المحاضرة الرابعة
المقاربة السوسيولوجية للثقافة
لا تنفصل هذه المقاربة عما تعرضنا له في السياق الأنثروبولوجي للثقافة ، وان كانت تعبر عن خصوصية آخذة في التبلور والوضوح علي الصعيد النظري والتطبيقي .
إن الثقافة كمفهوم سوسيولوجي تشمل كل ما في البعد الأدبي والتراثي والمسرحي والفني ، كما تشمل البعد الأنثروبولوجي الذي يطال الأدب والفن كما يطال حقل التعابير التي نطلق عليها عادة صفة اجتماعية والتي تميز جماعة بشرية معينة ، كالتقاليد والعادات والاحتفالات علي أنواعها ومسالك التعبير وتقاليد الطبخ وأشكال اللباس فضلا عن التصورات والأساطير والمعتقدات .
وقد قام العديد من السوسيولوجيين قبل ذلك بتفتيت الكليات الكبرى للثقافة الي وحدات أطلق عليها السمات الثقافية ، فأسلوب تبادل التحية بين الأفراد وسلوكيات الفرح أو الحزن بأبعادها وسماتها المادية واللامادية علي سبيل المثال هي الطريقة التي يمكن من خلالها تحليل الثقافة السائدة في مجتمع ما .
أولا – التأصيل بين النمط والنظام
يوجد داخل الأنماط الثقافية بعض التشابهات وهذا ما يطلق عليه الأنماط العامة للثقافة . وكان بعض السوسيولوجيين ومن أبرزهم رالف لنتون يري أن حاجات الفرد هي دوافع السلوك الأساسية ، ولذلك فهي الدوافع المسئولة عن تفاعل المجتمع والثقافة . وهو يوسع مفهوم الحاجات ليشمل الحاجات النفسية فضلا عن البيولوجية .ومع ذلك يحددها لنتون بثلاثة عناصر أساسية صالحة لتفسير السلوك البشري وهي :
1 - الحاجة الي الاستجابة العاطفية .
2 – الحاجة الي الخبرة الجديدة .
3 – الحاجة الي الأمن .
ومع ذلك فان أشكال السلوك المختلفة لا يمكن تفسيرها علي أساس الحاجات الدافعة وحدها ، فهذه الحاجات مجرد قوي ومحركات ودوافع . والسلوك المعبر عنها يتشكل بعدد لا نهاية له من العوامل الأخرى في المحيط الذي يحيا فيه الإنسان .
ويعمق مالينوفسكي هذا الاتجاه موكدا أن الحاجات الأساسية للفرد وإشباعها ترتبط ارتباطا وثيقا باشتقاق حاجات ثقافية جديدة ، وان هذه الحاجات الجديدة لا تتم إلا بإنشاء بيئة جديدة ، بيئة ثانوية أو اصطناعية . وهذه البيئة هي الثقافة بعينها لا أكثر ولا أقل .
هذه المقاربة الوظيفية تتضمن فكرة التنظيم ، ذلك أنه لا بد من تعاون بين الناس والمجموعات لإشباع الحاجات وهذا ينطبق علي كل الجماعات في كل الثقافات . ويسمي مالينوفسكي وحدة التنظيم الإنساني ” النظام الاجتماعي“ والذي يعني به الاتفاق علي مجموعة من القيم التقليدية تجمع الناس وتنظم حياتهم وعلاقاتهم مع بعضهم ومع بيئاتهم الطبيعية منها والصناعية .
وقد تنشأ النظم الاجتماعية تلقائيا أو عن قصد لتأمين الرغبات الأساسية والحاجات الأولية الضرورية فضلا عن أنها تمد الأفراد بالأصول والقواعد والمبادئ العامة التي يجب أن تقوم عليها معاملاتهم وهناك عدة تعريفات للنظم الاجتماعية ، ولكنها بشكل عام ليست إلا نماذج منظمة للسلوك توجه سلوك الأفراد ومواقفهم .
للنظم الاجتماعية أهمية كبري ، فهي التي تعمل علي تشكيل سلوك الأفراد والجماعات وتضعه في قوالب ونماذج تسهل الاتصال والتفاعل ، وبالتالي فهي تؤثر في أفكارهم ومعلوماتهم ومهارتهم وخبراتهم ودوافعهم وقيمهم واتجاهاتهم لأنها تحملهم علي تكييف سلوكياتهم وفقا لمقتضياتها . وهي تنقل الي الفرد التراث الثقافي وتطبعه بالطابع المميز الخاص بالمجتمع الذي يعيش فيه .
يعتبر اميل دوركايم النظم الاجتماعية ذات خاصية إلزامية وإجبارية ، أي أنها تفرض نفسها علي الأفراد وتجبرهم علي طاعتها . ونظريته في هذا المجال تقوم علي أساس التمييز بين ما يسميه :
- التصورات الفردية : وأساسها المشاعر الناتجة عن تفاعل كثير من خلايا المخ ، وما ينتج عن هذا التفاعل من مركب ذي صفات خاصة به ، والمشاعر الناتجة تمتزج لتكون الصور وهي بدورها تمتزج لتكون التصورات الفردية .
- التصورات الجمعية: وهي تنتج عن طريق مزج الضمائر الفردية واتحادها في النهاية .
ويري دوركايم أن التصورات الجمعية هي أعظم شكل للحياة النفسية .
يكتسب الفرد الأنماط الثقافية المناسبة أثناء عملية التنشئة الاجتماعية بدءا باساليب السلوك المتنوعة وصولا الي الأنشطة الجماعية . ويمكن القول ان لكل مجتمع أو طبقة أو جماعة أنماطا ثقافية تتشكل في أنساق متكاملة وتعمل كنماذج تفرض نفسها علي الأفراد بما يضمن حد أدني من التماثل في السلوك .
قد يكون النموذج الثقافي عموميا وشائعا في المجتمع كل ، كما قد يكون خاصا بقطاع معين من المجتمع ، وفي هذه الحالة يسمي ثقافة فرعية . فطرق تناول الطعام بدءا بالمجتمع الغربي المدني وانتهاء بالمجتمع البدوي أو الريفي تعبر عن أنماط ونماذج ثقافية ، كما أن طرق التعبير عن الفرح أو الحزن والاحتفالات وطقوس العبادات تعبر أيضا عن أنماط ونماذج ثقافية تختلف باختلاف المجتمعات .
ان تحليل شكل الثقافة ومحتواها في مجتمع ما مهما بدأ عليها من تجانس وبساطة ، ينطوي علي كثير من الصعوبات التي تفرض تحليل السمات الثقافة وما يندرج تحتها من خصوصيات حتي يمكن فهم الثقافة في وحدتها وتكامل أجزائها.
ثانيا – استمرارية الأنساق الاجتماعية والثقافية وتفاعلها
إذا كان دوركايم واضحا في رؤيته للمجتمع بصفته مصدر لتشكيل الفرد وقولبته كيفما شاء ضمن أطره الثقافية ، فان الفرد هو ركيزة الحياة الاجتماعية عند ماكس فيبر فهو يشكل المجتمع بإرادته الواعية . وقد قدم بارسونز مفاهيم تحليلية متقدمة تضمنت نظرية عامة عن المجتمع لا تبرز الرأسمالية بقدر ما تقدم تفسيرا وفهما لصعوبات الرأسمالية دون أن تدينها . لقد رأي بارسونز الحياة الاجتماعية من خلال أفكار البشر وبخاصة من خلال معاييرهم وقيمهم .
نظر بارسونز في كتابه ” بنية الفعل الاجتماعي“ الي البشر علي اعتبار أنهم يقومون بالاختيار أو المفاضلة بين أهداف مختلفة ووسائل تحقيق هذه الأهداف ووفق هذه الخلاصة – النموذج- هناك أولا الإنسان الفاعل وثانيا نطاق الأهداف التي لا بد أن يختار من بينها الفاعل وهناك ثالثا الوسائل الممكنة لبلوغ تلك الغايات .
تتكون وحدة الفعل الصغرى إذن من ”الفاعل“ والوسائل والغايات والبيئة التي تضم أشياء اجتماعية ومادية فضلا عن المعايير والقيم . ويتكون ”نسق الفعل“ عند بارسونز من العلاقات القائمة بين الفاعلين وهذا النسق يركز علي معايير وقيم تشكل مع الفاعلين الآخرين جزءا من بيئة الفعل .ويخلص بارسونز الي إن أي نسق ، وعلي أي مستوي يجب أن يفي بأربعة متطلبات إذا كان يريد البقاء وهي كما يلي :
1 – وظيفة التكيف : ان كل نسق لا بد أن يتكيف مع بيئته .
2 – وظيفة تحقيق الهدف : لا بد له من أدوات يحرك بها مصادره ليحقق أهدافه .
3 – وظيفة الاندماج والتكامل : عليه أن يحافظ علي التواؤم والانسجام مع مكوناته .
4 – وظيفة ثبات المعايير : وقوامها أن تؤكد قيم المجتمع وأن تضمن أنها معروفة من قبل الأعضاء ، وان ثمة حافزا لهؤلاء كي يقبلوا هذه القيم وان يخضعوا لمتطلباتها.
إن نقطة الانطلاق في التحليل البارسوني هي ” الفعل ” أي السلوك الإنساني الفردي أو الجمعي ، لذلك يشدد علي إن موقع الفعل يتحدد دائما في أربعة سياقات هي :
1- السياق الأيديولوجي بحاجاته ومتطلباته الفيزيولوجية والعصبية .
2 – السياق النفسي والذي يتدرج في اختصاص علم النفس وإطار الشخصية .
3 – السياق الاجتماعي بتفاعلاته بين الإفراد والجماعات .وهو من اختصاص علم الاجتماع
4 – السياق الثقافي وهو يتمثل بالمعايير والنماذج والقيم والإيديولوجيات والمعرف وهو السياق الذي درسته الأنثروبولوجيا بداية .
في التحليل البارسونزي نظر الي الأنساق الاجتماعية والثقافية والي الأدوار بوصفها نتيجة للفعل الاجتماعي أو العكس ، إلا إن ” التفاعلية الرمزية ” لم تقم بهذه النقلة ، بل ظلت مع الفعل الاجتماعي . أنها تري البني الاجتماعية ضمنا باعتبارها بني للأدوار بطريقة بارسونز نفسها ، إلا إنها لا تشغل نفسها بالتحليل علي مستوي الأنساق . أنها تبقي اهتماماتها علي مستوي ” وحدة الفعل الصغرى“ ولا تهتم بقضية الاختيار بين سلم المفاضلات قدر اهتمامها بقضية تشكيل المعاني . والمؤسس الفكري لهذا الاتجاه هو جورج ميد ، وهو اتجاه تجاذبته أكثر من تيار إلا إن هربرت بلومر أوجز فرضيات التفاعلية علي الشكل التالي :
1 – إن البشر يتصرفون حيال الأشياء علي أساس ما تعنيه تلك الأشياء لهم .
2 – هذه المعاني هي نتاج للتفاعل الاجتماعي في المجتمع الإنساني .
3 – وهذه المعاني تحور وتعدل ويتم تداولها عبر عملية تأويل يستخدمها كل فرد في تعامله مع الإشارات التي يواجهها.
هذه الفرضيات الثلاثة تركز علي ” الرمز الدال ” وهو ما يفرق الإنسان عن الحيوان . فاللغة كرمز دال هي المعني المشترك ، وهو يتطور في سياق عملية التفاعل الاجتماعي الذي يولد المعاني ، والمعاني بدورها تشكل عالمنا .
تبقي التفاعلية الرمزية مقربة معرفية في دراسة الشخصية ويظل اهتمامها مركزا علي دراسة التفكير وعملياته .
.
.
سبحان الله وبحمده .. سبحان الله العظيم
