فكلا القراءتين ثقافة ولكنها في الأولى ثقافة نظرية وفي الثانية عملية، وهي في الأولى تكسب علماً وفي الثانية تكسب مهارات معرفية للحياة العملية، كما أن ثقافة المشاهدة دائماً ما تكون أسهل من ثقافة القراءة، لأنها أقل إعمالاً للذهن؛ فالمشاهِد يشرك حواسّه كلها في متابعة ما أمامه ولا يحتاج إلى إعمال ذهنه ليكوّن صورة ما يقرأ كما يحدث أثناء قراءة كتاب.
وعندما قالت "بدأتْ" نوّهت هنا إلى أنها غيّرت أو سوف تغير الحركة الأولى لها. بدأت "تتصفح كتابا"، أشعرتنا أنها وحيدة، أو أنها أتت لوحدها لقراءة هذا الكتاب، ثم ما لبثت أن تركت كتابها، وإذا بها تنتقل وننتقل معها بوثبات سريعة إلى تصور وجوه مرتادي المقهى الذين أكسبوها ثقافة عامة عن السوق وعن طبقات المجتمع ومختلف الأعمار والأجناس. فقد شغلتها أشكال الناس فبقيت في مكانها تشرب قهوتها وهي تتأملهم، وكأن البشر كتاب مفتوح نتصفحه من خلال رؤيتنا لهم، لكل منهم أسلوبه وحياته ومبادئه التي نكتشفها من خلال تصويرنا لهم وانطباعنا عنهم، وهذا التصوير يعتمد على الملاحظة الدقيقة للشيء فلا يمكن أن نكوّن انطباعا ما إلا من خلال الملاحظة الدقيقة المتأمّلة. وشخصيتنا هنا لم تملك إلا أن تتأمل من حولها بكل استرخاء وهدوء، فكل تلك الكتب المتنقلة "تقدم لها ثقافة عامة للسوق"، وربما رمزت بالسوق إلى المجتمع، فهو مكان يضم شرائح متعددة من الناس يختلفون كل الاختلاف. وفي خضم هذا التأمل يقطع عليها النادل حبل أفكارها وينبهها إلى أنها في مقهى جاءت لتتناول شيئا فيوقف شريـط خيـالها للحظات.
وبحضور النادل ننتقل إلى فكرة أخرى مغايرة حين يبادر بالسؤال المعتاد: "تشربي إيه حضرتك؟ قهوة سادة..." فهذا الحوار المعتاد الذي دار بين النادل والجالسة في المقهى هو حوار قصير جداً وهي تعطينا من خلاله منظراً متكاملاً يصف واقع العاملين في المقاهي المصرية الذين يتّسمون بالرفاهية وخفة الظل وربما بعض الفضول، ويتفننون في إيجاد طرق لإدخال الضحكة إلى وجوه زبائنهم. وهنا ننتقل إلى فكرة أخرى مغايرة لكل ماسبق، لها عدة محاور تُثير النقاش والتساؤل، إن كان من الجانب الشكلي للحوار (لغته) أو حتى أثرهُ وبعده في نفس الكاتبة.
فلنبدأ بالجانب الشكلي أو لغة الحوار: ويتضح فيه طُغيان اللهجة العامية، وهو أسلوب لجأ إليه بعض الكتاب الكبار، ولعل أبرزهم توفيق الحكيم الذي يعتبر من المجددين في الأسلوب الفني في الأدب العربي الحديث، فقد أدخل على فن الحوار الذي استقر على يديه قوالب تعبيرية أخرى، مثل: اليوميات، والاعتراف، والرسائل. وكلها ألوان لم يعرفها الأدب العربي من قبل على هذا الوضع الفني الذي عرضه الحكيم. كما أن له رأياً في اللغة وأسلوب الكتابة؛ فهومن دعاة اللغة الثالثة، وهي لغة وسط بين الفصحى والعامية، ومن دعاة التخلي عن الزخرف اللفظي وغريب اللغة، وهو أيضاً من دعاة ارتباط الأدب بالمجتمع، وعدم الاهتمام بالشكل الخارجي للعمل، ليسهل على القارئ الاتصال بفكره وأدبه(3).
وإن العامية وتأثيرها على الأدب أُطروحة مهمة وجادة؛ لأن الأدب يجب ألا ينفصل عن المجتمع، وهذا المجتمع هو المؤثر الأول على النص الأدبي بلغته وقضاياه، وسنجد أن الأعمال العامية تحتل الآن مكانة كبيرة؛ ليس لأنها تخاطب العامة فحسب، ولكن لأنها انطلقت من مستوى ثقافي يعبر عن البيئة الاجتماعية والواقع والإنسان والقضايا الآنية باللغة المتداولة، وهي انعكاس للحالة وتعبير من خلال المنطوق.
ولعل ما يرجح ما ذكرنا أن محمد عبد المنعم خفاجي في كتابه "مذاهب الأدب" يثني على أحمد أمين قائلاً: "وينادي في كتابه "فن القول" بتلقيح العربية بالعامية بإحياء الألفاظ العامية وإدخالها في الأداء الأدبي". وإن التساهل لدى بعضهم في مناقشة هذه القضية الخطيرة يبقى محدوداً، فلا اعتراف باللهجات العامية لدى كثير من الباحثين(5).
أما لو أفردنا الحديث في هذا الجانب عن الكاتبة نفسها د.أمل الطعيمي، فمن خلال المقابلة التي أجرتها معها طالبات قسم اللغة العربية بجامعة الدمام، أجابت عن ذلك بشعورها بالصدق والواقعية عندما تعبر بالعامية؛ لأن هناك مواضع معينة يجب أن تكون الكلمة فيها عامية،لأن تأثيرها يكون أقوى وأعمق في نفس القارئ أكثر من لو أنها صيغت أو استبدلت بلفظة فصيحة (6).