5- الأهداف السلوكية:-
إن منهج اليسر في الإسلام منهج متكامل، يُعنى بالحياة من جميع جوانبها، ومن ذلك مراعاة الجوانب السلوكية، مما يضمن له الشمول والبقاء، من ذلك:-
أ- إبعاد السآمة والملل:- وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا))(25)، إن من الغايات المرجوة من ممارسة العبادة؛ إقبال المسلم عليها عن حب لها، واشتياق إليها، فلا يعتريه ملل أو سأم في بدء أدائها، ولا في أثنائها، وفي هذا يقول الشاطبي – رحمه الله -: ((إن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة، سهلة،حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحببها لهم بذلك، فلو عملوا علىخلاف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم)) (26).
قال الحافظ ابن حجر(27): ((قوله:باب ما يكره من التشديد في العبادة))، قال ابن بطال(28) ((إنما يكره ذلك خشية الملال المفضي إلى ترك العبادة))(29) والملال: استثقال الشيء ونفور النفوس عنه بعد محبته (30).
ب- ضمان الاستمرار وعدم الانقطاع: ((إن الدوام على الأعمال الصالحة مقصد من مقاصد الشريعة، وهدف من أهدافها العامة، يدل على ذلك مجمل التكاليف الشرعية، فإن الأعمال فيها مقسمة إلى فرائض ونوافـل كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه))(31) والفرائض مقسمة على الزمن، بما يجعل العبد دائم الصلة بربه، فلليوم فرائض، وللأسبوع فريضة، وللسنة فرائض، وللعمر فرائض. فمن التزم تلك الفرائض فهو مداوم على طاعة الله عز وجل))(32) وقد تكون أحكام شريعة من الشرائع قاسية صارمة، ولكن ذلك لا يمنع من تلقي بعض الناس لهذه الشريعة بالقبول في مبدأ الأمر، وقد يستمر ذلك التلقي والقبول مدى حياة الجيل، أو الأجيال المعاصرة لانبثاق تلك الشريعة. ولكن حين ينقرض ذلك الرعيل الأول، يبدأ الجيل اللاحق في الانسلاخ عن أحكامها شيئاً فشيئاً، بل قد تمتد الأيدي إلى تلك الشريعة بالتبديل والتحريف، رغبة في التخفيف من حدتها، والتملص من ثقل أحكامها (33).
جـ قطع الأعذار، وعدم الخلل: كما أرسل الله الرسل لئلا يكون للناس على الله حجة بعد ذلك، فكذلك هنا شرع الله الأحكام سهلة ميسرة، لئلا يكون لأحد عذر في ترك العمل بمقتضى أحكام الشريعة.
قال الشاطبي رحمه الله: ((وأما الثاني فإن المكلف بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها، ولا محيص له عنها، يقوم فيها بحق ربه تعالى، فإذا أوغل في عمل شاق فربما قطعه عن غيره، ولا سيما حقوق الغير التي تتعلق به، فتكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعاً عما كلفه الله به، فيقصر فيه فيكون بذلك ملوماً غير معذور،إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها، ولا بحال من أحواله فيها…… فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل، وأنه يسبب تعطيل الوظائف، كما أنه يسبب الكسل، والترك، ويبغض العبادة فإذا وجدت العلة، أو كانت متوقعة نُهي عن ذلك))(34).
6- الأهداف الفكرية:
لما كان التيسير من القواعد الأساسية التي قام عليها التشريع الإسلامي كان معنى ذلك أن التشريع الإسلامي قائم على مراعاة قدرة المكلف وحاجته، ولا شك أن حاجات المكلفين تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، فهل معنى ذلك أن التشريعات الإسلامية تتغير تبعاً لتغير الحاجات؟ الجواب على ذلك بالنفي إن الذي يتغير إنما هو التطبيق لهذا التشريع، إن التشريع الإسلامي حقيقة واحدة، ولكن لها صور متعددة الأشكال، ولذلك نجد في غير العبادات قلة في التفصيلات، وإنما وضعت أصولاً عامة، وقواعد شاملة، تصدق على فروع كثيرة، وهذه الفروع هي التي تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة, أما الأصول فثابتة لا تتغير إلا أن اتفاق الناس في كل شيء أمر دونه خرط القتاد، ذلك أن حكمة الله تعالى اقتضت تفاوت الناس في الفهوم والمدارك والقدرات،
قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) 165} (35)وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ){48} (36)
وما دام الأمر كذلك، فليس من المعقول أن يطلب الناس جميعهم العلم، كما أنه لا يعقل أن يتساوى العلماء منهم في التحصيل وفي الإدراك؛ ولذلك أوجب الله طلب العلم والفقه على المسلمين وجوباً كفائياً، ليقوموا بمهمة التبليغ، ونشر العلم بين الناس، وتبيينه لهم
، قال تعالى:
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ {122}(37)
فلا يتصور أن جميع الخلق سيتركون أعمالهم وحاجتهم الدنيوية اللازمة لقيام حياتهم، ويتفرغون للعلم ثم للاجتهاد، ولو حصل ذلك لتعطلت المنافع، وصارت الحياة إلىطريق الزوال، وهذا هدف فكري جلي.
ثمة هدف آخر، أن الأئمة الجهابذة الذين نذروا أنفسهم في خدمة الأمة بتعلم العلم، وتولي الإفتاء والقضاء، ولم يألوا جهداً في إمعان النظر، والتوصل إلى كل ما فيه صلاح الأمة في العاجل والآجل، كان هدفهم المنشود هو الحق، وتبليغ الناس رسالة الإسلام، فكان من الطبعي أن يقع بينهم اختلاف في الاستنتاج والاستنباط من نصوص الكتاب والسنة، وما دام هذا الاختلاف مضبوطاً بالضوابط الشرعية من الاجتهاد وصدق النية والتجرد، فهو من التوسعة على الأمـة، ومن ذلك إقـرار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الذين اختلفوا في فهم قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، فادرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلى حتى نأتيهم وقال بعضهم: بل نصلي،لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم))(38).
كما أن من أهداف اليسر الفكرية: ما يظهر من سهولة فهم الشريعة لكل مسلم استوفى شروط الفهم، ((إن الناظر في نصوص الشريعة الإسلامية يجدها تتسم بالجزالة في اللفظ، والدقة في التعبير، والوضوح في الفكرة واليسر في فهم المعنى، فلا تعقيد في ألفاظها، ولا إيهام فيما ترمي إليه من مقاصد)) (39).