|
منتدى كلية الآداب بالدمام منتدى كلية الآداب بالدمام ; مساحة للتعاون و تبادل الخبرات بين طالبات كلية الآداب بالدمام و نقل آخر الأخبار و المستجدات . |
|
أدوات الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
تحليل نصوس 3 ومحاضرات البلاك بورد
السلام عليكم
بنات والللي يعافيكم تنزلوا محاضرات ليلي رضوان تحليل نصوص3 لان امتحانا يوم الاثنين المحاضرات الست لانها بتمتحنا فيها كلها انتضر ردودكم ........بالتوفيق |
2012- 10- 31 | #2 |
أكـاديـمـي
|
رد: تحليل نصوس 3 ومحاضرات البلاك بورد
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
هذه محاضرات تحليل نصوص 3 الدكتورة ليلى رضوان في المرفقات بالتوفيق |
|
|
2012- 10- 31 | #3 |
أكـاديـمـي فـضـي
|
رد: تحليل نصوس 3 ومحاضرات البلاك بورد
يعطيكك العافيه ماقصرررتي
الدكتورة وش قالت في خلال لقاء تحليل النصوص لان ماحضرته ياليت تفيدوني وكيف طريقة الامتحان |
2012- 11- 1 | #4 |
أكـاديـمـي نــشـط
|
رد: تحليل نصوس 3 ومحاضرات البلاك بورد
يسلمووو احلامي الله يوفقك وينولك اللي في بالك
|
2012- 11- 1 | #5 |
أكـاديـمـي نــشـط
|
رد: تحليل نصوس 3 ومحاضرات البلاك بورد
قالت الامتحان من 20 الشهري ويوم وبيكون يوم الاثنين بعد العيد وفيه رساله تكلفك بيها عليها 30 درجه والامتحان من المحاضره الاولي الي السادسه وبالتوفيق للجميع .....
|
2012- 11- 1 | #6 |
أكـاديـمـي
|
رد: تحليل نصوس 3 ومحاضرات البلاك بورد
عزيزاتي المحاضرتين الاول مو داخله معانا اللي عطتنا من القرأن الكريم و خطبة الودااع مو مطالبين فيها
اللي معانا تحليل معلقة امرئ القيس كاملة , تحليل الرحلة في معلقة زهير . تحليل نص من شعر الصعاليك. هذي اللي معانا بالاختبار في الاسبوع الاول بعد العيييد و بالنسبه للواجب اللي قالت لنا عليه الدكتورة بأخر محاضرة ترى نزلته بالبلاك بورد وانا نسخته لكم هنا : بسم الله الرحمن الرحيم الطالبات العزيزات ( طالبات مقرر نصوص أدبية (1) المستوى الخامس عندما تختارون القصيدة للتحليل تقومون بما يلي: صورة موثقة للقصيدة مصورة من كتاب محقق . شرحها وتحليلها . الموضوعات التي ينبغي أن تختاروا منها للبحث فيها : - المعلقات . ( جزء منها : الوقفة الطللية - الرحلة - الصيد - الصورة الفنية - الحكمة - وصف الصحراء - وصف الفرس - وصف الناقة ). - الشعراء الصعاليك ( البنية القصصية في شعر الصعاليك - بنية القصيدة - الانتماء - المرأة - النزعة الإنسانية ). - شعر المخضرمين . - الشعر في صدر الإسلام ( الأثر الإسلامي - شعر الفتوح - تحليل قصائد لشعراء الدعوة ) - الشعر في العصر الأموي ( قصائد من الشعر العذري - الغزل الصريح - شعر المديح - الرثاء شعر النقائض ). - الشعر في العصر العباسي ( تحليل قصيدة من شعر : بشار بن برد - أبونواس - ابن الرومي - البحتري - أبو تمام - المتنبي - أبو فراس -) - من الشعر الأندلسي ( ابن حمديس - ابن خفاجة - ابن زيدون - ولادة بنت المستكفي ). اختاري قصيدة . أحضري القصيدة مضبوطة بالشكل ومصورة . حلليها . شويات وانزلكم جميع المحاضرات هنا دعواتكم لي حبيبااااتي |
2012- 11- 1 | #7 |
أكـاديـمـي
|
رد: تحليل نصوس 3 ومحاضرات البلاك بورد
المحاضرة الاولى
معلقة امرئ القيس قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ فِي عَرَصَاتِهَـا وَقِيْعَـانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُــلِ كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُـوا لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ وُقُوْفاً بِهَا صَحْبِي عَلَّي مَطِيَّهُـمُ يَقُوْلُوْنَ لاَ تَهْلِكْ أَسَىً وَتَجَمَّـلِ وإِنَّ شِفـَائِي عَبْـرَةٌ مُهْرَاقَـةٌ فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَـا وَجَـارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَـلِ إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَـا نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مِحْمَلِي ألاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِـحٍ وَلاَ سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُـلِ ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَي مَطِيَّتِـي فَيَا عَجَباً مِنْ كُوْرِهَا المُتَحَمَّـلِ فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِيْنَ بِلَحْمِهَـا وشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّـلِ ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْـزَةٍ فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاَتُ إنَّكَ مُرْجِلِي تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعـاً عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ فَقُلْتُ لَهَا سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَـهُ ولاَ تُبْعـِدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّـلِ فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِـعٍ فَأَلْهَيْتُهَـا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْـوِلِ إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ بِشَـقٍّ وتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَـوَّلِ ويَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيْبِ تَعَـذَّرَتْ عَلَـيَّ وَآلَـتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّـلِ أفاطِـمَ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّـلِ وإِنْ كُنْتِ قَدْ أزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي أغَـرَّكِ مِنِّـي أنَّ حُبَّـكِ قَاتِلِـي وأنَّـكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَـلِ وإِنْ تَكُ قَدْ سَـاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَـةٌ فَسُلِّـي ثِيَـابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُـلِ وَمَا ذَرَفَـتْ عَيْنَاكِ إلاَّ لِتَضْرِبِـي بِسَهْمَيْكِ فِي أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّـلِ وبَيْضَـةِ خِدْرٍ لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَـا تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَـلِ تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً إِلَيْهَا وَمَعْشَـراً عَلَّي حِرَاصاً لَوْ يُسِرُّوْنَ مَقْتَلِـي إِذَا مَا الثُّرَيَّا فِي السَّمَاءِ تَعَرَّضَتْ تَعَـرُّضَ أَثْنَاءَ الوِشَاحِ المُفَصَّـلِ فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَـا لَـدَى السِّتْرِ إلاَّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّـلِ فَقَالـَتْ : يَمِيْنَ اللهِ مَا لَكَ حِيْلَةٌ وَمَا إِنْ أَرَى عَنْكَ الغَوَايَةَ تَنْجَلِـي خَرَجْتُ بِهَا أَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَـا عَلَـى أَثَرَيْنا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّـلِ فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَـى بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ هَصَرْتُ بِفَوْدَي رَأْسِهَا فَتَمَايَلَـتْ عَليَّ هَضِيْمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخَلْخَـلِ مُهَفْهَفَـةٌ بَيْضَـاءُ غَيْرُ مُفَاضَــةٍ تَرَائِبُهَـا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَــلِ كَبِكْرِ المُقَـانَاةِ البَيَاضَ بِصُفْــرَةٍ غَـذَاهَا نَمِيْرُ المَاءِ غَيْرُ المُحَلَّــلِ تَـصُدُّ وتُبْدِي عَنْ أسِيْلٍ وَتَتَّقــِي بِـنَاظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِـلِ وجِـيْدٍ كَجِيْدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِـشٍ إِذَا هِـيَ نَصَّتْـهُ وَلاَ بِمُعَطَّــلِ وفَـرْعٍ يَزِيْنُ المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِــمٍ أثِيْـثٍ كَقِـنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِــلِ غَـدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إلَى العُــلاَ تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنَّى وَمُرْسَــلِ وكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجَدِيْلِ مُخَصَّــرٍ وسَـاقٍ كَأُنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّــلِ وتُضْحِي فَتِيْتُ المِسْكِ فَوْقَ فِراشِهَـا نَؤوْمُ الضَّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّـلِ وتَعْطُـو بِرَخْصٍ غَيْرَ شَثْنٍ كَأَنَّــهُ أَسَارِيْعُ ظَبْيٍ أَوْ مَسَاويْكُ إِسْحِـلِ تُضِـيءُ الظَّلامَ بِالعِشَاءِ كَأَنَّهَــا مَنَـارَةُ مُمْسَى رَاهِـبٍ مُتَبَتِّــلِ إِلَى مِثْلِهَـا يَرْنُو الحَلِيْمُ صَبَابَــةً إِذَا مَا اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ ومِجْـوَلِ تَسَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنْ الصِّبَـا ولَيْـسَ فُؤَادِي عَنْ هَوَاكِ بِمُنْسَـلِ ألاَّ رُبَّ خَصْمٍ فِيْكِ أَلْوَى رَدَدْتُـهُ نَصِيْـحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَــلِ ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَــهُ عَلَيَّ بِأَنْـوَاعِ الهُـمُوْمِ لِيَبْتَلِــي فَقُلْـتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّـى بِصُلْبِــهِ وأَرْدَفَ أَعْجَـازاً وَنَاءَ بِكَلْكَــلِ ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْجَلِــي بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَــلِ فَيَــا لَكَ مَنْ لَيْلٍ كَأنَّ نُجُومَـهُ بكل مغار الفتل شدت بيذبل كأن الثريا علقت في مصامها بِـأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْــدَلِ وقِـرْبَةِ أَقْـوَامٍ جَعَلْتُ عِصَامَهَــا عَلَى كَاهِـلٍ مِنِّي ذَلُوْلٍ مُرَحَّــلِ وَوَادٍ كَجَـوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطَعْتُــهُ بِـهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كَالخَلِيْعِ المُعَيَّــلِ فَقُلْـتُ لَهُ لَمَّا عَوَى : إِنَّ شَأْنَنَــا قَلِيْلُ الغِنَى إِنْ كُنْتَ لَمَّا تَمَــوَّلِ كِــلاَنَا إِذَا مَا نَالَ شَيْئَـاً أَفَاتَـهُ ومَنْ يَحْتَرِثْ حَرْثِي وحَرْثَكَ يَهْـزَلِ وَقَـدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَـا بِمُنْجَـرِدٍ قَيْـدِ الأَوَابِدِ هَيْكَــلِ مِكَـرٍّ مِفَـرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِـرٍ مَعــاً كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ كَمَيْتٍ يَزِلُّ اللَّبْـدُ عَنْ حَالِ مَتْنِـهِ كَمَا زَلَّـتِ الصَّفْـوَاءُ بِالمُتَنَـزَّلِ عَلَى الذَّبْلِ جَيَّاشٍ كأنَّ اهْتِـزَامَهُ إِذَا جَاشَ فِيْهِ حَمْيُهُ غَلْيُ مِرْجَـلِ مَسْحٍ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الوَنَى أَثَرْنَ الغُبَـارَ بِالكَـدِيْدِ المُرَكَّـلِ يُزِلُّ الغُـلاَمُ الخِفَّ عَنْ صَهَـوَاتِهِ وَيُلْوِي بِأَثْوَابِ العَنِيْـفِ المُثَقَّـلِ دَرِيْرٍ كَخُـذْرُوفِ الوَلِيْـدِ أمَرَّهُ تَتَابُعُ كَفَّيْـهِ بِخَيْـطٍ مُوَصَّـلِ لَهُ أيْطَـلا ظَبْـيٍ وَسَاقَا نَعَـامَةٍ وإِرْخَاءُ سَرْحَانٍ وَتَقْرِيْبُ تَتْفُـلِ ضَلِيْعٍ إِذَا اسْتَـدْبَرْتَهُ سَدَّ فَرْجَـهُ بِضَافٍ فُوَيْقَ الأَرْضِ لَيْسَ بِأَعْزَلِ كَأَنَّ عَلَى المَتْنَيْنِ مِنْهُ إِذَا انْتَحَـى مَدَاكَ عَرُوسٍ أَوْ صَلايَةَ حَنْظَـلِ كَأَنَّ دِمَاءَ الهَـادِيَاتِ بِنَحْـرِهِ عُصَارَةُ حِنَّاءٍ بِشَيْـبٍ مُرَجَّـلِ فَعَـنَّ لَنَا سِـرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَـهُ عَـذَارَى دَوَارٍ فِي مُلاءٍ مُذَبَّـلِ فَأَدْبَرْنَ كَالجِزْعِ المُفَصَّـلِ بَيْنَـهُ بِجِيْدٍ مُعَمٍّ فِي العَشِيْرَةِ مُخْـوَلِ فَأَلْحَقَنَـا بِالهَـادِيَاتِ ودُوْنَـهُ جَوَاحِـرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تُزَيَّـلِ فَعَـادَى عِدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ ونَعْجَـةٍ دِرَاكاً وَلَمْ يَنْضَحْ بِمَاءٍ فَيُغْسَـلِ فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِن بَيْنِ مُنْضِجٍ صَفِيـفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيْرٍ مُعَجَّـلِ ورُحْنَا يَكَادُ الطَّرْفُ يَقْصُرُ دُوْنَـهُ مَتَى تَـرَقَّ العَيْـنُ فِيْهِ تَسَفَّـلِ فَبَـاتَ عَلَيْـهِ سَرْجُهُ ولِجَامُـهُ وَبَاتَ بِعَيْنِـي قَائِماً غَيْرَ مُرْسَـلِ أصَاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيْكَ وَمِيْضَـهُ كَلَمْـعِ اليَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّـلِ يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيْحُ رَاهِـبٍ أَمَالَ السَّلِيْـطَ بِالذُّبَالِ المُفَتَّـلِ قَعَدْتُ لَهُ وصُحْبَتِي بَيْنَ ضَـارِجٍ وبَيْنَ العـُذَيْبِ بُعْدَمَا مُتَأَمَّـلِ عَلَى قَطَنٍ بِالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِـهِ وَأَيْسَـرُهُ عَلَى السِّتَارِ فَيَذْبُـلِ فَأَضْحَى يَسُحُّ المَاءَ حَوْلَ كُتَيْفَةٍ يَكُبُّ عَلَى الأذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ ومَـرَّ عَلَى القَنَـانِ مِنْ نَفَيَانِـهِ فَأَنْزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِنْ كُلِّ مَنْـزِلِ وتَيْمَاءَ لَمْ يَتْرُكْ بِهَا جِذْعَ نَخْلَـةٍ وَلاَ أُطُمـاً إِلاَّ مَشِيْداً بِجِنْـدَلِ كَأَنَّ ثَبِيْـراً فِي عَرَانِيْـنِ وَبْلِـهِ كَبِيْـرُ أُنَاسٍ فِي بِجَـادٍ مُزَمَّـلِ كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِرِ غُـدْوَةً مِنَ السَّيْلِ وَالأَغثَاءِ فَلْكَةُ مِغْـزَلِ وأَلْقَى بِصَحْـرَاءِ الغَبيْطِ بَعَاعَـهُ نُزُوْلَ اليَمَانِي ذِي العِيَابِ المُحَمَّلِ كَأَنَّ مَكَـاكِيَّ الجِـوَاءِ غُدَّبَـةً صُبِحْنَ سُلافاً مِنْ رَحيقٍ مُفَلْفَـلِ كَأَنَّ السِّبَـاعَ فِيْهِ غَرْقَى عَشِيَّـةً بِأَرْجَائِهِ القُصْوَى أَنَابِيْشُ عُنْصُـلِ الوقوف على الأطلال: يبدأ امرؤ القيس معلقته بالوقوف على الأطلال، فقد أوقف صاحبيه معه ودعاهما لمشاركته بكاء ذكرياته الماضية في هذا المكان الذي حدده جغرافيا: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل إن طلبه إلى صاحبيه مشاركته البكاء لذكرى الحبيب غير منطقي ولا يستدعيه الموقف، فالذكريات الأليمة لا تستحق مشاركة البكاء عند الرجال على الأقل. أما الحزن فينبعث عادة من النفس دون حاجة إلى استدعاء المشاركة، هذا بالإضافة إلى أن دعوة المشاركة لا تتم في حالة الحزن بل في حالة السعادة والفرحة , إنه استوقف من يبكي لذكرى الحبيب وذكراه لا تقتضي بكاء الخلي وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في شدة برحائه، فأما أن يبكي حبيب صديقه وعشيق رفيقه فأمر محال فإن كان المطلوب وقوفه وبكاؤه أيضاً عاشقاً صح الكلام وفسد المعنى من وجه آخر لأنه من السخف ألاّ يغار على حبيبه وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه والتواجد معه فيه . فإذا كانت الدعوة للمشاركة في البكاء غير منطقية، والوقوف على الأطلال لمجرد بكاء ذكريات ماضيه مع الحبيب تبدو غير مناسبة لشخصية امرئ القيس الرجل اللاهي –كما عرف عنه- فلماذا وقف على الأطلال إذاً وبكى هذا البكاء المر؟ يجيب ابن قتيبة: سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار.. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه… فإذا استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره وشكا النصب والسهر وسرى الليل وحر الهجير وانضاء الراحلة والبعير.. وإذا كان كلام ابن قتيبة يصح على صناع قصائد المديح فهو يجانب الحقيقة في معلقة امرئ القيس، فالشاعر يقف من الأطلال موقفه من كائن حي يحس به إحساساً كاملاً ويقف منه مخاطباً ومستوضحاً ما حل بساكنيه. وقد عدّ ابن رشيق القيرواني الوقوف على الأطلال مفتاح القصيدة، لا إلى الأغراض الأخرى بل إلى نفس الشاعر الذي ينطلق من نفسه إلى الآخرين بعد ذلك في الأغراض الأخرى التي يتطرق إليها . وابن رشيق في هذا يخالف ابن قتيبة فهو لا يجعل من شعر الغزل وسيلة لأغراض أخرى يتلمسها الشاعر عند السامع وإنما يجعل منه وسيلة الشاعر إلى نفسه . ويقول جب في هذا الصدد: إن هذا الموضوع الذي يطلق عليه اسم الغزل لهو في الحقيقة شيء يختلف تماماً. إنه ذكرى حب حزينة وعنصره العاطفي الجوهري هو ادكار الفراق وصلته عادة بالغزل ضعيفة… ومن ناحية الجدارة الشعرية فهي معلقة امرئ القيس… وقصيدته اعتداد بالنفس . وهو عندما لا يرى غير آثار الحيوانات التي استطاب لها المقام فيه – كما استطاب لأحباب الشاعر في الماضي –قطع الموقف رأساً وانتقل إلى تصوير ذكريات المرارة التي أحسها عند رحيلهم، وتكاد مرارته الآن تبعث ذلك الطعم المرّ في فمه، ذلك الطعم الذي ذكره بطعم مشابه له كل المشابهة، ساعة ارتحال من كان يحب في الماضي: ترى بَعَرَ الآرام في عرصاتها وقيعانها كأنه حب فلفل كأني في غداة البين يوم ترحلوا لدى سمرات الحي ناقف حنظل فهل موقفه إذاً مجرد ادكار للماضي؟ لا أعتقد ذلك، فهو يشخص الطلل وكأنه يشخص الماضي من خلاله، فهو في تشخيصه للماضي إنما يعبر عن حقيقة مشاعره تجاه هذا الماضي، فهو يعبر فيه أولاً عن نفسه وقلقه تجاه ظاهرة (الزوال)، وظاهرة الزوال هذه تأخذ شكليها في نفس امرئ القيس. الشكل الاجتماعي المتمثل بالحياة القلقة في الصحراء والتي تعتمد على التنقل المستمر وراء الماء والكلأ. وظاهرة الزوال الكونية المتمثلة بالموت، فهو في وقفته تلك على الأطلال يستجلي موقفه من المجهول الذي يتربص بالبشرية. ومن هنا جاء انفجار ينبوع الحزن في نفس الشاعر كأقوى ما يكون عليه الشعور به حتى كاد الشاعر أن يهلك أسى لولا تدخل صاحبيه ومحاولتهما التخفيف عنه. وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل إن النسيب وإن اختلفت أنواعه فهو اختبار القضاء والفناء والتناهي… لقد ملأ في الوجود والمصير على الشاعر الجاهلي حياته غير أنه لم يكن تعبيراً صادراً عن تشاؤم وإنما كان حافزاً يحفزه على الإقبال على الحياة… ويصور لنا الشاعر إحساسه بتلك العناصر الكونية الثلاثة، اختبار القضاء والفناء والتناهي وموقفه منها . لذا فهو يسيل عباراته حزناً على تذكر (الرحيل) وقفر الديار من أصحابها، لأن الرحيل في الحياة الدنيا يمثل لديه الرحيل إلى العالم الآخر (الموت)، وهكذا يمتزج فعل الرحيل بشكل واحد هو (الموت)، (الشعور بالموت لا يمكن أن يكون شعوراً داعياً كالشعور بالحياة، بل هو شعور غاية في الخفاء يظهر أحياناً في ظروف خاصة متخذاً من الأقنعة أو الرموز مرة أخرى ما يضمن إخفاءه وإن نمّ عليه. إن قليلاً من البحث يكشف لنا رموز الحياة والموت في كل جوانب حياتنا حيث تداخلت في نسيج تاريخنا وأساطيرنا في شعرنا وتصويرنا في أحلامنا وحديثنا بل إنه لمن المحتمل أن تسيطر هذه الرموز بطرق عدة بارعة على حياة كل فرد. . لذا فإن الشاعر عندما يهدر همومه وأحزانه مع انسكاب دموعه، يعود إلى عقله ويدرك أن البكاء على الأطلال لا يجدي شيئاً، بل هو عمل مهدور لا نفع فيه: وإن بكائي عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول إن إسرافه في وصف الدموع المنهمرة هذا الانهمار المبالغ فيه يناسب طبيعة الإنسان البدائي لأنه إنسان مطبوع على سجيته وهذا ما يجعل شعر امرئ القيس صادقاً وهو في حالة الأسى هذه لأنه يطابق واقعه النفسي الشجي وهو واقف على الأطلال. لقد تواكبت على خلق الوقوف على الأطلال في معلقة امرئ القيس ظروف بيئية ومادية وتاريخية وشعورية لتخلق حالة الخوف من المجهول، وهو خوف ديني متوارث منذ نشوء الخليقة. إن الأطلال تدفع إلى الأسى في نفس الشاعر لأنها تذكره بانقضاء شطر من عمره، لذا نجد امرئ القيس يكثر من ذكر الأماكن في معلقته ويلجأ إلى تحديد جغرافيتها، فهو يعقد في هذا التحديد الجغرافي بين المكان (الأرض) الباقية الصامدة في وجه الزمن (سقط اللوى، الدخول، حومل، توضح: المقراة، مأسل) وبين الديار التي زالت واندثرت آثارها بفعل الرياح والأمطار وعادت مرعى للحيوانات المتوحشة. هذا الموقف من طبيعة البيئة الصحراوية، يقود الشاعر دائماً إلى قضية صرفة، هي علاقته بالمرأة التي تستقطب الذكرى في نفسه، تلك المرأة التي لا يذكر منها غير الأفعال الحسية والاستمتاع بها، ليقف فعل الحب هذا تجاه الاندثار الكامل الذي يجده الشاعر في وقوفه على الطلل: كدأبك من أم الحويرث قبلها وجارتها أم الرباب بمأسل وهو يتخذ من المرأة الحية في عالم الواقع والحية في نفسه ذكرياته، رمزاً لحركة الحياة، التي تبدو فاجعة في إتيانها على معالم الأحياء، متمثلاً بالطلل، ولكنها رغم ذلك منتصرة في إبقائها على الربع والأرض والمكان من ناحية، وإبقائها المرأة المحبوبة حية في واقعها وفي ذكريات الشاعر من ناحية أخرى. وإن كان حنينه إلى المرأة يمثل إحساسه بغدر الزمان وبفجيعة الموت. إن ما يحدث هو ظرف تاريخي بحت لسكان الصحراء، هو ليس فعل امرئ القيس ومن بعده بل هو فعل الأقدمين أيضاً. لقد عانوا ما عاناه امرؤ القيس، فقد وقف أناس كثيرون قبله على مثل هذه الأطلال لأنها سنة الحياة في البيئة الصحراوية . ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي محملي إن هذه المبالغة في وصف البكاء سببها الإحساس بالغربة، ثم الحنين إلى هذه الأرض (الأم) التي ابتعد عنها وبالتالي يتمثل هذه الأرض الأم بالمرأة، أم البشر، فهي صفة الاستقرار والخصب والنماء، فقد اتصل الحبيب بالأرض بصورة لا شعورية، لأنهما واحد. إنها الوحشة التي يحسها الشاعر عند وقوفه على الأطلال حتى يفرط كل هذا الإفراط في البكاء لأن الوحشة تمثل لديه الموت، وكأن حياتهم الاجتماعية التي يحيونها تعني موت الحياة، لذا فهو ثائر على طبيعة الحياة البدوية، لذا فهو يبكي هذه الآثار تارة ويشفق على نفسه منها تارة أخرى ويجزع ثالثة. فهو يتحدى حياة الترحال، ويتوق إلى حياة الاستقرار في ذكرى امرأة يحبها. والشاعر يلمس هذا التناقض في الحياة بين الرهبة المتمثلة في الترحال (الموت) وبين الجمال المتمثل بالحب (الحياة). ومن يدري لعل الشاعر العربي لم يكن يبكي حبيبته أو يرثى لعشها المهجور فقط بل كان يبكي من حيث لا يشعر ذلك الحظ التعس الذي مني به هو وأمثاله من البدو حين فرضت عليهم ضرورة الحياة ألا يزالوا متنقلين على رقعة الصحراء كأنهم قطع شطرنج، وهم على سفر واجتماع وافتراق ووصل وهجران مختارين حيناً ومكرهين أحياناً . ويدور صراع قوي بين الرهبة والجمال، فقد قضت الرهبة على آثار الحبيبة ولكنها لم تمتها فهي ما زالت حية في نفس الشاعر وما إعادة الذكريات القديمة إلا إحياء مستمراً لهذا الجميل المتمثل في الحب. فالنفس الإنسانية يتنازعها عاملان قويان هما حب الحياة والخوف من الموت. وبهذين العاملين يتعلق الشعور بالجميل والجليل. فالجميل هو كل ما حبب الحياة إلى النفس وأظهرها لها في المظهر الذي يبسط لها الرجاء فيها ويبعث على الاغتباط بها والجليل كل ما حرك الوحشة وحجب عنها رونق الحياة. فالربيع والصباح والنور… كلها جميلة لأنها تنعش الحواس وتذكرها بالحياة.. والسكون والقفار المخيفة والأطلال الدارسة … كلها جليلة لأنها تقبض الحواس وتميل بالنفس إلى التضاؤل والضعة أمام رهبة الفناء وعظمة الطبيعة وضخامتها . لقد انتصر الجميل (الحياة) على الجليل (الموت) في معلقة امرئ القيس. فالحب أبقى في نفس الشاعر من الأطلال التي عفى عليها الزمن، أما الحب فهو باق لا تؤثر فيه مؤثرات الزمن. وما الذكرى –مهما طال عهدها- إلا صورة لبقاء هذا الجميل (الحب). إن امرأ القيس لا يكتفي بتحدي طبيعة الحياة، بل يتحدى طبيعة الكون، ويتحدى الموت عن طريق الفعل لإثبات وجوده. ولنحصي ما يدل على الحركة في الأبيات السابقة الذكر (قفا، نبك، ذكرى، لم يعف، نسجتها، ترى، تحملوا، ناقف، وقوفا، يقولون، لا تهلك، تجمل، دأب، فاض، بلّ). كل هذه الحركة أرادها الشاعر تحدياً للموت المتمثل في الطلل وإثباتاً لوجوده هو (الحياة) أمام الموت (الطلل). هذا بالإضافة إلى سخريته الشديدة من الطلل (الموت) في قوله (وهل عند رسم دارس من معوّل) والجواب هو النفي بالطبع مع البكاء الشديد المبالغ فيه، والذي يدرك مبالغته هو أيضاً (حتى بلّ دمعي محملي) ليوقف قوة الفعل هذه أمام همود الموت المتمثل بالطلل فهو يريد أن ينتصر في مبالغة الحياة على سكون الموت. إن امرأ القيس يحيل تجربته المادية تلك –في الترحال والغربة- إلى تجربة شعورية تتحدث عن مأساة التغيير في الكون- الحياة التي يعقبها الموت- فكل شيء إلى زوال، لذا فهو يتنكر للموت الذي طمس الآثار كما يطمس آثار البشر. لذا يحاول الشاعر إحياءها بقوة وعنف في نفسه ليقف بها أمام الموت. وبالذات تلك الذكرى المحببة إلى قلبه ذكرى عنيزة وصويحباتها في يوم دارة جلجل: ألا رب يوم لك منهن صالح ولا سيما يوم بدارة جلجل ولكن أليس العيش في الماضي نوعاً من الموت في الحياة؟ لقد رأى بعض الدارسين غادر امرؤ القيس خدر عنيزة وترك الخمر والصيد وذهب وراء ثأر أبيه وأراد أيضاً أن يثأر لنفسه من واقع حياته فمات على جبل تركي بعد أن طوف الآفاق ورضي من الغنيمة بالإياب . إن ولكن الباحث يرى أن امرأ القيس لم يذكر الماضي ليعيشه فيكون كالحي الميت، بل هو وقف من الذكرى المتمثلة بالأطلال موقفاً إيجابياً تماماً. فقد تحدى الموت عن طريق الذكرى التي تمثل الوجود والحياة. لقد ذكر امرؤ القيس الجزء (الطلل) وكان يريد به الكل (الكون) وذكر الأماكن وحددها للدلالة على هذا المطلق الذي ذهب منه الجزء (الخيمة أو البيت) ولكن الأرض (الكل) الذي أقيمت عليها الخيمة أو البيت ما زالت باقية وستبقى ما بقيت الحياة على سطح الكرة الأرضية فالوقوف على الطلول المهجورة بالتبرير الفلسفي نوع من حنين النسبي إلى المطلق… وما الأرض في وعي الشاعر الجاهلي سوى البديل في العملية النفسية المصعدة للآخر المطلق رمز الخلاص والانعتاق والتحليل بل هو إله آخر ربما كان أسطورياً تختزنه الذاكرة من بقايا الأساطير الدينية الموروثة منذ القديم . من هذا الموقف بالذات بدأ امرؤ القيس يؤكد على صدق انتمائه لا للجزء (الطلل) بل للكل (الأرض). وظهر حنينه للجزء لأنه منتم إلى الكل. وهكذا يتداخل الجزء في الكل والكل في الجزء في مطلع المعلقة. ونتيجة لإحساسه القوي بالغربة شعر بحنين طاغ إلى الأرض والمرابع حيث الاستقرار الدائم وبالتالي الحب والخصب والنماء والجمال. فعرج من ذكر الأطلال إلى تذكر أيامه الجميلة مع المرأة، سواء أكانت عنيزة أم فاطمة، أم الحويرث أم أم الرباب، فكلهن مستقر وأمان من المخاطر وكلهن أداة للخصب والنماء وبالتالي كلهن مأوى من الخوف الاجتماعي (الرحيل والغربة) والخوف الكوني (الموت) لأنه سيرى نفسه في ولده. ومن هنا يأتي انتصار الحياة على الموت بديمومة الإنسان عن طريق التوالد والتجديد ضد الموت القديم الذي لم يدم ولم يتجدد. وهكذا تقف الحياة إزاء الموت في معلقة امرئ القيس لتنتصر الحياة على الموت كلما أوغلنا في بناء القصيدة. فهي عبارة عن صراع أبدي بين حب الحياة وغريزة الموت التي تصطرع في نفس امرئ القيس. إن الحياة الجاهلية بما فيها من قفر وجدب ووحشة تبعث في نفس امرئ القيس الحنين إلى الأرض والالتصاق بها، فالأرض عنده رمز للثبوت والديمومة والخصب والحياة ومن ثم التجدد والنماء والخصب والخلود. ومن هنا جاءت وقفته الطويلة على الأطلال فهي لحظة تأمل غرق فيها الشاعر لتحديد موقفه من البقاء والفناء حتى انتصرت الحياة في نفسه على الموت، وبدت المرأة (الحياة) في معلقته مضمخة بالطيب نابضة بالجمال، فإذا ما هبت رائحتها فكأنها ريح الصبا –ومعروف أهمية هذه الريح بالنسبة للجاهلي الذي يعاني من لفح الصحراء وقيظها الشديد، وهذه الريح لا تأتيه بالطراوة والبرودة فقط بل هي محملة بعبق القرنفل ورائحته. وهكذا تمتزج مظاهر الحضارة في هذا البيت مع السمات الجمالية للطبيعة في نفس الشاعر. المرأة: إن السمات الجمالية التي ظهرت بها المرأة في المعلقة مكنته من تخطي ذلك الجسر المعقود بين الشعور بالتعاسة المتمثل بالإحساس بالعدم عند وقوفه على الأطلال، والإحساس بالجمال والحياة عندما انتقل إلى وصف المرأة ومظاهر النعمة التي تحيا فيها ومن ثم مغامراته معها وتحديد علاقته بها. وهكذا استطاع الشاعر أن يتخطى إحساسه بالفناء منطلقاً إلى الحياة يصف مظاهرها الطبيعية المختلفة، فالمرأة عنده رمز للسعادة والاستقرار وهي مظهر ممتلئ بالحياة كالمظاهر الطبيعية الأخرى. لذا تناول الشاعر مظاهرها الخارجية الجمالية جزءاً جزءاً كما تناول مظاهر الطبيعة المختلفة من ليل ونجوم ومطر وسيل ونباتات وحيوانات. فهو كما يندمج في الحياة الجمالية للطبيعة يندمج اندماجاً كاملاً في الحياة (المرأة) التي تبعث فيه الشعور نفسه بالجمال والحب. لذا بدت النساء الأربع اللاتي ذكرهن في المعلقة وغيرهن ممن لا أسماء لهن خاليات من الملامح الفردية وكأنهن امرأة واحدة، تلك المرأة التي يجد عندها الحنان والاستقرار والحب ومن ثم الخلود لمواجهة الوحشة التي عاناها من ترحله المتمثل بالطلل. وهكذا تنهال الذكريات الحلوة الجميلة انتصاراً للحياة والجمال والمتعة في نفس امرئ القيس وهو يروي لنا حادثة يوم جلجل: ويوم عقرت للعذارى مطيتي فيا عجبا من كورها المتحمل يظل العذارى يرتمين بلحمها وشحم كهداب الدمقس المفتل إن البهجة والحركة المتمثلة في هذين البيتين تمثلان لنا انطلاق الشاعر نحو الحياة الجميلة المليئة بالمتعة والحياة بين فتيات سعيدات بالإكرام الذي حباهن به الشاعر بعد أن عقر لهن مطيته. وسعادتهن المتمثلة بالحركة البهيجة التي رسمها لهن وهن يمرحن في ترامي لحم الناقة وشحمها فيما بينهن، لقد عبر الشاعر الجسر من جانب الموت المتمثل بالقلق الذي أوحاه الطلل المليء بالشجن إلى نفسه في ذكريات حية سعيدة، وهذا هو الفرق بين الغزل والنسيب فإذا كان الأول شعوراً بالسعادة والبهجة فالثاني يخلط البهجة بالحزن والألم إنه يجمع بين أسباب الحياة والموت وهذا يذكرنا بمبدأ التزاوج بين المتعة والألم… وقد جمع الشاعر الجاهلي بين هذين الشعورين في إطار واحد هو ما نسميه النسيب أي الحب المهدد دائماً برحيل المحبوبة وكذلك الحياة المهددة بالخراب متمثلة في الوقوف على الأطلال المقفرة) . إن هذا الإحساس القلق الذي تلمسناه في نسيب امرئ القيس رغم أنه ظاهرة فردية ناتجة عن صراع نفسي يعتلج في نفس الشاعر نتيجة لقلقه تجاه المجهول الممثل لخطر الرحيل الدنيوي والكوني إلا أن مثل هذا النسيب نجده عند غيره من الشعراء الجاهليين لدى وقوفهم على الأطلال، فهي وإن بدت تجربة فردية لأول وهلة إلا أنها مشاعر مشتركة تمثل موقفاً إنسانياً مشتركاً. وهكذا جاء انتقال الشاعر من النسيب إلى الغزل طبيعياً وهو ما أسماه الأقدمون حسن التخلص، فقد استطاع الشاعر أن يتغلب على الإحساس بالعدم في نفسه فانطلق إلى الحياة بما فيها من بهجة وسعادة، وقد بدأ غزله بذكر مغامرته مع عنيزة: ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْـزَةٍ فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاَتُ إنَّكَ مُرْجِلِي تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعـاً عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ فَقُلْتُ لَهَا سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَـهُ ولاَ تُبْعـِدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّـلِ إن عنيزة تمانع بدلال ووعد بالعطاء ويحس امرؤ القيس منها ذلك، وعندما تطلب إليه النزول خوفاً من أن يعقر البعير نتيجة لثقلهما عليه، فهو لا يلتفت إليها ويطلب إليها طلب المتمكن من نفس من يحب بأن ترخي زمام البعير وتدعه يسير كما يلمح لها بأنه يريدها ويبغي جناها الطيب المستملح، وهو لا يقنع بالجلوس إلى جانبها فقط بل هو يسعى إلى رغبات مادية أخرى. لذا فهو ينعطف رأساً إلى ذكر مغامراته الغرامية مع الأخريات وهو يبالغ في القول مبالغة عظيمة (فمثلك حبلى.. إذا ما بكى من خلفها). لقد خلق لنا الشاعر من خلاله أبياته الغزلية فناً عالياً يدخل ضمن مفهوم الفن للفن . لقد كان امرؤ القيس في مبالغته في ذكر مغامراته مع النساء يريد أن يعوض النقص الذي ولده عزف النساء عن معاشرته، هو الذي حبته الطبيعة قوة وفحولة ورجولة. إن المبالغة في مسألة المرأة ما هي إلاّ تعويض عن هذا النقص الكبير الذي يحس به الشاعر فهو يكذب ليغطي هذا النقص أمام الآخرين. فالمرأة تمثل في حياة امرئ القيس الشعور بالجمال والكينونة والوجود ليقابل ما يعتلج في نفسه من خوف من المجهول، إنه في ذكر المرأة يبقي الحياة في أوج قوتها وتجديدها لذاتها كي لا يستطيع الموت أن يقضي عليها قضاء كلياً ولتبقى قادرة على مصارعته، والبقاء الدائم رغم مطاردته لها: ويَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيْبِ تَعَـذَّرَتْ عَلَـيَّ وَآلَـتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّـلِ إن المرأة تمتنع عليه، لقد وعدت ثم أخلفت، إنها مثل الحياة توجدنا ثم تبدأ بقلب ظهر المجن لنا حتى تتخلى عنا تماماً وتدعنا للموت يلتهمنا ويتلهى بنا، إن امتناع المرأة على امرئ القيس كإدبار الحياة عنه فكلاهما يعني الفجيعة والموت. وكأنه المجهول الذي يتربص به الذي يخافه الشاعر كل الخوف , فامرؤ القيس توسل هنا بمبدأ التعميم الذاتي بفعل السويداء والوحشة فبدا له أن المرأة لا تزال تخادعه وتغرر به وأنها لن تخلق في نفسه إلاّ البؤس الدائم، ولعله كان يعاني هنا لحظة من الصدق والصفاء النفسيين فباح بحقيقة واقعه من المرأة محققاً ما تذكره الأصول القديمة عنه من أنه كان مفركاً لا تطيق النساء عشرته . من كل هذا نستنتج أن ذكره للنساء في معلقته لم يكن بدافع الحب لعنيزة كما ذكرت كتب تاريخ الأدب بل بدافع الصراع الذي نشب في نفسه عند تمثله لحياة الترحال والتنقل تلك الحياة التي كانت سنة الأحوال الاجتماعية والاقتصادية للبيئة الصحراوية. ولم يأت ذكر الغزل في المعلقة إلاّ على سبيل المفاخرة إلى جانب فخره بحصانه وقوته وبراعته في الصيد وكرمه عندما ذبح للعذارى مطيته في يوم دارة جلجل، ولإظهار براعته وقدرته في نظم الشعر ولـه فيه أسلوب خاص جرى عليه غيره من الشعراء فيما بعد ويقوم هذا الأسلوب بذكر مغامرة غرامية ونقل ما يدور فيها بين الشاعر وصاحبته من حوار يبدأ بارتياع الحبيبة من مفاجأة الشاعر لها، وبلوم فيه كثير من الدل. وهذا الأسلوب الذي ابتدعه الشاعر لنفسه , الذي أظهر فيه تعمقاً بمعرفة النساء كثيراً ما يكون مزيجاً من الوصف والقصص والحوار… . ثم توالت في ذهنه الذكريات، ذكريات حية صامدة أمام كل موت، ذكريات حبه لفاطمة، ويبدو امرؤ القيس معها رجلاً آخر، فهو لا يسعى إلاّ إلى رضاها، ويقف منها موقف الند للند، ولا يكذب ولا يغالي في الحديث بل على العكس نجد في قوله رنة حزن وأسى وهو يعجب من صرمها له: أفاطِـمَ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّـلِ وإِنْ كُنْتِ قَدْ أزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي لذا فهو يسائلها مستنكراً إن كانت قد بدت منه إساءة تجاهها: وإِنْ تَكُ قَدْ سَـاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَـةٌ فَسُلِّـي ثِيَـابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُـلِ وهو يعلم حق العلم أن إساءته إليها شيء مستحيل، ويعلم أنها واثقة من حبه لها فهي تعامله معاملة المرأة المتمكنة من قلب رجلها: أغَـرَّكِ مِنِّـي أنَّ حُبَّـكِ قَاتِلِـي وأنَّـكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَـلِ وَمَاذرَّفَـتْ عَيْنَاكِ إلاَّ لِتَضْرِبِـي بِسَهْمَيْكِ فِي أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّـلِ ولكننا نحس من قول الشاعر أن فاطمة لم تكن تحبه بل هي عازفة عن لقائه صارمة له، ولم يبد منها أية ظاهرة من ظواهر الحب تجاهه، وأنه قد توهم ذلك، لأنه لم يكن قد تعامل مع الحرائر، فلم يعرفهن معرفة أكيدة، لأن تعامله مع المرأة البغي هو التعامل الشائع في شعره بسبب حياته المتنقلة اللاهية. لقد أراد امرؤ القيس أن يجد الأمان والاستقرار والنماء لدى فاطمة ولكنه لم يحصل على بغيته فأصابه الكمد وانتابته الحسرة، فراح يكذب علينا وعلى نفسه بذكر مغامرة جديدة يظهر فيها افتتان النساء به وتهالكهن عليه ليعوض صد فاطمة وصرمها له. وقد استخدم امرؤ القيس جميع حواسه في كشف جمال المرأة، كما فعل تماماً في كشف مظاهر الطبيعة بعد ذلك، ويبدو للباحث أن محاسن المرأة قد امتزجت بمحاسن الطبيعة كما امتزجت المرأة بها. أليس جمال المرأة يبعث إحساساً بالنشوة كالإحساس الذي يوحيه جمال الطبيعة؟ إن المرأة والطبيعة شيء واحد في نظر امرئ القيس، ولكن أليس الإنسان جزءاً من الطبيعة؟ وقد تملى الشاعر محاسن المرأة وراح يعطينا الجمال المثالي كما يراه في المرأة وإن توهم أن امرأته , تمتلك جميع تلك المواصفات لإيحاء السعادة في ذاته تعويضاً عن موقفه المفجع مع فاطمة، فهي بالإضافة إلى ضمورها , وامتلائها بحيث لا تبين عظامها وخاصة عند موضع الخلخال من الساق، فهي رشيقة القوام وصدرها أبيض مصقول كالمرآة. وقد شبه بياضها ببيضة النعامة الأولى لأنها تكون خالصة البياض وبالدرة التي لم تثقب: كَبِكْرِ المُقَـانَاةِ البَيَاضَ بِصُفْــرَةٍ غَـذَاهَا نَمِيْرُ المَاءِ غَيْرُ المُحَلَّــلِ ثم مضى في وصف العينين والخدين، فخدها سهل جميل وعيناها كعيني المهاة التي معها ولدها ترعاه تَصُدُّ وتُبْدِي عَنْ أسِيْلٍ وَتَتَّقــِي بِـنَاظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِـلِ وقد علم الشاعر وعرف الواصف أن الجارية الفائقة الحسن أحسن من الظبية وأحسن من البقرة وأحسن من كل شيء تشبهه ولكنهم إذا أرادوا القول شبهوها بأحسن ما يجدون فيقول بعضهم كأنها القمر وكأنها الشمس… ومن يشك أن عين المرأة الحسناء أحسن من عين البقرة وإن جيدها أحسن من جيد الظبية . وهي طويلة الجيد جميلته كجيد لظبي، تزينه الحلي: وجِـيْدٍ كَجِيْدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِـشٍ إِذَا هِـيَ نَصَّتْـهُ وَلاَ بِمُعَطَّــلِ وهي طويلة الشعر فاحمته، ملفوف بشكل جميل جذاب: وفَـرْعٍ يَزِيْنُ المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِــمٍ أثِيْـثٍ كَقِـنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِــلِ غدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إلَى العُــلاَ تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنَّى وَمُرْسَــلِ وهو أجمل ما يكون في تصويره خصلات الشعر بكلمة (مستشزرات) فتداخل الشعر مع بعضه في تسريحته الجميلة لم تستطع غير هذه الكلمة المتداخلة الحروف في آن واحد من إظهار المعنى الذي كان يريد الشاعر توضيحه. ثم يصف خصرها الرشيق وساقها الجميل: وكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجَدِيْلِ مُخَصَّــرٍ وسَـاقٍ كَأُنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّــلِ وهو في استمتاعه الحسي بجمالها ومحاسنها يتوصل إلى أصابعها اللينة المنعمة التي لم يتلفها العمل ولم يصبها بالخشونة والصلابة: وتَعْطُـو بِرَخْصٍ غَيْرَ شَثْنٍ كَأَنَّــهُ َسَارِيْعُ ظَبْيٍ أَوْ مَسَاويْكُ إِسْحِـلِ فهي كاملة الأوصاف والمحاسن، لذا تمتزج الأوصاف الحسية بالأوصاف الشعورية: تُضِـيءُ الظَّلامَ بِالعِشَاءِ كَأَنَّهَــا مَنَـارَةُ مُمْسَى رَاهِـبٍ مُتَبَتِّــلِ وهي منعمة مترفة غنية لا تعرف للعمل معنى، حافظت على رونقها وجمالها. وهو يجد في هذه المرأة ومثيلاتها مبتغاه وأمنه واستقراره بعد سفر وترحال، بل يجد فيها الأمن والطمأنينة والتخلص من الصراع القائم في نفسه بين البقاء والفناء، لذا فهو لن يبتعد عنها ولن يجدي الخصوم في تعذالهم ولومهم شيء فهي كنهه الأخير ومستقره في الحياة والسعادة: إِلَى مِثْلِهَـا يَرْنُو الحَلِيْمُ صَبَابَــةً إِذَا مَا اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ ومِجْـوَلِ تَسَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنْ الصِّبَـا ولَيْـسَ فُؤَادِي عَنْ هَوَاكِ بِمُنْسَـلِ ألاَّ رُبَّ خَصْمٍ فِيْكِ أَلْوَى رَدَدْتُـهُ نَصِيْـحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَــلِ وهذا المثل في المرأة هو المثل الذي بقي بعد ذلك في العصور كلها ولا يزال حتى اليوم في منزلته تلك التي كان يحتلها أيام امرئ القيس، لم يغيره مرّ العصور وتقلب الأذواق . إننا نظلم امرأ القيس إذا قلنا عن وصفه هذا بأنه إمعان في المادية ، إن الرجل يصبو في قوله هذا إلى المرأة المثال، المرأة الحياة كما يراها هو، وهو ما ذكر كل ذلك إلاّ من باب التعويض لعدم حصوله على المرأة التي يشعر معها بالاطمئنان والسعادة والاستقرار، إن تجربة الحب الحقيقية تعاش ولا تكتب فمتى ما فقدناها ثم افتقدناها نسعى إلى تصويرها في نفسنا عندئذ نقولها أو نكتبها بأسلوب فني وننقلها إلى نفوس الآخرين كما نحسها نحن في نفوسنا عن طريق الفن والشعر العالي الأخاذ. الليل: لقد انتهى ما بين الشاعر و(بيضة الخدر) وربما عادت إلى خدرها وبقي وحده على الكثيب يتملى الليل ذلك المجهول الأعظم الذي وقف عنده الأدباء والفلاسفة متأملين. وكأني بامرئ القيس بعد أن انتهى من عرض تجربته مع المرأة ، دفع ذلك الشوق العارم إلى المرأة الذي تلاه هذا السكون الشامل إلى أن يتأمل الحياة وربط بين السكون الذي يحسه في نفسه وبين سكون الليل، بين وحشته ووحشة الليل، بين الحياة التي تنبض في عروقه والنجوم الحية النابضة في سديم الليل، أو ربما أحس امرؤ القيس بكذبته البلقاء مع (بيضة الخدر) وأدرك أنه يكذب على نفسه قبل أن يكذب على الآخرين مفاخراً، ودفعه هذا الإحساس بالجدب وهو في جوف الليل إلى تأمل الليل، فأثار أشجانه وهمومه وخوفه من المجهول. إن العلاقة بين ذكرياته مع النساء وبين الليل علاقة نفسية لأنهما معاً يشغلان تفكير الشاعر، ولأنهما معاً من صورة الحياة البدوية التي يحياها الشاعر وتتوارد على تفكيره في قوة وعنف. فكما أن المرأة رمز للحياة والاطمئنان والسعادة، فكذلك الليل رمز للوحشة والرهبة والخوف، وكما يتوالى صراع الموت والحياة في المرأة، فهي الحياة عند إقبالها، وتوالد الوحشة والهم والحزن عند أدبارها أو صرمها حبل الود، فكذلك الليل هو الوحشة والخوف والموت عند إقباله وهو الحياة والأمل والسعادة عند أدباره وانبلاج فجره: ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَــهُ َعلَيَّ بِأَنْـوَاعِ الهُـمُوْمِ لِيَبْتَلِــي فَقُلْـتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّـى بِصُلْبِــهِ وأَرْدَفَ أَعْجَـازاً وَنَاءَ بِكَلْكَــلِ ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْجَلِــي بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَــلِ فَيَــا لَكَ مَنْ لَيْلٍ كَأنَّ نُجُومَـهُ بكل مغار الفتل شدت بيذبل كأن الثريا علقت في مصامها بِـأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْــدَلِ لاشك في أن هذا الليل ليل من نوع خاص , فتشبيهه بموج البحر , يجعله ليلا يغمر المرء فإذا هو كالغريق , ليلا تمر ساعاته متشابهة حتى يبدو وكأنه لا نهاية له , وموجه ليس عاديا بل هو موج حالك السواد , يحيط بالإنسان من كل جانب , فلا يعرف كيف يهتدي فيه . وحشة وغربة ومن ثم عزلة أوحت بها الستائر المنسدلة لتضفي على المشهد مزيدا من القتامة . إن صورة البعير البارك على صدر الشاعر , يقطع نفسه , وإذ بنا نشعر بالاختناق والموت . إننا نحس بخوف امرئ القيس من الليل ومن المجهول الكامن فيه كما كان يخاف أن تهجره المرأة وتقطع حبل المودة بينهما، فهو إذا يخشى الوحدة، ويخاف نفسه المصطرعة المضطربة، لأنه يخشى أن يتغلب فيها عنصر الفناء على عناصر البقاء فيهرب من هذا الصراع الداخلي إلى المرأة واللهو معها. أما الآن فهو يجابه وحدته مع الليل فينبعث (اللاشعور الجماعي) قوياً عارماً، فالليل حيوان خرافي عظيم الخلقة، لعله من مخلفات الأساطير القديمة والعبادات الوثنية. وكأن هذا الحيوان الخرافي الهائل يجثم على صدره ويضيق تنفسه ويشعره بدنو أجله أو دنو الموت منه. والثقل والجثوم لا يكون في هذا الحيوان الهائل فقط بل في جبل يذبل العظيم الذي شدت إليه نجوم السماء. فكأنه هو الآخر يجثم على صدره ويضيق أنفاسه بنجومه المربوطة إليه (بكل مغار الفتل)، حتى الحبال قوية ثقيلة. ترى هل كان جبل يذبل والنجوم المشدودة إليه معبوداً عبده أجداد امرئ القيس فيما سبق فظهر خوفه منها؟ بينما النجوم الوامضة في سديم الليل تبعث على الألفة والحياة أكثر مما تبعث على الخوف والرهبة وضيق الصدر، إلاّ إذا ارتبطت بقضية أسطورية عندئذ تفقد مظهرها الخارجي ويؤثر إيحاؤها الديني في نفوس الناس. وأعتقد أن وحشة امرئ القيس منها يعود إلى مثل هذا السبب، وإلاّ لما أصبحت (الثريا) التي كانت قبل قليل مبعثاً لسعادته بحيث جاء وصفها عذباً جميلاً (إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح المفصل) مصدراً لخوفه ورهبته الآن بحيث أنها لثقلها ورهبتها علقت بحبال قوية من الكتان إلى حجارة صماء غير متخلخلة. إن الثريا ثابتة في مواجهته لا تتحرك ومثلها بقية النجوم والليل، فهم ثابتون كجبل يذبل. وهم جاثمون على صدره يشعرونه بالوحشة والرهبة والخوف كالحيوان الأسطوري الهائل. ألا ما أثقل الوحشة والليل على نفس امرئ القيس العذبة الرقيقة المليئة بالحياة والحب والحركة. لذا كان انبلاج النهار باعثاً للحيوية والنشاط في نفس شاعرنا لأن النهار هو الحياة والألفة والحركة بعكس ليل الوحشة والخوف . |
2012- 11- 1 | #8 |
أكـاديـمـي
|
رد: تحليل نصوس 3 ومحاضرات البلاك بورد
المحاضرة الاولى
معلقة امرئ القيس قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ فِي عَرَصَاتِهَـا وَقِيْعَـانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُــلِ كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُـوا لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ وُقُوْفاً بِهَا صَحْبِي عَلَّي مَطِيَّهُـمُ يَقُوْلُوْنَ لاَ تَهْلِكْ أَسَىً وَتَجَمَّـلِ وإِنَّ شِفـَائِي عَبْـرَةٌ مُهْرَاقَـةٌ فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَـا وَجَـارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَـلِ إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَـا نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مِحْمَلِي ألاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِـحٍ وَلاَ سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُـلِ ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَي مَطِيَّتِـي فَيَا عَجَباً مِنْ كُوْرِهَا المُتَحَمَّـلِ فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِيْنَ بِلَحْمِهَـا وشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّـلِ ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْـزَةٍ فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاَتُ إنَّكَ مُرْجِلِي تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعـاً عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ فَقُلْتُ لَهَا سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَـهُ ولاَ تُبْعـِدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّـلِ فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِـعٍ فَأَلْهَيْتُهَـا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْـوِلِ إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ بِشَـقٍّ وتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَـوَّلِ ويَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيْبِ تَعَـذَّرَتْ عَلَـيَّ وَآلَـتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّـلِ أفاطِـمَ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّـلِ وإِنْ كُنْتِ قَدْ أزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي أغَـرَّكِ مِنِّـي أنَّ حُبَّـكِ قَاتِلِـي وأنَّـكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَـلِ وإِنْ تَكُ قَدْ سَـاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَـةٌ فَسُلِّـي ثِيَـابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُـلِ وَمَا ذَرَفَـتْ عَيْنَاكِ إلاَّ لِتَضْرِبِـي بِسَهْمَيْكِ فِي أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّـلِ وبَيْضَـةِ خِدْرٍ لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَـا تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَـلِ تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً إِلَيْهَا وَمَعْشَـراً عَلَّي حِرَاصاً لَوْ يُسِرُّوْنَ مَقْتَلِـي إِذَا مَا الثُّرَيَّا فِي السَّمَاءِ تَعَرَّضَتْ تَعَـرُّضَ أَثْنَاءَ الوِشَاحِ المُفَصَّـلِ فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَـا لَـدَى السِّتْرِ إلاَّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّـلِ فَقَالـَتْ : يَمِيْنَ اللهِ مَا لَكَ حِيْلَةٌ وَمَا إِنْ أَرَى عَنْكَ الغَوَايَةَ تَنْجَلِـي خَرَجْتُ بِهَا أَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَـا عَلَـى أَثَرَيْنا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّـلِ فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَـى بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ هَصَرْتُ بِفَوْدَي رَأْسِهَا فَتَمَايَلَـتْ عَليَّ هَضِيْمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخَلْخَـلِ مُهَفْهَفَـةٌ بَيْضَـاءُ غَيْرُ مُفَاضَــةٍ تَرَائِبُهَـا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَــلِ كَبِكْرِ المُقَـانَاةِ البَيَاضَ بِصُفْــرَةٍ غَـذَاهَا نَمِيْرُ المَاءِ غَيْرُ المُحَلَّــلِ تَـصُدُّ وتُبْدِي عَنْ أسِيْلٍ وَتَتَّقــِي بِـنَاظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِـلِ وجِـيْدٍ كَجِيْدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِـشٍ إِذَا هِـيَ نَصَّتْـهُ وَلاَ بِمُعَطَّــلِ وفَـرْعٍ يَزِيْنُ المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِــمٍ أثِيْـثٍ كَقِـنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِــلِ غَـدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إلَى العُــلاَ تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنَّى وَمُرْسَــلِ وكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجَدِيْلِ مُخَصَّــرٍ وسَـاقٍ كَأُنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّــلِ وتُضْحِي فَتِيْتُ المِسْكِ فَوْقَ فِراشِهَـا نَؤوْمُ الضَّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّـلِ وتَعْطُـو بِرَخْصٍ غَيْرَ شَثْنٍ كَأَنَّــهُ أَسَارِيْعُ ظَبْيٍ أَوْ مَسَاويْكُ إِسْحِـلِ تُضِـيءُ الظَّلامَ بِالعِشَاءِ كَأَنَّهَــا مَنَـارَةُ مُمْسَى رَاهِـبٍ مُتَبَتِّــلِ إِلَى مِثْلِهَـا يَرْنُو الحَلِيْمُ صَبَابَــةً إِذَا مَا اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ ومِجْـوَلِ تَسَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنْ الصِّبَـا ولَيْـسَ فُؤَادِي عَنْ هَوَاكِ بِمُنْسَـلِ ألاَّ رُبَّ خَصْمٍ فِيْكِ أَلْوَى رَدَدْتُـهُ نَصِيْـحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَــلِ ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَــهُ عَلَيَّ بِأَنْـوَاعِ الهُـمُوْمِ لِيَبْتَلِــي فَقُلْـتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّـى بِصُلْبِــهِ وأَرْدَفَ أَعْجَـازاً وَنَاءَ بِكَلْكَــلِ ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْجَلِــي بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَــلِ فَيَــا لَكَ مَنْ لَيْلٍ كَأنَّ نُجُومَـهُ بكل مغار الفتل شدت بيذبل كأن الثريا علقت في مصامها بِـأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْــدَلِ وقِـرْبَةِ أَقْـوَامٍ جَعَلْتُ عِصَامَهَــا عَلَى كَاهِـلٍ مِنِّي ذَلُوْلٍ مُرَحَّــلِ وَوَادٍ كَجَـوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطَعْتُــهُ بِـهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كَالخَلِيْعِ المُعَيَّــلِ فَقُلْـتُ لَهُ لَمَّا عَوَى : إِنَّ شَأْنَنَــا قَلِيْلُ الغِنَى إِنْ كُنْتَ لَمَّا تَمَــوَّلِ كِــلاَنَا إِذَا مَا نَالَ شَيْئَـاً أَفَاتَـهُ ومَنْ يَحْتَرِثْ حَرْثِي وحَرْثَكَ يَهْـزَلِ وَقَـدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَـا بِمُنْجَـرِدٍ قَيْـدِ الأَوَابِدِ هَيْكَــلِ مِكَـرٍّ مِفَـرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِـرٍ مَعــاً كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ كَمَيْتٍ يَزِلُّ اللَّبْـدُ عَنْ حَالِ مَتْنِـهِ كَمَا زَلَّـتِ الصَّفْـوَاءُ بِالمُتَنَـزَّلِ عَلَى الذَّبْلِ جَيَّاشٍ كأنَّ اهْتِـزَامَهُ إِذَا جَاشَ فِيْهِ حَمْيُهُ غَلْيُ مِرْجَـلِ مَسْحٍ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الوَنَى أَثَرْنَ الغُبَـارَ بِالكَـدِيْدِ المُرَكَّـلِ يُزِلُّ الغُـلاَمُ الخِفَّ عَنْ صَهَـوَاتِهِ وَيُلْوِي بِأَثْوَابِ العَنِيْـفِ المُثَقَّـلِ دَرِيْرٍ كَخُـذْرُوفِ الوَلِيْـدِ أمَرَّهُ تَتَابُعُ كَفَّيْـهِ بِخَيْـطٍ مُوَصَّـلِ لَهُ أيْطَـلا ظَبْـيٍ وَسَاقَا نَعَـامَةٍ وإِرْخَاءُ سَرْحَانٍ وَتَقْرِيْبُ تَتْفُـلِ ضَلِيْعٍ إِذَا اسْتَـدْبَرْتَهُ سَدَّ فَرْجَـهُ بِضَافٍ فُوَيْقَ الأَرْضِ لَيْسَ بِأَعْزَلِ كَأَنَّ عَلَى المَتْنَيْنِ مِنْهُ إِذَا انْتَحَـى مَدَاكَ عَرُوسٍ أَوْ صَلايَةَ حَنْظَـلِ كَأَنَّ دِمَاءَ الهَـادِيَاتِ بِنَحْـرِهِ عُصَارَةُ حِنَّاءٍ بِشَيْـبٍ مُرَجَّـلِ فَعَـنَّ لَنَا سِـرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَـهُ عَـذَارَى دَوَارٍ فِي مُلاءٍ مُذَبَّـلِ فَأَدْبَرْنَ كَالجِزْعِ المُفَصَّـلِ بَيْنَـهُ بِجِيْدٍ مُعَمٍّ فِي العَشِيْرَةِ مُخْـوَلِ فَأَلْحَقَنَـا بِالهَـادِيَاتِ ودُوْنَـهُ جَوَاحِـرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تُزَيَّـلِ فَعَـادَى عِدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ ونَعْجَـةٍ دِرَاكاً وَلَمْ يَنْضَحْ بِمَاءٍ فَيُغْسَـلِ فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِن بَيْنِ مُنْضِجٍ صَفِيـفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيْرٍ مُعَجَّـلِ ورُحْنَا يَكَادُ الطَّرْفُ يَقْصُرُ دُوْنَـهُ مَتَى تَـرَقَّ العَيْـنُ فِيْهِ تَسَفَّـلِ فَبَـاتَ عَلَيْـهِ سَرْجُهُ ولِجَامُـهُ وَبَاتَ بِعَيْنِـي قَائِماً غَيْرَ مُرْسَـلِ أصَاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيْكَ وَمِيْضَـهُ كَلَمْـعِ اليَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّـلِ يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيْحُ رَاهِـبٍ أَمَالَ السَّلِيْـطَ بِالذُّبَالِ المُفَتَّـلِ قَعَدْتُ لَهُ وصُحْبَتِي بَيْنَ ضَـارِجٍ وبَيْنَ العـُذَيْبِ بُعْدَمَا مُتَأَمَّـلِ عَلَى قَطَنٍ بِالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِـهِ وَأَيْسَـرُهُ عَلَى السِّتَارِ فَيَذْبُـلِ فَأَضْحَى يَسُحُّ المَاءَ حَوْلَ كُتَيْفَةٍ يَكُبُّ عَلَى الأذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ ومَـرَّ عَلَى القَنَـانِ مِنْ نَفَيَانِـهِ فَأَنْزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِنْ كُلِّ مَنْـزِلِ وتَيْمَاءَ لَمْ يَتْرُكْ بِهَا جِذْعَ نَخْلَـةٍ وَلاَ أُطُمـاً إِلاَّ مَشِيْداً بِجِنْـدَلِ كَأَنَّ ثَبِيْـراً فِي عَرَانِيْـنِ وَبْلِـهِ كَبِيْـرُ أُنَاسٍ فِي بِجَـادٍ مُزَمَّـلِ كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِرِ غُـدْوَةً مِنَ السَّيْلِ وَالأَغثَاءِ فَلْكَةُ مِغْـزَلِ وأَلْقَى بِصَحْـرَاءِ الغَبيْطِ بَعَاعَـهُ نُزُوْلَ اليَمَانِي ذِي العِيَابِ المُحَمَّلِ كَأَنَّ مَكَـاكِيَّ الجِـوَاءِ غُدَّبَـةً صُبِحْنَ سُلافاً مِنْ رَحيقٍ مُفَلْفَـلِ كَأَنَّ السِّبَـاعَ فِيْهِ غَرْقَى عَشِيَّـةً بِأَرْجَائِهِ القُصْوَى أَنَابِيْشُ عُنْصُـلِ الوقوف على الأطلال: يبدأ امرؤ القيس معلقته بالوقوف على الأطلال، فقد أوقف صاحبيه معه ودعاهما لمشاركته بكاء ذكرياته الماضية في هذا المكان الذي حدده جغرافيا: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل إن طلبه إلى صاحبيه مشاركته البكاء لذكرى الحبيب غير منطقي ولا يستدعيه الموقف، فالذكريات الأليمة لا تستحق مشاركة البكاء عند الرجال على الأقل. أما الحزن فينبعث عادة من النفس دون حاجة إلى استدعاء المشاركة، هذا بالإضافة إلى أن دعوة المشاركة لا تتم في حالة الحزن بل في حالة السعادة والفرحة , إنه استوقف من يبكي لذكرى الحبيب وذكراه لا تقتضي بكاء الخلي وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في شدة برحائه، فأما أن يبكي حبيب صديقه وعشيق رفيقه فأمر محال فإن كان المطلوب وقوفه وبكاؤه أيضاً عاشقاً صح الكلام وفسد المعنى من وجه آخر لأنه من السخف ألاّ يغار على حبيبه وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه والتواجد معه فيه . فإذا كانت الدعوة للمشاركة في البكاء غير منطقية، والوقوف على الأطلال لمجرد بكاء ذكريات ماضيه مع الحبيب تبدو غير مناسبة لشخصية امرئ القيس الرجل اللاهي –كما عرف عنه- فلماذا وقف على الأطلال إذاً وبكى هذا البكاء المر؟ يجيب ابن قتيبة: سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار.. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه… فإذا استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره وشكا النصب والسهر وسرى الليل وحر الهجير وانضاء الراحلة والبعير.. وإذا كان كلام ابن قتيبة يصح على صناع قصائد المديح فهو يجانب الحقيقة في معلقة امرئ القيس، فالشاعر يقف من الأطلال موقفه من كائن حي يحس به إحساساً كاملاً ويقف منه مخاطباً ومستوضحاً ما حل بساكنيه. وقد عدّ ابن رشيق القيرواني الوقوف على الأطلال مفتاح القصيدة، لا إلى الأغراض الأخرى بل إلى نفس الشاعر الذي ينطلق من نفسه إلى الآخرين بعد ذلك في الأغراض الأخرى التي يتطرق إليها . وابن رشيق في هذا يخالف ابن قتيبة فهو لا يجعل من شعر الغزل وسيلة لأغراض أخرى يتلمسها الشاعر عند السامع وإنما يجعل منه وسيلة الشاعر إلى نفسه . ويقول جب في هذا الصدد: إن هذا الموضوع الذي يطلق عليه اسم الغزل لهو في الحقيقة شيء يختلف تماماً. إنه ذكرى حب حزينة وعنصره العاطفي الجوهري هو ادكار الفراق وصلته عادة بالغزل ضعيفة… ومن ناحية الجدارة الشعرية فهي معلقة امرئ القيس… وقصيدته اعتداد بالنفس . وهو عندما لا يرى غير آثار الحيوانات التي استطاب لها المقام فيه – كما استطاب لأحباب الشاعر في الماضي –قطع الموقف رأساً وانتقل إلى تصوير ذكريات المرارة التي أحسها عند رحيلهم، وتكاد مرارته الآن تبعث ذلك الطعم المرّ في فمه، ذلك الطعم الذي ذكره بطعم مشابه له كل المشابهة، ساعة ارتحال من كان يحب في الماضي: ترى بَعَرَ الآرام في عرصاتها وقيعانها كأنه حب فلفل كأني في غداة البين يوم ترحلوا لدى سمرات الحي ناقف حنظل فهل موقفه إذاً مجرد ادكار للماضي؟ لا أعتقد ذلك، فهو يشخص الطلل وكأنه يشخص الماضي من خلاله، فهو في تشخيصه للماضي إنما يعبر عن حقيقة مشاعره تجاه هذا الماضي، فهو يعبر فيه أولاً عن نفسه وقلقه تجاه ظاهرة (الزوال)، وظاهرة الزوال هذه تأخذ شكليها في نفس امرئ القيس. الشكل الاجتماعي المتمثل بالحياة القلقة في الصحراء والتي تعتمد على التنقل المستمر وراء الماء والكلأ. وظاهرة الزوال الكونية المتمثلة بالموت، فهو في وقفته تلك على الأطلال يستجلي موقفه من المجهول الذي يتربص بالبشرية. ومن هنا جاء انفجار ينبوع الحزن في نفس الشاعر كأقوى ما يكون عليه الشعور به حتى كاد الشاعر أن يهلك أسى لولا تدخل صاحبيه ومحاولتهما التخفيف عنه. وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل إن النسيب وإن اختلفت أنواعه فهو اختبار القضاء والفناء والتناهي… لقد ملأ في الوجود والمصير على الشاعر الجاهلي حياته غير أنه لم يكن تعبيراً صادراً عن تشاؤم وإنما كان حافزاً يحفزه على الإقبال على الحياة… ويصور لنا الشاعر إحساسه بتلك العناصر الكونية الثلاثة، اختبار القضاء والفناء والتناهي وموقفه منها . لذا فهو يسيل عباراته حزناً على تذكر (الرحيل) وقفر الديار من أصحابها، لأن الرحيل في الحياة الدنيا يمثل لديه الرحيل إلى العالم الآخر (الموت)، وهكذا يمتزج فعل الرحيل بشكل واحد هو (الموت)، (الشعور بالموت لا يمكن أن يكون شعوراً داعياً كالشعور بالحياة، بل هو شعور غاية في الخفاء يظهر أحياناً في ظروف خاصة متخذاً من الأقنعة أو الرموز مرة أخرى ما يضمن إخفاءه وإن نمّ عليه. إن قليلاً من البحث يكشف لنا رموز الحياة والموت في كل جوانب حياتنا حيث تداخلت في نسيج تاريخنا وأساطيرنا في شعرنا وتصويرنا في أحلامنا وحديثنا بل إنه لمن المحتمل أن تسيطر هذه الرموز بطرق عدة بارعة على حياة كل فرد. . لذا فإن الشاعر عندما يهدر همومه وأحزانه مع انسكاب دموعه، يعود إلى عقله ويدرك أن البكاء على الأطلال لا يجدي شيئاً، بل هو عمل مهدور لا نفع فيه: وإن بكائي عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول إن إسرافه في وصف الدموع المنهمرة هذا الانهمار المبالغ فيه يناسب طبيعة الإنسان البدائي لأنه إنسان مطبوع على سجيته وهذا ما يجعل شعر امرئ القيس صادقاً وهو في حالة الأسى هذه لأنه يطابق واقعه النفسي الشجي وهو واقف على الأطلال. لقد تواكبت على خلق الوقوف على الأطلال في معلقة امرئ القيس ظروف بيئية ومادية وتاريخية وشعورية لتخلق حالة الخوف من المجهول، وهو خوف ديني متوارث منذ نشوء الخليقة. إن الأطلال تدفع إلى الأسى في نفس الشاعر لأنها تذكره بانقضاء شطر من عمره، لذا نجد امرئ القيس يكثر من ذكر الأماكن في معلقته ويلجأ إلى تحديد جغرافيتها، فهو يعقد في هذا التحديد الجغرافي بين المكان (الأرض) الباقية الصامدة في وجه الزمن (سقط اللوى، الدخول، حومل، توضح: المقراة، مأسل) وبين الديار التي زالت واندثرت آثارها بفعل الرياح والأمطار وعادت مرعى للحيوانات المتوحشة. هذا الموقف من طبيعة البيئة الصحراوية، يقود الشاعر دائماً إلى قضية صرفة، هي علاقته بالمرأة التي تستقطب الذكرى في نفسه، تلك المرأة التي لا يذكر منها غير الأفعال الحسية والاستمتاع بها، ليقف فعل الحب هذا تجاه الاندثار الكامل الذي يجده الشاعر في وقوفه على الطلل: كدأبك من أم الحويرث قبلها وجارتها أم الرباب بمأسل وهو يتخذ من المرأة الحية في عالم الواقع والحية في نفسه ذكرياته، رمزاً لحركة الحياة، التي تبدو فاجعة في إتيانها على معالم الأحياء، متمثلاً بالطلل، ولكنها رغم ذلك منتصرة في إبقائها على الربع والأرض والمكان من ناحية، وإبقائها المرأة المحبوبة حية في واقعها وفي ذكريات الشاعر من ناحية أخرى. وإن كان حنينه إلى المرأة يمثل إحساسه بغدر الزمان وبفجيعة الموت. إن ما يحدث هو ظرف تاريخي بحت لسكان الصحراء، هو ليس فعل امرئ القيس ومن بعده بل هو فعل الأقدمين أيضاً. لقد عانوا ما عاناه امرؤ القيس، فقد وقف أناس كثيرون قبله على مثل هذه الأطلال لأنها سنة الحياة في البيئة الصحراوية . ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي محملي إن هذه المبالغة في وصف البكاء سببها الإحساس بالغربة، ثم الحنين إلى هذه الأرض (الأم) التي ابتعد عنها وبالتالي يتمثل هذه الأرض الأم بالمرأة، أم البشر، فهي صفة الاستقرار والخصب والنماء، فقد اتصل الحبيب بالأرض بصورة لا شعورية، لأنهما واحد. إنها الوحشة التي يحسها الشاعر عند وقوفه على الأطلال حتى يفرط كل هذا الإفراط في البكاء لأن الوحشة تمثل لديه الموت، وكأن حياتهم الاجتماعية التي يحيونها تعني موت الحياة، لذا فهو ثائر على طبيعة الحياة البدوية، لذا فهو يبكي هذه الآثار تارة ويشفق على نفسه منها تارة أخرى ويجزع ثالثة. فهو يتحدى حياة الترحال، ويتوق إلى حياة الاستقرار في ذكرى امرأة يحبها. والشاعر يلمس هذا التناقض في الحياة بين الرهبة المتمثلة في الترحال (الموت) وبين الجمال المتمثل بالحب (الحياة). ومن يدري لعل الشاعر العربي لم يكن يبكي حبيبته أو يرثى لعشها المهجور فقط بل كان يبكي من حيث لا يشعر ذلك الحظ التعس الذي مني به هو وأمثاله من البدو حين فرضت عليهم ضرورة الحياة ألا يزالوا متنقلين على رقعة الصحراء كأنهم قطع شطرنج، وهم على سفر واجتماع وافتراق ووصل وهجران مختارين حيناً ومكرهين أحياناً . ويدور صراع قوي بين الرهبة والجمال، فقد قضت الرهبة على آثار الحبيبة ولكنها لم تمتها فهي ما زالت حية في نفس الشاعر وما إعادة الذكريات القديمة إلا إحياء مستمراً لهذا الجميل المتمثل في الحب. فالنفس الإنسانية يتنازعها عاملان قويان هما حب الحياة والخوف من الموت. وبهذين العاملين يتعلق الشعور بالجميل والجليل. فالجميل هو كل ما حبب الحياة إلى النفس وأظهرها لها في المظهر الذي يبسط لها الرجاء فيها ويبعث على الاغتباط بها والجليل كل ما حرك الوحشة وحجب عنها رونق الحياة. فالربيع والصباح والنور… كلها جميلة لأنها تنعش الحواس وتذكرها بالحياة.. والسكون والقفار المخيفة والأطلال الدارسة … كلها جليلة لأنها تقبض الحواس وتميل بالنفس إلى التضاؤل والضعة أمام رهبة الفناء وعظمة الطبيعة وضخامتها . لقد انتصر الجميل (الحياة) على الجليل (الموت) في معلقة امرئ القيس. فالحب أبقى في نفس الشاعر من الأطلال التي عفى عليها الزمن، أما الحب فهو باق لا تؤثر فيه مؤثرات الزمن. وما الذكرى –مهما طال عهدها- إلا صورة لبقاء هذا الجميل (الحب). إن امرأ القيس لا يكتفي بتحدي طبيعة الحياة، بل يتحدى طبيعة الكون، ويتحدى الموت عن طريق الفعل لإثبات وجوده. ولنحصي ما يدل على الحركة في الأبيات السابقة الذكر (قفا، نبك، ذكرى، لم يعف، نسجتها، ترى، تحملوا، ناقف، وقوفا، يقولون، لا تهلك، تجمل، دأب، فاض، بلّ). كل هذه الحركة أرادها الشاعر تحدياً للموت المتمثل في الطلل وإثباتاً لوجوده هو (الحياة) أمام الموت (الطلل). هذا بالإضافة إلى سخريته الشديدة من الطلل (الموت) في قوله (وهل عند رسم دارس من معوّل) والجواب هو النفي بالطبع مع البكاء الشديد المبالغ فيه، والذي يدرك مبالغته هو أيضاً (حتى بلّ دمعي محملي) ليوقف قوة الفعل هذه أمام همود الموت المتمثل بالطلل فهو يريد أن ينتصر في مبالغة الحياة على سكون الموت. إن امرأ القيس يحيل تجربته المادية تلك –في الترحال والغربة- إلى تجربة شعورية تتحدث عن مأساة التغيير في الكون- الحياة التي يعقبها الموت- فكل شيء إلى زوال، لذا فهو يتنكر للموت الذي طمس الآثار كما يطمس آثار البشر. لذا يحاول الشاعر إحياءها بقوة وعنف في نفسه ليقف بها أمام الموت. وبالذات تلك الذكرى المحببة إلى قلبه ذكرى عنيزة وصويحباتها في يوم دارة جلجل: ألا رب يوم لك منهن صالح ولا سيما يوم بدارة جلجل ولكن أليس العيش في الماضي نوعاً من الموت في الحياة؟ لقد رأى بعض الدارسين غادر امرؤ القيس خدر عنيزة وترك الخمر والصيد وذهب وراء ثأر أبيه وأراد أيضاً أن يثأر لنفسه من واقع حياته فمات على جبل تركي بعد أن طوف الآفاق ورضي من الغنيمة بالإياب . إن ولكن الباحث يرى أن امرأ القيس لم يذكر الماضي ليعيشه فيكون كالحي الميت، بل هو وقف من الذكرى المتمثلة بالأطلال موقفاً إيجابياً تماماً. فقد تحدى الموت عن طريق الذكرى التي تمثل الوجود والحياة. لقد ذكر امرؤ القيس الجزء (الطلل) وكان يريد به الكل (الكون) وذكر الأماكن وحددها للدلالة على هذا المطلق الذي ذهب منه الجزء (الخيمة أو البيت) ولكن الأرض (الكل) الذي أقيمت عليها الخيمة أو البيت ما زالت باقية وستبقى ما بقيت الحياة على سطح الكرة الأرضية فالوقوف على الطلول المهجورة بالتبرير الفلسفي نوع من حنين النسبي إلى المطلق… وما الأرض في وعي الشاعر الجاهلي سوى البديل في العملية النفسية المصعدة للآخر المطلق رمز الخلاص والانعتاق والتحليل بل هو إله آخر ربما كان أسطورياً تختزنه الذاكرة من بقايا الأساطير الدينية الموروثة منذ القديم . من هذا الموقف بالذات بدأ امرؤ القيس يؤكد على صدق انتمائه لا للجزء (الطلل) بل للكل (الأرض). وظهر حنينه للجزء لأنه منتم إلى الكل. وهكذا يتداخل الجزء في الكل والكل في الجزء في مطلع المعلقة. ونتيجة لإحساسه القوي بالغربة شعر بحنين طاغ إلى الأرض والمرابع حيث الاستقرار الدائم وبالتالي الحب والخصب والنماء والجمال. فعرج من ذكر الأطلال إلى تذكر أيامه الجميلة مع المرأة، سواء أكانت عنيزة أم فاطمة، أم الحويرث أم أم الرباب، فكلهن مستقر وأمان من المخاطر وكلهن أداة للخصب والنماء وبالتالي كلهن مأوى من الخوف الاجتماعي (الرحيل والغربة) والخوف الكوني (الموت) لأنه سيرى نفسه في ولده. ومن هنا يأتي انتصار الحياة على الموت بديمومة الإنسان عن طريق التوالد والتجديد ضد الموت القديم الذي لم يدم ولم يتجدد. وهكذا تقف الحياة إزاء الموت في معلقة امرئ القيس لتنتصر الحياة على الموت كلما أوغلنا في بناء القصيدة. فهي عبارة عن صراع أبدي بين حب الحياة وغريزة الموت التي تصطرع في نفس امرئ القيس. إن الحياة الجاهلية بما فيها من قفر وجدب ووحشة تبعث في نفس امرئ القيس الحنين إلى الأرض والالتصاق بها، فالأرض عنده رمز للثبوت والديمومة والخصب والحياة ومن ثم التجدد والنماء والخصب والخلود. ومن هنا جاءت وقفته الطويلة على الأطلال فهي لحظة تأمل غرق فيها الشاعر لتحديد موقفه من البقاء والفناء حتى انتصرت الحياة في نفسه على الموت، وبدت المرأة (الحياة) في معلقته مضمخة بالطيب نابضة بالجمال، فإذا ما هبت رائحتها فكأنها ريح الصبا –ومعروف أهمية هذه الريح بالنسبة للجاهلي الذي يعاني من لفح الصحراء وقيظها الشديد، وهذه الريح لا تأتيه بالطراوة والبرودة فقط بل هي محملة بعبق القرنفل ورائحته. وهكذا تمتزج مظاهر الحضارة في هذا البيت مع السمات الجمالية للطبيعة في نفس الشاعر. المرأة: إن السمات الجمالية التي ظهرت بها المرأة في المعلقة مكنته من تخطي ذلك الجسر المعقود بين الشعور بالتعاسة المتمثل بالإحساس بالعدم عند وقوفه على الأطلال، والإحساس بالجمال والحياة عندما انتقل إلى وصف المرأة ومظاهر النعمة التي تحيا فيها ومن ثم مغامراته معها وتحديد علاقته بها. وهكذا استطاع الشاعر أن يتخطى إحساسه بالفناء منطلقاً إلى الحياة يصف مظاهرها الطبيعية المختلفة، فالمرأة عنده رمز للسعادة والاستقرار وهي مظهر ممتلئ بالحياة كالمظاهر الطبيعية الأخرى. لذا تناول الشاعر مظاهرها الخارجية الجمالية جزءاً جزءاً كما تناول مظاهر الطبيعة المختلفة من ليل ونجوم ومطر وسيل ونباتات وحيوانات. فهو كما يندمج في الحياة الجمالية للطبيعة يندمج اندماجاً كاملاً في الحياة (المرأة) التي تبعث فيه الشعور نفسه بالجمال والحب. لذا بدت النساء الأربع اللاتي ذكرهن في المعلقة وغيرهن ممن لا أسماء لهن خاليات من الملامح الفردية وكأنهن امرأة واحدة، تلك المرأة التي يجد عندها الحنان والاستقرار والحب ومن ثم الخلود لمواجهة الوحشة التي عاناها من ترحله المتمثل بالطلل. وهكذا تنهال الذكريات الحلوة الجميلة انتصاراً للحياة والجمال والمتعة في نفس امرئ القيس وهو يروي لنا حادثة يوم جلجل: ويوم عقرت للعذارى مطيتي فيا عجبا من كورها المتحمل يظل العذارى يرتمين بلحمها وشحم كهداب الدمقس المفتل إن البهجة والحركة المتمثلة في هذين البيتين تمثلان لنا انطلاق الشاعر نحو الحياة الجميلة المليئة بالمتعة والحياة بين فتيات سعيدات بالإكرام الذي حباهن به الشاعر بعد أن عقر لهن مطيته. وسعادتهن المتمثلة بالحركة البهيجة التي رسمها لهن وهن يمرحن في ترامي لحم الناقة وشحمها فيما بينهن، لقد عبر الشاعر الجسر من جانب الموت المتمثل بالقلق الذي أوحاه الطلل المليء بالشجن إلى نفسه في ذكريات حية سعيدة، وهذا هو الفرق بين الغزل والنسيب فإذا كان الأول شعوراً بالسعادة والبهجة فالثاني يخلط البهجة بالحزن والألم إنه يجمع بين أسباب الحياة والموت وهذا يذكرنا بمبدأ التزاوج بين المتعة والألم… وقد جمع الشاعر الجاهلي بين هذين الشعورين في إطار واحد هو ما نسميه النسيب أي الحب المهدد دائماً برحيل المحبوبة وكذلك الحياة المهددة بالخراب متمثلة في الوقوف على الأطلال المقفرة) . إن هذا الإحساس القلق الذي تلمسناه في نسيب امرئ القيس رغم أنه ظاهرة فردية ناتجة عن صراع نفسي يعتلج في نفس الشاعر نتيجة لقلقه تجاه المجهول الممثل لخطر الرحيل الدنيوي والكوني إلا أن مثل هذا النسيب نجده عند غيره من الشعراء الجاهليين لدى وقوفهم على الأطلال، فهي وإن بدت تجربة فردية لأول وهلة إلا أنها مشاعر مشتركة تمثل موقفاً إنسانياً مشتركاً. وهكذا جاء انتقال الشاعر من النسيب إلى الغزل طبيعياً وهو ما أسماه الأقدمون حسن التخلص، فقد استطاع الشاعر أن يتغلب على الإحساس بالعدم في نفسه فانطلق إلى الحياة بما فيها من بهجة وسعادة، وقد بدأ غزله بذكر مغامرته مع عنيزة: ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْـزَةٍ فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاَتُ إنَّكَ مُرْجِلِي تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعـاً عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ فَقُلْتُ لَهَا سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَـهُ ولاَ تُبْعـِدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّـلِ إن عنيزة تمانع بدلال ووعد بالعطاء ويحس امرؤ القيس منها ذلك، وعندما تطلب إليه النزول خوفاً من أن يعقر البعير نتيجة لثقلهما عليه، فهو لا يلتفت إليها ويطلب إليها طلب المتمكن من نفس من يحب بأن ترخي زمام البعير وتدعه يسير كما يلمح لها بأنه يريدها ويبغي جناها الطيب المستملح، وهو لا يقنع بالجلوس إلى جانبها فقط بل هو يسعى إلى رغبات مادية أخرى. لذا فهو ينعطف رأساً إلى ذكر مغامراته الغرامية مع الأخريات وهو يبالغ في القول مبالغة عظيمة (فمثلك حبلى.. إذا ما بكى من خلفها). لقد خلق لنا الشاعر من خلاله أبياته الغزلية فناً عالياً يدخل ضمن مفهوم الفن للفن . لقد كان امرؤ القيس في مبالغته في ذكر مغامراته مع النساء يريد أن يعوض النقص الذي ولده عزف النساء عن معاشرته، هو الذي حبته الطبيعة قوة وفحولة ورجولة. إن المبالغة في مسألة المرأة ما هي إلاّ تعويض عن هذا النقص الكبير الذي يحس به الشاعر فهو يكذب ليغطي هذا النقص أمام الآخرين. فالمرأة تمثل في حياة امرئ القيس الشعور بالجمال والكينونة والوجود ليقابل ما يعتلج في نفسه من خوف من المجهول، إنه في ذكر المرأة يبقي الحياة في أوج قوتها وتجديدها لذاتها كي لا يستطيع الموت أن يقضي عليها قضاء كلياً ولتبقى قادرة على مصارعته، والبقاء الدائم رغم مطاردته لها: ويَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيْبِ تَعَـذَّرَتْ عَلَـيَّ وَآلَـتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّـلِ إن المرأة تمتنع عليه، لقد وعدت ثم أخلفت، إنها مثل الحياة توجدنا ثم تبدأ بقلب ظهر المجن لنا حتى تتخلى عنا تماماً وتدعنا للموت يلتهمنا ويتلهى بنا، إن امتناع المرأة على امرئ القيس كإدبار الحياة عنه فكلاهما يعني الفجيعة والموت. وكأنه المجهول الذي يتربص به الذي يخافه الشاعر كل الخوف , فامرؤ القيس توسل هنا بمبدأ التعميم الذاتي بفعل السويداء والوحشة فبدا له أن المرأة لا تزال تخادعه وتغرر به وأنها لن تخلق في نفسه إلاّ البؤس الدائم، ولعله كان يعاني هنا لحظة من الصدق والصفاء النفسيين فباح بحقيقة واقعه من المرأة محققاً ما تذكره الأصول القديمة عنه من أنه كان مفركاً لا تطيق النساء عشرته . من كل هذا نستنتج أن ذكره للنساء في معلقته لم يكن بدافع الحب لعنيزة كما ذكرت كتب تاريخ الأدب بل بدافع الصراع الذي نشب في نفسه عند تمثله لحياة الترحال والتنقل تلك الحياة التي كانت سنة الأحوال الاجتماعية والاقتصادية للبيئة الصحراوية. ولم يأت ذكر الغزل في المعلقة إلاّ على سبيل المفاخرة إلى جانب فخره بحصانه وقوته وبراعته في الصيد وكرمه عندما ذبح للعذارى مطيته في يوم دارة جلجل، ولإظهار براعته وقدرته في نظم الشعر ولـه فيه أسلوب خاص جرى عليه غيره من الشعراء فيما بعد ويقوم هذا الأسلوب بذكر مغامرة غرامية ونقل ما يدور فيها بين الشاعر وصاحبته من حوار يبدأ بارتياع الحبيبة من مفاجأة الشاعر لها، وبلوم فيه كثير من الدل. وهذا الأسلوب الذي ابتدعه الشاعر لنفسه , الذي أظهر فيه تعمقاً بمعرفة النساء كثيراً ما يكون مزيجاً من الوصف والقصص والحوار… . ثم توالت في ذهنه الذكريات، ذكريات حية صامدة أمام كل موت، ذكريات حبه لفاطمة، ويبدو امرؤ القيس معها رجلاً آخر، فهو لا يسعى إلاّ إلى رضاها، ويقف منها موقف الند للند، ولا يكذب ولا يغالي في الحديث بل على العكس نجد في قوله رنة حزن وأسى وهو يعجب من صرمها له: أفاطِـمَ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّـلِ وإِنْ كُنْتِ قَدْ أزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي لذا فهو يسائلها مستنكراً إن كانت قد بدت منه إساءة تجاهها: وإِنْ تَكُ قَدْ سَـاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَـةٌ فَسُلِّـي ثِيَـابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُـلِ وهو يعلم حق العلم أن إساءته إليها شيء مستحيل، ويعلم أنها واثقة من حبه لها فهي تعامله معاملة المرأة المتمكنة من قلب رجلها: أغَـرَّكِ مِنِّـي أنَّ حُبَّـكِ قَاتِلِـي وأنَّـكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَـلِ وَمَاذرَّفَـتْ عَيْنَاكِ إلاَّ لِتَضْرِبِـي بِسَهْمَيْكِ فِي أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّـلِ ولكننا نحس من قول الشاعر أن فاطمة لم تكن تحبه بل هي عازفة عن لقائه صارمة له، ولم يبد منها أية ظاهرة من ظواهر الحب تجاهه، وأنه قد توهم ذلك، لأنه لم يكن قد تعامل مع الحرائر، فلم يعرفهن معرفة أكيدة، لأن تعامله مع المرأة البغي هو التعامل الشائع في شعره بسبب حياته المتنقلة اللاهية. لقد أراد امرؤ القيس أن يجد الأمان والاستقرار والنماء لدى فاطمة ولكنه لم يحصل على بغيته فأصابه الكمد وانتابته الحسرة، فراح يكذب علينا وعلى نفسه بذكر مغامرة جديدة يظهر فيها افتتان النساء به وتهالكهن عليه ليعوض صد فاطمة وصرمها له. وقد استخدم امرؤ القيس جميع حواسه في كشف جمال المرأة، كما فعل تماماً في كشف مظاهر الطبيعة بعد ذلك، ويبدو للباحث أن محاسن المرأة قد امتزجت بمحاسن الطبيعة كما امتزجت المرأة بها. أليس جمال المرأة يبعث إحساساً بالنشوة كالإحساس الذي يوحيه جمال الطبيعة؟ إن المرأة والطبيعة شيء واحد في نظر امرئ القيس، ولكن أليس الإنسان جزءاً من الطبيعة؟ وقد تملى الشاعر محاسن المرأة وراح يعطينا الجمال المثالي كما يراه في المرأة وإن توهم أن امرأته , تمتلك جميع تلك المواصفات لإيحاء السعادة في ذاته تعويضاً عن موقفه المفجع مع فاطمة، فهي بالإضافة إلى ضمورها , وامتلائها بحيث لا تبين عظامها وخاصة عند موضع الخلخال من الساق، فهي رشيقة القوام وصدرها أبيض مصقول كالمرآة. وقد شبه بياضها ببيضة النعامة الأولى لأنها تكون خالصة البياض وبالدرة التي لم تثقب: كَبِكْرِ المُقَـانَاةِ البَيَاضَ بِصُفْــرَةٍ غَـذَاهَا نَمِيْرُ المَاءِ غَيْرُ المُحَلَّــلِ ثم مضى في وصف العينين والخدين، فخدها سهل جميل وعيناها كعيني المهاة التي معها ولدها ترعاه تَصُدُّ وتُبْدِي عَنْ أسِيْلٍ وَتَتَّقــِي بِـنَاظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِـلِ وقد علم الشاعر وعرف الواصف أن الجارية الفائقة الحسن أحسن من الظبية وأحسن من البقرة وأحسن من كل شيء تشبهه ولكنهم إذا أرادوا القول شبهوها بأحسن ما يجدون فيقول بعضهم كأنها القمر وكأنها الشمس… ومن يشك أن عين المرأة الحسناء أحسن من عين البقرة وإن جيدها أحسن من جيد الظبية . وهي طويلة الجيد جميلته كجيد لظبي، تزينه الحلي: وجِـيْدٍ كَجِيْدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِـشٍ إِذَا هِـيَ نَصَّتْـهُ وَلاَ بِمُعَطَّــلِ وهي طويلة الشعر فاحمته، ملفوف بشكل جميل جذاب: وفَـرْعٍ يَزِيْنُ المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِــمٍ أثِيْـثٍ كَقِـنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِــلِ غدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إلَى العُــلاَ تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنَّى وَمُرْسَــلِ وهو أجمل ما يكون في تصويره خصلات الشعر بكلمة (مستشزرات) فتداخل الشعر مع بعضه في تسريحته الجميلة لم تستطع غير هذه الكلمة المتداخلة الحروف في آن واحد من إظهار المعنى الذي كان يريد الشاعر توضيحه. ثم يصف خصرها الرشيق وساقها الجميل: وكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجَدِيْلِ مُخَصَّــرٍ وسَـاقٍ كَأُنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّــلِ وهو في استمتاعه الحسي بجمالها ومحاسنها يتوصل إلى أصابعها اللينة المنعمة التي لم يتلفها العمل ولم يصبها بالخشونة والصلابة: وتَعْطُـو بِرَخْصٍ غَيْرَ شَثْنٍ كَأَنَّــهُ َسَارِيْعُ ظَبْيٍ أَوْ مَسَاويْكُ إِسْحِـلِ فهي كاملة الأوصاف والمحاسن، لذا تمتزج الأوصاف الحسية بالأوصاف الشعورية: تُضِـيءُ الظَّلامَ بِالعِشَاءِ كَأَنَّهَــا مَنَـارَةُ مُمْسَى رَاهِـبٍ مُتَبَتِّــلِ وهي منعمة مترفة غنية لا تعرف للعمل معنى، حافظت على رونقها وجمالها. وهو يجد في هذه المرأة ومثيلاتها مبتغاه وأمنه واستقراره بعد سفر وترحال، بل يجد فيها الأمن والطمأنينة والتخلص من الصراع القائم في نفسه بين البقاء والفناء، لذا فهو لن يبتعد عنها ولن يجدي الخصوم في تعذالهم ولومهم شيء فهي كنهه الأخير ومستقره في الحياة والسعادة: إِلَى مِثْلِهَـا يَرْنُو الحَلِيْمُ صَبَابَــةً إِذَا مَا اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ ومِجْـوَلِ تَسَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنْ الصِّبَـا ولَيْـسَ فُؤَادِي عَنْ هَوَاكِ بِمُنْسَـلِ ألاَّ رُبَّ خَصْمٍ فِيْكِ أَلْوَى رَدَدْتُـهُ نَصِيْـحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَــلِ وهذا المثل في المرأة هو المثل الذي بقي بعد ذلك في العصور كلها ولا يزال حتى اليوم في منزلته تلك التي كان يحتلها أيام امرئ القيس، لم يغيره مرّ العصور وتقلب الأذواق . إننا نظلم امرأ القيس إذا قلنا عن وصفه هذا بأنه إمعان في المادية ، إن الرجل يصبو في قوله هذا إلى المرأة المثال، المرأة الحياة كما يراها هو، وهو ما ذكر كل ذلك إلاّ من باب التعويض لعدم حصوله على المرأة التي يشعر معها بالاطمئنان والسعادة والاستقرار، إن تجربة الحب الحقيقية تعاش ولا تكتب فمتى ما فقدناها ثم افتقدناها نسعى إلى تصويرها في نفسنا عندئذ نقولها أو نكتبها بأسلوب فني وننقلها إلى نفوس الآخرين كما نحسها نحن في نفوسنا عن طريق الفن والشعر العالي الأخاذ. الليل: لقد انتهى ما بين الشاعر و(بيضة الخدر) وربما عادت إلى خدرها وبقي وحده على الكثيب يتملى الليل ذلك المجهول الأعظم الذي وقف عنده الأدباء والفلاسفة متأملين. وكأني بامرئ القيس بعد أن انتهى من عرض تجربته مع المرأة ، دفع ذلك الشوق العارم إلى المرأة الذي تلاه هذا السكون الشامل إلى أن يتأمل الحياة وربط بين السكون الذي يحسه في نفسه وبين سكون الليل، بين وحشته ووحشة الليل، بين الحياة التي تنبض في عروقه والنجوم الحية النابضة في سديم الليل، أو ربما أحس امرؤ القيس بكذبته البلقاء مع (بيضة الخدر) وأدرك أنه يكذب على نفسه قبل أن يكذب على الآخرين مفاخراً، ودفعه هذا الإحساس بالجدب وهو في جوف الليل إلى تأمل الليل، فأثار أشجانه وهمومه وخوفه من المجهول. إن العلاقة بين ذكرياته مع النساء وبين الليل علاقة نفسية لأنهما معاً يشغلان تفكير الشاعر، ولأنهما معاً من صورة الحياة البدوية التي يحياها الشاعر وتتوارد على تفكيره في قوة وعنف. فكما أن المرأة رمز للحياة والاطمئنان والسعادة، فكذلك الليل رمز للوحشة والرهبة والخوف، وكما يتوالى صراع الموت والحياة في المرأة، فهي الحياة عند إقبالها، وتوالد الوحشة والهم والحزن عند أدبارها أو صرمها حبل الود، فكذلك الليل هو الوحشة والخوف والموت عند إقباله وهو الحياة والأمل والسعادة عند أدباره وانبلاج فجره: ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَــهُ َعلَيَّ بِأَنْـوَاعِ الهُـمُوْمِ لِيَبْتَلِــي فَقُلْـتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّـى بِصُلْبِــهِ وأَرْدَفَ أَعْجَـازاً وَنَاءَ بِكَلْكَــلِ ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْجَلِــي بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَــلِ فَيَــا لَكَ مَنْ لَيْلٍ كَأنَّ نُجُومَـهُ بكل مغار الفتل شدت بيذبل كأن الثريا علقت في مصامها بِـأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْــدَلِ لاشك في أن هذا الليل ليل من نوع خاص , فتشبيهه بموج البحر , يجعله ليلا يغمر المرء فإذا هو كالغريق , ليلا تمر ساعاته متشابهة حتى يبدو وكأنه لا نهاية له , وموجه ليس عاديا بل هو موج حالك السواد , يحيط بالإنسان من كل جانب , فلا يعرف كيف يهتدي فيه . وحشة وغربة ومن ثم عزلة أوحت بها الستائر المنسدلة لتضفي على المشهد مزيدا من القتامة . إن صورة البعير البارك على صدر الشاعر , يقطع نفسه , وإذ بنا نشعر بالاختناق والموت . إننا نحس بخوف امرئ القيس من الليل ومن المجهول الكامن فيه كما كان يخاف أن تهجره المرأة وتقطع حبل المودة بينهما، فهو إذا يخشى الوحدة، ويخاف نفسه المصطرعة المضطربة، لأنه يخشى أن يتغلب فيها عنصر الفناء على عناصر البقاء فيهرب من هذا الصراع الداخلي إلى المرأة واللهو معها. أما الآن فهو يجابه وحدته مع الليل فينبعث (اللاشعور الجماعي) قوياً عارماً، فالليل حيوان خرافي عظيم الخلقة، لعله من مخلفات الأساطير القديمة والعبادات الوثنية. وكأن هذا الحيوان الخرافي الهائل يجثم على صدره ويضيق تنفسه ويشعره بدنو أجله أو دنو الموت منه. والثقل والجثوم لا يكون في هذا الحيوان الهائل فقط بل في جبل يذبل العظيم الذي شدت إليه نجوم السماء. فكأنه هو الآخر يجثم على صدره ويضيق أنفاسه بنجومه المربوطة إليه (بكل مغار الفتل)، حتى الحبال قوية ثقيلة. ترى هل كان جبل يذبل والنجوم المشدودة إليه معبوداً عبده أجداد امرئ القيس فيما سبق فظهر خوفه منها؟ بينما النجوم الوامضة في سديم الليل تبعث على الألفة والحياة أكثر مما تبعث على الخوف والرهبة وضيق الصدر، إلاّ إذا ارتبطت بقضية أسطورية عندئذ تفقد مظهرها الخارجي ويؤثر إيحاؤها الديني في نفوس الناس. وأعتقد أن وحشة امرئ القيس منها يعود إلى مثل هذا السبب، وإلاّ لما أصبحت (الثريا) التي كانت قبل قليل مبعثاً لسعادته بحيث جاء وصفها عذباً جميلاً (إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح المفصل) مصدراً لخوفه ورهبته الآن بحيث أنها لثقلها ورهبتها علقت بحبال قوية من الكتان إلى حجارة صماء غير متخلخلة. إن الثريا ثابتة في مواجهته لا تتحرك ومثلها بقية النجوم والليل، فهم ثابتون كجبل يذبل. وهم جاثمون على صدره يشعرونه بالوحشة والرهبة والخوف كالحيوان الأسطوري الهائل. ألا ما أثقل الوحشة والليل على نفس امرئ القيس العذبة الرقيقة المليئة بالحياة والحب والحركة. لذا كان انبلاج النهار باعثاً للحيوية والنشاط في نفس شاعرنا لأن النهار هو الحياة والألفة والحركة بعكس ليل الوحشة والخوف . |
2012- 11- 1 | #9 |
أكـاديـمـي
|
رد: تحليل نصوس 3 ومحاضرات البلاك بورد
المحاضرة الثانية
معلقة زهير بن ابي سلمى يقول زهير في حديثه عن الحرب : وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـمِ مَتَـى تَبْعَـثُوهَا تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـةً وَتَضْـرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَمِ فَتَعْـرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَـا وَتَلْقَـحْ كِشَـافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ فَتُنْتِـجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُـمْ كَأَحْمَـرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِـعْ فَتَفْطِـمِ فَتُغْـلِلْ لَكُمْ مَا لاَ تُغِـلُّ لأَهْلِهَـا قُـرَىً بِالْعِـرَاقِ مِنْ قَفِيْزٍ وَدِرْهَـمِ إن حديث زهير عن الحرب ليس بالحديث الغفل أو الجديد، وإنما هو حديث عن أمر معاش، يعرفه الجميع، وخبروا نتائجه وذاقوا مرارته وويلاته، فليس الحديث إذن رجماً بالغيب، فهو ينقل في آلته التصويرية الدقيقة الرائعة مشهداً وصورة أكثر حيوية عندما يرسم صورة الحرب الذميمة، وآلية نشوبها ومن ثم تأجج سعيرها عندما تحتدم في ساحات القتال المعارك الطاحنة الضروس التي لا تبقي ولا تذر والتي إن هي إلا أشبه بالنار تبدأ صغيرة ثم ما تلبث بعد أن تضطرم نيرانها فتصبح كتلة هائلة مخيفة تأكل كل شيء حتى باعثوها ومنشبوها.. إن هذه الصورة الرائعة والدقيقة للحرب وتحولاتها وأخطارها، ما كان لها أن تتأتى من خلال قريحة شاعر عادي، لا خبرة له بالحروب ومضارها ، وزهير قد أربى على الثمانين عاماً وقد شهد وعاصر العديد منها طيلة هذه السنوات المديدة الزاخرة بالأيام والحروب وخاصة حرب داحس والغبراء التي دامت زمناً طويلاً، ابتلي الكثيرون بويلاتها وحاق بعدد أكبر الشيء ذاته من الخراب والدمار، ناهيك عن النفوس التي أزهقت والأموال التي أنفقت والبلوى التي حلت بالقبائل المتقاتلة طيلة هذه الحرب المدمرة. رمز الناقة: لم تكن الناقة مجرد صديق , أو أنيس , بل كانت هي الرمز الذي يستوعب حياة الإنسان , لذلك عندما أراد زهير أن يحدثنا عن قوة الموت لجأ إلى الناقة في حديثه عن الحرب . أصبحت الناقة حيوانا أسطوريا يلجأ إليه الشعراء ليعبروا عن قوى الشر الغامضة المسلطة على الإنسان, فكانت فكرة الرعي تعبر عن الموت . رمز الناقة في الشعر الجاهلي: الناقة تتردد في كل مكان في الشعر الجاهلي ؛ فهي رمز الحياة التي يعبث فيها الموت, كما أنها رمز القوة إنها رمز القداسة , ولو لم تحمل القداسة بكل معانيها لما وقف الشاعر طرفة بن العبد أمامها وقوفاً مسهباً في معلقته الشهيرة وقوفاً متأنياً عند كل عضو فيها. الشاعر مشغوف بالتأمل في أجزاء الناقة لأن كل عضو فيها ينبض بأهمية الحياة هذه الناقة التي تُشبّه بالقصور والأعمدة والسفن والقناطر وجذوع الطلح والصخر الغليظ وتابوت الموتى. يقول طرفة: أمون كألواح الأران نسأتها على لاحب كأنه ظهر برجد إنها ناقة تشبه ألواح تابوت الموتى , إنها تحمل صاحبها كما يستوعب التابوت الميت و إنها الصنم الذي يتأمله الشاعر الجاهلي ويتعبده. الناقة رمز الإنسان الفاني ورمز الدهر الباقي معا. الناقة رمز الدهر الذي يحيي ويميت , ولولا ذلك لما استطعنا أن نفهم كثيراً عن امرئ القيس إذ يقول: وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل الليل هنا يقرن بالبعير, الليل الطويل فاتر بطيء كالبعير الجاثم الذي لا يريم. وعندما أراد الشعراء في العصر الجاهلي أن يحدثونا عن قوة الموت لجأوا إلى الناقة على نحو ما نجده في كلام زهير في حديثه عن الحرب. متى تبعثوها تبعثوها ذميمة وتضر إذا ضريتموها فتضرم فتعرككم عرك الرحى بثفالها وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم أصبحت الناقة حيواناً أسطورياً يلجأ إليه الشعراء في التعبير عن قوى الشر الغامضة المسلطة على الإنسان أو قوى الموت. وعلى هذا النحو أيضاً وجدنا فكرة الرعي تعبر عن هذا الموت كمثل قول زهير في المعلقة: رعوا مارعوا من ظمئهم ثم أوردوا غماراً تفرى بالسلاح وبالدم فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا إلى كلأ مستوبل متوخم رمز الفرس : أهم حيوان بعد الناقة في الشعر الجاهلي هو الفرس وهو رمزلأشياء كثيرة منها: الصبا ودواعيه على نحو قول زهير: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله وعُرِّيَ أفراسُ الصِّبا ورواحلهْ الفرس كالناقة , غدا يشارك في التعبير عن الشيب ودنو الأجل. الفرس هو الشباب الذي يتهاوى. وقد أغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل الفرس جماع قوى كثيرة : حاول امرؤ القيس أن يهرب من ليله على صهوة هذا الفرس: له أيطلا ظبي وساقا نعامة وإرخاء سرحاء وتقريب تتفل |
2012- 11- 1 | #10 |
أكـاديـمـي
|
رد: تحليل نصوس 3 ومحاضرات البلاك بورد
المحاضرة الثالثة
من شعر الصعاليك ظاهرة الصعلكة . الشنفرى الأزدي أنموذجا. ظاهرة الصعلكة : الصعاليك الصعلكة في اللغة : جاء " في لسان العرب الصعلوك : الفقير الذي لا مال له ، زاد الأزهري ولا اعتماد، وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك . قال حاتم الطائي : غَنينا زماناً بالتصعلك والغني فكلاً سقاناه بكأسيهما الدهر أي عشنا زماناً وتصعلكت الإبـــل : خرجت أوبارها ، وانجردت ، وطرحتها . ورجل مصعلك الرأس : مدوره . ورجل مصعلك الرأس : صغيره ، ولكن يبدو أن هذا المعنى لا يعبر عن المفهوم اللغوي للكلمة تعبيراً دقيقاً كاملاً ، ولهذا نريد أن نقف وقفة أخرى عند تلك الزيادة التي أضافها الأزهري إلى هذا المعنى اللغوي ، وهي قوله (ولا اعتماد) فإن " قوله : (ولا اعتماد) يعبر عن معنى دقيق في مفهوم الصعلكة بالمعنى المعروف لها ، وإذا كان الفقر من أهم الدوافع إلى الصعلكة ، فإن ما يميز الصعاليك عن غيرهم من الفقراء أنهم رفضوا أن يعيشوا عالة على غيرهم ، أو أن يجعلوا من أحد من الناس عماداً لهم ، في حين رضي بعض الفقراء لأنفسهم عيش الذل ، واستدرار الحسنات . ويعبر بكر ابن النطاح أحد الصعاليك عن هذا المعنى فيقول : ومن يفتقر منا يعش بحسامه ومن يفتقر من سائر الناس يسأل" وعلى هذا نستطيع أن نقول إن الصعلوك في اللغة هو الفقير الذي لا مال له يستعين به على أعباء الحياة ، ولا اعتماد له على شيء أو أحد يتكئ عليه ، أو يتكل عليه ليشق طريقه فيها ، ويعينه عليها ، حتى يسلك سبيله كما يسلكه سائر البشر الذين يتعاونون على الحياة ، ويواجهون مشكلاتها يداً واحداً أما الاستعمال العربي في الجاهلية ، فنجده يغلب عليه ربط الصعلكة بمدلول آخر غير الفقر أو مع الفقر ، " فحينما يتحدثون عن الصعاليك يتحدثون عنهم على أنهم فئة خاصة تتميز عن المجتمع بطابع خاص ، شعارهم الاعتداد بالنفس دون الأهل أو القبيلة ، ووسيلته العدوان في أي صورة تتهيأ له ، فيقطع الطريق حينما يتاح له قطعها ، ويسطو ويغزو متى وجد إلى ذلك سبيلاً ، ويفتك حينما تمكنه العزة ، ويتلصص إن لم يجد إلى ما سبق وسيلة ، ويجعل غايته من ذلك كله الحصول على الغنى والمال في أغلب الأحيان أو تحقيق مآرب خاصة دائماً . التفسير الاجتماعي لظاهرة الصعلكة : " كان للتقاليد القبلية التي احتكم إليها العرب في حياتها ، ولتوزيع الثروة توزيعهاً غير عادل بين قبائلهم ؛ أثر واضح في نشأة ثلاث طبقات من الصعاليك في الجاهلية ، أما الطبقة الأولى فطبقة الشذاذ والخلعاء الذين تخلت قبائلهم عنهم ، وتبرأت منهم ، إما لما جرَّوه من الجرائر عليها ، وإما لفساد سلوكهم فيها ، ومن أشهرهم حاجز الأزدي ، وقيس بن الحدَّادية ، وأبو الطمحان القيني . وأما الطبقة الثانية فطبقة الأغربة السود الذين سرى السواد إليهم من أمهاتهم الحبشيات والذين لم تكن قبائلهم تسوي بينهم وبين أبنائها الأصلاء ممن ورثوا عروبة الأصل ، ونقاء الدم في الآباء والأمهات ، ومن أشهرهم : السُّليك ابن السُّلكة ، وتأبط شراً ، والشنفرى. وأما الطبقة الثالثة فطبقة الفقراء الذين كانوا يحيون حياة شاقة قاسية لم يجدوا معها ما يعينهم على أعباء العيش ، بل على كسب أرزاقهم ، وإقامة رمقهم، ومن أخطرهم : عروة بن الورد العبسي ، وصعاليك قبيلتي هذيل التي كانت تقيم بالقرب من مكة ، وَفَهْمُ التي كانت تسكن بالقرب من الطائف. وخلاصة القول : تدور كلمة "الصعلكة" في دائرتين : دائرة لغوية، ودائرة اجتماعية. وتبدأ الدائرتان من نقطة واحدة وهي الفقر. فأما الدائرة اللغوية فتنتهي حيث بدأت، ويبدأ الصعلوك فيها فقيراً، ويظلّ في نطاقها فقيراً، يخدم الأغنياء، أو يستجديهم فضل مالهم، ثم يموت فقيراً. من شعر الشنفرى : لامية العرب الشنفرى ? - 70 ق. هـ / ? - 554 م عمرو بن مالك الأزدي، من قحطان. شاعر جاهلي، يماني، من فحول الطبقة الثانية وكان من فتاك العرب وعدائيهم، وهو أحد الخلعاء الذين تبرأت منهم عشائرهم. قتلهُ بنو سلامان، وقيست قفزاته ليلة مقتلهِ فكان الواحدة منها قريباً من عشرين خطوة، وفي الأمثال (أعدى من الشنفري). وهو صاحب لامية العرب . قال الشنفرى الأزدي ( عامر بن عمرو): 1- اقيموا بني امي صدور مطيكم ### فاني الى قوم سواكم لأميل 2- فقد حمت الحاجات والليل مقمر ### وشدت لطيات مطايا وأرحل 3- وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ### وفيها لمن خاف القلى متعزل 4- لعمرك ما بالأرض ضيق على امرىء ### سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل 5- ولي دونكم اهلون سيد عملس ### وارقط زهلول وعفراء جيأل 6- هم الأهل لا مستودع السر ذائع ### لديهم ولا الجاني بما جر يخذل شرح المفردات: القلى: البغض , السيد: الذئب . العملس: الذئب القوي . أرقط زهلول: حية أرقط. الزهلول: الأملس. العرفاء: الضبع العظيمة العُرف . جيأل: اسم الضبع . جر: جنى . يظهر الشنفرى في هذه الأبيات ضعفا , وكأن قوته الخارقة التي أظهرها في أبيات أخرى , تخبئ تحتها جرحا إنسانياً عميقا . إن النداء الذي تخيره الشنفرى لمخاطبة قومه – بني أمي – وما يثيره من معاني الشفقة والود والتراحم , إنه يؤذن بالرحيل , ويخبرهم أن غفلتهم عنه توجب مفارقتهم, فليجدوا في أمرهم وأمره . ويخبر الشنفرى قومه أنه مائل إلى قوم غيرهم , ويدعوهم إلى التنبه من رقادهم , فهذا وقت الحاجة ولا عذر لأحد , فإن الليل مقمر مضيء , وإن المطايا حاضرة معدة للتحول والرحيل . ولا يخفى ما لهذين البيتين من كثافة المعنى واختلاط المشاعر والأحاسيس واللغة الرامزة كما يليق بمطلع جليل . ما حقيقة هذا الليل المقمر ؟ إن في هذا الليل المقمر طاقة رمزية خصبة يتواشج فيها الضوء والظلام , الظلام الذي يكتنف علاقة الشاعر بقومه ويخيم عليها , وضوء الهداية والرشاد – لنقل ضوء العقل – الذي يشق هذه الظلمة الداجية ويبدد بعضها , فتظهر الأمور على حقيقتها أو قريبة منها " فقد حمت الحاجات والليل مقمر " , وما على الشاعر إلا أن يستضئ بهذا النور , ويدعو قومه إلى الاستضاءة به كيلا يبقى لهم عذر. ولكن دعوته تضيع في فجاج الليل كما يضيع الصوت في الصحراء , ويمضي قومه في إعراضهم عنه واستخفافهم به , فلا يجد أمامه إلا التحول والرحيل مستضيئا بنور القمر في أرجاء هذا الليل , أو بنور العقل في أرجاء هذه الأرض التي سيكرر الحديث عنها بعد الرحيل مباشرة : وفي الأرضِ منأى للكريمِ عن الأذى وفيها لِمَن خاف القِلى مُتَحَوَّلُ لَعَمْرُكَ ما بالأرضِ ضيقٌ على امرئٍ سَرى راغباً أو راهباً وهو يعقلُ لقد اتضح الموقف , واهتدى الشاعر بنور القمر أو العقل , فبدا له أن الأرض واسعة , وأن على الكريم – والكرم كالمروءة والفتوة رمز لكل الخصال والشمائل الرفيعة كما نعرف في هذا الشعر – أن يبتعد عن الأذى , وأن يفر من البغضاء . ولعل هذا البيت يوضح ما كان أقرب إلى الغموض في البيتين السابقين , فتحول الشاعر عن قومه كان بسبب هذا الأذى وهذه البغضاء . وها هو ذا يفارق قومه , ويفيء إلى ذاته , ويتأملها مستخدما لفظا صريح الدلالة على العزلة – متعزل – التي هي شرط جوهري من شروط التفكير الخصب والإبداع . وفي هذه العزلة الخصبة الخلاقة يستطيع أن يتأمل ويفكر ويقدر الأمور والمواقف , ويصل إلى اليقين . وهذا ما حدث لاحقا , فقد انتهى الشاعر في تفكيره إلى هذه الحقيقة الإنسانية الخالدة : لَعَمْرُكَ ما بالأرضِ ضيقٌ على امرئٍ سَرى راغباً أو راهباً وهو يعقلُ العقل هو المصباح الذي يجنبك الضيق , ويعصمك من الزلل , وما دام المصباح متوهجا فلا خوف عليك وأنت تجوب ظلمة الحياة الداجية تتداولك الرهبة والرغبة . فهو يستخدم الفعل : سرى للتعبير عن السعي والحركة في هذه الحياة . ودلالة هذا الفعل على الليل ليست موضع جدل , فهي لا تكاد تنفك عنه , فالسرى سير عامة الليل , والسارية من السحاب : التي تجيء ليلا , والسارية : المطرة بالليل , وسرى عليه الهم أتاه ليلا ... إننا أمام شاعر يتصور الحياة ظلمة عسيرا خوضها بغير ضوء . ورأينا الليل المقمر وهو يهدي الشاعر بنور القمر , وكيف تحول هذا القمر بعد العزلة والتأمل إلى عقل يقظ يجنب صاحبه الضيق والزلل , وينأى به عن الأذى والبغضاء , القمر معادل لنور العقل. نحن أمام شاعر مطمئن إلى عقله اليقظ , ومستيقن به . وقد هداه هذا العقل إلى البعد عن اذى قومه وبغضهم , ومفارقتهم من دون تلبث أو انتظار . ولكن إلى أين يرحل الشنفرى ؟ ومن هؤلاء القوم الذين ذكر ميله إليهم في مطلع القصيدة ؟ يلفت الشنفرى إلى قومه وقد أيس منهم , ويبلغهم رسالة مقتضبة هذا نصها : ولي دونكم اهلون سيد عملس ### وارقط زهلول وعفراء جيأل هم الأهل لا مستودع السر ذائع ### لديهم ولا الجاني بما جر يخذل لقد ضاقت أخلاق الشنفرى , فضاقت به ديار بني أمه . إنها رؤية الشاعر وليست القضية قضية تحول شاعر من قوم إلى قوم آخرين , ولكنها قضية أخرى أبعد غورا وأشد ماساوية , إنها قضية الانتماء . نحن أمام ذات أرهقها المجتمع الإنساني بظلمه وأذاه وبغضه , فإذا هي تخلع انتماءها إلى هذا المجتمع , وتؤسس انتماء جديدا لها إلى المجتمع الحيواني , إنها تغترب عن عالم الإنساني , وتلوذ بعالم الوحوش الكاسرة , فتكشف بذلك عن اغتراب قاس جريح . ولعل هذا هو السبب الذي جعل الشنفرى يشبه نفسه بالحيوانات الضارية وبالجن . ولعله أيضا سبب هذا النداء ” بني أمي ” الذي يجاوز القبيلة إلى بني الإنسان عامة , وها هو ذا يخلع انتماءه إلى هؤلاء الأبناء جميعا , ويلتحق بأشباهه من ذئاب الصحراء ووحوشها الضارية . فهل نستغرب بعد هذا كله تلك القوة الخارقة التي ادعاها فألحقته بالذئب وولد الضبع والحية ؟ فكيف يعيش في هذا المجتمع إن لم يكن كأبناء هذا المجتمع ؟. يوضح الشنفرى أسباب انتمائه الجديد من دون التواء أو غموض , إنها ثلاثة أسباب هي : صون هذه الحيوانات للسر ” لا مستودع السر ذائع لديهم ” وتضافرها وتعاونها فيما بينها , فهي تنصر المذنب الجاني من أبنائها ولا تخذله بسبب ما ارتكب من الجرائر ” ولا الجاني بما جر يخذل ” . وهي لهذه الأسباب أهله وقومه . لقد افتقد الشنفرى هذه القيم في مجتمعه الإنساني , فراح يبحث عنها , وحين وجدها في المجتمع الحيواني لاذ به واحتمى وأعلن انتماءه إليه , وتشبه بكائناته . وإذا ما رددنا البصر في هذه القصيدة وجدنا لغة سامية سموا رفيعا يهديه إلى ذلك إحساسه الصادق العميق وتصوره الباهر لإنسانية هذه الحيوانات , وقد جسدت هذه اللغة الفنية الراقية تجسيدا مدهشا تصور الشاعر وأحاسيسه بما برز فيها من انحراف أسلوبي يخطف البصر . لنتأمل كيف عبر عن هذه الحيوانات غير العاقلة : قوم سواكم – ولي دونكم – هم الأهل – مستودع السر ذائع لديهم – ولا الجاني بما جر يخذل . فهي في تصوره وإحساسه أناس عقلاء أباة بواسل فيهم الجاني وفيهم الغيرة وعندهم موطن الأسرار ,ولذلك فهو يتحدث عن هذه الحيوانات كما لو كانت قوما من البشر العقلاء حقا فيأتي بالألفاظ الدالة على البشر , ويردفها بضمير جمع المذكر السالم . |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
استفسار عن البلاك بورد والتعليم الافتراضي !!! | ندى البدر | ملتقى طلاب التعليم عن بعد جامعة الملك فيصل | 6 | 2012- 10- 22 09:23 AM |
انتبهو عالاسهم فهمتو عليا | عضوه متأمله | المستوى الأول - كلية الأداب | 26 | 2012- 5- 22 10:11 AM |
هنــــــــــاموضوع شــــــــــــــــــــــــــامل وفيه كل مايخص الطلبه الجدد والقدااامـــــــــــــــى... | Kıvanç | المستوى الأول - كلية الأداب | 59 | 2012- 2- 4 08:30 PM |
حـآن إلوقـت لنقـول كلمـة { مبروك + شكرآآ .. | يوسف الدوسري | إدارة أعمال 1 | 168 | 2012- 1- 15 05:01 AM |
@@@@@@اجتـــــــــــــماع للنــــــــــــــــــــــــــاجحين والناجحــــــااااات@@@@@@ ****هنــــــــــــا**** | Kıvanç | المستوى الأول - كلية الأداب | 93 | 2012- 1- 15 04:16 AM |