المحاضرة الحادي عشر
عالم متغير ماهية العولمة – أبعادها – الجدل حولها
ماهية العولمة
يستخدم علماء الاجتماع مصطلح العولمة للدلالة علي تلك العمليات التي تضفي الزخم والكثافة علي العلاقات الاجتماعية المتبادلة المتداخلة . وقد غدت العولمة ظاهرة اجتماعية بالغة الاتساع وعظيمة الأثر في منطوياتها وتداعياتها . والعولمة لا تقتصر علي تطور وتنامي الشبكات والنظم الاجتماعية والاقتصادية بمنآي عن اهتماماتنا المباشرة ، إنها في الوقت نفسه ظاهرة محلية تؤثر فينا جميعا وفي حياتنا اليومية .
ففي عالم اليوم توجد واقعة قائمة علي اتساع الكرة الأرضية كلها وعلي امتداد تاريخي معين – أسمها العولمة. وتوجد مجموعة كبيرة من المصطلحات والمفاهيم تستخدم للإشارة الي هذه الواقعة مثل : الاقتصاد العالمي ، نظام المركز والأطراف ، السوق الدولية ، الامبريالية العالمية وغيرها . وعلي الرغم من إن هذه المصطلحات تشير كلها الي الواقعة ذاتها ” العولمة“ فان من شأن كل مصطلح من هذه المصطلحات أن يبرز جانبا معينا من جوانبها .
أبعاد العولمة
كثيرا ما يجري النظر الي العولمة باعتبارها ظاهرة اقتصادية . ويكثر في هذا المجال إبراز الدور الذي تؤديه الشركات العابرة للقوميات التي تمتد عملياتها الضخمة وتتجاوز حدود البلدان والدول مما يترك أثره في عمليات الإنتاج العالمية وتوسيع العمالة والاستخدام في العالم .
ورغم ان القوي الاقتصادية تمثل جزءا لا يتجزأ من العولمة , فان من الخطأ الافتراض بأن هذه القوي قادرة بمفردها علي توجيه هذه العملية . فقد نجمت العولمة عن تضافر مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية . وأعطت التطورات الجديدة في مجال تقانة المعلومات والاتصالات زخما جديدا لمسيرة العولمة ، إذ إنها كثفت التفاعل بين الناس ووسعت مجالاته وعجلت به في مختلف أنحاء العالم .
الجدل حول العولمة
أصبحت العولمة مثارا لجدل ومناقشات بين الباحثين ،ويري البعض أن المناقشات التي دارت حول قضية العولمة تنازعتها ثلاث مدارس فكرية : ”المشككون“ ، ” المتعولمون“ ”التحوليون“ . وسوف نعرض بإيجاز لوجهة نظر كل منها :
”المشككون“ : يري بعض المفكرين أن العولمة قد لقيت أكثر مما تستحقه من الأهمية والتقدير ، وأن الجدل عن العولمة قد احتدم حول موضوع لا جديد فيه. ويعتقد المشككون أن المستويات الراهنة من الاعتماد الاقتصادي المتبادل ليست جديدة ، ويشير هؤلاء الي إحصائيات القرن التاسع عشر حول التجارة والاستثمارات العالمية ، ويعربون عن اعتقادهم بأن توجهات العولمة الحديثة لا تختلف عن سابقتها إلا من حيث كثافة التفاعل بين الدول . ويوافق المشككون علي أن التماس بين الدول فد غدا أكثر كثافة مما كان في الماضي ، غير أن الاقتصاد العالمي الراهن في نظرهم لم يبلغ درجة كافية من الاندماج والتكامل ليكون اقتصادا عالميا حقيقيا .
ويؤكد كثير من المشككين علي طابع الأقلمة في العمليات الجارية في الاقتصاد العالمي ويتجلي ذلك في ظهور التكتلات المالية والتجارية الرئيسية .
ويرفض المشككون وجهة النظر التي يطرحها المتعولمون بأن العولمة تقوض دور الحكومات الوطنية بصورة أساسية ، وتنتج عالما يهمش فيه دور هذه الحكومات . وبالنسبة الي المشككين فان الحكومات مازالت وستبقي الفاعل الرئيسي لأنها تتولي تنظيم النشاط الاقتصادي وتنسيقه .
” المتعولمون“ : يتخذ المتعولمون موقفا معارضا لموقف المشككين ، إذ يرون العولمة ظاهرة حقيقية نتلمس أثارها في كل مكان ، أنها عملية لا تأبه بحدود الدول، كما أنها تولد نظاما عالميا جديدا تكتسحه تيارات التجارة والإنتاج العابرة للحدود .
يتركز أغلب التحليلات التي يطرحها المتعولمون حول تغير الدور الذي تقوم به الدولة ، فلم تعد الدولة المفردة قادرة علي السيطرة علي اقتصادياتها بسبب التوسع الهائل في التجارة العالمية . كما أن الحكومات الوطنية والأوساط السياسية فيها عاجزة عن التحكم في القضايا التي تبرز خارج حدودها .
وبعد أخذ هذه الحجج جميعها في الاعتبار ، يري المتعولمون أن فجر أو ” عصر العولمة“ قد بزغ ، فيما أخذت أهمية الحكومات الوطنية وقدرتها علي التأثير بالضمور والتناقص .
” التحوليون ” : يتبني التحوليون موقفا وسطا بين المدرستين السابقتين ، إذ يرون أن العولمة تمثل القوة الرئيسية الكامنة وراء طيف واسع من التغيرات التي تقوم بتشكيل المجتمعات الحديثة . وبالنسبة لهم ، فان النظام العالمي يجتاز مرحلة من التحول ، غير أن كثيرا من الأنماط القديمة ظلت علي حالها .
وعلي عكس المتعولمين يري التحوليون في العولمة عملية دينامية مفتوحة تتعرض هي بدورها للتأثر والتغير . ويرون أن الدولة لم تفقد سيادتها ، بل إنها استعاضت عن ذلك بإعادة هيكلة نفسها من خلال أشكال جديدة من التنظيم الاقتصادي والاجتماعي لا ترتكز الي مساحات جغرافية محدودة ( مثل المؤسسات الكبرى والحركات الاجتماعية والهيئات الدولية) .
ويري التحوليون أننا لم نعد نعيش في عالم تتخذ الدول من نفسها مركزا له ، إذ تضطر الحكومات الي تبني مواقف أكثر انفتاحا وفاعلية تجاه مسألة الحكم في ظل شروط العولمة الأكثر تعقيدا .
فأي هذه المدارس والآراء أقرب الي الصواب ؟ ربما كان التحوليون هم الأكثر اعتدالا فالمشككون يجانبون الصواب لأنهم يميلون الي التقليل من أهمية التغيرات التي تكتنف العالم . أما المتعولمون في الطرف الأخر فأنهم يرون العولمة من زاوية اقتصادية باعتبارها عملية تسلك مسارا وحيد الاتجاه ، في حين أنها في واقع الأمر أعقد من ذلك بكثير .
.
.
.
اللهم اشفي مرضانا ومرضى المسلمين