المحاضرة العاشرة
العولمة وإشكالية الهيمنة
مقدمة :
منذ تسعينات القرن العشرين شهد العالم فيضا من الكتابات عن العولمة ، وهي أصبحت بفضل ذلك الاهتمام الواسع الإطار المرجعي لجميع الدراسات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية . ومع ذلك يبدو من الصعوبة بمكان طرح تعريف جامع مانع لهذه الظاهرة المركبة ، فهناك اختلاف بين الباحثين حول هذا المفهوم وفقا لتخصص كل باحث ، فالاقتصادي يقدم مقاربة عن العولمة يركز فيها علي المستجدات الاقتصادية وحركة تراكم رأس المال علي الصعيد العالمي ، تختلف عن قراءة السياسي الذي يقرأها من زاوية تأثير المتغيرات العالمية والتكنولوجية في الدولة التي يتقلص أمامها العالم يوما بعد يوم . والسوسيولوجي يرصدها كما تتزامن مع قضايا ذات بعد عالمي كالانفجار السكاني والتلوث البيئي والفقر والمخدرات وازدحام المدن وبروز المجتمع المدني . والثقافة تقارب العولمة من زاوية انفتاح الفضاء الثقافي وتهديد الخصوصية والهوية القومية وهيمنة الثقافة الاستهلاكية وتهديدها للقيم المحلية . لذلك فان أي تعريف يقدم للعولمة يعكس الإطار المرجعي لحقل الاختصاص الذي أنتجه .
علي المستوي العربي قدمت العديد من الأبحاث والمؤلفات التي تعلل أبعاد ظاهرة العولمة ، منها ما قدمه إسماعيل صبري عبد الله الذي أعتبر العولمة مرحلة وصل إليها قانون الرأسمالية نحو المزيد من تمركز رأس المال والسيطرة والقوة الاقتصادية ، باعتماد إيديولوجية السوق والليبرالية . أما صادق جلال العظم فيري أن العولمة مازالت قيد التشكيل , ما يعني أنها موضع سجال واجتهادات متباينة . وفي رأيه أن ما يميز العولمة علي الصعيد الاقتصادي الرأسمالي أنها نقلت العالم من دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة علي نطاق عالمي الي مرحلة أخري يجري فيها الإنتاج والاستثمار في مجتمعات الأطراف.
أولا – مقترب اقتصادي للعولمة
أكثر ما يتبادر الي الذهن عند الحديث عن العولمة هو الاقتصاد ، نظرا الي الترابط العميق بينهما من جهة ونظرا الي التجليات الاقتصادية الأكثر وضوحا ومن جهة أخري . إن النظام الاقتصادي العلمي اليوم هو نظام واحد تحكمه أسس عالمية الطابع وتديره مؤسسات وشركات عالمية ذات تأثير في كل الاقتصاديات المحلية .
وأبرز الأدوات التي فعلت العولمة الاقتصادية تتمثل أولا بالدور المتزايد للشركات العابرة للحدود والمتعددة الجنسيات التي ليس لها مقر أو وطن ، والقائمة علي دمج شركات عملاقة تنسج تحالفات عابرة للقارات متنوعة في نشاطاتها واستثماراتها . وتتمثل ثانيا بالدور المتصاعد لمنظمة التجارة العالمية منذ عام 1996م والتي تضم أكثر من مائة وأربعين دولة تعهدت بخفض الرسوم الجمركية علي التجارة الخارجية وإزالة ما يعيق تدق السلع والخدمات والمنتجات بيسر وسهولة فيما بينها . أما الأداة الثالثة للعولمة الاقتصادية فتتمثل في بروز دور البنك الدولي وصندوق النقد العالمي الذي أتاح بقوة قيام أسواق مالية عابرة للحدود بحيث تجاوزت هذه الأسواق عاملي المكان والزمان.
تكتسب العولمة الاقتصادية اليوم فعاليتها وحيويتها من الاستقطاب الأحادي للنموذج الرأسمالي الذي حقق أبرز نجاحاته بعد سقوط النموذج الاشتراكي بحيث أصبح العالم أسيرا لمنطق السوق والخصخصة وتحرير الاقتصاد والاندماج وإعادة الهيكلة ، وبخاصة بعد اندفاع الدول الاشتراكية السابقة الي الالتحاق بهذا النموذج الذي يتجه أكثر فأكثر نحو تكوين صورته النموذجية علي الصعيد النظري والتطبيقي ، التي يعد فيها بأنه سيجلب الرفاهية والنمو لسكان هذا الكوكب .
لقد أصبحت بلدان الهامش تعاني أكثر فأكثر من الديون المتراكمة ، وحين تفشل مشروعاتها غير المدروسة ، تجد نفسها في حاجة الي مزيد من المساعدات المشروطة وبهذا أصبح المركز هو المسيطر والمتحكم ليس فقط بموارد الهامش بل بحقه في إعادة تنظيم حياته ، وهذا ما دفع تقرير التنمية البشرية لعام 1992م الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الي التحذير من إن تقدم العولمة أصبح يهدد البلدان النامية في فقدان قوتها وسيطرتها علي اقتصادها .
ثانيا – مقترب سياسي للعولمة
كانت السياسة أحد أبرز الاختصاصات للدولة القومية ، لكنها اليوم بفعل العولمة وتداعياتها تتعرض لمنافسة شديدة من لاعبين يزدادون عددا وفعالية في المسرح الدولي مثال: الشركات متعددة الجنسيات، جماعات الضغط العالمية،وسائل الإعلام والاتصال، الرأي العام ، المنظمات غير الحكومية، المؤسسات الدينية ...
لقد أصبح ارتباط السياسة بالمجال المحلي للدولة القومية بعيدا عن التدخلات الخارجية أقل فاعلية وتأثيرا بفعل الاتجاه المتزايد نحو ” عالم بلا حدود“ الأمر الذي فتح الباب واسعا لإعادة النظر بمفهوم السيادة ، فالدولة الوطنية القومية هي نقيض العولمة .
إن الانتقال الحر للسلع والخدمات والأفكار والمعلومات عبر المجتمعات والقارات والذي أدي بلا شك الي تقليص مفهوم السيادة المطلقة ، ربما ساهم بتعميم انطباع بان الدولة فقدت دورها وأهميتها ، إلا إن هذا لن يؤدي علي الأقل في المدى المنظور ، كما يذهب بعض المتحمسين للعولمة الي وضع نهاية للدولة انسجاما مع مقولة النهايات التي روج لها ” فوكوياما“ .
لقد أنهت العولمة تقريبا مقولة إن السياسة محلية أو قومية فقط ، لقد أصبحت تأثيراتها أكثر انتشارا وتدفقا ، كما أنها تنتقل بأقل قدر ممكن من القيود . وهذا يعني أن السياسة تتجه نحو عالم بلا حدود سياسية ،كما هو واقع الأمر علي مستوي النظام الاقتصادي العالمي الذي قضي علي خصوصية السوق القومية .
أصابت التداعيات المصاحبة للعولمة مفهوم السياسة بحيث برزت معها رزمة من المفاهيم الجديدة أكدت حضورها بفعل التغيرات الهائلة التي اجتاحت عالم اليوم الذي أصبح أكثر اهتماما بحقوق الإنسان وحرياته السياسية والمدنية وأكثر انجذابا للنموذج الليبرالي بعدما تراجعت أو سقطت النماذج البديلة أو المنافسة .
إلا إن ابرز الانتقادات الموجهة الي الديمقراطية في ظل العولمة اليوم كونها ديمقراطية خاضعة للسوق ، ومن الوهم الاعتقاد إن النظامين متكاملان ، فالعديد من مفكري الغرب نفسه يرون أنهما متناقضين، فالسوق مثلا لا يحتاج الي حدود بينما تتطلب الديمقراطية ذلك .
ثالثا – الثقافة والعولمة والتقانة
إذا كان الباب الاقتصادي والسياسي قد فتح أمام العولمة ، فأنه من الطبيعي أن يصبح المجال الثقافي بكل إبعاده مجالا خصبا لتداعياتها . لقد كانت العوامل العسكرية والاقتصادية القائمة علي استعمال القوة المادية هي الحاسمة في إخضاع الآخرين وفرض شروط المنتصرين عليهم ، لكننا نشهد اليوم تحولا جذريا في أدوات وتقنيات إدارة الصراع سببه التطور الذي نشهده في ميدان إنتاج المعرف والأفكار والرموز والقيم ، أي إن ميدان الثقافة انتقل من كونه عاملا مساعدا ليصبح من أبرز حقول الصراع المعاصرة وما الحديث عن صدام الحضارات الذي أشار إليه ” هانتجتون“ إلا دليل علي المكانة التي أخذ يتبوؤها هذا الرأسمال الرمزي الممثل بالثقافة – الحضارة.
مما لاشك فيه إن الفواصل تتجه نحو التآكل وتصبح تدريجيا أقل حدة في المجالات والحقول التي تتقدم فيها العولمة، وبخاصة في مجالات الاقتصاد والسياسة ثم في وقائع الثقافة والقيم . إن ما يزيد من فعالية الثقافة المعولمة هو تراجع معدلات القراءة حيث أصبح التليفزيون والانترنت منافسين جديدين للمؤسسة التربوية ، علاوة علي إن التبادل الثقافي الحالي هو تبادل غير متكافئ بين ثقافات متقدمة تمتلك إمكانيات واسعة وثقافات تقليدية ، وبذلك يكون الحاصل غزوا وتبعية ثقافية .
يمثل التحالف بين الثقافة والتقانة ذروة القدرات التي تقدمها العولمة في الحقل الثقافي ، فهي تمكنت فعليا من اختراق الحدود الثقافية انطلاقا من مراكز صناعة وترويج النماذج الثقافية ذات الطابع الغربي ، وألغت بالتالي إمكانيات التثاقف كخيار يعني الانفتاح الطوعي علي المنظومات الثقافية المختلفة عبر آليات التأثر والتأثير والتفاعل المتبادل لصالح الاستباحة الكاملة للفضاء الثقافي الذي يعزز قيم الغالب ويؤدي الي تبعية المغلوب وبالتالي لا تترك أمامه من خيارات خارج حدود الانعزال أو الذوبان سوي هوامش محدودة في مواجهة تكنولوجيا الإخضاع .إن العولمة تحاول أن تفرض علي الشعوب إيديولوجيا تحاول من خلالها أن تجعلها تابعة للغرب مما يبعدها عن ثقافتها الخاصة لقد غدت الشركات المتنافسة علي السوق لا تبيع المنتجات بل الرموز ، بحيث لم تعد المنافسة قائمة علي أساس نوعية البضاعة وجودتها بل أضحت المسألة فيما يتعلق
بالحرب التجارية علي مستوي الكرة الأرضية مرتبطة بالصورة والانتماء الرمزي .لقد أصبح الشباب في كثير من دول العالم الثالث يقتنون الأحذية الأمريكية ويرتادون مطاعم ” ماكدونالد“ بغض النظر عن السعر فهذا يمنحهم الشعور بالانتماء الي الغرب ، وهم بذلك يعبرون أمام الأقرباء والغرباء عن اندماجهم وهميا ضمن جماعة أو فئة أرقي من فئات مجتمعاتهم .وهكذا يصبح اقتناء البضاعة انتماءا وهميا لهويات رمزية تفوق علي القيمة بحد ذاتها .
ونظرا الي الأهمية التي تتبؤاها ثقافة الصورة والبث المتلفز ، فان المشروع الثقافي الغربي قد أصبح يجذب الانتباه عبر تكنولوجيا الإثارة والتشويق. لقد بات التليفزيون المؤسسة الثقافية الأفعل في عالم اليوم وتراجعت أمامه مراكز البحث والجامعات ودور النشر والصحف وكل الترسانة الثقافية التقليدية . وبسبب كثافة وخطورة الاختراق الثقافي الذي يتعرض له نسق القيم ونظام إنتاج الرموز في المجتمع العربي فان مؤسسات الاجتماع ولثقافة التقليدية وهما الأسرة والمدرسة لم تعودا قادرتين وفق صيغ أدائها الحالية علي حماية الأمن الثقافي للمجتمع والإيفاء بحاجات أفراده من القيم والرموز والمعايير والمرجعيات التي أصبحت تصاغ خارج حدود الثقافة الوطنية .
الإعلام الحديث أصبح أكثر ثراءا وتعقيدا ، والمشكلة الأعمق هي قابلية الإعلام والاتصال الشديدة للاحتكار وهو ما يظهر بوضوح في الخريطة الإعلامية العالمية . وكالعادة لا بد أن يجر الاحتكار ورائه تؤامة الاقتصادي وهو الاندماج الرأسمالي . فمع ظهور الانترنت أدركت القوي الرأسمالية المغزى الاقتصادي للمعلومات ، فاندفعت بصورة غير مسبوقة في موجة الاندماج وتركيز رأس المال ، وهدفت من وراء ثنائية الاندماج والاحتكار الي إحكام السيطرة الكاملة عالميا علي صناعة المعلومات بعناصرها الثلاثة : محتوي المعلومات ومعالجة المعلومات وتوزيع المعلومات .
علاقة الإعلام بالثقافة إذن علاقة بنيوية ، وكثيرا ما يتدخلان ، فالإعلام هو الجانب التطبيقي المباشر للفكر الثقافي السائد ، وذلك ما دفع ” هبرماس“ الي اتهام التليفزيون بإفساد ساحة الرأي العام .
سبحان الله وبحمده .. سبحان الله العظيم