يعرض كونت في هذا الصدد ثلاثة حلول محتملة يمكن تصورها وهي:-
• أن نوفق بين التفكر الوضعي والتفكير الميتافيزيقي بحيث يوجدان معًا بدون تناقض.
• أن نجعل من المنهج البيولوجي الميتافيزيقي منهجًا عاملاً شاملاً تخضع له جميع العقول والعلوم ونصرف النظر عما وصل إليه التفكير الوضعي من حقائق علمية.
• أن نعمم المنهج الوضعي فنجعل منه منهجًا كليًا عامًا يشمل جميع ظواهر الكون، وبذلك نحقق مبدأ "وحدة المعرفة الوضعية".
أما الوسيلة الأولى فلا يمكن تحقيقها عملياً لأن المنهجين متناقضان تمام التناقض وتقدم أحدهما يستلزم ضرورة هدم الآخر.
فهناك اختلاف كبير بين المنهج الوضعي الذى يقوم على الملاحظة وتقرير طبائع الأشياء كما هي كائنة ، وبين المنهج الميتافيزيقي الذى يقوم على التأمل النظري والبحث المطلق.
كذلك هناك اختلاف كبير بين المنهج الوضعي الذى يدرس الحقائق الجزئية
وعناصر الظواهر محاولاً الوصول إلى أسبابها المباشرة وبين المنهج الميتافيزيقي الذى يدرس الحقائق الكلية ويبحث في العلل الأولى.
وهناك اختلاف كبير بين المنهج الوضعي الذى يقوم على الإيمان بخضوع الظواهر لقوانين يمكن الكشف عنها وبين المذهب الميتافيزيقي الذى لا يؤمن بهذه الفكرة.
فالمنهج الأول نسبي والمنهج الثاني مطلق .
وغاية الأول كشف القوانين العلمية وغاية الثاني وضع مبادئ فلسفية لا سبيل إلى تصورها .
وغني عن البيان أن منهجين هذا شأنهما لا نستطيع التوفيق بينهما ، ولا يمكن اجتماعهما على صورة ما في أذهان الأفراد بدون إحداث اضطراب كبير في التفكير.
أما الوسيلة الثانية: وهى القضاء على الطريقة الوضعية وجعل الناس
يفهمون الظواهر في ضوء الطريقة الدينية والميتافيزيقية. فهذا الحل قد
يعيد إلينا الوحدة العقلية المنشودة .
ولكن هل يمكن تحقيقه عملياً؟
إن هذا الوضع الجديد يتطلب منا ضرورة القضاء على الحقائق الوضعية
التي حصلنا عليها وأن نعود بالإنسانية حيث الدور الثيولوجي
الميتافيزيقي.
ولكن كيف يمكننا أن ننكر على التاريخ تلك الانتصارات العلمية التي وصل إليها العقل الإنساني فى المرحلة الوضعية؟ هل نستطيع أن ننكر اختراع
الطباعة؟
وهل يمكننا أن ننكر أن كوبرنيك وجاليلو وديكارت وبيكون ونيوتن وغيرهم ممن اشتغلوا بالأبحاث الوضعية قد عاشوا ووصلوا إلى حقائق علمية وكان لهم تراث عقلي؟؟؟؟
الاتجاه الثالث: وهو أن نجعل التفكير الوضعي منهجا كليا عاما ونقضى على ما بقي من مظاهر التفكير الميتافيزيقي
وهذا الاتجاه غير ممكن إلا إذا فهم الأفراد ظواهر الاجتماع على الطريقة العلمية ماعدا ظواهر المجتمع والإنسان ، ولا يمكن أن نجعل الناس يفهمون ظواهر المجتمع على أساس المنهج الوضعي إلا إذا توافر شرطان:-
الشرط الأول: أن تكون هذه الظواهر خاضعة لقوانين ولا تسير وفق الأهواء والمصادفات.
الشرط الثاني: أن يستطيع الأفراد الوقوف على هذه القوانين لكي يفهموا الظواهر وفق ما ترسمه قوانينها من حدود وأوضاع.
بالنسبة للشرط الأول
فيرى "كونت" أنه متوفر في الظواهر الاجتماعية لأن المجتمع جزء من الطبيعة الكلية ، وجميع نواحي هذه الطبيعة قد خضعت لقوانين ثابتة.
وبالنسبة للشرط الثاني
وهو معرفة الناس لهذه القوانين فلا يمكن توفره إلا إذا كشف الباحثون عن هذه القوانين ، ولا يمكن الكشف عنها إلا إذا قام علم جديد وظيفة دراسة ظواهر الاجتماع دراسة علمية وصفية تحليلية أي دراسة وضعية.
باختصار: ثلاثة حلول يناقشه كونت للتخلص من حالة الاضطراب العقلي الناجم عن أسلوب التفكير في المجتمع :
1 - التوفيق بين أسلوب كل من التفكير الوضعي والتفكير البيولوجي وبين
الميتافيزيقي ( وجد كونت أن هذا أمر متناقض اساسا )
2- تعميم استخدام المنهاج اللاهوتي الميتافيزيقي وإهمال ونبذ نتائج التفكير الوضعي (وقد رفضه كونت لأنه ينفي جميع الانتصارات العلمية على يد غاليلو ونيوتن)
3 - تعميم التفكير بأسلوب المنهاج الوضعي في فهم جميع ظواهر الكون وتحقيق وحدة المعرفة الوضعية ( وهو الحل الأسمى برأيه لفهم ظواهر الاجتماع التي تخضع للقوانين )