هارون الرشيد
هو هارون الرشيد بن محمد المهدي ،بويع بالخلافة سنة 170هـ ،ولم يزل حليفة حتى توفى 194هـ فكانت مدة خلافته 23سنة.
أسرة البرامكة ونكبتهم (171-187هـ )أي 17 سنة.
حرى بنا قبل أن نتناول ذكر النكبة أن نتعرف بشكل سريع على هذه الأسرة البر مكية، والذي لا مجال للشك فيه أن هذه الأسرة تنسب إلى جدها برمك ،وهو من مجوس بلخ وكان يخدم النوبهار، وهو معبد كان للمجوس بمدينة بلخ توقد فيه النيران،، فكان برمك وبنوه سدنة له ،ولما جاءت الدعوة العباسية كان خالد بن برمك من أكبر دعاتها، وكان ذا صفات علية أهلته للسيادة ورفعة القدر في صدر الدولة، حيث بقي وزيرا في عهد –السفاح- وأبو جعفر المنصور- ثم توفي سنة 163هـ في أوائل خلافة المهدي. ثم اختار المهدي- يحيى بن خالد بن برمك- وزيرا لابنه- هارون المهدي -وكان يدير أمره؛ لذلك كان يناديه يا أبي ،وبعد ذلك أصبح- يحيى بن خالد- وزيرا لهارون الرشيد وكان ليحيى بن خالد أربعة أولاد (الفضل- جعفر –محمد-موسى).
1-فأما (الفضل بن يحيى) فهو أكبر الأخوة حيث كان ينوب عن أبيه في أهم الأعمال وأجلها، وتولى مهمة القضاء على حركة (يحيى بن عبد الله بن الحسن )حيث احتال عليه واستنزله من معقله (ببلاد الديلم ) بأمان من غير أن يريق في ذلك نقطة دم، وكان ذلك سنة 176هـ، وفي سنة 178هـ ولاه هارون الرشيد خراسان وثغورها فأحسن السيرة بها، وبنى بها الرباطات والمساجد وغزا ما وراء النهر.وكان- الفضل بن يحيى -في جميع الأعمال التي أسندت إليه كفؤا نزيها ،وكان من أكثر البرامكة كرما وكان الناس يسمونه في بدء أعماله بالوزير الصغير ،وكان بعيدا عن منادمة الخليفة (هارون )حتى أنه يقول (لو كان الماء ينقص من مروءتي ما شربته).
2-وأما( جعفر بن يحيى) فهو ثاني أولاد يحيى، وكان سمح الأخلاق طلق الوجه ظاهر البشر، وكان جوده وسخاؤه وعطاؤه كثير، وكان الرشيد يأنس به أكثر من إخوانه جمعيا ؛لسهوله أخلاقه فكان أكثر إخوانه منادمة للرشيد ،وكان أبوه ينهاه عن ذلك حيث قال للرشيد بصراحة (يا أمير المؤمنين أنا والله أكره مداخلة ابني جعفر معك ولست آمن أن ترجع العاقبة في ذلك علي منك، فلو أعفيته واقتصرت به على ما يتولاه من جسيم أعمالك كان ذلك أفضل)وكان سلطان جعفر عند الرشيد قويا حيث كان يتولى أمر ديوان الخاتم وأمارة مصر سنه 176هـ . وفي سنه 180هـ هاجت العصبية بالشام بين أهلها وتفاقم أمرها فاغتم الرشيد لذلك ،وعقدت لجعفر على بلاد الشام ليتحرك إليها بالقوة والرجال وأصلح بين الناس فقتل اللصوص فيهم ولم يدع بها رمحا ولا فرسا، فعاد الجميع إلى الأمن والطمأنينة وانطفأت نار تلك العصبية.
3-وأما( موسى بن يحيى )فكان أشجع القوم وأشدهم بأسا لم ينل من الشهرة ما ناله أخواه (الفضل وجعفر) إلا أنه كان في تلك الدولة عاملا سريا وقائدا باسلا ،ولاه الرشيد الشام سنه 186هـ قبل أن تقوم ثائرة العصبية فيها ،حيث كانت فيها فتن كثيرة وعصيان فاتجه بجند وقوة وأصلح بين أهلها وسكن الفتن واستقام أمرها. اتهمه (علي بن عيسى بن ماهان) أمير خراسان من قبل الرشيد بأنه هو السبب في اضطراب خراسان عليه وأخبره بطاعة أهلها (لموسى بن يحيى ) ومحبتهم إياه ،وأنه يكاتبهم ويعمل على التنصل من الخليفة والانضمام معهم ضده ،فخاف الرشيد وتوحش من موسى وسجنه، لأجل ذلك وبسبب أنه كان عليه دين لبعض الناس واختفى منهم، فظن أنه هرب إلى خراسان مصداقا لما قاله له أميرها، لذلك سجنه ثم أطلق سراحه.
4-وأما( محمد بن يحيى) فكان سريا بعيد الهمة ولم يكن له الشهرة ما لإخوته،
وعموما كانت هذه الأسرة في عهد الرشيد غرة في جبين دولته، جمعوا من الصفات المحمودة ما استحقوا به ثناء معاصريهم من الكتاب والشعراء. رآهم الناس بعد هذا العز المتين والشرف الباذخ منكوبين على يد الرشيد( فجعفر) مقتول بناحية –الأنبار- في آخر ليلة من محرم سنه 197هـ وجسمه مصلوب ببغداد على ثلاثة جسور، ثم احرق (ويحيى بن خالد) وبقية أبناءه محبوسون، ورأوا مصادرة لكل ما يملكون من عقار ورقيق، ورأوا كتبا أرسلت إلى جميع العمال في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم وأخذ وكلائهم وامرأ بالنداء في جميع البرامكة أن لا أمان لمن أواهم، إلا (محمد بن خالد بن برمك )وولده وأهله وحشمة فان الرشيد استثناهم لما ظهر له من نصيحة منه.تساءل الناس بعد ذلك عن الأسباب التي دفعت بالرشيد إلى مثل هذه النكبة. فنسب بعضهم ذلك إلى مجرد الملل والغيرة ،
العلاقات الخارجية
كان يعاصر الرشيد أثناء حكمه في الأندلس الأمير( عبد الرحمن الداخل) ثم (هشام بن عبد الرحمن) ،(الحكم بن هشام) وفي المغرب الأقصى (ادريس بن عبدا لله بن الحسن بن علي بن أبي طالب) وهو أول المتغلبين من البيت الإدريسي، ثم ابنه (ادريس )ويعاصره في فرنسا( شارل الكبير) المعروف بشارلمان ويعاصره في مملكة الروم بالقسطنطينية (قسطنطين السادس) وكانت تدبره لصغره أمه( ايريني) ثم خلعها نقفور وحل محلها.أما فيما يتعلق بالروم فمن أعمال الرشيد :أنه عزل الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وجعلها حيزا واحدا سميت بالعواصم وقاعدتها منبج.وسماها بالعواصم؛ (لأن المسلمين كانوا يعتصمون بها فتمنعهم من العدو إذا انصرفوا وانتهوا من الغزو) ومن هذه العواصم: دلوك. ورعبان. قورس. إنطاكية .وتيزين. وكان يغزو جيش الصائفة (عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح )حيث وصل سنة 175 هـ إلى –اقريطية- وفي سنة 181هـ كان على الصائفة (هارون الرشيد )بنفسه حيث فتح: حصن الصفصاف، وغزا (القاسم بن الرشيد )بلاد الروم فحاصر حصن قرة. بينما حاصر( العباس بن جعفر) حصن سنان. فلما أنهكت الروم دفعوا للمسلمين أسراهم وكانوا 320 رجلا مقابل أن يرحلوا عنهم فأجابوهم إلى ذلك، وعن( ايريني )التي كانت تنوب عن ابنها (قسطنطين السادس) منذ سنة 180هـ ثم استبدلت بالملك سنة 190هـ فاتفقت مع الرشيد على الصلح مقابل جزية تدفعها له؛ وذلك لما رأته من إلحاح المسلمين عليها بالحرب وعدم قدرتها على الدفاع؛ لوقوعها بين المسلمين من جهة وبين –شارلمان- من جهة أخرى، لأن شارلمان(كما ذكرنا) كان يريد توسيع سلطانة وإعادة دولة الرومان إلى بهجتها التي كانت لها في القدم .وفي سنة 182هـ نهضت عليها عصابة رومية فخلعتها عن الملك وجعلت بدلها نقفور، فعقد هذا أولا معاهدة مع شارلمان عينت فيها حدود المملكتين ثم التفت إلى الرشيد وكتب إليه :(من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فان الملكة التي كانت قبلي حملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد الأموال وإلا فا لسيف بيننا وبينك) فلما قرأ الرشيد هذا الكتاب غضب وكتب إليه( بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام.)ثم اتجه (الرشيد) إلى جانب –هرقلة- ففتح وغنم، فطلب نقفور الصلح على خراج يؤديه كل سنة فأجابه إلى ذلك، فلما رجع من غزوته وصار الرشيد- بالرقة- نقض نقفور العهد وكان البرد شديدا، فيئس نقفور من رجعته إليه، لكن الرشيد تحامل على نفسه ورجع مره ثانية وقاتل نقفور، ولم تقف الحروب بين الطرفين.بعد ذلك .وفي سنه 189هـ حصل فداء بين المسلمين والروم فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به.وفي سنة 190هـ قاد( الرشيد) الصائفة وفتح- هرقلة- ونشر جيوشه في أرض الروم وكانت عدتهم 135 ألف مرتزق عدا المطوعة، وكان فتح- هرقلة- بعد الإضرار بها وسبي أهلها ومحاصرتها (ثلاثين يوما) ثم سار( الرشيد) إلى- الطوانة -ثم تركها وخلف عليها -عقبة بن جعفر- وأمره بابتناء منزله هناك، ثم بعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه وبطارقته، ثم طلب من الرشيد جارية من بنات هرقلة كان قد خطبها نقفور لابنه ،وصادف أن وقعت تلك الجارية أسيرة عند المسلمين، فبعث الرشيد بتلك الجارية ومعها العطر والتمور والهدايا والديباج واشترط عليه :ألا يخرب الرشيد- حصن ذي الكلاع -ولا صملة -ولا سنان- وفي المقابل اشترط الرشيد على نقفور ألا يعمر- هرقلة -ويحمل إليه ثلاثمائة ألف دينار.وفيما يتعلق( بأوربا) فقد عاصره كما قلنا( شارلمان) الذي كان ملكا على فرنسا واستولى على- لمبارديا -وقاد طوائف السكسون التي كانت في جرمانيا إلى الدين العيسوي بعد أن كانت وثنية، واستولى على : ألمانيا. وايطاليا. وكان يرغب أن يكون له اسم كبير في الديار الشرقية؛ ليعلو بها على نقفور ملك القسطنطينية ،وكان يرغب أن يكون حاميا للعيسويين في البلاد الإسلامية؛ وخصوصا زائري القدس فأرسل إلى بغداد سفراء يستجلبون رضا الرشيد مقابل أضعاف الدولة الأموية بالأندلس؛ وكانت هناك حسن استجابة من الرشيد واستفاد( شارلمان) من ذلك التودد فائدتين :الأولى: تمكنه من حرب الدولة الأموية بالأندلس وتدخله في مساعدة الخارجين عليها..الثانية : نيله رضا الرشيد، كذلك أراد أن يغتنم من الناحية العلمية خاصة وأن أوروبا في وقته كانت مهد جهالة لأنه بانقراض الرومانيين وغلبة الأمم المتبربرة على أوروبا انطفأ مصباح العلم.وكانت الحال في البلاد الإسلامية على العكس من ذلك فكانت مهدا لانطلاق العلم والعلماء ،وخاصة في : بغداد. وقرطبة .فذهب إلى أوروبا أطباء تعلموا في البلاد الإسلامية وكانوا من اليهود، فانتخب منهم (الرشيد) رجلا يقال له( إسحاق )وبعثه الى( الرشيد ) ومعه هدايا وهي : ساعة وراغنون. وفيل. وبعض أقمشة نفيسة ،فلما نظر إليها رجال( شارلمان) هموا بكسرها؛ لأنهم ظنوا أنها من الأمور السحرية فمنعهم الإمبراطور.أما عن علاقة بغداد بقرطبة فكانت علاقة سيئة جدا ،إذ أن الرشيد كان ينظر إلى بني أمية نظر الخارجين على دولته ،فكان يود القضاء عليهم ، ولكن القوم كانوا أكبر من ذلك وأقوى ،لذلك قاوموا قوة(شارلمان)مقاومة عظيمة ،فلم يتمكن أن يفعل بهم شرا.
حضارة بغداد في عهد الرشيد
وصلت بغداد في عهد( الرشيد) إلى قمة مجدها ومنتهى فخارها، فمن حيث (العمارة) فاقت البلاد الأخرى ،حيث بنيت فيها القصور الفخمة التي أنفق على بناء بعضها :مئات الألوف من الدنانير ،وتألق مهندسوها في إحكام قواعدها وتنظيم أمكنتهاوصارت قصور الجانب الشرقي –بالرصافة- تناوح قصور الجانب الغربي ، وكان في الشرق قصور البرامكة وما أنشأوه هناك من الأسواق والجوامع والحمامات ،وبالجانب الغربي قصور الخلافة التي كانت تبهر الناظرين اتساعا وجمالا، وامتدت الأبنية امتدادا حتى صارت بغداد كأنها مدن متلاصقة، وصار سكانها نحو ألفي ألف نسمة حتى ازدحمت بساكنيها وكانت متاجر البلدان القاصية تصلها برا وبحرا تجيئها من :خراسان وما وراءها من الهند. والصين. و الشام. والجزيرة. والطرق إذ ذاك أمنة والسبل مطمئنة , .أما( العلم )فقد صارت بغداد قبلة لطلاب العلم من جميع الأمصار الإسلامية يرحلون ليتمموا ما بدأوا فيه من العلوم والفنون ،فهي المدرسة العليا لطلا ب العلوم الإسلامية والدينية والعربية على اختلافها، فقد كان فيها كبار المحدثين والقراء والفقهاء وحفاظ اللغة وآداب العرب والنحويون، وكلهم قائمون بالدرس والافاده لتلاميذهم في المساجد التي كانت تعتبر مدارس عليا لتلقي هذه العلوم، وجميع هؤلاء العلماء كانوا يعيشون عيشا رغدا مما كان يفيضه عليها( الرشيد ) ولم تكن بغداد بالمقصرة في علوم الدنيا كالطب والحكمة وغيرهما من سائر الصناعات، فقد حشد إليها الأطباء والمهندسون و الصناع من الأقاليم المختلفة فاستفادوا العلوم ممن سبقهم من الأمم في المدينة: كالفرس .وأهل الروم.
عبد الله المأمون بن هارون الرشيدهو عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بن محمد المهدي، ولد سنة 170هـ ،وبويع بالخلافة في السنة التيتوفى فيها أخوه سنة 198هـ ،وبقي في الخلافة حتى توفي غازيا بطرسوس سنة 218هـ ،فكانت خلافته عشرين سنة .
الأحوال الداخلية في عهده:خبر إبراهيم المهدي
حين كانت القوى تتصارع في عهد الأمين بين مؤيد ورافض، ولى أهل بغداد عليهم رجلا أطلق عليه (إبراهيم المهدي) ولما كان النصر للمأمون على أخيه الأمين اتجه الأول من –سرخس- ليسيطر على -بغداد- وكان كلما قرب زاد الاضطراب على( إبراهيم) فتركه القواد الذين كانوا يؤيدونه فبقي لوحده، وكان لابد أن يختفي ؛حتى لا يأخذه رجال المأمون، وتم ذلك سنة 3 20هـ، وظل مختفيا يتنقل من دار إلى دار إلى سنة 210 هـ، وفي تلك السنة أخذه حارس أسود وهو متنقب مع امرأتين في زي امرأة، فأعلم المأمون بخبره، فأمر بالاحتفاظ به ثم دخل به عليه ،فقال له: هيه (يا إبراهيم) فقال يا أمير المؤمنين ولى الثأر محكم في القصاص ،والعفو أقرب إلى التقوى، ومن تناوله الاعتزاز بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسهوقد جعلك الله فوق كل ذنب كما جعل كل ذنب دونك، فان تعاقب فبحقك وان تعف فبفضلك قال:فرد عليه( المأمون) قائلا أقول لك ما قال يوسف لإخوته (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).ومن الغريب أن المأمون قد اطلع قبل ذلك على مؤامرة يقصد بها خلع المأمون وإعادة (إبراهيم بن المهدي )للخلافة، ورئيس هذا الأمر( إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب) المعروف- بابن عائشة- وكان إطلاع المأمون على ذلك يوم السبت 5 صفر سنة 210 هـ، وقد انتقم المأمون من ابن عائشة انتقاما شديدا فقد أمر أن يقام ثلاثة أيام في الشمس على باب دار المأمون، ثم ضربه بالسياط، ثم أمر بحبسه في المطبق ،وفعل قريبا من ذلك بمن كانوا معه، وقد كتبوا أسماء من دخل معهم في هذا الأمر من القواد والجند وسائر الناس، فلم يعرض المأمون لأحد ممن كتبوا به ،ولم يأمن أن يكونوا قد قذفوا أقواما برآء، ثم أمر المأمون بعد ذلك بابن- عائشة -فقتل وصلب. ويقال أنه( أول مصلوب في الإسلام من بني العباس) وقتل معه ثلاثة من رؤوس المتآمرين.
نصر بن شيث:كان هذا الرجل من بني عقيل. يسكن يكسوم شمالي حلب ،وكان عربيا شريفا شهما له في( محمد الأمين) هوى، فلما قتل الأمين غضب خاصة أنه لما رأى العنصر العربي قد انحط شانه، وصار معظم القواد الأمراء من غيرهم ،فأعلن الخروج عن السلطان( المأمون )وكان ذلك أواخر سنة 198هـ، وتغلب على ما جاوره من البلاد وملك( سميساط) وانضم إليه خلق كثير من الأعراب وأهل الطمع وقويت شوكته وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي وسيطر عليه.ولما انتصر (طاهر بن الحسين )على -الأمين -وملك العراق ولى (الحسن بن سهل )على كل ما افتتحه وأمر أن يسلم ذلك إليه وأن يسير إلى –الرقة-؛ لمحاربة( نصر بن شيث) وولاه( المأمون) الموصل. والجزيرة. والشام .والمغرب ،فسار طاهر إلى و جهه، وأرسل إلى نصر يدعوه إلى الطاعة وترك الخلاف، فلم يجب فتقدم إلى (طاهر) ولقيه بنواحي- يكسوم- فاقتتلا هناك قتالا عظيما انتصر فيه نصر وعاد العراق وغيره .أما عن( نصر بن شيث) فقد اتجه بعد انتصاره إلى السيطرة على( الجزيرة) حيث أتى الطالبيون فعرضوا عليه :أن يبايع لخليفة وذلك من آل على بن أبي طالب فرفض ذلك ،ثم عرض عليه أن يبايع أحد بني أمية فقال هؤلاء أدبر أمرهم وانتهى ،فعرض عليه أحد بني العباس فقال هؤلاء حاربتهم لأنهم يقدمون العجم على العرب ،ولما دخل( المأمون )بغداد طلب من( طاهر بن الحسين) أن يبعث بابنه عبد الله بن طاهر لمقاتلته( نصر بن شيث) وأعوانه وأمره بالجد في ذلك عندها كتب- طاهر- إلى ابنه عبد الله كتابا مشهورا، جمع فيه كل ما يحتاج إليه الأمراء من الآداب والسياسة والحث على مكارم الأخلاق، وهذا الكتاب قد تنازعه الناس وكتبوه وشاع أمره وبلغ المأمون خبره فدعا به فقرأ عليه، فقال ما أبقى طاهر شيئا من أمر الدنيا والدين والتدبير والرأي والسياسة وطاعة الخلفاء إلا وقد أوصى به ، ولكن اشترط نصر على المأمون ألا يطأ بساطه ،فرفض المأمون ذلك وكاتبه بعد ذلك عن طريق( عبد الله بن طاهر) وحينذاك هدم( يكسوم) وخربها ووجه بنصر إلى( المأمون )فدخل بغداد في صفر سنة 210 هـ ووكل به من يحفظه ويحرسه.
بابك الخرمي في عهد المأمون:كانت بلاد الفرس التي نشأ فيها بابك كثيرة المعتقدات والبدع سواء كان ذلك قبل الإسلام أم بعده ،ولهذا ظهرت فيها الطوائف الدينية على اختلافها ومنها طائفة الخرمية ،التي كان من مبادئها تحويل الملك من العرب المسلمين إلى الفرس والمجوس، وكذلك: تأليه البشر. فقد ادعى بابك أن روح جاويدان حلت فيه (كما سيأتي ذكره )ويؤمنون بمبدأ الرجعة التي قال بها غلاة المتشيعين وهم (الخرمية) يرفضون جميع الفروض الدينية كالصلاة والصوم والحج والزكاة، وأباحوا شرب الخمر ونادوا بإباحة المحرمات والاشتراكية في النساء ،كما أنهم لم يشعروا بأي ميل أو عاطفة إزاء أحد من أهل البيت، وان كانوا قد اتخذوا من أسمائهم سبيلا إلى جذب الأنصار إليهم؛ لنشر دعوتهم التي ترمي إلى هدم العقائد الإسلامية.أما عن (بابك الخرمي) فقد نشأ بقرية -بلال أباد -ثم اتصل( بجاويدان بن سهرك )ملك جبال البذ ورئيس من بها من الخرمية ،وكان جاويدان هذا يرى من -بابك -فهما وشهامة وخبثا فقر به إليه ،ولما أدركته منيته اجتهدت امرأته في أن يكون بابك مكانه في الملك، فجمعت الخرمية وقالت لهم( إن جاويدان قال لي إني أموت في ليلتي هذه، وأن روحي تخرج من جسدي وتدخل بدن هذا الغلام خادمي، وقد رأيت أن أملكه على أصحابي، فإذا مت فأعلميهم ذلك وأن لا دين لمن خالفني فيه واختار لنفسه خلاف اختياري) فقبلوا ذلك منه وقالوا( آمنا بك يا روح بابك كما آمنا بك يا روح جاويدان )لذلك تزوجت هذه المرأة بابك.أخذ بابك بعد ذلك يعيث الفساد في الأرض، حتى أنه لما توجه (المأمون )من- مرو- إلى- بغداد- عين احد قواده لقتاله وهو( يحيى بن معاذ) فاشتبك معه هذا ولم تكن هناك نتيجة فاصلة بينهما، مما جعل المأمون يختار قائدا آخر وهو (عيسى بن محمد بن أبي خالد) فهزم هذا، ثم أرسل غيره وهو( أحمد الأسكافي) فأسر بابك لديه ،ثم وجه إليه المأمون
( محمد الطوسي) فقتله بابك سنه 214هـ ،وكل هذه الانتصارات التي يحرزها بابك ترجع؛.. إلى مكانه الحصين وقوته الكبيرة وشدة تأثيره في قلوب الجمهور الذين كانوا معه. حتى أن المأمون أوصى أخاه( المعتصم )حين أدركته المنية ولم يستطع القضاء عليه ،فقال له (والخرمية فاغزهم ذاجزمة وصرامة وجلد، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجال، فان طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه راجيا ثواب الله عليه)
الأحوال الخارجية:لم يكن بين المسلمين والروم حروب في أول عهد( المأمون) إلى سنة 215هـ. وفيها اتجه بنفسه من –بغداد- لغزو الروم فسلك طريق- الموصل- حتى صار إلى- منبج- ثم- دابق –ثم- إنطاكية- ثم- المصيصة –ومنها خرج الى -طرسوس –(وهي الثغر الإسلامي )ومنها دخل الى بلاد الروم ،ففتح (حصن قرة) عنوة وأمر بهدمه، واشترى سبيه بسته وخمسين ألف دينارا ثم خلى سبيلهم وأعطاهم دينارا دينارا ، كما فتح أيضا (حصن ماجدة وسندس وسنان) وبعد ذلك سار المأمون إلى الشام وهناك ورد الخبر عليه بأن ملك الروم قتل قوما من أهل( طرسوس والمصيصة )عدتهم 6600 ،فأعاد الكرة على بلاد الروم فصالحه أهل (انطيفوا وهر قله) ووجه أخاه( اسحق )فافتتح ثلاثين حصنا ثم خرج المأمون إلى( يكسوم )ثم دمشق ثم مصر سنة 216هـ ،ثم عاد الى دمشق سنه 217هـ فدخل أرض الروم للمرة الثالثة فأناخ على( حصن لؤلؤة )مائة يوم ثم رحل عنها وخلف عليها (عجيف بن عنبسه )فخدعه أهلها وأسروه ثمانية أيام ثم أخرجوه بعد ما قبلوا بالأمان. اتجه بعد ذلك المأمون سنة 217هـ إلى( الرقة) ثم سير ابنه العباس إلى أهل الروم وأمره بنزول (الطوانة) وبنائها فبناها ميلا في ميل وجعل سورها على ثلاثة فراسخ وجعل لها أربعة أبواب وبنى على كل باب حصنا ،ثم سار بعد ذلك إلى بلاد الروم فدخلها من ناحية طرسوس وهناك كانت وفاته.
العلم في عهد المأمون كان عهد المأمون من أرقى عهود العلم في العصر العباسي، وذلك لأمرين :(الأول)أن المأمون نفسه قد اشتغل بالعلم وأمعن فيه حينما كان- بمرو-؛ فقد جالس كثيرا من العلماء ،وأخذ عنهم جملة صالحة من العلوم الدينية كالحديث والتفسير والفقه واللغة العربية .(الثاني) ما كان من الأمة نفسها حيث وجد فيها شوقاً إلى العلم والبحث وكثرة العلماء في الأمصار، أما العلوم الدينية فمنها ما يرجع إلى لأصل الدين :وهو :علم الكلام أو التوحيد، ومنها ما يرجع إلى أحكام الأعمال :وهو الفقه وأصوله وأدلة تلك الأحكام من القران والحديث..ظهر في ذلك الوقت جمهور من رؤساء المتكلمين ،توغلوا في البحث في أصول الدين والعقائد وحكموا في البحث عقولهم، فأنتج لهم ذلك اعتقادات تخالف ما عليه عامة المسلمين ،وجمهور علمائهم المعروفين بعلماء الحديث ،وهم الذين يستمدون آرائهم من النصوص السمعية. كتاب أو سنة. أو من آثار السلف. وكان أول ما نشأ الخلاف في مدينة -البصرة -وامتد منها إلى- بغداد –ووجد- بالبصرة –منهم- واصل بن عطاء الغزال -ثم -عمرو بن عبيد- الذي كان- المنصور- يحبه ويفضله على جميع معاصريه من العلماء ،ثم الهذيل محمد بن هذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام .وأهم هذه المسائل الذي خالفوا فيها الجمهور أهل الحديث: (1) مسألة القدر وأفعال العباد. فكانوا يقولون أن أفعال العباد مخلوقة لهم- لا لله -ومن أجل ذلك يستحقون عليها الثواب والعقاب (2) صفات الله تعالى .فقد نزه المعتزله الله عن ثبوت صفات قائمة بذاته، من القدرة والإرادة والسمع والبصر والحياة والكلام وقالوا: إن الله قادر بذاته وقدير بقدرته .وكما كان الاختلاف قد ظهر في أصول الدين فقد ظهر في الفقه ،الذي هو أحكام أفعال العباد، فكان من أئمة الفقهاء أهل حديث وأهل رأي، ووجد من كلا الفريقين علماء أجلاء وفقهاء عظماء، اعترف لهم الناس بالتقدم ونحى نحوهم بالتشريع واقتدوا بمن سبق عصر المأمون،، كأبي حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه وغير ذلك
علوم الصناعات
كما كانت للمأمون جولة في العلوم الدينية كانت له جولة في العلوم الصناعية وقدكان أثره في هذه أظهر من أثره في تلك. كما يتبين مما يأتي: كانت الأمة العربية أمة أمية ،لا تتعلق بشيء من الصناعات ولا العلوم إلا قليلاً ،فلما جاء الإسلام .ولم تكن هذه العناية قاصرة على المأمون وحده بل كان لعهده جماعة ذوو يسار اعتنوا جد العناية بنقل هذه الكتب إلى اللسان العربي، ومن هؤلاء- محمد وأحمد والحسن بنو شاكر المنجم -حيث أرسلوا إلى بلاد الروم من يأتيهم بأفضل الكتب وغرائب المصنفات في الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب وقاموا بترجمتها إلى العربية .وكان- المأمون- مغرما بعلوم الأوائل وتحقيقها ،ورأى فيها أن دور كرة الأرض 24000 ميل كل ثلاثة أميال فرسخ فيكون المجموع 8000 فرسخ بحيث لو وضع طرف حبل على أي نقطة كانت من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض حتى انتهينا من الطرف الآخر.... فأراد- المأمون- أن يقف على حقيقة ذلك ،فسأل- بني موسى- المذكورين عنه فقالوا: نعم هذا قطعيا فقال: أريد أن تعملوا الطريق الذي ذكره المتقدمون حتى نبصر مصداقية ذلك ،فطبقوا ذلك تطبيقاً فعلياً على الواقع .وكان هناك كثيراً غير- بني شاكر- يحذون حذوهم في ذلك ،فكثرت الكتب المترجمة في جميع الكتب العلوم الصناعية، فلما نقلت إلى العربية اشتغل بها الناس كثيرا علما وعملاً فوجد منهم فلاسفة عظام في هذه العلوم من العرب ،أولهم- يعقوب بن إسحاق الكندي- وكان عظيم المنزلة عند- المأمون- والمعتصم -وله مصنفات جديدة ورسائل كثيرة جداً في جميع العلوم ،وأيضاً- سليمان بن حسان- والذي كان عالماً بالطب والفلسفة وعلم الحساب والمنطق والنجوم .فالمأمون يعد في الحقيقة حامل لواء العلوم وسبب تلك الحركة الكبرى التي وجدت في الأمة الإسلامية، مع حفظ الفضل لمن سبقه في ذلك كأبيه الرشيد ،وجده المنصور فإنهما وضعا الأساس وهو حذا حذوهم إلا أنه فاقهم في الاهتمام والعزم .
محمد بن الرشيد ( المعتصم بالله) وفتح عمورية
هو أبو إسحاق محمد بن الرشيد بن المهدي بن المنصور. ولد سنة 179هـ. بويع بالخلافة سنة 218هـ .وبقي فيها حتى توفي بمدينة سامراء 227هـ.
خلافة الواثق بالله وملامح من سياسته
هو أبو جعفر هارون الواثق بالله بن المعتصم بن الرشيد، أمه اسمها قراطيس ،ولد سنة 186هـ، بويع بالخلافة عقب وفاة والده 8 ربيع الأول 227هـ ،ولم يزل خليفة إلى أن توفي في ذي الحجة 232هـويعاصره من الملوك والأمراء المستقلين من كان يعاصر أباه ،إلا في مملكة الروم بالقسطنطينية فإن –توفيل- مات في السنة التي توفي فيها المعتصم وخلفه ابنه- ميخائيل الثالث - وكان إذ ذاك صبياً، ولم يستوزر الواثق غير( محمد بن عبد الملك الزيات )وكان يقوم مقام رجاله كلهم؛ حيث صار صاحب الأمر والنهي في خلافته أكثر مما كان في عهد أبيه ،أما عن الجيش فقد كانت حاله في عهد الواثق كما كانت في عهد أبيه ،إلا أنه قدم المماليك التي اصطنعهم المعتصم وتوطدت سلطتهم، فأصبح الأتراك أصحاب نفوذ عظيم ولا سيما- أشناس -الذي توجه الواثق وألبسه وشاحين بالجوهر في شهر رمضان 288هـ ،وقد قام قواد الأتراك بأعظم الأعمال الحربية حتى في جزيرة العرب نفسها،
أما عن أسباب الاضطراب الذي كان هناك في عهد الواثق
؛فقد كان بنو سليم من قيس عيلان من أقوى القبائل العربية وأكثرها عددا، وكانوا ينزلون بالقرب من حرة بني سليم ،فاجترءوا عليه بالتطاول حول المدينة بالشروكانوا إذا وردوا سوقا من أسواق الحجاز أخذوا سعرها كيف شاءوا ،ثم أوقعوا- بالجاريناس –من- كنانة وباهلة- وقتلوا بعضهم في جمادى الآخرة 230هـ، وكان رئيسهم (عزيز السلمي )فوجه إليهم أمير المدينة( محمد بن العباس )-حماد بن جرير الطبري- فتوجه إليهم وقاتلهم- بالرويثه -لكن هزم جند حماد بعد أن قتل وحازت بنو سليم السلاح والثياب وغلظ أمرهم ،فاستباحوا القرى والمناهل فيما بينها وبين مكة والمدينة ،حتى لم يمكن أحد أن يسلك تلك الطريق، وتطرقوا من يليهم من قبائل العرب فوجه إليهم الواثق -بغا الكبير- في الشاكرية والأتراك والمغاربة ،فشخص الى حرة بني سليم وعلى مقدمته- طردوش التركي- فلقي بني سليم في قراهم وقتل منهم حوالي خمسين وأسر مثلهم، ثم دعاهم الى الأمان على حكم الواثق فأتوه واجتمعوا إليه ،فاحتبس منهم من وصف بالشر والفساد وهم حوالي -ألف رجل- وخلى سبيل سائرهم ،ثم رحل بالأسرى الى المدينة في ذي القعدة سنة 230هـوشخص الى مكة حاجاً ثم وجه الى- بني هلال- من عرض عليهم مثلما عرض على- بني سليم- فأقبلوا، وحجز من مردتهم نحو- ثلاثمائة رجل- وخلا سائرهم ثم انصرف الى المدينة وجعل المحبوسين من -بني هلال- مع أخوتهم من -بني سليم -وجمعهم في دار( يزيد بن معاوية )في الأغلال والاقياد وعدتهم- ألف وثلاثمائة -رجل ،وسار هو الى بني مرة( المحبوسين )فنقبوا السجن، ليخرجوا فعلم بهم أهل المدينة فمنعوهم من الخروج، وقاتلوهم في الغد في صباح اليوم الثاني وقتلوهم جميعاً .أما ما فعله- ببني مرة- وفزارة- الذي تغلبوا على( فدك):فإنه لما قاربهم أرسل إليهم رجلاً فزارياً يعرض عليهم الأمان ويأتيه بأخبارهم ،فلما قدم عليهم –الفزاري- حذرهم سطوته وزين لهم الهرب فهربوا ودخلوا البرية وخلوا- فدكاً- ،ولم يستأمن إليه إلا القليل، وهرب الباقون إلى موضوع –البلقاء- من دمشق، ثم صار إليه جماعة من بطون غطفان. وفزارة. وأشجع. فلما صاروا إليه استحلفهم الأيمان المؤكدة :ألا يتخلفوا عنه متى دعاهم ،فحلفوا ثم اتجه لطلب- بني كلاب -ووجه إليهم رسله، فاجتمع إليه منهم -ثلاثة آلاف رجل- فاحتبس من أهل الفساد -ألف وثلاثمائة رجل- ،ثم قدم بهم –المدينة- في رمضان سنة 231هـ ،فحبسهم بها ،ثم شخص إلى- مكة -حاجاً، ورجع إلى- المدينة- بعد حجه، فأرسل من كان استحلف من :ثعلبه. وأشجع. وفزارة. فلم يجيبوه وتفرقوا في البلاد، فوجه في طلبهم فلم يلحق منهم كثير، وفي سنة 232هـ أمرهم- الواثق -أن يذهبوا الى غزو- بني نمير- ؛لما كان من عبثهم وفسادهم في الأرض، فمضىنحو- اليمامة -يريدهم فلقي منهم جماعة عند موضع يقال له- الشريف -فحاربوه فقتل منهم 54 رجل وأسر منهم 400 رجل، ثم سار إلى قرية لبني تميم تدعى- مرأة- فعرض عليهم الأمان ودعاهم إلى السمع والطاعة وهم يمتنعون ويشتمون رسله، فسار- بغا- إليهم من- مرأة -في أول صفر 232هـ حتى دخل بخيله ،وأرسل إليهم أن ائتوني ،فأرسل إليهم سرية لم تدركهم، وسار إلى موضع يسمى- روضة الإبان -فجعل يدعوهم الى طاعة أمير المؤمنين ،ويكلمهم بذلك- محمد الجعفري- فجعلوا يقولون له: يا محمد إنك ما راعيت حرمة الرحم ،ثم جئتنا بهؤلاء العبيد والعلوج تقاتلنا بهم والله لنرينك العبر، فلما أصبح الصبح عليهم حملوا على- بغا- وجنده وكانوا قد جعلوا رجالهم أمامهم وفرسانهم ونعمهم ومواشيهم من ورائهم فهزموا بغا وجيشه، وكاد يهلك لولا حصول أمر لم يكن مقصوداً ،وذلك أنه كان قد وجه من أصحابه (بغا) نحو 200 رجل ليغير على خيل لهم وجدوها بمكان من بلادهم فلما كان جيش- بغا -على شرف الانكسار إذ عادت هذه الجماعةمنصرفة من الموضع التي وجهت إليه في ظهور- بني نمير- فنفخوا في صفارتهم -فسمع العرب نفخ الصفارات وظنوا أنه قد جاء كمين من خلفهم فولوا هاربين، وأقام- بغا -بموضع الواقعة ،واستراح ثلاثة أيام ثم أرسل الهاربون يطلبون الأمان فأعطاهم -بغا -الأمان فسار بهم- بغا- إلى- البصرة- في ذي القعدة 232هـ، وأرسل إلى -صالح بن العباس -أن يسير بمن قبله من -المدينة –من: بني كلاب. وفزارة. ومرة. وثعلبة .وغيرهم فوافاه –صالح- ببغداد- وساروا جميعاً إلى- سامراء -وكانت عدة الأسرى جميعاً 2300 رجل .
نكبة الكتاب في عهد الواثق
سئل الواثق وزيره ذات ليلة عن سبب نكبة الرشيد للبرامكة؟ فأجابه أنهم استهلكوا الأموال .فقال الواثق لقد صدقت وإنما العاجز من لا يستبد، وأخذ في ذكر الخيانة وما يستحق أهلها ،ولم يمضي على ذلك أسبوع حتى أوقع بكتابه وعذبهم، حتى أدوا المال الذي ظن أنهم اختانوه مما عهد إليهم في حفظه ومنهم :احمد بن إسرائيل , سليمان بن وهب , أحمد بن الخصيب , إبراهيم بن رباح .
نظرة تحليلية للخلافة العباسية في عصرها الأول
الحقيقة أننا لا نستطيع أن نتخذ عصر السفاح قاعدة للخلافة العباسية في عصرها الأول ؛لأن لقب السفاح أولاً أطلق في الأصل على عمه -عبد الله بن علي -ومهما كان الوضع فيعتبر عصره عصر تصفية وتثبيت لأهداف الثورة العباسية , كما أنه لم ينفرد بسلطة إنما أشرك بني العباس كلهم , باعتبار أن القضية هي قضية مصير بالنسبة لهم .والمنصور هو الذي حاول بكل ما استطاع من قوة وجهد أن يحقق النمط التقليدي للخلافة القوية القادرة المسيطرة ،ولعله من هذه الوجهة يمكن أن يسمى بالمؤسس الحقيقي للدولة العباسية ،فقد تصدى لمشاكل كثيرة وقف في وجهها دون خوف وتغلب عليها جميعها، ووضع الأساس الحقيقي للنظام العباسي الذي سار عليها الخلفاء العباسيون من بعده، والمنصور هو الذي أتم الدور التأسيسي من حياة الدولة العباسية وصان حدودها ،وأمسك بزمام قيادتها. أما في الحدود فإن دراسة الحدود الشامية الجزرية عند -جبال طوروس- تظهر الجهد العظيم الذي بذله المنصور بما بنى من حصون .أما بنسبة لزمام القيادة فإنه كان يطمع باستعادة الأندلس للخلافة كما كانت في عهد بني أمية، كما كان يطمع باستعادة الغرب للخلافة أيضاً، وقد فشل في هذين المجالين، ويكفيه مع ذلك أنه حاول توحيد الخلافة كما كانت في عهد بني أميه ،وتتبلور هذه الفكرة في بناء المنصور لبغداد حتى أنها سميت بمدينة المنصور، وهي المدينة التي جمعت أنصار الدولة ودواوينها، وهي المدينة التي بلغت من العظمة والازدهار ما لم تبلغه أي مدينة أخرى في العالم الإسلامي ماعدا القاهرة .ثم يأتي بعد المنصور سبعة من خلفاء العصر العباسي الأول ،هم المهدي، وأبناء الهادي ،والرشيد، ثم أبناء الرشيد الثلاثة (الأمين والمأمون والمعتصم) ثم الواثق .ويختلف هؤلاء السبعة عن الخليفتين الأولين في أنهم ورثوا دولة قد استقرت على نمط معلوم ،وأصبحت حياتها السياسية ميسرة ،وفي أنهم أحاطوا أنفسهم ببلاط عظيم وقصور فخمة وترف لا حد له ،حتى صار ترفهم أسطورة ترويها الأجيال، واختارت الأساطير شخصية منهم هي واسطة عقدهم وهي شخصية الرشيد .أما المهدي فكان فوق لينِ أبي العباس السفاح ،وتحت حزم المنصور، وقد جاء بعد أن وطد له أبوه الأمور، فظهرت خاصة ميوله الشخصية وأولها حبه للصيد وخروجه إليه مع خاصته من رجال البلاط ،واهتمامه بالبلاط فقد اتخذت حاشية الخليفة لأول مرة شكل بلاط نشأ على يد المهدي في القسم الشرقي من بغداد، ثم بداية اهتمامه بالعقائد فإن المهدي هو الذي تتبع الزنادقة على نحو ما ذكرنا .ولم يحكم الهادي غير سنة واحدة. ثم تولى- هارون الرشيد- وقد طالت خلافته على نحو ما طالت خلافة جده المنصور، وخلافة ابنه المأمون، وقد شغل هؤلاء الثلاثة (المنصور والرشيد والمأمون) نحو خمسة وستين سنة من العصر العباسي الأول، فهم لذلك عنوان عليه والرشيد في وسطهم كواسطة العقد .وللرشيد شخصيته الأسطورية. فهو يمثل: شخصية ملك سعيد البرامكة يمثلون شخصية وزير نافذ الكلمة، وبينما كانت هذه الأساطير تتبلور في الأخيلة الشعبية كان الرشيد في الحقيقة يقوم بدور درع الدولة متنقلاً بين أرجاء دولته ،غازياً وحاجاً، وهو أول خليفة قاد الغزو بنفسه، وسار إلى الثائرين على رأس جيشه ،واسم الرشيد بعد ذلك كله مقترن باسم ايريني ،ونقفور ،وشارلمان. وهو من غير شك أعظم هؤلاء الملوك جميعاً، بل أعظم ملك في عصره على الإطلاق .فولده الأول- الأمين -الخليفة المظلوم الذي ضاعت شخصيته الحقيقية ؛لما لحقه من هزيمة ،وهو على أية حال بطل عصبية الأبناء( وهي العصبية الفارسية من أبناء الجيش الخراساني الذي استقر بالعراق). وقد حارب جيوش أخيه- المأمون- من الخراسانية بجيوش بعضها من أبناء. وبعضها الآخر من العرب .
-والمأمون- شخصية عجيبة جامعة للمواقف المتناقضة التي يصعب التوفيق بينها؛ فهو يميل حيناً إلى الخراسانية ويعتمد عليهم، ثم يميل إلى العلويين ميلاً متطرفاً، حتى ليبذلون له ثقتهم وينسون خصوماتهم، حتى استطاع أن يتقرب الى- المغرب- ويكسب ثقته بعد أن كان يقصر مودته على الخراسانية في المشرق .
أما- المعتصم- فهو ثالث أولاد- الرشيد -الذين تعاقبوا أخاً بعد أخ على كرسي الخلافة ،وفي شخصية فارسٌ يحب أهل الفروسية، ولهذا مال إلى الترك وأحب فروسيتهم وخصهم بتقديره ،وبنى لهم عاصمة جديدة مفسحاً لهم أكبر مجال أنفسح لهم منذ اتصالهم بالدولة الى وقته .والسمة الأخرى الواضحة في سمة- المعتصم- هي وفاءه لشخص أخيه بالذات في حياة أخيه وبعد مماته، ولهذا يعتبر حكمة استمراراً لحكم أخيه- المأمون -بحيث لو عاش- المأمون- لما اختلفت سياسته عن سياسة أخيه، برغم الاختلاف الملحوظ بين العصرين. مثال ذلك :أن –المأمون- هو الذي افتتح سياسة استخدام الأتراك ،وأن أخاه- المعتصم -هو الذي وصل بهذه السياسة الى أقصى مدى ممكن .أما آخر خلفاء العصر العباسي الأول فهو: الخليفة –الواثق- وهو أقل خلفاء العصر من حيث وضوح الشخصية، وقد استطاع أن يحتفظ بمقام الخلافة الى جانب الأتراك، وأن يظل سيدهم الحاكم ،إلا أن مكانة الأتراك كانت قد استقرت، بحيث تحكم بعده في تولية المتوكل في سياسته ،فلما خرج عن طاعتهم قتلوه.