المحاضرة الثانية
لا بد لأي مجتمع من أسس يبني عليها , وتكاد تكون هذه الأسس مشتركة بين المجتمعات كلها , إلا أن المجتمع الإسلامي تميز عن غيره في هذا المجال وكان تميزه من جهتين :
1. جعل العقيدة بكل مظاهرها والشريعة بكل أحكامها الأساس الأكبر الذي تبنى عليه الأسس الأخرى .
2. إنه أوجد مواصفات وضعها من اعتبارات تجاه هذه الأسس فجاء متميزاً وهذه الاسس العامة التي يقوم عليها بناء المجتمع الإسلامي بعد الأساس العقدي هي :
a. الإنسان
b. الروابط الإجتماعية
c. الضبط الإجتماعي
d. الأرض
الأساس الأول : الإنسان /
عنى الإسلام بالإنسان الفرد بغية أن يهيئة ليكون الأساس الأول في بناء المجتمع , وذلك من بداية الخلق حين خلقه الله بيديه ونفخ فيه من روحه , وجعله خليفة في الأرض , وتوجت هذه العناية بشريعة الإسلام منذ العهد المكي ولم تغفل العهد المدني , وقد هدفت إلى بناء شخصية الفرد المسلم متزنة مستقلة تجمع بين ما استودع فيها من رغبات ونزعات , وبين ما انيط بها من مسؤوليات على مستوى الفرد والجماعات .
ومما اسهم في تحقيق هذه الغاية العظمى أن الله أودع في الإنسان نزعتين متباينتين في الظاهر لكنهما متكاملتان وهما :
1. النزعة الفردية : وهي التي تجعله يحب الخير لنفسه ويدفع الشر عنها .
2. النزعة الإجتماعية : وهي التي تدفعه إلى صف الجماعة وحضن المجتمع .
إذا فهي دوافع فطرية وتضاف إليها دوافع مكتسبة , أوجدها الشارع الحكيم من خلال تشريعات وتكاليف خوطب بها الفرد .
الأساس الثاني : الروابط الإجتماعية /
فطر الإنسان على حب الإنتماء للمجتمع , فهو يكره العزلة ويميل بطبعة إلى بني جنسه , وإن الإسلام يعتمد في بناء المجتمع على قوة الرابطة التي يضعها بين المسلمين ويجعل منهم جسدا واحد . الحديث المشهور ( مثل المؤمنين ... )
الأساس الثالث : الضبط الإجتماعي /
يعني ضرورة الوعي بشعور الآخرين ومراعاة حقوقهم وانتهاج سلوك يتأثر بهذا الوعي وهذا السلوك , ولقد تنبه المعنيون بشؤون المجتمع إلى أهمية هذا الأساس في بنائه , وكان غاية ما توصلوا إليه ما سمي ( نظرية العقد الاجتماعي ) على يد العالم ( روسو ) : وهي فكرة مادية تقوم على حقيقتها على تبادل المصالح حال التعايش بين الناس .. ) لكنها لا تقوى هي ولا مثيلاتها بحال على التأليف بين قلوب أفراد المجتمع , وللإسلام منهج ما عرفته البشرية في تاريخها , وكان من ذلك أن زين لأفراد المجتمع طريقا سهلا موصلا للجنة ( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا .. ) فجعل انتشار المحبة علامة للإيمان , وكذلك رغب الإسلام العناية بقضايا المجتمع وحاجات أفراده ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ... ) , أوجدت هذه النصوص الشرعية رقابة ذاتية لدى الإنسان المسلم .
وأوجد الإسلام تشريعات يحتكم إليها أفراد المجتمع عن رضا وطيب نفس . لكونها ربانية المصدر .
الأساس الرابع : الأرض /
الأرض من الأسس التي يبنى عليها المجتمع , وأن الله أنزل الإسلام بأحكامه وتشريعاته ليحكم في الأرض , وتستدعي بعض العوامل المساعدة على تحقيقها توفر حرية التصرف والسلامة من التأثير الخارجي ووجود مناخ مناسب لتحكيم شرع الله , ووجود سلطة تملك صلاحية اتخاذ القرار وتنفيذه , ومن المعلوم أنه يتعذر توافر هذه العوامل أو يكاد إذا لم توجد بقعة من الأرض تجمع المسلمين وتكون الكلمة فيها لهم .
وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه الكرام فيها إشارات توضح المعنى فإنه لما بعث في مكة وصار له أتباع حرصوا على الالتفاف حوله وتكوين مجتمع خاص بهم , ولقد بحث النبي صلى الله عليه وسلم في وقت مبكر عن أرض يقيم بها هو واصحابه فقصد الطائف فلم يجيبوه , ثم عرض دعوته على أهل المدينة فاستجابوا له .
ولقد تضمن القرآن الكريم ربطا بين إقامة الأحكام الشرعية وبين التمكين في الأرض قال تعالى : ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة ... ) الآية .
إذا الأرض أساس من أسس بناء المجتمع الإسلامي ويتعذر إقامة مجتمع واضح المعالم ما لم يكن للمسلمين ارض لهم فيها القول والفصل .
أبرز سمات المجتمع الإسلامي :
1. مجتمع ملتزم بالشرع : نعني بأن للمجتمع مرجعيته العليا وهي الوحي بشقية الكتاب والسنة .
2. مجتمع جاد : أبرز مظهرين تتضح من خلالهما جديته :
a. المظهر الأول / العلم النافع : هو كل علم يحقق مرضاة الله , وهو الوسيلة الفاعلة لتحقيق مقاصد ثلاثة يحرص المجتمع عليها وهي : توجيه التفكير , وإصلاح العمل , إيجاد الوازع الديني .
b. المظهر الثاني / العمل الصالح : هو يتبع العلم بل هما متلازمان وهو مرتبط بمفهوم العبادة .
3. مجتمع متسامح : لغة مصدر سامحه : إذا أبدى له السماحة بأريحية . وأصل السماحة : السهولة في المخالطة والمعاشرة . فيجب على أفراد المجتمع أن يكون بعيدون عن الانفعالات حذرون من المشاحنات .
4. مجتمع آمن : لقد تحققت صفة الأمن هذه للمجتمع الإسلامي بعدة طرق : عن طريق سلامة منه الفرد واستقامة سلوكه , وعن طريق المجتمع في تكوين اللبنة الصالحة , وعن طريق العقوبات التي تمنع فئة من الناس عن المساس بأمن المجتمع . (( إن الذين يعترضون على هذه الحدود بحجة الإشفاق على الأفراد هم يعتدون على حقوق المجتمع بأكمله ))
5. مجتمع متناصح
6. مجتمع تسوده المساواة .
7. مجتمع متراحم
8. مجتمع مطيع لأولي الأمر
أسباب تقوية الروابط الاجتماعية :
تعد العبادات بعامة أبرز الوسائل التي تعين على تقوية الروابط الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد . كالصلاة والزكاة ..
السبب الأول : تشريع صلاة الجماعة والجمعة والعيدين والجنازة :
1. صلاة الجماعة : جعل صلاة الجماعة أفضل بسبع وعشرين درجة .
2. صلاة الجمعة : أوجب الشارع الحكيم صلاة الجمعة على الرجال الأحرار المقيمين .
3. صلاة العيدين : كان من هدية صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى صلاة العيد في مكان عام ومكشوف , ويخرج معه المسلمون بما فيه النساء عن أم عطية قال : أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى : أي العواتق والحيض وذوات الخدور , فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين .
4. صلاة الجنازة : فرض كفاية .
السبب الثاني : تشريع الإسلام للواجبات الاجتماعية الخاصة هي تقوية للروابط الاجتماعية :
1. بر الوالدين وطاعتهما : ذهب كثير من العلماء أن الفعل المباح ينقلب إلى واجب إذا أمر به أحد الوالدين أو كلاهما .
2. صلة الأرحام والإحسان إليهم : الأرحام : هم أقارب الإنسان من جهة أبيه وأمه . وقد أوجب الله برهم وحبهم والتعاطف معهم . فهي تعود على فاعلها بالخير العميم في المال والعمر والعافية .
3. الإحسان إلى الجيران وتجنب إيذائهم : وهم الذين يساكنوننا في الحي , ولو كانوا على بعد أربعين دارا كما ورد عن عائشة . وهم على ثلاث درجات : جار له حق واحد وهو الكافر , وجار له حقان وهو المسلم , وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم ذو الرحم .
السبب الثالث : دعوة الإسلام إلى أسباب التآلف الاجتماعي العام , تقوية للروابط :
1. إفشاء السلام : والبدء بالسلام سنة من سنن الإسلام والحكمة منه بذل الأمان للمسلم عليه . ورده واجب .
2. توقير الكبار والعطف على الصغار : كان صلى الله عليه وسلم يتلطف بالصغار ويداعبهم .
3. سلوكيات أخرى : مثل الدعاء له , وإجابة دعوته , وتبادل زيارته , وتشميته وإسداء النصيحة له , وإيثاره على النفس , وصدقه في الحديث والذب عنه في غيبته .
السبب الرابع : دعوة الإسلام إلى الأخلاق الفاضلة , تقوية للروابط :
مكارم الأخلاق من الأمور المكتسبة غالبا لا الجبلية المحضة , وهي من أهداف الدعوة النبوية , وليس الخلق المطلوب في الإسلام مجرد معرفة أن الصدق فضيلة والكذب رذيلة , إنما الأخلاق هو تفاعل النفس وتأثرها بما ينبغي أن تكون عليه وتتصف به من مكارم الأخلاق ابتغاء رضوان الله .
أصناف الأخلاق :
1. الأخلاق الفردية : كالصبر والعفة وضبط النفس
2. الأخلاق الأسرية : كبر الوالدين والإحسان للزوجة
3. الأخلاق الاجتماعية : كإفشاء السلام وزيارة المريض
4. الأخلاق المتصلة بحق الله : كالصدق معه , والقيام بحقوقه , وشكره على نعمه .
5. أخلاق الدولة : كالرفق بالرعية والعمل بالشورى وحماية النفوس والأعراض والأموال .
ومن الأخلاق المهمة التي دعا إليها الإسلام :
الصدق : وهو التزام الحقيقة دائما ظاهر وباطنا في الأقوال والأفعال .
الحياء : هو انقباض النفس من شيء , وهو نوعان : نفساني خلقه الله في عامة الناس , وإيماني يمنع المؤمن من فعل المعاصي .
البشاشة وطلاقة الوجه .
المداراة والتلطف بالآخرين : المداراة هي التلطف بالانسان للحد من ضرره , وهي من الدرء والدفع . وهي غير النفاق والمداهنة بقصد إقرار الإنسان على باطله . والغاية منها : تجنب إثارة الخلاف مع الآخرين للوصول بهم إلى الحق .
السبب الخامس : تشريع الإسلام للتكافل الإجتماعي , تقوية للروابط :
· تشريع فريضة الزكاة : وهي من فروض الإسلام
تشريع زكاة الفطر : وهي واجبة على كل مسلم ذكر وأنثى صغير أو كبير عنده قوت يوم العيد
· تشريع النفقات الواجبة :
1. النفقة الزوجية : وهي واجبة بالاحتباس لا بالفقر .
2. النفقة على الأقارب : وهي واجبة على الرجل الموسر لوالديه وأولاده وأقربائه المحتاجين . وفي مذهب الحنابلة : تجب النفقة على الرجل الموسر لأقربائه الفقراء من ذوي الفروض والعصبات .
· تشريع الصدقات التطوعية : قسم العلماء الصدقات التطوعية إلى أنواع :
1. الصدقة النافلة المطلقة .
2. الصدقة الجارية وهي الوقف .
3. الوصايا : مما لا يزيد عن الثلث .
4. العواري والمنائح والقروض الحسنة والأعطيات والهدايا والهبات .
السبب السادس : دعوة الإسلام إلى الحوار والجدل بالتي هي أحسن , تقوية للروابط :
1. الإسلام دعوة عالمية .
2. اعتماد الإسلام طريق الحوار الحسن في تبليغ الرسالة .
3. حقيقة الحوار : هو المحاورة والمجادلة , ويراد بها : المناقضة والمناظرة والمراجعة في الكلام .
وفي الإصطلاح : تبادل وجهات النظر بين طرفين أو أكثر في جو هادئ لإحقاق قول وتخطئة غيره دون تسفيه .
وقد قسم العلماء الحوار والجدل قسمين : ممدوح ( ما يوصل إلى الحق بأسلوب مناسب وهو فرض محكم غير منسوخ ) - ومذموم ( لا يوصل إلى الحق وتصاحبه المغالطة والأنفعال وهو محرم منهي عنه ) .
من لوازم الجدل ومتطلبات الحوار :
1. الإيمان العميق بما يدعو إليه ويناظر فيه .
2. العلم بقضية الحوار ومعرفتها معرفة تامة .
3. التزام الهدوء والسكينة والبعد عن الانفعال .
4. الحرص على الوصول إلى الحق ونصرته .
5. استقامة السلوك والتخلق بالخلق الحسن .
6. إحسان الظن بالطرف الآخر واحترامه .