علوم القران 2 محاضرة 10
إلى رحــــــــــــــــــــــــاب المحــــــــــاضرة
(هيا بنا نسمو بطلب العلم)
*مدخل:
بعض الأحكام التشريعية يرد تارة مطلقًا في فرد شائع لا يتقيد بصفة أو شرط، ويرد تارة أخرى متناولًا له مع أمر زائد على حقيقته الشاملة لجنسه من صفة أو شرط.
وإطلاق اللفظ مرة وتقييده أخرى هو من البيان العربي، وهو ما يُعرف في كتاب الله المعجز بـ "مطلق القرآن ومقيده".
**تعريف المطلق والمقيد:
*المطلق: هو ما دلَّ على الحقيقة بلا قيد، فهو يتناول واحدًا لا بعينه من الحقيقة.
وأكثر مواضعه النكرة في الإثبات، كلفظ "رقبة" في مثل قوله تعالى ((فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ))، فإنه يتناول عتق إنسان مملوك -وهو شائع في جنس العبيد مؤمنهم وكافرهم على السواء.
وهو نكرة في الإثبات؛ لأن المعنى: فعليه تحرير رقبة.
وكقوله عليه الصلاة والسلام: "لا نكاح إلا بولي".
وهو مطلق في جنس الأولياء؛ سواء أكان رشيدًا أو غير رشيد.
ولهذا عرَّفه بعض الأصوليين بأنه عبارة عن النكرة في سياق الإثبات.
فقولنا: "نكرة" احتراز عن أسماء المعارف وما مدلوله واحد معين.
وقولنا: "في سياق الإثبات" احتراز عن النكرة في سياق النفي؛ فإنها تعم جميع ما هو من
جنسها.
*المقيَّد: هو ما دلَّ على الحقيقة بقيد.
كالرقبة المقيَّدة بالإيمان في قوله تعالى ((فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)).
**أقسام المطلق والمقيَّد وحكم كل منها:
للمطلق والمقيد صور عقلية نذكر منها ما يلي:
1- أن يتحد السبب والحكم:
كالصيام في كفارة اليمين: جاء مطلقًا في القراءة المتواترة بالمصحف ((فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ)).
وجاء مقيدًا بالتتابع في قراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات".
فمثل هذا يحمل المطلق فيه على المقيد، ولهذا قال قوم بالتتابع
وخالفهم من يرى أن القراءة غير المتواترة -وإن كانت مشهورة- ليست حُجة، فليس هنا مقيد حتى يُحمل عليه المطلق.
2- أن يتحد السبب ويختلف الحكم:
كالأيدي في الوضوء والتيمم، قيَّد غسل الأيدي في الوضوء بأنه إلى المرافق، قال تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)).
وأطلق المسح في التيمم، قال تعالى ((فتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)).
فقيل: لا يُحمل المطلق على المقيد لاختلاف الحكم.
ونقل الغزالي عن أكثر الشافعية حمل المطلق على المقيد هنا لاتحاد السبب وإن اختلف
الحكم.
3- أن يختلف السبب ويتحد الحكم، وفي هذا صورتان:
أ- الأولى: أن يكون التقييد واحدًا، كعتق الرقبة في الكفارة.
ورد اشتراط الإيمان في الرقبة بتقييدها بالرقبة المؤمنة في كفارة القتل الخطأ، قال تعالى ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)).
وأطلقت في كفارة الظهار، قال تعالى ((وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)) ، وفي كفارة اليمين، قال تعالى ((لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ))
فقال جماعة منهم المالكية وكثير من الشافعية: يُحمل المطلق على المقيد من غير دليل، فلا تُجزئ الرقبة الكافرة في كفارة الظِّهار واليمين.
وقال آخرون -وهو مذهب الأحناف- لا يُحمل المطلق على المقيد إلا بدليل، فيجوز إعتاق الكافرة في كفارة الظِّهار واليمين.
*وحُجة أصحاب الرأي الأول أن كلام الله تعالى متحد في ذاته، لا تعدد فيه فإذا نص على اشتراط الإيمان في كفارة القتل، كان ذلك تنصيصًا على اشتراطه في كفارة الظِّهار.
ولهذا حُمِل قوله تعالى ((والذَّاكِرَاتِ)) على قوله في أول الآية((وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً)) من غير دليل خارج، أي: والذاكرات الله كثيرًا، والعرب من مذهبها استحباب الإطلاق اكتفاء بالقيد؛ وطلبًا للإيجاز والاختصار.
وقال تعالى ((عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)).
والمراد: "عن اليمين قعيد"، ولكن حُذِف لدلالة الثاني عليه.
*أما حُجة أصحاب أبي حنيفة فإنهم قالوا: إن حمل ((وَالذَّاكِراتِ)) على ((وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرا)) جاء بدليل، ودليله قوله ((وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرا))، ولا استقلال له بنفسه، فوجب رده إلى ما هو معطوف عليه ومشارك له في حكمه، ومثله العطف في قوله تعالى ((عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)).
وإذا امتنع التقييد من غير دليل؛ فلا بد من دليل، ولا نص من كتاب أو سُنة يدل على ذلك.
ب- الثانية: أن يكون التقييد مختلفًا، كالكفارة بالصوم.
حيث قيَّد الصوم بالتتابع في كفارة القتل، قال تعالى ((فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ)) ، وكذا في كفارة الظِّهار، قال تعالى ((فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)).
وجاء تقييده بالتفريق في صوم المتمتع بالحج، قال تعالى ((فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ)).
ثم جاء الصوم مطلقًا دون تقييد بالتتابع أو التفريق في كفارة اليمين، قال تعالى ((فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ)) ، وكذا في قضاء رمضان، قال تعالى ((فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)).
فالمطلق في هذا لا يُحمَل على المقيَّد؛ لأن القيد مختلف، فحمل المطلق على أحدهما
ترجيح بلا مرجِّح.
4- أن يختلف السبب ويختلف الحكم: كاليد في الوضوء والسرقة.
حيث قُيدت اليد في الوضوء إلى المرافق، وأطلقت في السرقة، قال تعالى ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)).
فلا يُحمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحالة؛ للاختلاف سببًا وحكمًا.
قال الإمام الزركشي: "إن وُجِد دليل على تقييد المطلق صير إليه، وإلا فلا والمطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده؛ لأن الله تعالى خاطبنا بلغة العرب، والضابط أن الله تعالى إذا حكم في شيء بصفة أو شرط ثم ورد حكم آخر مطلقًا نُظِر، فإن لم يكن له أصل يرد إليه إلا ذلك الحكم المقيد وجب تقييده به، وإن كان له أصل غيره لم يكن رده إلى أحدهما بأولى من الآخر"