متدرجًا، واقتبس العرب الكثير من أوجه الحضارة وأساليب التفكير، ونشأ المذهب المعتزلي منذأواسط العصر الأموي، وامتدّ واستشرى في إبان العصر العباسي؛ حيث يحتكمون إلى العقل في كافة الأمور بما فيها القصيد، كما ظهرت في هذا العصر النزعة الشعوبية، وتغيرت الحياة من البداوة إلى الحضارة تغيرًا واسعًا. وقد تطور النقد العربي واتسعت مجالاته في القرن الثاني الهجري, حين قامت هذه الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية؛ فتنوعت الصور والاتجاهات وتعدد مقياسه، ونُجْمل
أهم عوامل هذا التطور فيما يلي: ( العوامل التي أثرت في هذه الحركة النقدية )
العامل الأول - الثروة التي جمعها النقد العربي من العصر الجاهلي إلى القرن الثاني الهجري، حيث تجمعت كل صور النقد التي في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، والعصر الأموي في الحجاز والعراق والشام، كل هذا الجهد وصل إلى نقاد العصر العباسي، فتمثلوه وبنوا عليه حتى مكنهم هذا النقد من ابتداع مناهج نقدية جديدة؛ مما كان له أثره العميق في تطور النقد العربي في هذا العصر العباسي.
العامل الثاني: ما كان يتمتع به خلفاء العصر العباسي، وخاصّة العصر الأول من أمثال الرشيد والمأمون وغيرهما؛ حيث أحبوا اللغة والأدب، وشجعوا الشعراء.
ومن عوامل نهضة النقد أيضًا: بدء تدوين العلوم في هذا العصر بالإضافة إلى نقل علوم اليونان والفرس والهند، وكاد أن يتحول الشعر والأدب إلى فنٍّ وصناعة بعد أن كان طبعًا وسليقة.
ومن العوامل أيضًا: ظهور كثير من الشعراء والكتاب والأدباء والعلماء من الموالي، الذين صاروا عربًا بالمربى لنشأتهم بالبصرة والكوفة، وكما هو معلوم أنّ هاتين المدينتين كان يقطنهما بعض القبائل العربية, التي انتمت إلى الكوفة أو البصرة بالولاء.
كل هذا أثر في الذوق الفطري، ومن ثمَّ تأثر النقد العربي تبعًا لذلك بهذه الثروة العلمية والأدبية الجديدة، وتحوّل إلى ذوق مثقف ثقافة علمية.
أثر الشعر في إذكاء هذه الحركة النقدية :
ومن ثمَّ ظهرت طائفة من الشعراء تأثروا بمظاهر الحضارة العباسية الجديدة، عرفوا بالشعراء الْمُحْدَثين، أو المولدين [لأن أكثر الأدباء وقتئذ كانوا مولدين، أي: من أبوين أحدهما عربي والآخر غير عربي ] وكان في طليعة الشعراء الْمُحْدَثين أو المولدين أبو نُوَاس وبشار بن بُرْد، فهؤلاء ممن أبدعوا الشعر المحدَث أو المولّد، الذي يتسم بالكلمة الرشيقة والمعنى الدقيق والأسلوب المميز.
ونلاحظ أنّ الشعراء في هذا العصر أيضًا استحدثوا الشعر التعليمي وطوعوا له وزن الرجز.
هذه النهضة الشعرية أثّرت في النقد أيضًا، فالثقافة التي نهل منها الأدباء، وخاصة الشعراء أثّرت في النقاد، وأذكَت حركة النقد على ما سنوضحه بعد حين .
نظرة عامة على الحركة النقدية العباسية :
إن الحركة النقدية في القرن الثاني الهجري، حين بدأ العباسيون يقودون العالم الإسلامي، قامت على نشاط اللغويين والنحاة والرواة، وهذه الحركة التي قامت على نشاط هؤلاء، قد ساروا بها في اتجاهين:
الاتجاه الأول: امتداد للنقد في العصرين الجاهلي والإسلامي[أي صدر الإسلام والأموي أيضًا] مع شيء من التطوير اقتضاه التحول الذي طرأ على الحياة في العصر العباسي الأول، ونلاحظ في هذاالاتجاه أن الشعراء قد يحقد بعضهم على بعض، وقد يختلفون أيضًا في أفضلية بعضهم على بعضهم الآخر؛ نتيجة لاختلافهم في الأذواق وفي مفهومهم للشعر، وهو نقد بطبيعة الحال معلل.
فقد روى عمر بن شبة عمّن أخبره عن أبي عمرو، أنه قال عن ذي الرمة أيضًا: "إنما شعره نقط عروس تضمحل عمّا قليل، وأبعار ظباء لها شمّ في أول شمها، ثم تعود إلى أرواح الأبعار"، أي: له حلاوة وجمال, ولكن لا يبقيان.
فقد اعتمد الرواة على أذواقهم في الحكم بأفضلية شاعر على آخر، فالذي يحب الغريب منهم كان يتحمّس للشاعر الذي يكثر منه في شعره، ويقدمه على غيره، والذي يحبّ النحو ويشتغل به كان يقدّم من يلتمس في شعره شواهد النحو، ومن لا يخرج في شعره على حدود قواعده. الاتجاه الثاني: اتجاه علمي تمثّل في جمع وتدوين الحُجَج التي أدلى بها أنصار كل شاعر في تفضيله، كما تمثل في التأليف بوضع كتب خاصة بالنقد وما يتصل به؛حيث كان التدوين والتأليف شاملًا غير مقصور على النقد الأدبي وحده، أو على النقل والترجمة العلمية من الأمم الأخرى، فقد كان اتجاهًا عامًّا شمل جميع المعارف العربية في ذاك العصر، وبعض هذه المؤلفات قد نهجت نهجًا تاريخيًّا في جمعها أشعار الجاهليين والإسلاميين، ورتبت أصحاب هذه الأشعار في طبقات، مثل ما صنعه أبو زيد القرشي في كتابه (جمهرة أشعار العرب)، ومثل ما صنعه محمد بن سلامفي كتابه (طبقات الشعراء).
وفوق هذا جهود الرواة واللغويين لم تكن مقصورة على جمع الأشعار فقط، من توثيق نصوصها، واستعراض شعر الشعراء، والموازنة، والتعليل... إلى غير ذلك، وإنما تخطى جهدهم إلى جمع أشعار اختاروها من قصائد جاهلية وإسلامية وهذا يدل على ذوقهم ودرايتهم بالجيّد من الشعر، ومن أشهر هذه المختارات المعلقات التي جمعها حمّاد الراوية في ديوان خاص به، وتُعتَبر من أهم المصادرفي الشعر الجاهلي، ومن أهم المختارات أيضًا (المفضّليّات)، وهي المنسوبة إلى جامعها المفضل الضبي الكوفي،
ومن أشهر المختارات أيضًا (الأصمعيات)، وهي منسوبة إلى صاحبها الأصمعي، صاحب الحافظة القوية والملكة التي يقال: إنها كانت تختزن عشرة آلاف أرجوزة ، ومن أشهر المختارات أيضًا (جمهرة أشعار العرب)، وهي منسوبة في جمعها إلى أبي زيد القرشي محمد بن أبي الخطاب.
وهذه النهضة الفكرية العلمية التي نمت في القرن الثاني, قد تلقّاها القرن الثالث الذي شهد نهضة شاملة في الحياة الفكرية من علمية وأدبية، لقد أفاد منها علماء القرن الثالث وأدباؤه، وأضافوا إليها الكثير من جهودهم؛ حيث تأثر النقد بالأدب، وخاصة الشعر الذي انفعل بالحياة الجديدة الآخذة بأسباب الحضارة، ولم يعد النقد الأدبي في هذا القرن يعتمد اعتمادًا كثيرًا على الذوق الفطري المحض، وإنما أخذ يتجه إلى نقد معلّل إلى حدٍّ كبير.
وقد قامت حركة النقد في هذا القرن الثالث، على أربع طوائف من النقاد: الطائفة الأولى: اللغويون والنحاة، الذين عنوا بجمع مفردات اللغة وأدبها ونحوها وعروض شعرها،كما عنوا بالنقد الأدبي.
ويرجع تميز هؤلاء في النقد إلى ملكتهم التي كوّنوها من خلال اشتغالهم باللغة، وتمرسهم بأساليبها وأسرارها، وقد استوعبوا الأدب القديم والحديث، وبخاصّة الشعر،ومن هؤلاء: ابن السكيت والمازني، والسجستاني، والسكري، والمبرد، وثعلب.
الطائفة الثانية: هي طائفة الشعراء المحدَثين، فإن آراءهم ومفاضلاتهم بين الشعراء وأحكامهم عليهم، لم تخرج عن نهج أسلافهم الشعراء في النقد؛ فالبحتري يفاضل بين اثنين من المحدَثين، ويحكم لأحدهما على الآخر حكمًا معللًا، فيقول: "دعبل بن علي الخزاعي أشعر عندي من مسلم بن الوليد، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأن كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم، ومذهبه أشبه بمذاهبهم".
الطائفة الثالثة: العلماء الأدباء الذين
تعمقوا في الثقافة العربية، وألمّوا بالمعارف الأجنبية، وعلى رأس هذه الطائفة الجاحظ وابن قتيبة، فقد أثّرا في تطوير حركة النقد الأدبي في عصرهما تأثيرًا كبيرًا.
الطائفة الرابعة: طائفة مَن أخذوا القديم من اللغويين، ولكنهم عنوا أكثر منهم بالمحدَثين، وعلى رأس هذه الطائفة ابن المعتز، وقد أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وأبي العباس ثعلب وغيرهما.
لقد أحدث هذا العصر لعلمائه وأدبائه نقلة كبيرة في النقد الأدبي، وظهرت كتب متعددة المناهج والموضوعات والغايات؛ فهنالك كتب نهجت نهجًا تاريخيًّا، مثل ما صنعه ابن سلام في(طبقات فحول الشعراء ) وابن قتيبة في (الشعر والشعراء)، وهناك مؤلفات كان من غاياتها إحصاء مآخذ العلماء والنقاد على الشعراء، مثل كتاب (الموشح)، وهنالك كتب تميزت بنقد خاص بشاعر أو أكثر، مثل ما صنعه الآمدي في (الموازنة)،والجرجاني في (الوساطة).
وهنالك كتب تميزت بالنقد العام مثل ما صنعه ابن طباطبا في (عيار الشعر)، وقدامة بن جعفر في (نقد الشعر)، وأبو هلال العسكري في (الصناعتين: الكتابة والشعر)، وابن رشيق في (العمدة في صناعة الشعر)، وهنالك كتب كانت أعمّ، وهي كتب الأدب والبيان، ويأتي على رأسها (البيان والتبيين) للجاحظ، و(الكامل) للمبرد، كما ينتمي إليها أيضًا ما صنعه القالي في (الأمالي)وما صنعه أبو حيان التوحيدي في (الإمتاع والمؤانسة).
وقد عالجت هذه الكتب قضايا متعددة تتصل باللفظ والمعنى، والمطبوع والمصنوع أو ما يسمّى بالطبع والصنعة، كما عالجت قضية الوحدة أو الكثرة في أغراض القصيدة، كما عالجت قضية الصدق والكذب في الشعر، وكذا عالجت المفاضلة أو الموازنة بين شاعرين أو شعرين في معنى واحد محدد، وتعرضت للسرقات الشعرية، وتعرّضت لعمود الشعر،وتعرضت لقضية العلاقة بين الشعر والأخلاق أو بين الشعر والدين.
وهكذا نرى العلماء قد طوّفوا بآفاق الفن الشعري، وتناول نقدهم كل جزء من جزئياته في الشكل والجوهر.
المحاضرة الحادية عشر
ظهور النقد المنهجي عند النقاد ومقاييسه في القرن الرابع الهجري
معنى النقد المنهجي واشهر رواده في القرن الرابع
النقد المنهجي: هو ذلك النقد الذي يقوم على منهج، تدعمه أسس نظرية أو تطبيقية عامة، ويتناول بالدرس مدارس أدبية، أو شعراء، أو خصومات، يفصل القول فيها، ويبسط عناصرها، ويبصر بمواضع الجمال والقبح فيها.
وقد كان القرن الرابع قرنًا مهمًّا في تاريخ النقد العربي؛ حيث اتجه العلماء والأدباء إلى الكتابة في الأدب والنقد، كما أفادوا من دراسات النقد فائدةً كبيرةً، فانتقلوا بالنقد من طور إلى آخر؛ فمزجوا بحوث النقدوالأدب بالبيان، كما بحثوا في مشكلات البلاغة، وذلك في أواخر هذا القرن. ونقاد الأدب والشعر في هذا القرن الرابع، يمكننا أن نصنّفهم إلى فريقين: فريق كتب ونقل ووازن وحكم، متأثرًا بذوقه الأدبي، وطبعه العربي، وثقافته الخالصة من شوائب الثقافات الأخرى، ومن هؤلاء: الحاتمي المُتَوَفَّى سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة, صاحب (الرسالة الحاتمية في نقد شعر المتنبي، وبيان سرقاته)، والحسن بن بشر الآمديالمُتَوَفَّى سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة صاحب (الموازنة بين الطائيين)، وعلي ابن عبد العزيز الجرجاني، القاضي المعروف المُتَوَفَّى سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة, صاحب (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، وابن وكيع المُتَوَفَّى سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، صاحب (المنصف في سرقات المتنبي)، وأبو بكر الباقلاني المُتَوَفَّى سنة ثلاث وأربعمائة، صاحب (إعجاز القرآن)، وقبلهم أيضًا: أبو بكر الصولي المُتَوَفَّى سنة ست وثلاثينوثلاثمائة، صاحب كتاب (أخبار أبي تمام)، وأبو الفرج الأصبهاني المُتَوَفَّى سنة ست وخمسين وثلاثمائة, صاحب كتاب (الأغاني).
أما الفريق الآخر فهو فريق كتب بروح أدبية هذبت فكرته، ووسعت أفقَه الثقافاتُ الأخرى التي هضمها القرنُ الرابع، ومن هذا الفريق: قدامة بن جعفر المُتَوَفَّى سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، صاحب (نقد الشعر)، والصاحب بن عباد، المُتَوَفَّى سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، صاحب(رسالة الكشف على مساوئ شعر المتنبي)، وأبو هلال العسكري المُتَوَفَّى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، صاحب (الصناعتين) و(ديوان المعاني).
وهذا الفريق الأخير يختلف نقدهُ قوةً وضعفًا، بحسب تمكن الطبع العربي من نفوسِ رجَالِهِ وأعلامه، وتتفاوت منازلهم في الإجادة والإحسان بتفاوتهم في الذوق الأدبي الذي يعتد به في الحكومات الأدبية العادلة، وكثير من نقَّادِ هذا القرن وجهوا عنايتهم الأولى إلى شعر شاعرين لهماأثرهما في الشعر العربي، فأبو بكر الصولي وابن بشر الآمدي اتجها إلى أبي تمام وشعره، فدافع عنه الصولي دفاع المعتدّ به المعتزّ بقيمته، وحشد كل ما رآه سببًا لقبول هذه الحكومة من شعر الشاعر، ونقد الناقد، وحكومة من قبله من رجال الأدب والنقد، ووازن الآمدي بينه وبين البحتري، عارضًا شعره وما عليه من مؤاخذات ترجع إلى سرقة المعاني، أو الخروج عن النهج العربي في أساليب التعبير والبيان،متجهًا إلى تقديم البحتري عليه؛ لطبعه، وقلة ما أُخذ عليه من مؤاخذات.
والحاتمي، وابن عباد، والجرجاني، وابن وكيع، كتبوا في نقد المتنبي وشعره؛ فنَدَّد بِهِ الحاتمي، وأشاد بمساوئ شعره ابن عباد، ووقف الجرجاني موقف القاضي النزيه، يفهم ويشرح، ويقرر ويحكم، وينصف الشاعر من جور المتعصبين له.
وأبو تمام، والمتنبي جديران بكل ما دار حول شعريهما من ضجَّةٍ . هذا هو شأن النقد الأدبي في القرن الرابع.َلَا شَكَّ في أن ظهور قدامة بن جعفرفي أوائل هذا القرن، ورجوعه إلى البيان اليوناني وما فيه من موازين للنقد ومناهج للبيان؛ كان تطورًا جديدًا في بحوث النقد والبيان، حيث كان يغلب عقلُه المنطقي ذوقه الأدبي؛ فتأثر به نفرٌ من نُقَّادِ هذا العصر كأبي هلال العسكري.
ولكننا نرى هذا القرن الرابع قد ظهر فيه الآمدي،فرسم منهجًا جديدًا في النقد وهوما سنتناوله الآن في العنصر الثاني.
النقد المنهجي عند الآمدي
كان يدور حول أبي تمام والبحتري؛ حيث عقد كتابًا خاصًّا بهما عنوانه: (الموازنة بين الطائيين) فهو يبدأ الموازنة بين البحتري وأبي تمام بأن يردد حجج أنصار كل شاعر، وأسباب تفضيلهم له، ثم يأخذ في دراسة سرقات أبي تمام وأخطائه وعيوبه البلاغية، ويفعل مثل ذلك مع البحتري؛ موردًا سرقاته، خصوصًا سرقاته من أبي تمام، ثم أخطاءه وعيوبه. وأخيرًا ينتهي إلى الموازنة التفصيلية بين ما قاله كل منهما، في كل معنى من معاني الشعر.
وبالرجوع إلى كتاب (الموازنة) نرى أن الآمدي لم يتعصب للبحتري، كما أنه لم يتعصب ضد أبي تمام.
والملاحظ أن الآمدي لم يكتب كتابه أيام عنف الخصومة بين أنصار أبي تمام والبحتري؛ فقد توفي أبو تمام سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وتوفي البحتري سنة أربع وثمانين ومائتين، والمعركة قد احتدمت بعد موتهما مباشرة حتى بلغت أقصاها في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري.
وجاء الآمدي بعد تراخي الزمن؛ فوجد عدة رسائل في التعصب لهذا الشاعر أو ذاك
كما وجد ديوانيهما قد جُمعا، وتعددت منهما النسخ قديمة وحديثة، ونظر في كل تلك الكتب؛ فوجد فيها إسرافًا في الأحكام، وعدم دراسة تحقيقية، وضعفًا في التعليل أو قصورًا؛ فتناول الخصومة بمنهج علميٍّ أشبه ما يكون بمناهجنا اليوم، فقد رجع إلى النسخ القديمة وحقق الأبيات، ورجع إلى النسخ الأخرى ؛ لتحقيق النص قبل الحكم عليه، سواء أكان الشعر من أبيتمام أم من البحتري، لقد كان من مقتضيات منهج الآمدي -وهو منهج صحيح- أن يجمع كل تلك الكتب، ويدرسها قبل أن يأخذ في الموازنة بينهما. لقد نظر الآمدي فوجد أكثر من شاهده ورآه من رواة الأشعار المتأخرين، يزعمون أن شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي لا يتعلق بجيده جيدٌ مثله، ورديئه مطروح ومرذول؛ فلهذا كان مختلفًا لا يتشابه، وأن شعر الوليد بن عبيد الله البحتري صحيح السبك، حسن الديباجة، ليس فيه سفاسفولا رديء ولا مطروح؛ ولهذا صار مستويًا يشبه بعضه بعضًا.
ووجدهم فاضلوا بينهما؛ لغزارة شعريهما وكثرة جيدهما، ولم يتفقوا على أيِّهما أشعر، كما لم يتفقوا على أحد مما وقع التفضيل بينهم من شعراء الجاهلية والإسلام والمتأخرين، وذلك كمن فضل البحتري، ونسبه إلى حلاوة النَّفس، وحسن التخلُّص، ووضع الكلام في مواضعه، وصحة العبارة، وقرب المأتى، وانكشاف المعنى، وهُمُ الكُتَّاب، والأعراب، والشعراءالمطبوعون، وأهل البلاغة.
ومثل من فضل أبا تمام، ونسبه إلى غموض المعاني ودقتها، وكثرة ما يورد مما يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج ، وهؤلاء أهل المعاني والشعراء أصحاب الصنعة، ومن يميل إلى التدقيق وفلسفي الكلام، وإن كان كثير من الناس قد جعلهما طبقة، فيقول:
( وذهب قوم إلى المساواة بينهما، فإنهما لمختلفان؛ لأن البحتري أعرابي الشعر، مطبوع على مذهب الأوائل،
وما فارق عمودَ الشعر المعروف، وكان يتجنب التعقيد ومستكرَه الألفاظ ووحشي الكلام؛ فهو بأن يقاس بأشجع السلمي، ومنصور، وأبي يعقوب المكفوف، وأمثالهم من المطبوعين أولى. ولأن أبا تمام شديد التكلف، صاحب صنعة، مستكره الألفاظ والمعاني، وشعره لا يشبه أشعار الأوائل، ولا هو على حد طريقتهم؛ لما فيه من الاستعارات البعيدة، والمعاني المولدة، فهو بأن يكون في حيز مسلم بن الوليد ومن حَذَا حذْوَهُ أحق وأشبهوعلى أني لا أجد من أقرنه به؛ لأنه ينحط عن درجة مسلم؛ لسلامة شعر مسلم، وحسن سبكه، وصحة معانيه، ويرتفع عن سائر من ذهب هذا المذهب، وسلك هذا الأسلوب؛ لكثرةِ محاسنِهِ وبدائعه، واختراعاته، ولا نحب أن نطلق الحكم بأيهما أشعر) فهذا كلام يصدر من ناقدٍ مؤرخٍ، يرى الخصائص، ويفسر الظواهر ويقارن بين المذاهب المختلفة.
فهو يخبرنا عمن يفضلون البحتري: الكتاب، والأعراب، والشعراءالمطبوعين، وأهل البلاغة، وعمن يفضلون أبا تمام: أهل المعاني،والشعراء أصحاب الصنعة، ومن يميل إلى الترقيق وفلسفي الكلام، كما يحدثنا عن مذهب كل منهما: عمود الشعر عند البحتري، والبديع عند أبي تمام، ويربط بين الشعراءالمعاصرين؛ (فالبحتري من مذهب أشجع السلمي، ومنصور، وأبي يعقوب المكفوف، وأبو تمام بأن يكون في حيز مسلم بن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه) وهذا ليس تعصبًا، وهو وإن فضل شعر مسلم علىشعر أبي تمام؛ فإنه لم ينكر على هذا الأخير أكثر محاسنه وبدائعه واختراعاته، كما نراه يرفض أن يطلق الحكم بأيهما أفضل.
ونراه يعالج قضاياه العامة، فيعرض الحجج التي كان يحتج بها أنصار الشاعرين، ثم يذكر السرقات التي نسبت إلى كل منهما، ثم يأخذ في دراسة النقد الموضوعي، فيتحدث عن أخطاء أبي تمام وعيوبه، وأخطاء البحتري وعيوبه، ثم يذكر محاسن كل من الشاعرينأبي تمام، والبحتري، ثم يوازن موازنة تفصيلية بين الشاعرين بتتبع معانيهما معنًى معنى.
وقد استخدم الآمدي المعارف المختلفة التي انتهى إليها عصره خير استخدام؛ فنراه يقسم أخطاء أبي تمام وعيوبه إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أخطاء في الألفاظ والمعاني.
الثاني: ما في بديعه من إسراف وقبح.
الثالث: ما كثر في شعره من الزحاف،واضطراب الوزن.
ويصنع الصنيع نفسه مع البحتري.
فهذا كله يدل على أنه قد انتهج في نقده الأصول المتبعة، فيما يسمى بـ: "النقد المنهجي" أو "النقد العلمي".
المحاضرة الثانية عشر
تابع النقد المنهجي عند النقاد ومقاييسه في القرن الرابع الهجري
النقد المنهجي عند القاضي الجرجاني
كان قاضيًا عالمًا في روحه وأسلوبه، وكان أيضًا قاضيًا في منهجه النقدي، لا يقل في تميزه عن النقاد المجيدين كالآمدي، ويتلخص منهجه في النقد في قياس الأشباه والنظائر، وعلى هذا الأساس بنى معظم وساطته بين المتنبي وخصومه.
فهو يبدأ كتابه بتعزيز الحقيقة التي لمسها بنفسه من تعصب الناس للمتنبي أو عليه عن هوى، ويلاحظ أن خصوم الشاعر قد عابوه مثلًا بالخطأ فيحاول أن ينصفه فلا يناقش ما خطئوه فيه، بل يقيسه في أشباههونظائره عند الشعراء المتقدمين، وعنده أنه لم يسلمهم أيضًا من الخطأ، فيقول:
"ودونك هذه الدواوين الجاهلية والإسلامية؛ فانظر هل تجد فيها قصيدةً تسلم من بيتٍ أو أكثر لا يمكن لعائب القدح فيه؛ إما في لفظه ونظمه، أو ترتيبه وتقسيمه، أو معناه وإعرابه؟ ولولا أن أهل الجاهلية جدوا بالتقدم، واعتُقد فيهم أنهم القدوة والأعلام والحجة؛ لوجدت كثيرا من أشعارهم معيبة مسترذلة ومردودة منفية،ولكن هذا الظن الجميل والاعتقاد الحسن ستر عليهم؛ فذهبت الخواطر في الذب عنهم كل مذهب، وقامت بالاحتجاج لهم كل مقام". ثم يورد الجرجاني أمثلةً لما يعتقده خطأ عند القدماء، أغلبه ينحصر في التسكين حيث يجب التحريك؛ وفقًا لقواعد النحو بعد أن استقرت وقنن لها، كما أن من بينها ما يراه خطأ في إصابة صفات الأشياء، وفساد المعنى.
وهو يرى أن النحويين قد تكلفوا من الاحتجاج لهم إذا أمكن تارة بطلبالتخفيف عند توالي الحركات، ومرة بالإتباع والمجاورة، وما شاكل ذلك من المعاذير المتمحلة، وتغيير الرواية إذا ضاقت الحجة، وتثبيت ما راموه في ذلك من المرامي البعيدة، وارتكبوا لأجله من المراكب الصعبة التي يشهد القلب أن المحرك لها والباعث عليها شدة إعظام المتقدم، والكلف بنصرة ما سبق إليه الاعتقاد وألفته النفس.
إن الجرجاني لا يناقش الأخطاء، وإنما يعتذر لها، فهو مدافع لا ناقد يناقش ماأُخذ على الشاعر من أخطاء أو عيوب فنية؛ لذلك نراه إذا فرغ من مسألة الأخطاء، أخذ في مناقشة المسألة المهمة التي تعتبر مفصل الخصومة، وهي تفاوت الشاعر جودة ورداءة، ثم اختلافه عن شعر السابقين، وإن يكن قد وسَّع منه، فأضاف إلى القياس النظرة التاريخية، وهنا تكمن شخصية الجرجاني الناقد، الذي لم يكن قاضيًا عالمًا فقط، بل مؤرخًا أيضًا.
وحينما نقارن ذوقَهُ بذوق الآمدي، نجد أن الناقدين يفضلان الشعر المطبوع علىالصناعة، وإن كان الآمدي أميل من الجرجاني إلى إعزاز القديم، وتحكيمه في الشعر الحديث؛ يقول الجرجاني عن لغة الشعر:
"ومتى سمعتني أختار للمحدَث هذا الاختيار، فلا تظن أني أريد بالسمح السهل الضعيفَ الرقيق، ولا باللطيف الرشيق المؤنثَ، بل أريد اللفظ الأوسط؛ ما ارتفع عن الساقط السوقي، وانحطَّ عن البدوي الوحشي".
ثم نراه يقول: "وإذا أردت أن تعرف مواقع اللفظ الرشيق في القلب؛ فتصفح شعر جرير وذي الرمة في القدماء، والبحتري في المتأخرين، وتتبع نسيب متيم العرب، ومتغزل أهل الحجاز، كـ: عمر، وكثير، وجميل، ونصيب، وأضرابهم، وقِسْهُم بمن هو أجود منهم شعرًا، وأفصح لفظًا وسبكًا، ثم انظر واحكم وانصف، ودعني من قولك: هل زاد على كذا؟ وهل قال إلا ما قاله فلان؟ فإن روعة اللفظ تسبق بك إلى الحكم، وإنما تقضي إلى المعنى عندالتفتيش والكشف، وملاك الأمر في هذا الباب خاصة ترك التكلف، ورفض التعمل والاسترسال للطبع، وتجنب الحمل عليه والعنف به، ولست أعني بهذا كل طبع، بل المهذب الذي صقله الأدب، وشحذته الرواية، وجلته الفطنة، ومتى أردت أن تعرف ذلك عيانًا، وتستثبته مواجهة، فتعرف فرق ما بين المصنوع والمطبوع، وفضل ما بين السمح المنقاد والعصي المستكره؛ فاعمد إلى شعر البحتري، ودع ما يصدر بهالاختيار، ويعد في أول مراتب الجودة، ويتبين فيه أثر الاحتفال، وعليك بما قاله عن عفوِ خاطِرِهِ، وأول فكرته".
فمن هذا النص نرى أن اللغة التي يفضلها الجرجاني في الشعر، هي تلك التي تسمو عن السوقي، ولا تصل إلى الوحشي، وفي اختياره للبحتري، وجرير، وذي الرمة، ومتغزلي أهل الحجاز؛ ما يدل على سلامة ذوقه ودقته. والفرق بين الجرجاني والآمدي: أن الجرجاني أقرب إلى محبة السهولة الرصينة من الآمدي،وإن اتفقا في حكمهما على جوهر الشعر ذاته؛ فالآمدي أديب الذوق،حارّ النفس سريع الانفعال، يتعصب ككل أديب لما يراه جميلًا، ويثور ضدَّ مَا يبدو له قبيحًا، ونراه أكثر من مرةٍ يتهمُ أَبَا تمام بالحمق والسخف، وتلك لغة لا يعرفها الجرجاني القاضي، المتزن الهادئ النفس، السمح الطبع الرحب الصدر؛ فالجرجاني كالآمدي يفضل الشعر المطبوع، ولكنه لا يتعصب له.
وملخص مقاييس الجودة عند القاضي علي الجرجاني:
هي الخلوّ من الابتذال قدر البعد عن الصنعة والإغراب، ثم تأثيره في نفس السامع فالجرجاني هنا ناقد فني، وناقد إنساني بخلاف الآمدي الذي يغلب عليه النقد الفني الخالص، نقد الصياغة والمعاني في ذاتها، وللآمدي في ذلك عذره بأنه يتناول بالدرس شاعرين صارت الخصومة حولهما؛ بسبب اختلافهما في طرق الصياغة فقط.
أما الجرجاني فلم يتقيد بقيد كهذا، فلم يختصم الناس في المتنبي من أجل مذهبفني، وإنما اختصموا في الرجل وطبعه وفنه الأصيل، الذي لم يجر على مذهب بعينه.
من موضوعات النقد المنهجي : الموازنة بين الشعراء:
الموازنة التي نقصدها هي الموازنة المنهجية ، وهذه الموازنة بهذا الوصف لا نجدها إلا عند الآمدي، فقد كانت الموازنة قبله بعيدة في جملتها عن الروح العلمية؛ حيث لم تصدر عن مناهج علمية مستقيمة، فظهرت كمفاضلة أو طبقات تقوم على مقاييس فنية وفقًا للأهواء، وعصبيات العشائر، والأحكام فيها مقتضبة غير مفصلة على خلاف ما هو معروف في النقد العلمي المنهجي ، وموازنة الآمدي موازنة منهجية فنية لم تحتمل المنهجينالتاريخي والنفسي؛ لعدم ظهور علاقة واضحة بين حياة الطائيين وبين شعريهما .
وقد استطاع الآمدي أن يجعل لموازنتِهِ قيمَةً حقيقية؛ وذلك بأمرين:
الأمر الأول: أنه لم يقصرها على أبي تمام والبحتري, بل أحاط بكل معنى عرض له عند الشعراء المختلفين.
الأمر الثاني: أنه لا يقف فيها عند مجرد مفاضلة بين شاعرين، بل يتعداها إلىإيضاح خصائص كل منهما، وما انفرد به دون صاحبه أو دون غيره من الشعراء، وحين يكشف لنا الآمدي عن خصائص كل شاعر، وعما يخالف فيه غيره من الشعراء لا يفسر سبب ما يلاحظه، وإنما يكتفي بأن يناقشه من الناحية الإنسانية فقط، ولنضرب مثالًا يوضح ما قلناه: يتحدث الناقد مثلًا عما لاقاه في سؤال الديار، واستعجامها عن الجواب والبكاء، فيورد لأبي تمام قوله:من سجَايَا الطُّلُولِ ألَّا تجيبا
فصوابٌ من مُقلتي أن تَصُوبَافَسَأَلْنَاهَا واجْعَل بُكَاكَ جَوَابَا
تَجدْ للشَّوق سائلا ومجيبَا".
تصوب في البيت الأول من قولهم: صاب المطر، أي: انصبّ، ثم يقول الآمدي: "وقوله: "فَسَأَلْنَاهَا واجْعَل بُكَاكَ جَوَابَا"؛ لأنه قد قال: من سجاياها ألا تجيبا، فليكن بكاك الجواب؛ لأنها لو أجابت أجابت بما يبكيك، أو لأنها لما لم تجب علمتَ أن من كان يجيب قد رحل عنها؛ فأوجب ذلك بكاك.
وقوله: "تجد الشوق سائلًا ومجيبا"، أي: إنك إنما وقفت على الدار، وسألتها لشدة شوقك إلى من كان بها، ثم بكيت شوقًا أيضًا إليهم، فكان الشوق سببًا للسؤال وسببًا للبكاء، وهذه فلسفة حسنة ومذهب من مذاهب أبي تمام، ليس على مذاهب الشعراء ولا طريقتهم".
فالآمدي يبصرنا بأن هذا المعنى من ابتكارات أبي تمام، ولكنه لا يفسر عثوره به ولا اختياره له، وإنما هو توليد شعري ومذهب فني انفرد به، ولو حاولنا أن نردذلك إلى حقيقة نفسية لصعب الأمر علينا؛ لأن الأمر كله أمر صناعة تقليدية، وأبو تمام لم يسلم على الديار، ولم يقف بها ويبك عليها؛ لأن شيئًا من ذلك قد حدث فعلًا في حياته، وإنما فعل ذلك القدماء وجاء هو فسلك سبيلهم، ولا ننكر أنه هو أو غيره من المقلِّدين قد يكون صادق الحزن.
إن الناظر في موازنة الآمدي بين الشعراء يمكنه أن يستخلص منهجه العام فيها؛ فقد تتبع فيها ترتيب المعاني في القصيدةالعربية التقليدية, فقسمها إلى ديباجة، وخروج في معاني المدح؛ فموازنته موازنة منهجية في ناحيتيها: ناحية المفاضلة ، وناحية استنباط الخصائص.
ولقد حَكَم كثيرٌ من الدارسين على موازنة الآمدي، بأنها الوحيدة في تاريخ النقد العربي؛ لأن المؤلفين اللاحقين قد اكتفوا بنقل آراء السابقين في المفاضلة بين الشعراء، كما في (عمدة) ابن رشيق، أو أتوا بموازنة وصفية عامة كالتي يوردها ابن الأثير عندما يوازن بين أبي تمام والبحتري والمتنبي، ويحدد فيها خصائص كلٍّ منهم، أو يضعوا مقاييس للحكم على جودة الشعر ورداءته كما فعل عبد القاهر الجرجاني.
وأما عبد العزيز الجرجاني القاضي فإنه قارن بين المتنبي وغيره من الشعراء ولكن مقارنته جاءت مقتضبة؛ لتظل موازنة الآمدي فريدة في النقد العربي -كما رأى كثير من العلماء المحدَثين.
  رد مع اقتباس
قديم 2015- 12- 18   #4
ماذا لو ؟!!
أكـاديـمـي نــشـط
 
الصورة الرمزية ماذا لو ؟!!
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 189610
تاريخ التسجيل: Thu May 2014
المشاركات: 101
الـجنــس : أنـثـى
عدد الـنقـاط : 4390
مؤشر المستوى: 48
ماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enough
بيانات الطالب:
الكلية: كلية الآداب
الدراسة: انتساب
التخصص: لغة عربية
المستوى: المستوى الثالث
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
ماذا لو ؟!! غير متواجد حالياً
رد: محتوى النقد العربي القديم من تجميعي

المحاضرة الثالثة عشر
كتاب (طبقات فحول الشعراء) لإبن سلام
أولا: التعريف بإبن سلام :
هو أبو عبد الله محمد بن سلام بن عبيد الله بن سالم الجمحي البصري، مولى قدامة بن مظعون الجمحي، وُلِدَ بالبصرة في سنة تسع وثلاثين ومائة، وتوفي ببغداد سنة إحدى وثلاثين ومائتين أو سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وقد ابيضَّتْ لحيته ورأسه ولَهُ سبْع وعشرون سنة، وعمَّر نحوًا من ثلاث وتسعين سنة.سمع شيوخ العلم والحديث والأدب، كما سمع منه شيوخ العلم والحديث والأدب أيضًا، فقد عاصر كثيرًا من علماء اللغة ونُحاتِهَا ورواة أدبها وأخبارها ممن عاشوا في القرن الثاني الهجري، في تلك البيئة التي اشتهرت بالمحققين من العلماء في صنوفِ الثقافة العربية، وتصفه كتب التراجم بأنه أحد الأخباريين والرواة، وبأنه كان من أهل الأدب.
وتصفه بعلمِهِ الواسعِ بالشعر والأخبار, وقد عدَّهُ الكاتبون في طبقات النحاة واللغويين في الطبقة الخامسة بين علماء البصرة.
أما شيوخه في كتابه (طبقات فحول الشعراء)، فقد ذكر محقق الكتاب وهو الشيخ محمود محمد شاكر -رحمه الله- عددًا كبيرًا، منهم: الأصمعي، وبشار بن برد، وخلف الأحمر، وأبو زيد الأنصاري، وسيبويه، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وقد عدَّهُم المحقق ورأى أن عدتهم تسعةوسبعون شيخًا، روى عنهم ابن سلام في كتابه؛ منهم أبوه سلام بن عبيد الله بن سالم الجمحي.
فقد كان ابن سلام من أهل بيت لهم في العلم باع، منهم أبوه وأخوه عبد الرحمن بن سلام الجمحي أحد رواة الحديث, روى عنه مسلم وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم، وقد روى عن ابن سلام نفرٌ من العلماء منهم: ثعلب، وأبو حاتم، والمازني، وأحمد بن حنبل، وابنه عبد الله بن أحمد، وغيرهم من الأئمة.
ثانيا : التعريف بالكتاب :
ترك ابنُ سَلَّام عدَّةَ كُتب تدلُّ على تنوع معارفه, منها: كتاب (غريب القرآن) وكتاب (بيوتات العرب) وكتاب (طبقات فحول الشعراء)، وهناك قول بأن له في الطبقات كتابين؛ للشعراء الجاهليين كتاب، وللشعراء الإسلاميين كتاب آخر. وقد نُشِرَ الكتاب بشرح وتحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، الذي تصرف في الاسم المعروف للكتاب (طبقات الشعراء) فجعله (طبقات فحول الشعراء) وهو بهذا قد قدمعملًا نافعًا، وأسدى إلى الباحثين يدًا بما جمع من أقوال رواها المرزباني في (الموشح) عن إبراهيم بن شهاب عن أبي خليفة عن ابن سلام، وقد تمم بهذه الأخبار وغيرها نقصًا رآه في الكتاب، أو صحح بها خطأ.
ثالثا : منهج الكتاب وقيمته :
أما منهج ابن سلام في (الطبقات) فيبرز في أنه تكلم في الشعراء، وأراد أن يُنزلهم منازلهم ويصنفهم إلى طبقات، وقد انتهج لتحقيق هذه الغاية ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الفحص عن الأشعار المنسوبة إليهم؛ للتأكد من صحة نسبتها إليهم.
الأمر الثاني: النظر في التراث الذي خلفه الشعراء نظرةً عميقةً، تمكن من الحكم عليه؛ لمعرفة نواحي الإجادة ومواضع التقصير.
الأمر الثالث: الإفادة في أحكامه من آراءالسابقين؛ حيث استعان ابن سلام في أحكامه برواية أقوال من مضى من أهل العلم في الشعراء، وأفاد من آرائهم في تقديم شاعر على غيره أو تحديد طبقته.
وقد سلك في النظر إلى الشعراء طرقًا مختلفة، منها: الطريقة التاريخية حيث قسم الشعراء؛ بحسب أزمانهم إلى جاهليين ومخضرمين وإسلاميين، كما نظر في بيئاتهم وأثرها في شعرهم؛ فخصص فصلًا لشعراء القرى العربية، وشعراء المدينة، وشعراء مكة، وشعراء الطائف,وشعراء يهود المدينة.
كما نظر إلى الشعراء من ناحية فنون شعرهم وأبوابه، واقتصر على المجودين في المراثي دون غيرهم من الذين عالجوا سائر الأغراض؛ لكون شعر الرثاء أغزر ألوان الشعر المميزة بالعاطفة الصادقة؛ لذلك جاءت الجهود النقدية لابن سلام مبنية على منهج علمي في محاولتِهِ تصنيف الشعراء, حيث نجد كتابًا وافيًا للشعر العربي يسلك صاحبه المنهج العلمي.
ولا شك في أن محاولة تقسيم الأدباء والشعراء إلى طبقات بحسب تفاوتهم في كثرة النتاج، أو في جودته، أو في قدرتهم على التصرف في فنون الشعر -تُعَدُّ من فنون الدراسات النقدية، فقد جعل الجاهليين من الشعراء عشر طبقات، وجعل في كل طبقة أربعة شعراء.
الطبقة الأولى: امرؤ القيس، ونابغة بني ذبيان، وزهير بن أبي سلمى, والأعشى ميمون بن قيس. الطبقة الثانية: أوس بن حجر، وبشر بن أبي خازم، وكعب بن زهير، والحطيئة
الطبقة الثالثة: النابغة الجعدي، وأبو ذؤيب الهذلي، والشماخ بن ضرار، ولبيد بن ربيعة.
الطبقة الرابعة: طرفة بن العبد، وابن الأبرص، وعلقمة، وعدي بن زيد.
الطبقة الخامسة: خداش بن زهير، والأسود، والمخبل السعدي، وتميم بن أبي نويرة.
الطبقة السادسة: عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة, وعنترة بن شداد، وسويد بن أبي كهل.
الطبقة السابعة: سلامة بن جندل، والحصين بن الحمام، والمتلمس، والمسيب بن علس.
الطبقة الثامنة: عمرو بن قميئة، والنمر بن تولب، وأوس الهجيمي، وعوف بن عطية.
الطبقة التاسعة: ضابئُ البرجمي وسويد بن قراع، والحويدر الذبياني، وسحيم عبد بني الحسحاس.
الطبقة العاشرة: أمية بن حرثان، وحريث بن محفظ، والكميت بن معروف، وعمرو بن شأس. ثم عقب هؤلاء بطبقة أصحاب المراثي، وهم: متمم بن نويرة والخنساء، وأعشى باهلة، وكعب بن سعد الغنوي
ثم بشعراء القُرَى العربية وهن خمسٌ: المدينة ومكة والطائف واليمامة والبحرين، وشعراء المدينة الفحول خمسة: ثلاثة من الخزرج، واثنان من الأوس، فمن الخزرج من بني النجار حسان بن ثابت، ومن بني سلمة كعب بن مالك، ومن بلحارث بن الخزرج عبد الله بن رواحة، ومن الأوس قيس بن الخطيم من بني زفر، وأبو القيس بن الأسلت من بني عمرو بن عوف.
وبمكة شعراء وأورعهم شعرًا عبد الله بن الزبعرى, وفيهم شعراء هم: أبو طالب ابنعبد المطلب، والزبير بن عبد المطلب, وأبو سفيان بن الحارث، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وضرار بن الخطاب، وأبو عزة الجمحي، وعبد الله بن حذافة، وهبير بن أبي وهب. وشعراء الطائف: أبو الصلت بن أبي ربيعة، وابنه أمية بن أبي الصلت وهو أشعرهم، وأبو محجن الثقفي، وغيلان بن سلمة, وكنانة بن عبد يعيش.أما اليمامة؛ فإن ابن سلام يقرر أنه لا يعرف بها شاعرًا مشهورًا، قال ابن سلام: "وفي البحرين شعر كثيروفصاحة، ومن شعرائها: المثقب العبدي، والممزق العبدي، والمفضل بن معشر".
وفي يهود المدينة وأكنافها شعر جيد، ومن شعرائها: السموءل بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وشريح بن عمران, وشعبة بن غريض، وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الزيال، ودرهم بن زيد.
أما الشعراء الإسلاميون فقد جعلهم كالجاهليين عشر طبقات أيضًا, وفي كل طبقة أربعة شعراء:
الطبقة الأولى: الفرزدق، وجرير، والأخطل، والراعي.
الطبقة الثانية: البعيث المجاشعي، والقطامي، وكثير عزة، وذو الرمة.
الطبقة الثالثة: كعب بن جعيل، وعمرو بن أحمر الباهلي، وسحيم بن وثيل الرياحي, وأوس بن مغراء القريعي.
الطبقة الرابعة: نهشل بن حريّ الدارمي, وحميد بن ثور الهلالي، والأشهب بن رميلة، وعمر بن لجأ التيم.
الطبقة الخامسة: أبوزبيد الطائي، والعجير ابن عبد الله السلولي، وعبد الله بن همام السلولي،ونفيع بن لقيط الأسدي.الطبقة السادسة: حجازيون: ابن قيس الرقيات، والأحوص الأنصاري, وجميل، ونصيب.
الطبقة السابعة: المتوكل الليثي، ويزيد بن ربيعة، وزياد الأعجم، وعدي بن الرقاع.
الطبقة الثامنة: عقيل بن علفة المري, وبشامة بن الغدير، وشبيب بن البرصاء، وقراد بن حنش.
الطبقة التاسعة: رجاز: الأغلب العجلي، وأبو النجم العجلي، والعجاج بن رؤبة، ورؤبة بن العجاج.
الطبقة العاشرة: تضم مزاحم بن الحارث العقيلي، ويزيد بن الطثرية، وأبا دؤاد الرؤاسي، والقحيف بن سليم العقيلي.
ونُجمل آراء ابن سلام النقدية فنقول: لقد رأى أن الشعر ونقده صناعة، وأن له ثقافة لا يعرفها إلا أهلُ العلم به كسائر أصناف العلوم والصناعة، كما لا يغفل أثر الذوق في تقدير القيم الفنية والإحساس بالجمال، ولنا أن نقرأ مقدمة كتابه؛ لنرى قوله: "وللشعر صناعة، وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصنافالعلم والصناعات، منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان ،من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا تعرفه بصفة، ولا وزنٍ دون المعاينة ممن يبصره، ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم, لا تعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراز، ولا وسم ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف بهرجها وزائفها، وستوقها ومفرغها -الستوق: إذا كان من ثلاث طبقات يرد ويطرح، والمفرغ: المصمت المصبوبفي قالب ليس بمضروب- ومنه البصر بغريب النخل، والبصر بأنواع المتاع وضروبه، واختلاف بلاده مع تشابه لونه ومسه وزرعه, حتى يضاف كل صنف إلى بلده الذي خرج منه.
وكذلك بصر الرقيق فتوصف الجارية فيقال: ناصعة اللون، جيدة الشطب, نقية الثغر، حسنة العين والأنف، جيدة النهود، ظريفة اللسان، واردة الشعر؛ فتكون في هذه الصفة بمائة دينار وبمائتي دينار،
وتكون أخرى بألف دينار وأكثر، ولا يجد واصفها مزيدًا على هذه الصفة، وتوصف الدابة فيقال: خفيف العنان، لين الظهر، شديد الحافر، فتي السن، نقي من العيوب؛ فيكون بخمسين دينارًا أو نحوها، وتكون أخرى بمائتي دينار وأكثر، وتكون هذه صفتها" إلى آخره.
كما بحث ابن سلام بحثًا عميقًا في الشعر الصحيح والشعر المصنوع, فأوجب على الناقد أن ينظر في النص الأدبي قبل أن ينقده، وقبل أن يحكم على الأديب بأنيتأكد من صحةِ نسبةِ الشعرِ إلى قائله؛ حتى لا يحكم على الشاعر بشعر غيره, الذي حمل عليه الصناع والمتزيدون.
ومن أمثلة ما نبه عليه من ذلك: أن الذي صح لطرفة، وعبيد بن الأبرص نحو عشر قصائد، وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة، وإن كان ما يروى من الغثاء لهما؛ فليس يستحقان مكانهما على أفواه الرواة.
ولم يفُت ابن سلام أن ينبه إلى بعضأسباب وضع الشعر وانتحاله, فذكر منها: أن العرب لما راجعت رواية الشعر، وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسنة شعرائهم, ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار.
ثم ذكر طائفة من الرواة المحققين الذين عُرِفُوا بالصدق، وفي طليعتهم -في نظره- يونس بن حبيب، والأصمعي، وأبو عمروبن العلاء، وخلف الأحمر؛ كما ذكر طائفة من الوُضَّاع منهم: محمد بن إسحاق، وحماد الراوية.
وهكذا نرى أن ابن سلام طرق عدة مسائل نقدية؛ فقد ربط النقد بخبرة الناقد وذوقه، ورأى الحاجة ملحة إلى تحقيق النصوص, حيث رأى أن بعض الشعراء قد نسب إليهم شعر لم يقولوه؛ لعوامل أرجعها إلى الرواة، والتدوين الذي حدث من القصاص، وأيضًا أرجع بعضها إلى ضياع كثير من الشعر،وانصراف الناس إلى الجهاد، كما أرجع بعضها إلى أن بعض القبائل قد استقلت شعراءهم؛ مما دعا إلى التزيد في الأشعار؛ لهذا تميزت آراء ابن سلام بذوق وإحساس مرهفين حيث استطاع أن يميز الشعر المنحول في العصر الجاهلي، كما كان ذا ذوقٍ رائعٍ ميّز به نسبة الشعر إلى بعض الشعراء دون بعض.
كما كان ابن سلام ذا ذوق ميز به خصائص الشعراء, كما ذكر فيخصيصة شعر المهلهل بن ربيعة، قالوا: وإنما سمي المهلهل؛ لهلهلة شعره، أي: اضطرابه واختلافه
ويظل كتاب ابن سلام من أهم ما كتب في النقد الأدبي عند العرب، ويظل ابن سلام من أجلَّاءِ النقَّادِ صحةَ ذهنٍ، ونفاذَ بصر، بما بسط من القول وأوضح من الدلائل وبَيَّنَ من العلل.
المحاضرة الرابعة عشر
(البيان والتبيين)و(نقدالشعر)و(دلائل الاعجاز):منهاجها وقيمتها
(البيان والتبيين ) للجاحظ : منهجه وقيمته:
إن (البيان والتبيين) واحد من مئات الكتب التي ألَّفَها شيخنا الجاحظ, أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة، ولُقِّبَ بالجاحظ لجحوظ في عينيه جعلهما بارزتين، كالخارجتين عن مكانهما، وهو عربي؛ لانتمائه إلى كنانة بن خزيمة، ، وكانت وفاتُه عام خمسة وخمسين ومائتين. وقد تهيأ للجاحظ ثقافة واسعة، وعلم وافر؛ ذلك أنه لم يدع علمًا معروفًا في أيامه إلا نظر فيه، واطلع عليه؛ فقد درس الفلسفة والمنطق، والطبيعيات، والرياضيات،والتاريخ، والسياسة، والأخلاق، والفراسة فاكتملت آلته؛ فإذا هو فقيه متكلم، متفلسفٌ محدِّثٌ، وإن لم يكن له حظ في الحديث.
فبرع في الأدب واللغة, وكان راويةً للأخبار والأشعار، بَحَّاثَةً عن الحيوان والنبات، نقَّادًا للأخلاق والعادات، ولم يكن الفلك والموسيقى والغناء بعيدًا عنه، وظهر هذا كله في مؤلفاتِهِ التي وصلت إلى ما يقرب من ثلاثمائة وستين مؤلفًا في فنون شتى من المعرفة
والجاحظ بحق يعد مؤسس علم البلاغة العربية, التي يقوم النقد العربي على كثير من أصولها، ويعد الجاحظ من خطباء المعتزلة وأئمتهم الكبار بمقتضى الحال، وكذا فصاحة الكلمة والكلام، وكذا البيان الذي جعله عنوانًا لهذا المؤلف المهم وهو البيان والتبيين .
ومن القضايا التي يراها القارئ في (البيان والتبيين):قضية البديع،والسجع، والمزدوج والتقسيم، والاحتراس، والاقتباس، وأسلوب الحكيم. ومن القضايا الخاصةبالنقد الأدبي نراه يفضل اللفظ على المعنى، ونراه يبدي رأيه في شعر العرب والمولدين، فيرى أن عامة العرب في مجموعهم أشعر من عامة الشعراء المولدين في مجموعهم، وإن كان ذلك الحكم لا يستوجب التفضيل في كل ما قالوه. ونراه يفرق بين المولَّد والأعرابي من جهةِ جودَةِ الشعر، ويقرر أن المولَّد يُلْحَق بالأعرابي في الأبيات، لا في القصائد الطوال ،كما نراه يقلل من شأن النحاة ورواة الأخبار, كما نراه يذكرالمطبوعين والمولدين من الشعراء، ويرى أن أطبعهم بشار ثم أبو نواس.والملاحظ أن الجاحظ وابن سلام تعاصرا، والمتمعن في كتابي الرجلين يرى أن كتاب الطبقات لابن سلام متقدم على (البيان والتبيين), وقد نقل الجاحظ فعلًا عن ابن سلام في (البيان) و(الحيوان)، وحينما نقارن في عجالة بين (الطبقات) و(البيان) نرى أن الطبقات قام على منهجٍ علميٍّ، أما البيان فهو موسوعة في الآداب وفنونِه، وفي أعلامِهِ.
ومن سمات (البيان والتبيين):الأسلوب الاستطراديوذلك لتشعب فنون الأدب، وحرص الجاحظ على إحصاء كل ظاهرةٍ بيانية. وقد بان أن الجاحظ اهتم باللفظ والمعنى معًا على خلاف القراءة السريعة لبعض النصوص التي تراه منتصرًا للفظ على حساب المعنى؛ لذلك انقسم الأدباء والنقاد ما بين مؤيدٍ ومعارضٍ لهذه الفكرة. وقد وضع أصولًا ثابتةً للأسلوب، وأهمها: أن الأسلوب تظهر معالمه لدى المخاطب والموضوع والمعنى، فينبغي أن يكون الأسلوب مطابقًا لأحوال المخاطبين.
(نقد الشعر) لقدامة بن جعفر : منهجه وقيمته:
قدامة هو: أبو الفرج قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد، وُلِدَ على الأرجح في بغداد سنة خمسٍ وسبعين ومائتين من الهجرة، وكانت وفاته بها سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وكان والده من كُتَّاب الدولة العباسية. كان هدفه من تأليف كتاب( نقد الشعر) ذكْرَ صفات الشعر التي إذا اجتمعت فيه كان في غايةِ الجودةِ، وهو الغرض الذي تنتحيه الشعراء، والغاية الأخرى المضادة لهذه الغاية هي نهاية الرداءة؛ ولذلك نراهُ يقسِّمُ الشعرَ إلى ثلاثطبقات: الأولى هي العليا، وهي التي في غاية الجودةِ، والأخيرة هي الدنيا، وهي التي في غاية الرداءة، ثم ما بين الطبقتين هي الطبقة الوسطى، وهي التي اجتمعت فيها صفات من الأولى، وصفات من الثانية. وكانت غايةُ قدامة تحديد كل طبقة من تلك الطبقات، وتوضيح معالمها وشرح خصائصها، وهذا الهدف يحدد بنفسه المنهج الذي سار عليه في تحقيقها، وهو منهج علمي يعتمد على التعريف والتحديد، ويجتهد في حصرِ المَسَائِل، وإحصاء الأحوال، واستقصاء الأجناس، فهو منهجٌ موضوعيٌّ فنيٌّ أَوْ أَدَبِيٌّ.
نظر قدامةُ في الشعر العربي؛ فوجده يتكون من أربعة عناصر هي: اللفظ، والمعنى، والوزن، والقافية، ووجد أن اللفظ والمعنى والوزن تأتلف فيحْدُثُ من ائتلافها معانٍ يُتَكَلَّمُ فيها، ولم يجد للقافية مع واحد من سائر الأسباب الأخرى ائتلافًا، ولكنه وجَدَ لها هذا الائتلاف مع سائر البيت، فأمَّا مع غيرها فلا؛ لأنها ليست ذاتًا يجب بها أن يكون لها ائتلافٌ مع شيءٍ آخر.واستطاع بهذا النظر أن يحصرَ ما يحدث من ائتلاف بعض هذه الأسباب مع بعض في أربعة أقسام: ائتلاف اللفظ مع المعنى، ثم ائتلافُ اللفظ مع الوزن، ثم ائتلاف المعنى مع الوزن، ثم ائتلاف المعنى مع القافية؛ فإذا أضيفت هذه الأربعة المركبات إلى الأربعة المفردات، ونعني بها اللفظ والمعنى والوزن القافية, صارت أجناس الشعر ثمانية، وإذا أتم له ما أراد من هذا الحصر ابتدأ بذكر نعوت كل منها مفردةً ومركبةً، وابتدأ باللفظ، ثم الوزن، .ثم المعنى، ثم القافية ، ثم انتقل بعد ذلك إلى نعتِ ائتلاف اللفظ مع المعنى، ثم ائتلاف اللفظِ مع الوزنِ، ثم ائتلاف المعنى مع الوزن، ثم ائتلاف القافية مع معنى ما يدل عليه سائر البيت، وهذا هو الفصل الثاني من الكتاب؛ لأنه خصص الفصل الأول للكلام في حد الشعر ومفهومه، وعلى النحو الذي سلكه في الفصل الثاني -أي: في ذكر النعوت، والمحاسن- يسير في الفصل الثالث الذي خصصه لذكر عيوب الشعر, على الترتيب نفسه الذي درسعلى أساسه النعوت، فأحصى عيوب المفردات، وعيوب المركبات، وبهذا يتم الكتاب، وتتم الصورة التي رسمها قدامة لكتابه. فمن نعوت اللفظ مفردًا: سماحته، وسهولة مخارج حروفه، ومن عيوبه: اللحن، والجري على غير سبيل اللغة، والحوشيات، والمعاظلة، ومن نعوت اللفظ مؤتلفًا مع المعنى: ما سماه بالمساواة، والإشارات والإرداف، والتمثيل، والمطابقة، والمجانسة، ومن عيوبه: الإخلال، وعكسه، ومن نعوتاللفظ مؤتلفًا مع الوزن: تمام الألفاظ، واستقامتها، ومراعاة نظامها وترتيبها، وعدم الزيادة فيها أو النقص منها, ومن عيوبه: ما سماه بالحشو، أو إحالة اللفظ من صورةٍ إلى أخرى لإقامة الوزن، أو التغيير أو التعظيل، وهو تقديم وتأخير لإقامة الوزن، ومن نعوتِ المعنَى مفردًا: ما سمَّاهُ بصحةِ التقسيم، وصحة المقابلات، وصحة التفسير والتتميم، والمبالغة، والتكافؤ، والالتفات. ومن عيوبه: فساد المقابلات، وفساد التفسير،والاستحالةُ والتناقض، ونسبةُ الشيء إلى ما ليس له، ذكر هذا بالطبع بعد ذكره نعوت المديح والهجاء، والمراثي، والتشبيه، والوصف، والنسيب.
ومن نعوت المعنى مؤتلفًا مع الوزن: تمامه واستيفاؤه وصحته، ومن عيوبه: القلب والبطن، ومن نعوت الوزن مفردًا: سهولة العروض والترصيع, ومن عيوبه: الخروج عن العروض، وكذا ما سماه بالتخليع، ومن نعوت القافية مفردة: عذوبة الحروف، وسلامة المخرج،والتصريع، ومن عيوبها: الإقواء والإيطاء، ومن نعوتها مؤتلفة مع سائر البيت: تعلقها بما تقدم من معنى البيت، والتوشيح والإيغال, ومن عيوبها: تكلفها واستدعاؤها، وتعمد السجع فيها من غير فائدة للمعنى.
هذا هو الهيكل العام للصورة التي ارتسمت في ذهن القدامى, وهذا هو المنهج الذي سلكه في نقد الشعر.
والمتأمل في جهوده النقدية يرى أنه جعل مجموع التقاليد الشعرية دعامة كتابه.
وقد دافع عن الشعراء القدماء، كما اهتم بالصورة الأدبية، ودرس كثيرًا من وسائل الافتنان في رسمها كالترصيع وغيره، وسماها نعوتًا للجودة أو محسنات بديعية، مشترطًا أن يستخدم هذا البديع دون تكلف، وهذا يكون من البلاغة حين تدرس بوصف كونها قوانين نظرية لها شروطها، وتكون من النقد حين تشرح مقاييسها النقدية، وكيف يقدر الشعر على أساسها إذا وجد.
(دلائل الإعجاز) لعبدالقاهر الجرجاني : منهجه وقيمته:
عبد القاهر هو: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني, من أسرة فارسية، نشأ في كنفها من المولد إلى الوفاة، وأقامت هذه الأسرة في جرجان، وهي يومئذٍ حافلة بمختلف الاتجاهات الفكرية، توفي سنة (471هـ).
وكتاب (دلائل الإعجاز) الذي بين أيدينا كتابٌ في الإعجاز القرآني, ذهب فيه عبد القاهر إلى تفصيل أسرار الإعجاز ودلائله من جهة نظمه, وبدأه ببيان فضل العلم الذي هو بصدده، والإيحاء بأن معرفةالإعجاز تقتضي معرفةَ الشعر، وبحثَ الأسبابَ التي يكون بها التباين في الفضل؛ ولهذا عَقَد فصلًا لمناقشة من زهدُوا في روايةِ الشعر وذمُّوا الاشتغالَ به، ومن أصغَرُوا أمرَ النحو وأنكروا دوره في صياغَةِ الكلام.
وأخذ يحققُ القولَ في البلاغةِ والفصاحةِ، والبيانِ والبراعةِ، ورأى أنه لا معنى لإفراد اللفظ بالنعت والصفة، ونسبة الفضل إليه دون المعنى غير وصفِ الكلامِ بحسن الدلالة.
ويرى -رحمه الله- أن النظمَ كان عنده النظير للنسج والتأليف والصياغة، والبناء والوشي والتحبير، وإذا ثبت أن المزية للفظ في حال نظمه إنما تعود للمعنى؛ وجب تفضيلُ أمر هذه المزية، وبيان الجهات التي تعرض منها؛ ومن هنا شرع الإمام عبد القاهر يدرس اللفظ، فيُطلق ويُراد به غير ظاهره من كنايةٍ ومجازٍ، ويدرس أشهر أنواع المجاز، وهو الاستعارة والتمثيل، ويعرض للتقديم والتأخير، ومواضعهما وأسرارهما، على ما تقتضيه معاني النحو وأحكامه، وعلى نحو من ذلك يعرض لمواضع الحذف والإضمار في الكلام، ويدرس الخبر والفرق بين قسميه، ويدرس الوجوه في استعمال الخبر اسمًا وفعلًا، مفردًا وجملةً، مثبتًا ومنفيًّا، معرفًا ومنكرًا، وما يفيده كلٌّ في موقعه من الكلام, ثم يتناول الفصلَ والوصلَ وقواعدهما، ومداخل التفنن فيهما وأسباب ذلك.
ويعاود القولَ في النظم, فينكر أن يكون التفاضل باللفظ وحده دون المعنى.
إن نظرية النظم للشيخ الإمام عبد القاهر نظرية خالدة متكاملة, تجمع بين الفلسفة اللغوية والذوق، والتي يعتمدها الغرب حاليا في فلسفة اللغات وفي نقد الآداب.



وفقكم الله ولاتنسوني من الدعاء
اختكم : ماذا لو ؟!!

التعديل الأخير تم بواسطة ماذا لو ؟!! ; 2015- 12- 18 الساعة 04:24 PM
  رد مع اقتباس
قديم 2015- 12- 18   #5
ماذا لو ؟!!
أكـاديـمـي نــشـط
 
الصورة الرمزية ماذا لو ؟!!
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 189610
تاريخ التسجيل: Thu May 2014
المشاركات: 101
الـجنــس : أنـثـى
عدد الـنقـاط : 4390
مؤشر المستوى: 48
ماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enoughماذا لو ؟!! will become famous soon enough
بيانات الطالب:
الكلية: كلية الآداب
الدراسة: انتساب
التخصص: لغة عربية
المستوى: المستوى الثالث
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
ماذا لو ؟!! غير متواجد حالياً
رد: محتوى النقد العربي القديم من تجميعي

بالنسبة لمحتوى البلاغة هو نفسه المحتوى القديم تبع الدكتور فايز ماتغير الي تغير هو الدكتور وبإمكانكم التأكد بنفسكم
  رد مع اقتباس
قديم 2015- 12- 18   #6
غريب ديار
أكـاديـمـي فـعّـال
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 94865
تاريخ التسجيل: Sat Dec 2011
المشاركات: 232
الـجنــس : ذكــر
عدد الـنقـاط : 113
مؤشر المستوى: 55
غريب ديار will become famous soon enoughغريب ديار will become famous soon enough
بيانات الطالب:
الكلية: كليه الاداب
الدراسة: انتساب
التخصص: عربي
المستوى: المستوى الثامن
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
غريب ديار غير متواجد حالياً
رد: محتوى النقد العربي القديم من تجميعي

الله يجزاك خير ويوفق يارب
  رد مع اقتباس
قديم 2015- 12- 18   #7
غريب ديار
أكـاديـمـي فـعّـال
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 94865
تاريخ التسجيل: Sat Dec 2011
المشاركات: 232
الـجنــس : ذكــر
عدد الـنقـاط : 113
مؤشر المستوى: 55
غريب ديار will become famous soon enoughغريب ديار will become famous soon enough
بيانات الطالب:
الكلية: كليه الاداب
الدراسة: انتساب
التخصص: عربي
المستوى: المستوى الثامن
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
غريب ديار غير متواجد حالياً
رد: محتوى النقد العربي القديم من تجميعي

  رد مع اقتباس
قديم 2015- 12- 18   #8
غريب ديار
أكـاديـمـي فـعّـال
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 94865
تاريخ التسجيل: Sat Dec 2011
المشاركات: 232
الـجنــس : ذكــر
عدد الـنقـاط : 113
مؤشر المستوى: 55
غريب ديار will become famous soon enoughغريب ديار will become famous soon enough
بيانات الطالب:
الكلية: كليه الاداب
الدراسة: انتساب
التخصص: عربي
المستوى: المستوى الثامن
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
غريب ديار غير متواجد حالياً
رد: محتوى النقد العربي القديم من تجميعي

تفضلوا هذا النقد العربي القديم في ملف pdf
  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

« الموضوع السابق | الموضوع التالي »

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
[ المستوى السادس ] : تجمع * تاريخ الخليج العربي الحديث * ابو حورM المستويات 6+7+8 51 2015- 12- 19 09:45 PM


All times are GMT +3. الوقت الآن حسب توقيت السعودية: 01:17 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. جامعة الملك الفيصل,جامعة الدمام
المواضيع والمشاركات في الملتقى تمثل اصحابها.
يوجد في الملتقى تطوير وبرمجيات خاصة حقوقها خاصة بالملتقى
ملتزمون بحذف اي مادة فيها انتهاك للحقوق الفكرية بشرط مراسلتنا من مالك المادة او وكيل عنه