المحاضرة الخامسة أغراض الشعر العباسي ثانياً- الرثاء
الرثاء لغة واصطلاحاً:
الرثاء لغـة : رَثى فلان فلاناً يَرْثيه رَثْياً ومَرْثية:إذا بكاه بعد موته. ورثيتُ الميْت رَثْيَا ورثاء ومَرْثاة ومَرْثية: مدحته بعد الموت وبكيته ، وعدَّدْتُ محاسنه، ونظمت فيه شعراً .
المعنى الاصطلاحي : صناعة الشعر في المرثي بكاءً وندباً وعزاءً، أو هو فن شعري يعبر عن خلجات النفس الإنسانية.
ألوان أو أقسام الرثاء:
للرثاء ثلاثة ألوان : النــدب والتأبين والعزاء .
الندب : هو النوح أو البكاء على الميت بالعبارات المشجية وبالألفاظ المحزنة التي تصدع القلوب القاسية ، وتذيب العيون الجامدة.
التأبين : الثناء على الشخص حياً أو ميتاً ، ثم اقتصر استخدامه على الموتى فقط.
العزاء : أصل العزاء الصبر ، ثم اقتصر استعماله في الصبر على كارثة الموت، وأن يرضى من فقد عزيزاً بما فاجأه به القدر.
موضوعات الرثاء:
احتدم الرثاء في العصر العباسي ، فلم يمت خليفة ولا وزير ولا قائد مشهور إلا رثاه الشعراء .
و سعر موت الأبناء وذوي الرحم قلوب الشعراء ، فبكوهم بدموع غزار .كما بكوا زوجاتهم ، وبكوا كذلك العلماء والجواري .
وظهرت ضروب جديدة في الرثاء لم تكن معروفة قبل هذا العصر ، من ذلك رثاء المدن والحدائق والأملاك.
ومن موضوعات الرثاء التي استحدثت في العصر العباسي رثاء الحيوانات والطيور.ونحاول الوقوف عند أنواع المراثي .
رثاء الحيوانات:
من موضوعات الرثاء التي استجدت في العصر العباسي رثاء المدلل من الحيوانات المستأنسة. فلم يعد الإنسان هو الكائن الوحيد الذي حزن الشعراء لفقده ، وإنما شاركه في هذا كائنات أخرى كالحيوانات الأليفة والطيـور المستأنسة ، فقد رأينا بعض الشعراء في العصر العباسي يبكون الكلاب، والقطط، والديـوك، وغيرها مـن تلك الحيوانات والطيور التي أحبها الإنسان وألفها، وأستأنس بها، ووجـد فيها السلـو والنفـع معـاً.
وهذا الضرب من الرثاء يكشف عن معنى إنساني حضاري ، حيث تتولد العاطفة التي تربط بين الإنسان وهذا النوع من الحيوان ، والتي تغدو قوية في نفس الإنسان حتى إن فقده للحيوان الأليف لديه يبعث في نفسه الأسى والحزن .
وجاءت الأشعار في هذا الباب تحمل أسمى العواطف الإنسانية الممتزجة بالحزن الذي يبرهن على المعاناة التي يجدها الإنسان بعد رحيل أليفه وأنيسة من الحيوانات والطيور، ولعل هذا الحزن يرجع إلى ما في هذه الحيوانات من فوائد جمة .
ولو تتبعنا بعض النماذج التي رثى فيها الشعراء أليفهم وأنيسهم من الحيوانات لطالعنا الشاعر أبو نواس بأرجوزته في **** الذي لسعته حية في عرقوبه فمات ، ويستهلها بقوله:
يا بؤس ***ي سـيد الكــــلاب
قد كان أغناني عــن العقـاب
وهذا ابن العلاف النهرواني، يتفجع على (هرة) فهي عنده بمكانة الولد، قائلاً:
يا هرُ فارقتنـا ولـم تعــد وكنـت عندي بمنزل الولـد
وقد رثي الشعراء طيورهم لما لها من أهمية ؛ فهي مصدر غذاء وأنس، فأبو الفرج يرثي ديكاً لـه ، قائلاً :
أبكـي إذا أبصرت ربْعَك موحشـاً
بتحنن وتأســـف وشهيــق
فرثاء الحيوانات والطيور يعد من الموضوعات الجديدة التي استحدثت في العصر العباسي وإن كان له رواسب في الشعر الجاهلي إلا أن تشبعه بثقافات العصر العباسي وحضاراته وأخيلته جاء وكأنه فن جديد لا عهد للعرب به.
رثاء المدن:
تتمتع المدينة في العصر العباسي باستيعابها لألوان الثقافة وكل أسباب الحضارة والتمدن ، لذا فقد صارت تمثل كياناً له معنى ووجوداً في نفوس أهلها ، وأن أهلها قد صـاروا تربطهم بها روابط كثيرة ، مادية ومعنوية ، وقد تولد في نفوسهم ـ نتيجة لذلك ـ شعور إنساني نبيل إزاء المدنية ، عبروا عنه في صدق وحرارة عندما رأوا الخراب والدمار يحل بها ، وكأنهم فقدوا بهـا عـزيزاً لديهـم. حتى كان لبعض المدن في نفوس الشعراء منزلة تقارب منزلة الأهل والولد ؛ لذلك حين سقطت دولتها، وتحول المجد عنها بكاها الشعراء كما يبكون أبناءهم ، وناحوا عليها كما ينوحون على أعز عزيز لديهم.
من هنا ظهر في العصر العباسي إطار جديد للرثاء متعلق بالنقلة الحضارية، وهو رثاء المدن، وقد كان جديداً بكل معاني الكلمة، وإن كان لهذا الفن جذور في الشعر الجاهلي - مثلاً عند امرئ القيس - فقد جاء في العصر العباسي متشبعاً بالمعطيات الثقافية والفنية ، فظهر فناً متكاملاً وكأنه فن جديد لا عهد للعرب به، إذ إن علاقة الإنسان بالمدنية من قبل لم تتوطد بالشكل الذي توطدت به في العصر العباسي . هذا من جهة . ومن جهة أخرى لم تشهد المدن الإسلامية قبل هذا العصر من الدمار والتخريب ما شهدته بعض مدن العراق في هذا العصر .
ونماذج رثاء المدن في الشعر العباسي أكثر من أن تحصى ، من ذلك رثاء بغداد؛ حيث كانت أول محنة أصيبت بها مدينة في العراق في العصر العباسي هي المحنة التي أصيبت بها بغداد العاصمة ، حين نشب الصراع بين الأمين والمأمون ، فقد حاصرت جيوش المأمون بغداد وضربت المدينة بالمجانيق ، فاصطلي الأهالي بهذه النيران، وخرجوا من بيوتهم مشتتين بعد تهدمها ، وكثر الخراب والهدم والدمار ، حتى درست محاسن بغداد ؛ وقد صور هذا العتري في قوله:
من ذا أصابـك يا بغـداد بالعيـن ألم تكوني زماناً قـرَّةَ العيـــن ؟!
ألم يكن فيـك قوم كان مسكنهـم وكـان قربهـمُ زَيْنـاً من الزيـن ؟!
يكشف الشاعر في عاطفة صادقة عن حزن عميق لما حل بالمدينة من دمار بعد أن كانت قرة للعين ، ويبكي الشاعر فراق أهلها بعد أن كانوا زينتها وهم يعيشون فيها في رغد من العيش.
وشاعر آخر يستبدل بدل الدمع دماً لشدة حزنـه على بغـداد، قائلاً:
بكيت دماً على بغداد لمَّـــــا فقدتُ غَضَارةَ العيـش الرقيـــق
ومهما يكن من شيء فإن رثاء المدن في العصر العباسي كان يمثل موقفاً جديداً لشاعر العصر، فرضته عليه ظروف الحياة في المدينة وارتباطه الوجداني بها، إلى جانب الأحداث والظروف السياسية الداخلية التي عرفها ذلك العصر.
رثاء الجواري والغلمان:
كثر الرقيق في العصر العباسي كثرة مفرطة ??بسبب من كانوا يؤسرون في الحروب وبسبـب انتشار تجارته ؛ وقد كانت قصور الخلفاء والأعيان تزخر بالجواري والخدم .
وكان للجواري مكانة كبيرة في نفوس الخلفاء والأمراء ، ينظمون الشعر فيهن إذا أعرضن ، وكم تباكى الخلفاء وأبكوا الحاضرين معهم لموت جارية من جواريهم ، من هنا شاع في العصر العباسي رثاء الجواري .
ويمكن القـول إن هذا النوع من الرثاء يوشك أن يكون مستحدثاً في العصر العباسي ??؛ لكثرتـه ولاهتمام الخلفاء به ، فالرشيد أقسم أنه سوف لا يسر بشيء بعد جاريته " هيلانه "، فبفراقها فارق لذة العيش ، يقول:
أقول لما ضمنـوك الثـــــرى وجالـت الحسـرة في صدري
أذهـب فلا والله لا ســــرنى بعــدك شيء أخــر الدهــر
وابن الرومي ماتت مغنيته " بستان " حزن عليها حزناً شديداً وأخذ يعبر عن هذا الحزن في مائة وخمسة وستين بيتاً من الشعـر من ذلك قـوله :
كـوَّر شمـس النهـار فانكـدرت كواكب الليـل كل مُنْكــدر
فكأن القيامة قد قامت بموتها .
فالبكاء على الجارية بكاء على فقد الأنس والنعيم ومباهج الحياة وكذا الحال في بكاء الغلمان
رثاء العلماء والأدباء:
ومما شاع في العصر العباسي - والذي يعد من مستجدات الرثاء - رثاء العلماء والأدباء ، فقد رثي أعرابي العالم الجليل محمد بن جرير الطبري ، فبين أن موته خطب عجز عنه الصبر ، قائلاً:
حـدث منقطـع وخطب جليــل دق عـن مثلـه اصطبـار الصبـور
قام ناعـي العلوم أجمـع لمــــا قـام ناعـــي محمد بن جريـــر
فهـوت أنجـم لها زاهــــرات مؤذنــات رسومهــا بالدثــور
رثاء الخلفاء والوزراء:
وشاع في العصر العباسي رثاء الخلفاء والوزراء والأمراء والقادة
وجاءت تعبيراتهم تفيض بالألم والحسرة لفقدهم.
فهذا المتوكل لمكانته في نفوس الشعراء رثوه رثاءً حاراً ، فهذا قول " محمد بن يزيد الأموي " يخاطب القبر بأن روحه بداخله:
أيهـا القبـر إن فيـك لروحــي نُزعـت من مفاصلي وعظامــي
رثاء الرفقاء والأصدقاء:
ومن ملامح التجديد في مضامين الرثاء، رثاء الرفقاء والأصدقاء؛ لما لهم من مكانة خاصة في النفس، ففقدهم كان مؤلماً.
وقد شاع في العصر العباسي بكاء الرفقاء والأصدقاء، بكاء يفجر الحزن في النفس؛ لما يصور من شقاء الأصدقاء بموت رفاقهم وكيف يصطلون بنار الفـراق المحـرقة، وأخذ الشعراء يعبرون عن حزنهم بأبيات شعرية، فهذا "بشار" يتحسر على صديقه ، قائلاً:
ويلي عليه وويلتي مــن بينــه كان المحب وكنـت حبـاً فانقضى
قد ذقت ألفتـه وذقـت فراقـه فوجدت ذا عسـلاً وذا جمر الغضا
رثاء الأبناء:
ورثاء الأبناء من الأنماط التي يمتلئ بها الرثاء في كل العصور، وهو من أشرف الأشعار وأصدقها.
ويكون التجديد في الشعر الذي يتناول رثاء الأبناء بقدر ما يعكسه العصر على الشاعر من رقة مشاعر وأحاسيس تتأثر بها قصائده ؛ والشاعر العباسي عبر عن حزنه الشديد لفقد ابنه بمظاهر الحزن المختلفة من بكاء شديد أو أرق متواصل ، أو ما وصل إليه حالهم بعد أبنائهم ، أو بكل وسائل التعبير المختلفة .
وأفضل من استخدم الدموع مظهراً من مظاهر الحزن " ابن الرومي " عندما اختطف الموت ابنه (محمد)، فأخذ يبكيه بكاء حاراً ، مخاطباً عينيه أن ترسل الدموع غزيرة ، قائلاً:
بكـاؤكُما يُشْفي وإن كان لا يُجْدي
فَجُـودا فقد أودى نظيـركُمَا عنْـدي
" وبشار بن برد " يعد نفسه غريباً بعد موت ابنه محمد،قائلاً:
كأنــي غريــب بعد موت محمد
وما الموت فينـا بعـده بغريــب
رثاء الآباء:
ويعد رثاء الآباء من أنماط الرثاء التي انتشرت في العصر العباسي ويرجع هذا إلى أن "معظم الشعراء ينشأون يتامى " بسبب ما في هذا العصر من ثورات وحروب وموت وتعذيب ، وهذا النوع من الشعر أقل بكثير من الشعر الذي يرثي الأبناء لاختلاف عاطفة الابن نحو أبيه عن عاطفة الأب نحو ابنه ؛ فحزن الأب على ابنه أشد بكثير من حزن الابن على أبيه .
يقول المعري في وفاة والده:
وبعدك لا يَهْوى الفُؤادُ مســـرَّةً وإْن خان في وصْـل السُّرور فلا يَهْني
رثاء الزوجة:
حظيت الزوجة باحترام الرجل العربي وتقديره ، واستأثرت بحبه على مر العصور ، وجزع على هجرها وظعنها .
فكان للزوجة في العصر العباسي مكانة غالية عند زوجها ، فاحتفي بها حية وحزن حزناً شديداً لفقدها ، واستعان الشعراء على ذلك بمعطيات البيئة العباسية في طريقـة التعبير عن أحزانهم ؛ فهذا شاعر عباسي يتمنى افتداء زوجته بنفسه وإلا فليمت معها، قائلاً :
فيا ليتني للمـوت قدمت قبلهــا وإلا فليت المـوت أذهبنـا معــاً