
2015- 12- 18
|
 |
أكـاديـمـي نــشـط
|
|
|
|
محتوى النقد العربي القديم من تجميعي
التعريف بالنقد في اللغة والاصطلاح وابراز الصلة تعريف كلمة (نقد) في المعاجم العربية:
إن أي مصطلح ينبغي أن نعرف به في اللغة واصطلاح العلماء، وعندما نتناول النقد في اللغة فينبغي أن ننظر في المعاجم العربية فهي التي تعطينا الدلالة اللغوية لمصطلح ما، ونتجول هنا مع عدد من المعاجم العربية الشهيرة، ونتخير منها أربعة معاجم لعلماء مشهورين:
الأول: (مقاييس اللغة) لابن فارس.
الثاني: (أساس البلاغة) للزمخشري.الثالث:المصباح المنيرللفيومي.
الرابع: (لسان العرب) لابن منظور، ثم يكون لنا بعد التجوال تعليق واستنتاج؛ لنصل بالمصطلح من اللغة إلى الاصطلاح.
أولا : ابن فارس ومعجمه (مقاييس اللغة ):
إن ابن فارس يعد أول من أدار الجذور اللغوية -وخاصة الثلاثية- حول معنى واحد أو -كما يقول- أصل معنوي واحد، وقد وُفّق في ذلك توفيقًا كبيرًا، فنجح في ردجذور ثلاثية كثيرة إلى أصول معنويةعامة ولكنه لم يوفق في بعضها، فوجد لها أحيانًا أصلين معنويين، وأخرى وجد لها أكثر من ذلك فردها إلى ثلاثة أو إلى أربعة أصول؛ لكن الغالب الذي وفق فيه هو ردّه الجذور الثلاثية أغلبها إلى أصول معنوية عامة.
ومن هذه الجذور الجذر الذي معنا, وهو النون والقاف والدال؛ فقد رده إلى أصل معنوي عام أو إلى دلالة عامة وهي إبراز الشيء وبروزه.
يقول: "النون والقاف والدال أصلٌ صحيح يدل على إبراز شيء وبروزه، من ذلك: النَّقَد في الحافر وهو تقشره, حافر نَقِد: متقشر، والنقَد في الضرس: تكسره، وذلك يكون بتكشف لِيطِه عنه، ومن الباب: نقد الدرهم، وذلك أن يكشف عن حاله في جودته أو غير ذلك،
ودرهم نقْد: وازن جيد؛ كأنه قد كُشف عن حاله فعلم، ويقال للقنفذ: الأنقد، يقولون: بات فلان بليلة أنْقَد، إذا بات يسري ليله كله، وهو ذلك القياس؛ لأنه كان يسري حتى يسْرُو عنه الظلام. ويقولون: إن الشيْهَم -وهو من أصناف القنافذ- لا يرقد الليل كله. وتقول العرب: ما زال فلان ينقد الشيء؛ إذا لم يزل ينظر إليه،
ومما شذ عن الباب: النقَد، صغار الغنم، وبها يشبّه الصبي القَمِي الذي لا يكاد يَشِبّ" ...انتهى كلام ابن فارس.
ثانيا : الزمخشري في كتابه (أساس البلاغة ):
إن الزمخشري في أساسه يتميز بميزة انفرد بها عن كثير من أقرانه، لقد قسّم معاني ألفاظ جذوره أو ألفاظ الجذور اللغوية إلى قسمين:
الأول: قسم يحتوي على دلالات حقيقية.
الثاني: القسم الدلالي المجازي.
قال الزمخشري: "نقَدَه الثمن ونقده له فانتقد، ونقد النقاد الدراهم: ميز جيدها من رديئها، ونقْد جيد ونقود جياد وتُنوقِد الورِق -أي الفضة –“ ثم يواصل الزمخشري ألفاظ المادة فيقول: "وأسرى من أنقد وبات بليلة أنقد، والطائر ينقد الفخ: ينقره، ونقد الصبي الجوزة بإصبعه، ونقدت رأسه بإصبعي نقدة.
ثم يقول: ومن المجاز: هو من نُقَادة قومه؛ من خيارهم، ونقد الكلام ،وهو من نقدة الشعر ونقاده.
قوله: "ومن المجاز قولهم: هو من نقدة الشعر ونقاده، ومن المجاز قولهم: انتقد الشعر على قائله".
هنا ارتبط النقد بالشعر، وهو معنًى مجازي نص عليه الزمخشري، وإن كان هذا الارتباط لم يرد في كتاب (مقاييس اللغة) لابن فارس.
ثالثا: ( المصباح المنير)للفيومي:
إن الفيومي في مصباحه تميز بميزة تفرد بها عن كثير من أقرانه، حيث اعتنى بضبط أبنية الأفعال والأسماء ضبطًا صرفيًّا.
فعن النون والقاف والدال في (المصباح) نجد الآتي: “ نقدت الدراهم نقدًا من باب قتل، والفاعل ناقد، والجمع نقّاد مثل: كافر وكفّار، وانتقدت كذلك: إذا نظرتها لتعرف جيدها وزيفها،
ونقدت الرجل الدراهم بمعنى: أعطيته، فيتعدى إلى مفعولين، ونقدتها له على الزيادة أيضًا فانتقدها، أي: قبضها " ..انتهى
رابعا: ( لسان العرب ) لآبن منظور:
يقول ابن منظور:النقد: تمييز الدراهم وإعطاؤكها إنسانًا، وأخذها ، الانتقادوالنقد: مصدر نقدته دراهمه ونقدته الدراهم ،ونقدت له الدراهم، أي: أعطيته فانتقدها أي: قبضها، ونقدت الدراهم وانتقدتها؛ إذا أخرجت منها الزيف. وفي حديث أبي الدرداء أنه قال: "إن نقدت الناس نقدوك؛ وإن تركتهم تركوك“ معنى نقدتهم أي: عِبتهم واغتبتهم؛
قابلوك بمثله، وهو من قولهم: نقدت رأسه بإصبعي أي: ضربته، ونقدت الجوزة أنقدها ،إذا ضربتها، ونقدته الحية: لدغته، والنقد: تقشر في الحافر وتآكل في الأسنان، تقول : نقِد الحافر ونقِدتْ أسنانه ونقد الضرس والقرن نقَدًا، فهو نقِد: ائْتُكِل وتكسر. والنقد أكل الضرس، ويكون في القرن أيضًا.
التعريف الاصطلاحي للنقد الادبي :
إنه التقدير الصحيح لأي أثر فني، وبيان قيمته في ذاته ودرجته بالنسبة إلى سواه؛ إنه تقدير النص الأدبي تقديرًا صحيحًا, وبيان قيمته ودرجته الأدبية.
وإن النقد الأدبي يختص بالأدب وحده، وإن كانت طبيعة النقد واحدة أو تكاد، سواء أكان موضوعه أدبًا أم تصويرًا أم موسيقى.
ارتباط كل من النقد والأدب:
إن النقد الأدبي يرتبط بالأدب ارتباطًا قويًّا، والمعروف أن الأدب هو: هذه النصوص الخالدة التي يقرؤها الناسُ مرةً إثر مرة؛ فهو مجمل الكلام الجيد المروي سواء أكان نثرًا أم شعرًا، والنثر: هو الكلام البليغ الذي يجري مجرى السليقة، دون تقيد بوزن أو قافية أو بحر معين، والمعروف عند كثير من الباحثين أن النثر قد بدأ قبل الشعر، وإن رأى بعض الباحثين أن الحِكم والأمثال والأشعار تكاد ترجع إلى التواريخ المتقاربة.
والمعروف أيضًا أن الشعر إنما: هو الكلام الموزون المقفَّى المطرز بالإيحاء، وعناصرُه هي: الإيقاع، والوزن، والموسيقى، والنغم، والخيال، والصورة المُبْدِعة، والعاطفة المُجْنِحة.
والنقد قديم قدم الإنسان الذي خُلق نَزّاعًا إلى الكمال، ومن الناس من لديهم استعداد فطري للنقد، ولا بد لهذا الاستعداد الفطري من أن يُنمّى ويُصقل بالتربية، وهذا أمر اكتسابي يتطلب من الناقد الموهوب أن يكون على حظ كبير من العقل والذوق ورهافة الحس، بالإضافة إلى ثقافة متنوعة واطلاع واسع على الآداب.
إن الأدب أسبق إلى الوجود من النقد، وهذا يعني كما يقول كثير من علماء النقد: أن الشاعر الأول قد سبق إلى الوجود الناقد الأول، سواء كان نقده يقف عند تذوق الشعر فقط، أو يتجاوز ذلك إلى التعبير عن انطباعاته والتعليل لها. والأدب يتصل بالطبيعة اتصالًا مباشرًا، أما النقد فيرى هذه الطبيعة من خلال الأعمال الأدبية التي ينقدها.
وإذا كان الأدب ذاتيًّا من حيث إنه تعبير عما يحسه الأديب، وعما يجيش بصدره من فكرة أو خاطرة أوعاطفة نابعة من تجربته الشخصية أو من تجارب الآخرين، فإن النقد ذاتي موضوعي، أي: يجمع بين الذاتية والموضوعية، فهو ذاتي من حيث تأثره بثقافة الناقد وذوقه ومزاجه ووجهة نظره، وهو موضوعي من جهة أنه مقيد بنظريات وأصول علمية.
إذا كان الأدب يرتبط بالنقد ، فإن تاريخ الأدب يتصل بتاريخ النقد اتصالًا كبيرًا، وإن كان بينهما فرق واضح؛ فتاريخ آداب اللغة في كل أمة هو تاريخ عقول أبنائها، وما أنتجته قرائحهم من أدب وعلم، هو تاريخ المأثور من بليغ شعرها ونثرها، ومن أسباب الصعود والهبوط في مختلف العصور، مع الإلمام بصناع هذا التاريخ من حيث حياتهم وآثارهم الأدبية والعلمية، وتأثير بعضهم في بعض فكرًا وصناعة وأسلوبًا.
ولمؤرخي الأدب في عرض هذا التاريخ منهجان معروفان:
الأول: المنهج الزمني، الذي يعرض المؤرخ فيه لتاريخ الأمة الأدبي، على أساس تقسيمه إلى عصور زمنية، تتطابق مع عصور تاريخها السياسي، ثم يعرض بالبحث والتأريخ لنتاج الأمة العقلي في كل عصر على حدة.
الثاني: منهج يعالج المؤرخ من خلاله كل نوع من أنواع الأدب والعلوم.
أما تاريخ النقد الأدبي الذي هو جزء من تاريخ الأدب العام، فهو تاريخ التغيرات التي تطرأ من عصر إلى عصر على فهم الناس للأدب وتذوقه ويدخل في ذلك تاريخ النظريات والمذاهب النقدية المختلفة، وتاريخ رجال النقد ومناهجهم، وآثارهم العلمية التي أسهموا بها في نهضة النقد وإثرائه وتطويره.
إنه عرضٌ تاريخي للنقد الأدبي منذ نشأته، وتتبعٌ لحركاته مع الإلمام بالمؤثرات التي أثرت فيه، والتجارب التي مر بها، والقواعد أو المبادئ التي استنّها النقاد له، واتخذوا منها مقاييس لتقدير الأعمال الأدبية، والتمييز بين جيدها ورديئها.
وهكذا نخلص إلى ارتباط النقد بكل من الأدب وتاريخ الأدب، فإذا كانت وظيفة النقد الأدبي هي تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية والتعبيرية والشعورية، وتوضيح منزلته وآثاره في الأدب؛ فإن النقد يوجه ويثري الأدبَ ويُعلي من منزلته في الحياة.
نشأة النقدالأدبي ومعالمه في العصر الجاهلي:
إن الشعر أظهرُ فنون القول عند العرب وأشهرها وأسيرها ذكرًا، حتى عد العلماء هذا الشعر ديوان العرب، فكان الشعر فن العرب إذًا وصناعتهم المفضلة المحببة، حتى لو أن قائلًا قال: إن العرب لم يكن لهم صناعة أو فن غير هذا الشعر؛ لم يبعد عن الواقع كثيرًا، حتى أُثر عن عمر بن الخطاب أنه قال عن الشعر: "كان الشعر علم قوم, لم يكنلهم علم أصح منه".
ذلك الشعر الذي عمّ البيئة الجاهلية, وأصبح مظهرًا من مظاهر حيوية العرب ودليلًا على نشاطهم الفني في حياتهم البادية.
لقد جدّت عوامل أدت إلى نضوج الشعر في هذا العصر؛ فلقد تغلبت لهجة قريش على سائر اللهجات، وأصبحت لغة الشعراء من جميع القبائل.
والعامل الآخر يتصل باللغة؛ فلقد اهتدى العرب إلى تفاعيل وأعاريض كثيرة, نظموا بها أشعارهم.
والعامل الثالث يتصل بالمعاني؛ حيث ساعدت الأحداث السياسيةوالاجتماعية التي أخصبت الخيال، ومن هذه تلك الرحلات التي كانوا يقومون بها، ومنها الحروب التي دارت بينهم حتى شاع فن الهجاء للخصومة بينهم، ومنها تعدد الديانات التي ظهرت بينهم.
إن نظرة في شعر من شهدوا أخريات العصر الجاهلي -كامرئ القيس وعلقمة وعمرو بن كلثوم والنابغة وعنترة- ترينا أنه شعر عربي محض بلغ غاية الإتقان، وهذا الإتقان إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشعر الجاهلي, قد مر في تاريخ تطوره بضروب كثيرة من التهذيب، فبين طفولته ممثلة في البيتين والثلاثة من الرجز، إلىالقصيدة الطويلة المحكمة النسج، مر عصر طويل قام فيه النقد الأدبي بإصلاح الشعر وتقويم معوجه وتهذيبه؛ حتى وصل إلى ما نرى فيه من الصحة والجودة, والإحكام والإتقان، وهذا التهذيب هو النقد.
وإذا كان الناقد الأول قد ظهر إلى الوجود بعد الشاعر الأول، وإذا كانت أوليات الشعر العربي غير معروفة لنا؛ فإن أوليات النقد العربي تبعًا لذلك قد غابت عنا، ولما كانت معرفتنا بالشعر العربي المتقن المحكم ترجع إلى أواخر العصر الجاهلي؛ فإن تاريخ النقد المعروف يبدأ في ذلك العهد أيضًا، وأقدم النصوص التي تجلى فيها نقد الشعر الجاهلي تعزى إلى شعراء هذا العصر, الذين نهضوا بالشعر وارتقوا به.
انواع النقد وقيمته في العصر الجاهلي:
إن من يتتبع حركة النقد الأدبي في أخريات هذا العصر الجاهلي، يرى أن ميادين نشاطه كانت تتمثل في أسواق العرب، وفي المجالس الأدبية العامة، وفي ارتحال الشعراء إلى ملوك الحيرة والغساسنة.
معنى هذا: أن نواة النقد العربي الأول ما كانت إلا الأحاديث والأحكام والمآخذ، التي كانت تقال في الأسواق والمجالس الأدبية،وأفنية الملوك في الحيرة وغسان؛ إذ كان بعضهم ينقد بعضًا.
ففي كل هذه الأماكن والبيئات المختلفة، كان العرب يجتمعون ويتناشدون الأشعار ويتناقدون، فكان ذلك عاملًا اجتماعيًّا في ترقيق ألفاظ الشعر، وإحكام معانيه, وتهذيب حواشيه، ونهضة النقد المتصل به.
إن نواة النقد العربي الأول تظهر في هذه الملاحظات النقدية، التي رُويت في بعض ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي، ومن النظر في هذه الملاحظات يمكن القول بأن ملكة النقد عند الجاهليين كانت مبنية على الذوق الفطري، لا الفكر التحليلي؛ فهو نقد ذوقي غير مسبب، نقد يقف عند الجزئيات، فإذا ما انفعل بها الناقد اندفع إلى التعميم في الحكم، فجعل فلانًا أشعر الناس لبيت أو أبيات أو قصيدة واحدة قالها، فالأحكام في الغالب غير معللة.
وقد اتخذ النقد في هذا العصر صورًا متنوعة، وهذا بعضٌ من هذه الصور:
الصورة الأولى: تتناول اللفظ أو الصياغة، وهذا أمر يشير إلى عدم تمكن الشاعر في بعض الأحيان من دلالات الألفاظ؛ من ذلك ما يروى أن طرفة بن العبد سمع المُسيب بن عَلَس يقول:
وقد أتناسى الهمّ عند احتضاره *
بناجٍ عليه الصيْعَرِية مُقْدَم
وينسب هذا البيت إلى المُتلمس أيضًا، والمراد بقوله: ناجٍ: جمل سريع، ومعنى مقدم: صلب قوي، فقال له طرفة: "اسْتَنْوَق الجمل؟" أي: أنت كنت في صفة جمل، فلما قلت: الصيعرية عدت إلى ما توصف به النوق؛ لأن الصيعرية سمة حمراء تعلق في عنق الناقة خاصة. لقد نقل الشاعر لفظًا من صفات الناقة، وجعله صفة من صفات الجمل على غير المعهود عند العرب.
الصورة الثانية: تتناول الصورة الشعرية من حيث قدرة الشاعر أو عدم قدرته على أدائها؛ من ذلك خبر احتكام علقمة بن عبدة وامرئ القيس إلى امرأته أم جُنْدُب، في أيهما أشعر، وهذه القصة كانت سببًا في تسمية علقمة بالفحل؛ لأنه احتكم مع امرئ القيس إلى امرأته أم جندب لتحكم بينهما، فقالت: "قُولا شعرًا تصفان فيه الخيل, على رويّ واحد وقافية واحدة. فقال امرؤ القيس:
خليلي مرَّا بي على أم جندب * لنقضي حاجات الفؤاد المعذب
وقال علقمة:
ذهبت من الهجران في كل مذهب * ولم يكُ حقًّا كل هذا التجنب
ثم أنشداها جميعًا, فقالت لامرئ القيس: علقمة أشعر منك. قال: وكيف ذاك؟ قالت: لأنك قلت: فللسوط أُلهوب وللساق دِرة * وللزجر منه وقع أهوج مِنْعَب
تقول الرواية عن أم جندب :
إنها قالت لامرئ القيس: فجهدت فرسك بسوطك, ومرَيْتَهُ بساقك، أي: استخرجت ما عنده من الجري بساقك. وقال علقمة:
فأدركهن ثانيًا من عنانه *
يمر كمر الرائح المُتَحَلِّب الرائح أي: السحاب، والمتحلب: السائل عرقه. تقول أم جندب لامرئ القيس: فأدرك طريدته - أي: أدرك فرس علقمة طريدته - وهو ثانٍ من عنان فرسه، لم يضربه بسوط ولا مَرَاه بساق ولا زجره. قال امرؤ القيس لأم جندب: ما هو بأشعر مني, ولكنك له وامِقَة. فطلقها، فخلف عليها علقمة, فسمي بذلك الفحل".
القيم النقدية الجديدة ومقاييس النقد في عصر صدر الاسلام اولا : الرسول الكريم والشعر :
إن الحديث عن النقد في هذا العصر، يتطلب أن نوضح حالة النقد في عصر الرسول ثم في عصر الخلفاء الراشدين من بعده، وهذا العصر -عصر صدر الإسلام- يزيد قليلًا على نصف قرن، فنبدأ ببيان حالة الأدب والنقد في عصره وقد علمنا مدى ارتباط الأدب بالنقد ارتباطًا كبيرًا:
إن الرسول الكريم لم يرفض الشعر رفضًا مطلقًا، ولم يقبله قبولًا مطلقًا، وإنما ذم الشعر الذي يجافي روح الإسلام، ويبتعد عن الأخلاق النبيلة؛بينما يمدح من الشعر ما يغلب عليه روح التدين، يمدح من الشعر ما يدعو إلى فضائل الأخلاق وإلى مكارمها ؛ لذلك جاءت الآيات الكريمات في سورة الشعراء بما يظهر ذم الشعراء البعيدين عن روح الدين الجديد، ويمدح الشعراء الذين اعتنقوا مبادئه. يقول الله تعالى في سورة الشعراء
{ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} والملاحظ على الشعراء في عصره أن بعضهم آمن بدعوته، وانتصر للفضائل التي أتى بها ، وآمن بالله ربًّا وبمحمد نبيًّا ورسولًا.
وبطبيعة الحال فإن هذا الصنف من الشعراء كانوا من المناصرين لدعوته ، وهنالك فريق آخر من الغاوين؛ من الذين انضموا إلى المعاندين المشركين، وبطبيعة الحال فإن هذا الصنف كان شعره حقدًا على الدين الجديد، وعلى الداعي إليه
وما من شك في أن المعركة بين الصنفين –أي: بين شعراء المسلمين وشعراء المشركين- نهضت بالشعر نوع نهضة، وأظهرت بلا شك شعراء جددًا لم يكونوا معروفين، وإنما كانوا مغمورين، وبطبيعة الحال فإن فن الهجاء في هذا العصر كان باديًا ظاهرًا بجانب ضده وهو المدح؛ لذلك فإن شعر صدر الإسلام يكاد يكون محصورًا على هذين الفنين: الهجاء والمدح، بخلاف الشعر الجاهلي مثلًا الذي تنوعت أغراضه.
إذًا: الشعر في عهده حينما يقتصر على الهجاء والمدح، فإنه يكون قد قَل من ناحية الموضوع، وما من شك في أنه قَل أيضًا من ناحية الكم والكيف، وإن ظل جاهليًّا في صورته ومضمونه وروحه.
ونخلص من هذا إلى أن الشعر في عهده كان من أمضى الأسلحة في النيل من الأعداء، وبخاصة حين انتصر للدعوة فريق من الشعراء، في مقابل صنف آخر ما يزالون معاندين للدعوة ومناهضين لها، فبرز فنَّا الهجاء والمدح وتوارت بقية الأغراض.
ثانيا : حالة النقد في عصر الرسول :
هذا عن حال الأدب وبخاصة الشعر؛ فماذا عن حال النقد؟
لقد استمع الرسول إلى الشعر في مجلسه، والرسول - وهو أفصح العرب - كان يتذوق الكلام الجيد، ويخوض في حديث الشعر مع الوافدين عليه ممن أسلموا، كما كان يفضل منه ما كان يتناسب مع الدين الجديد، الذي حض على مكارم الأخلاق؛ ومن ثم لم يكن عجبًا أن يتحدث الناس في الشعر بمجلسه، وكان يُعجب بالشعر إعجاب أصحاب الذوق السليم،
ومما يؤكد هذا إنشاد النابغة الجَعْدِي رسول الله :
ولا خيرَ في حِلم إذا لم يكن له.... بوادر تحمي صفوَه أن يُكَدَّرا
ولا خير في جهْل إذا لم يكن له.... حليمٌ إذا ما أورد الأمرَ أصدرا
فاستحسن الرسول هذا الشعر، وقال له: ((أجدت، لا يَفْضُضِ اللهُ فاك)).
ومثال آخر: حينما أتاه كعب بن زهير وأنشده قصيدته "بانت سعاد“ فاستحسنها وبلغ من إعجابه بها أن صفح عن كعب، وخلع عليه بردته التي اشتراها منه معاوية، ثم توارثها الخلفاء من بعده وتبركوا بها، ولما بلغ كعب في قصيدته إلى قوله:
إن الرسولَ لنور يستضاء به ... مُهنَّد من سيوف الله مسلول
أشار الرسول إلى الناس أن يسمعوا شعر كعب بن زهير
ومما يؤيد استحسان الرسول لسماع الشعر، الداعي إلى الفضائل ومكارم الأخلاق؛ أنه كانت تحدث مساجلات ومحاكمات شعرية أمامه.
من ذلك ما يروى أن وفدًا من عرب بني تميم المعادين له، قدموا عليه ومعهم من شعرائهم: الزِّبرِقان بن بدر والأقرع بن حابس، ومن خطبائهم: عُطارد بن حاجب، ثم راحوا ينادونه من وراء الحجراتقائلين : يا محمد؛ اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك، فإن مدحنا زَين وذمنا شين؛ فرماهم الرسول بخطيبه ثابت بن قيس وشاعره حسان بن ثابت، فساجل ثابت عطاردًا خَطابَةً، وساجل حسان الزبرقان شعرًا، وردا عليهما ردًّا بليغًا مفحمًا، دفع الأقرعُ بن حابس لأن يقول: "والله إن هذا الرجل -أي الرسول - لمؤتًى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شعرائنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا"، ثم أسلم القوم جميعًا.
إذًا: استخدم الرسول سلاح الشعر من حسان, وسلاح الخطابة من ثابت في هذه المساجلة، وكانت نتيجتُها إسلامَ القوم جميعًا؛ فالرسول كان يستحسن من الشعر ما يناسب الأخلاق الكريمة، ويستهجن منه ما كان بعيدًا منه، فكان مقياس النقد إذًا مقياسًا دينيًّا، في مدى مطابقته للحق الذي جاء به أو عدم مطابقته، فما خالف الحقَ ذُم، وكان مستهجنًا، وما طابقه مُدح وكان مستحسنًا،
ومما يؤيد ما قلناه في هذا المقياس النقدي الديني: ما يروى أن قُتيلة بنت النضر بن الحارث بعد مقتل أبيها، عرضت للنبي- - وهو يطوف فاستوقفته، وجذبت رداءه حتى انكشف عن منكبه - - ثم أنشدته قصيدة، ويروى أن الرسول-- لما سمع شعرها؛ رق لها وقال: ((لو سمعت شعرها هذا قبل قتله؛ لمننت عليه)).
فالرسول تأثر بشعر قُتَيْلة إلى الحد الذي لو كان سمعه قبل مقتل أبيها لعفا عنه.
وقد كان حسان بن ثابت الشاعر المفضّل لرسول الله -- حيث كان يقدمه ويفضله على معاصريه من شعراء المسلمين، وقد بنى له وحده منبرًا في المسجد ينشد عليه الشعراءُ، كما كان ينتدبه دون غيره لهجاء قريش والمشركين، فقد روي أنه قال لحسان: ((اهجُ قريشًا ومعك روح القدس))، كما روي عنه قوله: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَه، خير له من أن يمتلئ شعرًاهجيت به) كما روي أنه - - قال: ((أَمرتُ عبد الله بن رواحة =
فقال وأحسن، وأمرت حسان بن ثابت فشفى واشتفى). ويروى أيضًا عن الشعبي قال: "لما كان عام الأحزاب، وردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرًا، قال النبي- -: ((من يحمي أعراض المسلمين؟)) فقال كعب بن مالك: أنا يا رسول الله، وقال عبد الله بن رواحة: أنا يا رسول الله، وقال حسان بن ثابت: أنا يا رسول الله، فقال: ((نعم اهجُهم أنت؛ فإنه سيعينك عليهم روح القدس))".
إن مقياس النقد في هذه الفترة النبوية مقياس ديني خلقي، فما جاء موافقًا للحق والهَدْي النبوي والنور السماوي استُحسن وقُبل، وما كان بخلاف ذلك استُهجن ورُفض، وإن ظل متأثرًا أيضًا نوع تأثير بالحال في الجاهلية؛ حيث ظل نقدًا فطريًّا مجردًا عن التعليل، نقدًا يفاضل بين الشعراء ويحكم لشاعر على آخر أو على آخرين دون ذكر للأسباب أو للعلل،
تلك كانت حالة النقد الأدبي في عصر النبوة أو الوحي.
|