2015- 12- 18
|
#2
|
أكـاديـمـي نــشـط
|
رد: محتوى النقد العربي القديم من تجميعي
النقد الأدبي في عهد الخلفاء الراشدين عوامل قللت من دواعي الشعر في هذا العصر :
لقد قَلَّ الشعر في عصر الخلفاء الراشدين، وهنالك عوامل قللت من دواعي الشعر، منها: وقف المساجلات الشعرية التي شبَّت في عصرالرسول بين شعراء المشركين من قريش وشعراء الإسلام، فوقْف هذه المساجلات من عوامل قلة الشعر في عصر الخلفاء.
ومن العوامل أيضًا: اشتراك كثير من الشعراء في الفتوحات الإسلامية، ففضلوا الجهاد في سبيل الله فانصرفوا إليها، وليس معنى ذلك أن الشعراء الذين خرجوا للجهاد في سبيل الله ونشر دينه، لم ينفعلوا بالأحداث التي واكبت هذه الفتوحات، ولم يتأثروا بالمشاهد الجديدة التي حدثت في هذه الآونة، فلقد اهتزت شاعريتهم بلا شك، وانطلقوا يفخرون بشجاعتهم ويتباهون بالنصر, ويصفون المعارك وآلات القتال... إلخ.
ضعف النقد في هذا العصر
لكن الروح الدينية في هذا الشعر الذي تطالعنا به كتب الفتوح والمغازي ضعيفةُ النقد، مع أن مواقف الجهاد في سبيل الله كانت كفيلةً بأن تضفي عليهم روحانيته، وأن تثير وجدانهم الديني، وتُطلق على ألسنتهم شعرًا يُشرق بنور العقيدة والإيمان، كما قَل شعر الهجاء حتى كاد أن ينعدم، وسبب هذا أن الخلفاء كانوا يحذّرون منه لمنافاته تعاليمَ الإسلام، وكان عمرُ أشدَهم وطأة على شعراء الهجاء.وأسهم الخلفاء الراشدون في الكلام عن الشعر ونقده، وإن ظل عمر أرجحَهم كفة في ذلك، لكنهم جميعًا متأثرون برأي الرسول - - في أن أحسن الشعر ما وافق الحق.
أبوبكر وعمر وموقفهما من الشعر والنقد
ونبدأ بأبي بكر -الذي قدم النابغة، وقال فيه: "هو أحسنهم شعرًا، وأعذبهم بحرًا، وأبعدهم قعرًا". فهو يفضل إذًا بين النابغة وغيره من الشعراء، ثم يحكم له بهذا الحكم من حيث المعاني، وقد علل لحكمه بأن النابغة في نظره يستقي معانيه من معين عذب سائغ.
أما عمربن الخطاب فقد ظل أرجحَهم كفة في الكلام عن الشعر ونقده، فقد كان أعلم الناس بالشعر، وكان ذا بصرنافذ فيه، يحب الاستماع إليه . وكانت معرفته بالحياة العربية معرفة دقيقة شاملة، كما كان-أيضا- راوية للشعر، جيد الاستحضار له، ويتأثر بالرسول- - في الانتصار للشعر الداعي إلى الفضيلة، فمنهجه يلتقي مع منهج رسول الله --أو هو امتداد له في نقد الكلام والحكم عليه.
وفي حياة عمر مواقف كثيرة، تؤكد أن أقواله المأثورة كانت تنبع من تجربته الشخصية الخالصة، ومن قيمه الإنسانية ومعرفته بأثر الشعر وفاعليته في النفوس الكريمة، ومن ذلك مايلي :
1- تأثرعمر بشعر الحطيئة وعفا عنه، وأطلق سراحه من أجل أبنائه، فيذكر أن يزيد بن أسلم روى عن أبيه قوله: "أرسل عمر إلى الحطيئة وأنا جالس عنده، وقد كلمه فيه عمرو بن العاص وغيره، فأخرجه من السجن فأنشده قوله:
ماذا تقول لأفراخ بذي مَرَخٍ .... زُغْب الحواصل لا ماء ولا شجر؟
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
فبكى عمر حين قال الحطيئة: ماذا تقول لأفراخ بذي مَرَخٍ...؟ فقال عمرو بن العاص: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة".
2- كما رَوى ابن سلام أن الشاعر سُحَيْمًا عبد بني الحَسْحَاس, أنشد عمر بن الخطاب قوله:
عميرة ودِّع إن تجهزْتَ غاديا ........ كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال عمر: "لو قلت شعرك كله مثل هذا لأعطيتك عليه". والمعروف أن سحيمًا شاعر مخضرم من أصل حبشي، كان ينطق الحاء هاء والشين سينًا، وورد أن عمر قال له:"لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، فقال سحيم: ماسعرت يريد: ما شعرت، جعل الشين سينًا.
3- كما روي أيضًا أن رجلًا أنشد عمر قول طرفة:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ........ وجدِّك لم أحفل متى قام عُوَّدِي
فقال عمر: "لولا أن أسير في سبيل الله, وأضع جبهتي لله، وأجالس أقوامًا ينتقون أطايب الحديث كما ينتقون أطايب التمر -لم أبالِ أن أكون قد مِتّ".
فالخصال الثلاث التي يحبها طرفة ويعيش من أجلها، ولا يبالي الموت إذا تحققت له، قد فصلها في معلقته في الأبيات التالية للبيت السابق، وهي: مباكرته الشراب قبل انتباه العواذل، وإغاثة المستغيث, والتمتع بالنساء.
4- وقد كان زهير شاعر عمر المفضل، وذلك يرجع إلى ما يمتاز به شعره من جودة وإتقان، ويرجع كذلك إلى الصوت الذي كان ينبعث من خلاله، داعيًا إلى السلام والوئام في مجتمع قبلي جاهلي، وتتجاوب فيه كل أصوات الشعر إشادة بالحرب.
5- كما كان النابغة في رأي عمر أشعرَ غطفان، فلقد تحدث مرة مع وفد غطفان وقد نزل ببابه فقال: "يا معشر غطفان، أي شعرائكم الذي يقول:حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ....... وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلِّغت عني خيانة ........ لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولستَ بمستبق أخًا لا تلمه ........... على شعث أي الرجال المهذب؟
قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين. قال: فأيكم الذي يقول:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ..... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
خطاطيف حُجْن في حبال متينة
تمد بها أيد إليك نوازع؟
أي: أنت في قدرتك عليَّ كخطاطيف عُقْف يمد بها، وأنا كدلو تمد بتلك الخطاطيف.
قالوا: النابغة. قال: فأيكم الذي يقول:
إلى ابن مُحَرِّق أعملتُ نفسي ...... وراحلتي وقد هَدَت العيون
أتيتك عاريًا خَلَقًا ثيابي ..... على خوف تُظن بي الظنون
فألفيتُ الأمانة لم تخنها ..... كذلك كان نوح لا يخون؟
قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين. قال: هذا أشعر شعرائكم".
6- روي أن الزبرقان بن بدر أتى عمر بالحطيئة، وقال له: "إنه هجاني، قال عمر: وما قال لك؟ قال: قال لي:
دع المكارم لا ترحلْ لبغيتها ....... واقعد؛ فإنك أنت الطاعم الكاسي
فقال له عمر الذي يقف هنا موقف القاضي، لا موقف الأديبِ العليم بالشعر: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة! فقال الزبرقان: أوما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس، فاستدعى عمر حسانًا وسأله فقال: لم يهجُه ، ولكنه سَلَح عليه،
أي: هجاه وأفحش في هجائه، ولم يكن عمر يجهل موضع الهجاء في هذا البيت، ولكنه كره أن يتعرض لشأنه، فبعث إلى شاعر مثله ويقال: إنه سأل لبيدًا عن ذلك فقال: ما يسرني أن لحقني من هذا الشعر ما لحقه، وإن لي حمر النعم". وقد أخذ عمر القاضي في هذه القضية بشهادة حسان ولبيد، على أن البيت مؤلم فأمر بحبس الحطيئة وقال: "يا خبيث؛ لأشغلنك عن أعراض المسلمين”.
مقاييس النقد في عهد الخلفاء الراشدين تنمية القيم النقدية في عهد الخلفاء الراشدين
إن عمر بن الخطاب > كان يخشى أن ينال الهاجي من أخلاق المهجو ومروءته وعرضه؛ خوفًا من أن يقع في القذف الذي حرمه الإسلام، ونؤكد هذا المبدأ الخلقي بذكر نموذج آخر: فقد كان بنو العَجْلان -وهم رهط الشاعر ابن مُقْبِل- يفخرون بهذا الاسم، لقصة كانت لصاحبه في تعجيل قِرَى الأضياف، إلى أن هجاهم النجاشي الشاعر، فضجروا منه فاسْتَعْدَوا عليه عمر وقالوا: "يا أمير المؤمنين؛ إنه هجانا فقال: وما قال فيكم؟ فأنشدوه:
إذا الله عادى أهل لؤم ورِقة ....... فعادى بني عجلان رهط ابن مقبل
فقال عمر: إنه دعا عليكم ولعله لا يجاب، وفي رواية أخرى أن عمر قال: هذا رجل دعا، فإن كان مظلومًا استجيب له وإن لم يكن مظلومًا لم يستجب له، قالوا: فإنه قال أيضا:
قبيلة لا يغدرون بذمة .... ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر: "ليتني من هؤلاء” قالوا:
فإنه قد قال بعد هذا: ولا يرِدون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوُرّاد عن كل منهل
فقال عمر: "ذلك أقلّ للّسِكَاك" أي: الزحام. قالوا: فإنه قال بعد هذا:تعاف الكلاب الضاريات لحومهم
وتأكل من كعب بن عوف ونهشل فقال عمر: "كفى ضياعًا بمن تأكل الكلاب لحمه"، قالوا: فإنه يقول بعد هذا:
وما سمي العجلان إلا لقولهم ...... خذ القَعْب واحلب أيها العبد واعجلِ
فقال عمر: "سيد القوم خادمهم، وكلنا عبيد الله، ما أرى بهذا بأسًا "، فقالوا: "يا أمير المؤمنين هجانا، فقال عمر: ما أسمع ذلك، فسأل حسان بن ثابت، فقال: ما هجاهم ولكنه سلح عليهم، أي: هجاهم هجاء مرًّا، فسجن عمر النجاشي، وقيل: إن عمرهدد النجاشي وقال له: إن عدت قطعتُ لسانك.
فعمر أراد أن يدرأ الحدود بالشبهات، فقد كان أبصر الناس بما قال النجاشي، ولكنه مِن تجاهل العارف، وروى الجاحظ تعليق العائشي على موقف عمر من الهجاء والهجائين فقال: "كان عمر بن الخطاب أعلم الناس بالشعر، ولكنه كان إذا ابتلي بالحكم بين النجاشي والعجلاني، وبين الحطيئة والزبرقان؛ كره أن يتعرض للشعراء، واستشهد للفريقين رجالًا مثل حسان بن ثابت وغيره، مما تهون عليه سِبَالهم،[أي خصومتهم] فإذا سمع كلامهم حكم بما يعلم.
وكان الذي ظهر من حكم ذلك الشاعر مقنعًا للفريقين، ويكون هو قد تخلص بعرضه سليمًا، فلما رآه من لا علم له يسأل هذا وهذا، ظن أن ذلك لجهله بما يعرف غيره.
وعمر في موقفه هذا ينتهج نهج الرسول- - ويقتفي أثره، فما وافق الحق من الشعر فمقبول ومستحسن، وما لم يوافق الحق فمرفوض ومستهجن.
وعمر بوصف كونه الناقد الأول في هذا العصر، نراه يستحسن شعر زهير وينظر فيه ويستمع إليه ويعجب به، وينقده نقدًا معللًا:
1- فقد روى أبو الفرج الأصفهاني عن ابن عباس قوله: خرجت مع عمر في أول غزوة غزاها، فقال لي ذات ليلة: يابن عباس، أنشدني لشاعر الشعراء. قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ابن أبي سلمى
قلت: وبم صار ذلك؟قال: لأنه لا يتبع حوشي الكلام، ولا يُعَاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون فيه،
أليس الذي يقول:
فلو كان حمد يخلد الناس لم يمت ..... ولكن حمد الناس ليس بمخلدِ؟
أنشدني له, فأنشدته حتى برق الفجر فقال: حسبك، الآن اقرأ القرآن، قلت: وما أقرأ؟ قال: اقرأ الواقعة، فقرأتها ونزل فأذن وصلى".
فهذا النقد يتناول شعر زهير من ناحية الألفاظ، وكذلك من ناحية المعاني، فحينما رأى أنه لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاظل في المنطق، فإنما يكون قد نقده من ناحية الألفاظ، وحينما قال: "لا يقول إلا ما يعرف، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون فيه"؛ فإنما يكون قد نقده من ناحية المعاني، فالصفات أو الخصائص التي تميزت بها صياغة زهير اللفظية عند عمر هي: تجنبه حوشي الكلام، وتجنبه المعاظلة، فحوشي الكلامووحشيه هو الذي لا يتكرر في كلام العرب كثيرًا، وهو الغريب المستهجن من الألفاظ، والذي يخلّ بفصاحة الكلام، وابن أبي سلمى براء من هذا.
لقد استحسن عمر شعر زهير، وفضله على سائر الشعراء لهذه الأسباب الفنية التي بنى عليها حكمه؛ فزهير بذوقه الأدبي يتخير ألفاظه وينتقيها، وينأى بشعره عن التعقيد اللفظي الذي يؤدي بدوره إلى التعقيد المعنوي.
2- ومن القيم النقدية عند عمر > أنه كان يردد التقسيم الذي يأتي في شعر الشعراء، مما يدل على ذوقه الأدبي، ويرى في هذا التقسيم مبدأ من مبادئ النقد، وهو أن يصدر الشاعر عن علم وتجربة، رأى هذا في شعر كل من زهير، وعبدة بن الطبيب ، وأبي قيس بن الأسلت.
أما بالنسبة لزهير فقد أنشدوا عمر شعرًا له، فلما انتهوا إلى قوله:
وإن الحق مقطعه ثلاث: يمين أو نِفار أو جِلاء
النفار: أن يتنافروا إلى حاكم يحكم بينهم، والجلاء: البينة والشهود. قال عمر كالمتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها، وإقامته أقسامها:
وإن الحق مقطعه ثلاث ....... يمين أو نِفار أو جِلاء
يردد البيت من التعجب، ولقد عد علماء البلاغة هذا التقسيم فنًّا من فنون البديع حيث يُقصد به استيفاء المتكلم أقسام المعنى .
*أما عثمان بن عفان ؛ فقد استحسن شعر زهير لما يتجلى فيه من الصدق، فقد استمع إلى قوله:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ...... وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ
فقال عثمان: "أحسن زهير وصدق، لو أن رجلًا دخل بيتًا في جوف بيت لتحدث به الناس. قال: وقال النبي : (لاتعمل عملًا تكره أن يُتحدث عنك به)". فمقياس استحسان عثمان شعر زهير هو مقياس الصدق في القول، وهو مقياسإسلامي نبوي، يُظهر عثمان متأثرًا فيه برأي الرسول المستمد من تعاليم الإسلام .
* أما الخليفة الرابع الامام علي بن أبي طالب فقد كانت له كلمة نقدية تكشف عن ذوقه الأدبي، وتعبر عن رأيه في السابق من الشعراء المتقدمين، حيث توقف عن إصدار حكمه بالمفاضلة بين الشعراء، إلا إذا اتحدت أغراضهم وتشابهت ظروفهم، وعُرف السابق واللاحق وتميز الإمام من المؤتم به.
لقد حُكي عنه أنه قال: "لو أن الشعراء المتقدمين ضمهم زمان واحد، ونُصبت لهم راية فجَرَوا معًا؛ علمنا من السابق منهم، وإذا لم يكن ، فالذي لم يقل لرغبة ولا لرهبة، فقيل: ومن هو؟ فقال: الكِندي. قيل: ولم؟ قال: لأني رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة“، ومنها يتضح أن الإمام لا يجري مع النقاد الذين يُصدرون أحكامًا نقدية غير معللة، ويقفون عند القول بأن هذا أو ذاك هو أشعر العرب، أو أشعر الناس؛ وإنماأساس الحكم عنده هو الموازنة بين الشعراء لمعرفة السابق منهم.
فإذا لم تتحقق الموازنة بين الشعراء على النحو الذي رآه، فالسابق منهم في نظره هو الذي لم يقل الشعر لرغبة أو رهبة ومعنى ذلك أن الشاعر الذي ينبعث إلى القول بدافع الرغبة أو الرهبة – في نظر الإمام- قد ينزلق إلى الكذب تحقيقًا لرغبته أيًّا كانت، أو درءًا لخطر متوقع يخشاه، فالشاعر المقدَّم عنده هو من تجرد عن الهوى والخوف.
وهنا نرى أن الامام علي – عليه السلام - أيضًا متأثر بالمقياس النبوي، هذا المقياس القائم على أساس أن ما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه.
هذا هو موقف الخلفاء الراشدين من النقد الأدبي ومدى إسهامهم في حركته.
تعدد بيئات النقد وطوائف النقاد في العصر الأموي العصر الأول : نهوض النقد وتعدد بيئاته في العصر الأموي
إن العصر الأموي يبدأ بسنة إحدى وأربعين من الهجرة وذلك بخلافة معاوية، وينتهي بتغلب العباسيين على الأمويين سنة اثنتين وثلاثين ومائة من الهجرة، وقد جدّت عوامل نهضت بالأدب والنقد بصفة عامة في هذا العصر؛ فقد ظهرت الأحزاب وشاعت روح العصبية القبلية البغيضة التي نهى عنها الإسلام، فكما نعلم أن الإسلام قضى على روح العصبية البغيضة منذ أن بعث الرسول -عليه الصلاة والسلام-وظلت هذه الروح بغيضة إلى عهد الشيخين أبي بكر وعمر، فقد قُضي عليها في هذه الآونة، حيث أُخذت الأمور بالعدل والحزم، وانشغل المسلمون بأهداف كبرى هي نشر الدين في أرجاء المعمورة، ثم بدأت روح العصبية القبلية تنمو رويدًا رويدًا بعد عهد الشيخين، وعندما وَلي عثمان بن عفان الخلافة استعان بأهل بيته، فحكموا الناس بعصبيتهم الأموية لا بقوميتهم العربية؛ مما أغضب نفوس العرب، وأدى إلى تحرك الفتنة الكبرى التي انتهت بمقتل عثمان.
ثم بدأ التحزب يظهر بصورة كبيرة عندما نشأ الخلاف بين المسلمين على الخلافة، وتطور إلى حرب بين معاوية والإمام علي ،حيث قُتل الإمام، فانقسم العرب أحزابًا وشيعًا.
ففي الشام حزب يشايع الأمويين، وفي الحجاز حزب يؤيد عبد الله بن الزبير وفي العراق حزب يشايع العلويين، ويعمل لاسترداد حقهم في خلافة الرسول -عليه الصلاة والسلام - ثم هنالك أحزاب متعددة متباينة الآراء والمفاهيم ، لدرجة أنبعضهم يكفر بعضا .
وقد استطاع معاوية أن يثبت ملكه، وقد اصطنع مع معارضيه سياسة الدهاء والعطاء والإغضاء والحزم، حتى استقرله الأمر طوال خلافته إلا من جهة الخوارج.
كما اشتدت المعارضة في خلافة عبد الملك بن مروان، وكثر المطالبون بالخلافة، كما امتد سلطان العرب في هذه الآونة، وزاد دخل الدولة، واختلط كثير من المسلمين العرب بأجناس شتى من الناس.
وما كان للشعر أن يقف بعيدًا عن كل ما ذكرنا، فقد كان لسان الأحزاب، حيث كان لكلّ حزبٍ شعراؤه الذين يناضلون عنه ويعبرون عن آرائه، وقد استمال الأمويون كثيرًا من الشعراء بالمال والعطاء، وأشعلوا بينهم روح المنافسة والهجاء، حتى أصبح الشعر في هذا العصر صناعة يتكسب بها بعض الشعراء؛ لذلك نهض الشعر ونما في هذا العصر، مع ملاحظة أن الشعر لم يكن سياسيًّا كله، أو جدلًا دينيًّا كلهوإنما وجد أيضًا شعراء يُبدعون شعرًا غنائيًّا عاطفيًّا, له جماله وقيمته الأدبية. والنقد يساير الأدب نهوضًا وصعودًا كما يسايره انحطاطًا وضعفًا، ونظرًا لنهضة الأدب في هذه الآونة، فإن النقد سايره في النهوض والقوة أيضًا في بيئات نما فيها الأدب والنقد معًا، هذه البيئات هي الحجاز وباديتها، ثم العراق والشام، ونظرًا لأن الأدب لم يزدهر في بيئات أخرى- كفارس واليمن ومصر والمغرب والأندلس- فإن النقد سايره أيضًا فلم يزدهر فيها.
النقد في بيئة الحجاز ، وأثر ابن أبي عتيق فيه .
لقد تغيرت الحياة في الحجاز في هذا العصر، ومن مظاهر هذا التغير انتقال الخلافة إلى الشام، كما انتقلت المعارضة أيضًا إلى العراق، ومكث أبناء الهاشميين فيه مشغولين بالمال والعطايا عن الملك، فقد عمل الأمويون على شغل شباب الحجاز بمظاهر الترف والثراء، وأبعدوهم عن السياسة، وشجعوا مجالس اللهو والطرب وقد لقي هذا هوى في نفوس الحجازيين ساعتئذ؛ لما فيهم من رقة الطبع ورهافة الحس، وسرعة الاستجابة والتأثر.
وقد ترتب على وجود مجالس اللهو شيوع الغزل الإباحي في مدن الحجاز، كما شاع أيضًا الغزل العفيف بين شعراء بادية الحجاز، من أمثال جميل ومجنون ليلى وذي الرُّمة، وفي الوقت الذي شاع فيه الغزل ضعف فيه الفخر والحماسة، وكاد يختفي الهجاء أيضًا لاختفاء كثير من مثيراته، كما قَل المدح في البيئة الحجازية؛ لأن أغلب شعراء الحجاز في هذا العصر كانوا في رغد من العيش، فلم يكونوا بحاجة إلى التكسب بشعرهم.
أما الغزل فقد صار لونًا جديدًا، افتتن المجتمع الحجازي به على اختلاف طبقاته وكان أول من حمل لواء هذا اللون الشعري في الحجاز عمر بن أبي ربيعة، ثم سار على دربه كثيرون غيره من شعراء مكة والمدينة، من أمثال العَرْجِي وأبي دَهْبَل ،والحارث بن خالد المخزومي، وعبيد الله بن قيس الرُّقَيات والأحوص، ونُصَيْب بن رَباح، وقيس بن ذُرَيْح.
وأكبر شخصية ناقدة ظهرت في بيئة الحجاز في العصر الأموي، هي شخصية ابن أبي عتيق وهو عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بن أبي قحافة، وقد اتسم نقده بروح الدعابة، فضلا عن ذوق مرهف وحس رقيق، وقد جمعت صداقة بين ابن أبي عتيق وعمر بن أبي ربيعة، وهذه الصداقة لم تمنع ابن أبي عتيق من أن ينقد عمر بن أبي ربيعة نقدًا منزهًا عن الهوى.
لقد كان نقد ابن أبي عتيق لعمر ولغيره أيضًا نقدًا نزيهًا بنّاء، يهدف من ورائه إلى التصحيح والتوجيه؛ مما كان لآرائه النقدية أثر ملحوظ في رقي النقد في هذه الفترة. وهذه الصورة نلمح من خلالها أن نقد ابن أبي عتيق جاء نقدًا معللًا, محدِّدًا خصائص الفن وسماته، مفاضلًا بين الشعراء مبيِّنًا خصائص الألفاظ والمعاني، كل هذا بروح الفكاهة التي كان يتميز بها، حيث وازن بين عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد.
فقد ذُكر شعر كل منهما عند ابن أبي عتيق، في مجلس رجل من ولد خالد بن العاص ابن هشام، فقال المتحدث: "صاحبنا –أي: الحارث بن خالد- أشعرهما، فقال له ابن أبي عتيق: بعض قولك ياابن أخي، لشعر عمر بن أبي ربيعة نَوْطَة في القلب وعُلُوق بالنفس ودَرْك للحاجة، وما عُصي الله -جل وعز- بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة، فخذ عني ما أصف لك، أشعر قريش من دق معناه ولطف مدخله، وسَهُل مخرجه ومَتُن حَشْوهوتعطفت حواشيه، وأنارت معانيه, وأعرب عن حاجته، فقال المفضّل للحارث: أليس صاحبنا الذي يقول:
إني وما نحروا غداة مِنى ........ عند الجمار يئودها العقلُ
لو بدلت أعلى مساكنها ........ سُفلًا وأصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بها ........ فيرده الإقواء والمَحْلُ
لعرفت معناها لما احتملت ........ مني الضلوع لأهلها قبْلُ
فقال له ابن أبي عتيق: يابن أخي، استر على نفسك واكتم على صاحبك، ولا تشاهد المحافل بمثل هذا، أما تطيَّر الحارث عليها حين قلَبَ رَبْعها فجعل عاليه سافله؟ ما بقي إلا أن يسأل الله تعالى لها حجارة من سجيل، إن ابن أبي ربيعة كان أحسن صحبة للربع من صاحبك، وأجمل مخاطبة حيث يقول:
سائِلا الرَّبْع بالبُلَي وقولا: هجتَ شوقًا لي الغداة طويلا
أين حي حلّوكَ إذ أنت محفو ...... ف بهم آهل أراك جميلا؟
قال: ساروا وأمعنوا فاستقلوا ..... وبرغمي لو استطعت سبيلا
سئمونا وما سئمنا مقامًا ...... وأَحَبّوا دَماثة وسهولا
. قال: فانصرف الرجل خَجِلًا مذعنًا". فهذا النص يشير إلى سمات نقدية معللة، تتصل بالألفاظ والمعاني والمفاضلة.
كما يشير أيضًا إلى أن المقياس النبوي الذي سار عليه نقاد الصدر الأول في الإسلام - وخاصة عمر- قد اهتز في هذه البيئة الحجازية في عهد الأمويين؛ إذ يقول ابن أبي عتيق: "وما عصي الله - جل وعز- بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة". وإذا تجاوزنا نقد ابن أبي عتيق لعمر بن أبي ربيعة إلى نقد غيره من الشعراء، نجد أن ابن أبي عتيق عد غموض المعنى عيبًا في الشعر، حين نقد عبيد الله بن قيس الرقيات في بيته الذي يقول فيه:
تَقَدَّتْ بي الشهباء نحو ابن جعفر ....... سواء عليها ليلها ونهارها
معنى تقدت: أي: سارت سيرًا ليس يعجل ولا يبطئ. قالوا: إن ابن قيس الرقيات مر به فسلم عليه، فقال له ابن أبي عتيق: "عليك السلام يا فارس العمياء، فقال له: ما هذا الاسم الحادث يا أبا محمد - بأبي أنت؟! قال: أنت سميت نفسك حيث تقول: سواء عليها ليلها ونهارها، فما يستوي الليل والنهار إلا على عمياء. قال: إنما عنيت التعب. قال: فبيتك هذا يحتاج إلى ترجمان يترجم عنه".
من طوائف النقاد في الحجاز في العصر الأموي أثر النسوة النقاد في حركة النقد في الحجاز
لقد ظهرت مجموعة من النسوة اللائي أثرين حركة النقد في الحجاز في هذا العصر الأموي، نذكر منهن: السيدةَ سكينة، وعقيلة بنت عقيل بن أبي طالب، وعائشة بنت طلحة.
أولًا: السيدة سكينة:
إنها سُكينة بنت الحسين بن علي -رضي الله عن الجميع- المتوفاة سنة سبع عشرة ومائة من الهجرة، واسمها آمنة أو أمينة، أما سكينة فلقبها.وهي زوجة مصعب بن الزبير، وقد منحها الله تعالى فصاحة اللسان وأدب الحديث، وتميزت بجمال الخلق، ومجالسها الأدبية كانت مقصدَ الشعراء وأهل الأدب من كل مكان؛ فكانت سيدة نساء عصرها، كما عرفت بذوقها الأدبي ونقد الشعراء، وكان الشعراء والأدباء ورواة الشعر يتحاكمون إليها، وتُجيز ما تراه حسنًا من أشعار الشعراء.
بعض ما يروَى من مجلسها:
يروى أنها وقفت على شعر لعروة بن أذينة، وكان من أعيان الأدباء والعلماء والصالحين وله أشعار جيدة، فقالت له: "أنت القائل:
إذا وجدتُ أوار الحب في كبدي ........ ذهبت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ........ فمن لنار على الأحشاء تتقد؟
فقال لها: نعم، فقالت له: وأنتَ القائل:قالت وأبثثتها حبي وبحتُ به: قد كنتَ عندي تحب الستر فاستترِ
ألست تُبصر مَن حولي؟ فقلت لها: غطي هواكِ وما ألَقى على بصري؟
قال: نعم، فالتفتت إلى جَوارٍ كنَّ حولها، وقالت: هن حرائر إن كان خرج هذا من قلب سليم".
ونموذج آخر يبين تذوقها الأدبي والنقدي، حيث دخل عليها كُثير عَزة ذاتَ مرة، فقالت له: "أخبرني عن قولك في عزة:
وَما رَوضَةٌ بِالحَزنِ طَيِّبَة الثَّرَى ...... يَمُجُّ النَّدى جَثجاثُها وَعَرارُها
بأطيبَ من أردان عزة موهنًا ...... وقد أُوقدت بالمندل الرطب نارُها
الجثجاث: نبات سهل يموت في الربيع، إذا أحس بالصيف جَفَّ، والعرار: نبت طيب الريح، والأردان: جمع ردن وهو
كُمّ الثوب، والموهن: بعد ساعة من الليل، أو نحو من نصفه، أو حين يدبر، والمندل: العود الطيب الرائحة يُتبخر به.
فقالت له: ويحك! وهل على الأرض زنجية منتنة الإبطين توقِد بالمندل الرطب نارها إلا طابَ ريحُها؟ أَلا قلتَ كما قال عمُك امرؤ القيس:
ألم ترياني كلما جئتُ طارقًا ...... وجدتُ بها طيبًا وإن لم تطيب؟"
فمن هذه الروايات وغيرها نرى أن سكينة كانت تسمع الشعر وتستحسن ما تراه منه جيدًا، وتنقد ما تراه أهلًا للنقد، وهذا يدل على مجموعة من الأمور:
الأول: الحياة الأدبية والنقدية في تلك الفترة بلغت درجةً عاليةً من الرقي والازدهار، فقد شاركت فيها أديبات العصر ومنهن سكينة.
الثاني: لنقد المرأة طبيعة خاصة، فهي ترضى عن الشعر الذي يرفع شأنَ المرأة، ويعلي قدرها، ويبرز جمال عفتها، وطهرها، وحياءها.
الثالث: أن النقد كان يشمل الشكل والمضمون، ويتناول العاطفة، مما يؤكد أن الصدق الشعري مبدأ من مبادئ النقد لدى هؤلاء النسوة الناقدات.
الرابع: أن النقد في هذه البيئة الحجازية بصفة خاصة يركّز حول شعر الغزل؛ لأن شعر الغزل في هذه البيئة الحجازية ساد على غيره من أغراض الشعر الأخرى، وكان مثارَ اهتمام الذوق الحجازي العام.
وقد اتضح أن سكينة ذات خبرة بالأدب .
ثانيًا: عقيلة بنت عقيل بن أبي طالب:
روى أنها كانت تجلس للناس، فَبَيْنَا هي جالسة إذ قيل لها: العذري جَميل بالباب؟ فقالت: "ائذنوا له، فدخل، فقالت: أأنتَ القائل:فلو تركتْ عقلي معي ما بكيتُها ..... ولكن طِلابها لِمَا فات من عقلي؟
قالت: إنما تطلبها عند ذهاب عقلك، لولا أبياتٌ بلغتني عنك ما أذِنتُ لكَ، وهي:
علقت الهوى منها وليدًا فلم يزَلْ ... إلى اليوم يَنْمي حبُها ويزيد ...إلخ الأبيات.
فمن هذا وذاك دليلٌ على شيوع الذوق الأدبي الرفيع في هذه البيئة الحجازية في العصر الأموي، وتنقّل ملَكة النقد من النقاد، وتجاوزه من الرجال إلى النساء من أمثال سكينة وعقيلة.
ثالثًا: عائشة بنت طلحة:
وهي من اللائي تذوقْنَ الشعر، وكان والدها من أثرياء الحجاز وكذا العراق، وكان ثراؤه حديث الناس، كما كان جوده محل تقدير وإعجاب، ووالدة عائشة هي أم كلثوم بنت أبي بكر . وكانت عائشة على قَدْرٍ عالٍ من العِفة والطُّهرة، وقد أثّرت البيئة الحجازية فيها تأثيرًا كبيرًا، وكذا حياتُها التي تميزت بالثراء والترف، وكانت تجالس الأدباء والشعراء والخطباء، ومجالسها في الأدب والنقد نالت اهتمام الرواة والمؤرخين؛ نظرًا لتمتعها بموهبة واسعة في العلم، والمعرفة بالأدب، والأخبار، والأنساب .
-مر بها الشاعر النميري فقالت: "ائتوني به، فلما حضَر قالت له: أَنْشِدني مما قلتَ في زينب -وهي زينب بنت يوسف أختالحجاج بن يوسف الثقفي- فامتنع وقال: ابنة عمي، وقد صارت عظامًا باليةً، قالت: أقسمتُ لَمَا فعلتَ، فأنشدها قوله:
نزلنَ بفخ ثم رحن عشيةً ........ يلبين للرحمن معتمرات
يخبئن أطراف الأُكف من التقى ..... ويخرجن شطرَ الليل معتجرات
ولما رأت ركبَ النميري أعرضت ...... وكن مِن أن يلقينه حذرات
فلما أنشدها هذه الأبيات قالت له: والله ما قلتَ إلا جميلًا، ولا وصفت إلا كرمًا وطِيبًا وتقًى ودينًا، أعطوه ألف درهم".
من هذا يتضح أنها استجادت هذا الشعرَ الذي يُفصح عن معانٍ استحسنتها، فهذه العبارات تفصح عن الرضا والارتياح من عائشة؛ لنجاح الشاعر النُّميري، وتوفيقه في تصويره لمشاعره نحو محبوبته.
وإذا أردنا الاستزادة من الناقدات في هذه البيئة الحجازية، فإننا نسوق روايةً لمحبوبة جميل بن معمر، وهي بُثينة.
حيث قالت لعمر بن أبي ربيعة: "والله يا عمر، لا أكون من نسائك اللاتي يزعمنَ أن قد قتلهن الوجدُ بك. فذكَّرها بأبيات قالها جميل لها:
وهُمَا قالتَا: لو انَّ جميلًا ...... عرض اليومَ نظرةً فرآنا
بينما ذاك منهما وإذا بي .... أعمل النص سيرة زفيانا
نظرتْ نحو تِربها ثم قالت: قد أتانا وما علمنا منانا
قوله في البيت الثاني: "أعمل النص" أي: السير الشديد الذي يُستخرج فيه أقصى ما لدى الناقة من السير. وقوله في البيت نفسه: "زفيانا" الزفيان: شدة هبوب الريح، و"سيرة زفيانا" أي: سيرةً سريعةً
فقالت بثينة لعمر بن أبي ربيعة, لما أسمعها قولَ جميل: إنه استملى منك فما أفلح، وقد قيل: اربط الحمار مع الفرس، فإن لم يتعلم من جريه تعلم من خلقه".فهي بهذه الكلمة تشير إلى تأثر جميل بطريقة عمر في الحوار القصصي، وعجزه عن بلوغ مستواه في ذلك، مما يدل على أن الشعراء يُؤخذ عليهم أحيانًا تقليد بعضهم بعضًا في الأسلوب الشعري، أو الطريقة الفنية التي عرف بها.
أثر الشعراء في النقد في البيئة الحجازية :
لقد استمع الشعراء إلى أشعار بعضهم، ونقد بعضهم بعضًا، فلقد مدح عمرَ بنَ أبي ربيعة نُصيبُ، والفرزدقُ، وجريرُ، وجميلُ؛ فلقد سمِع الفرزدق شيئًا من تشبيب عمر، فقال: "هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته، وبكت الديار، ووقع هذا عليه". ففي رواية: أن الفرزدق سمع عمرَ يُنشد قولَه:
جرَى ناصح بالود بيني وبينها
فقربني يومَ الحصاب إلى قتلي
أراد بـ"يوم الحصاب" يوم رمي الجمارفي مَوْسم الحج في مِنًى.
ولما بلغ قوله:فقمنا وقد أفهمنا ذا اللب أننا ...... أتينا الذي يأتينا من ذاك من أجلي
صاح الفرزدق قائلًا: "هذا والله الذي أرادته الشعراء فأخطأته, وبكت على الديار". فالفرزدق يرى أن عمر بن أبي ربيعة زعيم الغزل على الإطلاق، وفي رأيه أن أي شاعر آخر لا يستطيع أن يرقى إلى مستواه في النسيب.
الخصائص النقدية في هذه البيئة الحجازية .
أولًا: أن الشعراء قد نقد بعضهم بعضًا، ولعل أوفاهم نصيبًا من ذلك عمر بن أبي ربيعة، فقد أقر له معاصروه بالتقدم في الغزل شكلًا وموضوعًا واتجاهًا.
ثانيًا: أن أحكامَهم في جملتها أتت غير معللة، وهذا يذكرنا بأحكام نقاد العصر الجاهلي وكذا عصر صدر الإسلام،
ثالثًا: أن هؤلاء النقاد فطنوا إلى دور العاطفة في الشعر والنقد، وأثرها في قيمة الشعر والحكم عليه، فأجمل الشعر وأجوده في نظرهم ما عبر بصدق عن عاطفةصاحبه، وأثر كذلك في عواطف سامعيه.
رابعًا: أن مقياس النقد في هذا العصر قد تحول نوعَ تحولٍ؛ حيث حاول ابن أبي عتيق أن يتخذ من إباحية عمرَ في غزله مقياسًا جديدًا يقيس به الشعر، ويفاضل به بين شعر وآخر، على أساس أن هذا اللونَ من الشعر هو الذي يمثل ذوقَ مجتمعه المترف. ونرى آخرين من النقاد أعربوا عن تخوفهم من هذا الشعر الذي يغري بالمعاصي، ويرفضون اتخاذه مقياسًا للنقد،
خامسًا: أنه قد ظهرت في صور النقد في هذه البيئة وفي هذه الفترة بعض الأحكام المعللة؛ حيث حَكَم ابنُ أبي عتيق لعمر بن أبي ربيعة بأنه أشعر شعراء قريش؛ لدقة المعنى، ولطف المدخل، وسهولة المخرج، ومتانة الحشو.
سادسًا: ظهور بعض الموازنات الشعرية، ولكن الأحكام بالتفضيل كانت في جملتها غير معينة.كما بان أن تشبيب عمر بن أبي ربيعة بنفسه عُدّ مأخذًا من المآخذ التي رآها الشعراء في شعره، ورأوا فيها نوعًا من الانحراف ينافي الطبيعةَ التي تحكم العَلاقةَ العاطفية بين الرجل والمرأة.
كما أظهرتْ بعضُ الملاحظات النقدية عن ظهور السرقات الشعرية، أو أخذ بعض الشعراء عن بعض.
|
|
|
|