عرض مشاركة واحدة
قديم 2010- 12- 24   #3
أمل النور
أكـاديـمـي ذهـبـي
 
الصورة الرمزية أمل النور
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 40172
تاريخ التسجيل: Mon Nov 2009
المشاركات: 688
الـجنــس : أنـثـى
عدد الـنقـاط : 107
مؤشر المستوى: 65
أمل النور will become famous soon enoughأمل النور will become famous soon enough
بيانات الطالب:
الكلية: انجليزي انتساب مطور
الدراسة: انتساب
التخصص: اللغة الانجليزية
المستوى: خريج جامعي
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
أمل النور غير متواجد حالياً
رد: الاخلاق الاسلامية واداب المهنة

المحاضرة الثالثة
تمتاز الأخلاق الإسلامية بجملة من الخصائص تميزها عن غيرها من الأنظمة الأخلاقية, وتعطيها وجودها وطابعها المتفرد والمستقل, وهي:
الانبثاق عن عقيدة الإسلام:
أي أنها مرتبطة بالعقيدة ارتباطاً قوياً وعميقاً بحيث يستحيل الفصل بينهما, وما أكثر النصوص التي تربط بين الإيمان وحسن الخُلُق. حتى إنها لتجعل الإيمان, هو نفسه حسن الخُلُق, كيف لا؛ وحسن الخلق يقتضي شُكر المنْعِم (الإله), والاعتراف بفضله, والثناء عليه, والوقوف عند حدوده بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه. وأي عقوق أعظم من أن يتمرد الإنسان على خالقه ومولاه, ويتنكر لجميله, ويخالف أمره ونهيه, كما هو الشأن في الكفار والمنافقين.

يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: "حسن الخلق هو الإيمان, وسوء الخلق هو النفاق, وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين والمنافقين في كتابه, وهي بجملتها ثمرة حُسْن الخلق, وسوء الخلق, فلنورد جملة من ذلك لتعلم آية حسن الخلق. قال الله تعالى: [قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ, الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ, وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ, وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ, وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ...] {المؤمنون:1- 5}, وقال تعالى: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا...]{الفرقان:63}.. من أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات, فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق, وفقد جميعها علامة سوء الخلق, ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض, فليشتغل بتحصيل ما فقده, وحفظ ما وجده. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بصفات كثيرة, وأشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق, فقال صلى الله عليه وسلم:
(من كان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فلا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أو لِيَصْمُتْ). وقال: (لَا يُؤْمِنُ أحدكم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ). وقال: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً).
ويقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى: "الإيمان قوة عاصمة عن الدنايا, دافعة إلى المكرمات ومن ثمَّ فإن الله عندما يدعو عباده إلى خير أو ينفرهم من شر, يجعل ذلك مقتضى الإيمان المستقر في قلوبهم. وما أكثر ما يقول في كتابه: " يا أيها الذين آمنوا " ثم يذكر بعدُ ما يُكلفهم به, مثل قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] {التوبة:119} [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا] {الأحزاب:70} .. وقد وضح صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم أن الإيمان القوي, يلد الخلق القوي حتماً, وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان, أو فقدانه, بحسب تفاقم الشر أو تفاهته.. فالرجل الصفيق الوجه, المعوج السلوك الذي يقترف الرذائل غير آبه لأحد, يقول رسول الإسلام في وصف حاله: "الحياء والإيمان قرناء جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"!.
والرجل الذي ينكب جيرانه ويرميهم بالسوء, يحكم الدين عليه حكما قاسياً فيقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : (والله لَا يُؤْمِنُ والله لَا يُؤْمِنُ والله لَا يُؤْمِنُ قِيلَ وَمَنْ يا رَسُولَ اللَّهِ قال الذي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بوائقه). وتجد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يعلم أتباعه الإعراض عن اللغو, ومجانبة الثرثرة والهذر يقول: (وَمَنْ كان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أو لِيَصْمُتْ). وهكذا يمضى في غرس الفضائل وتعهدها حتى تؤتى ثمارها, معتمداً على صدق الإيمان وكماله..".
إذاً فالدين هو منبت الأخلاق, وهو مصدر الرقابة عليها, وهو المقوِّم لها إذا انحرفت, وهما متلازمان لإقامة كل مدنية فاضلة خيرة في مصلحة الإنسان.
الشمول:
حيث تشمل جميع المجالات, فهناك خلق مع الله ومع رسله عليهم السلام, قال تعالى: [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {النور:51} وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {الحجرات:1}, وهناك خلق مع المسلمين يقول صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره.. كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه) وخلق مع غير المسلم, قال تعالى: [لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الممتحنة:8}
وقال صلى الله عليه وسلم: (من آذى ذمياً فقد آذاني) وهناك خلق الكبير والصغير (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا) وخلق مع الحاكم [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] {النساء:59} ومع الوالدين والأبناء والبنات والزوج والقرابة, ومع الضيف والمعلم والصديق, ومع البهائم والجماد, .
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى: "قد تكون لكل دين شعائر خاصة به, تعتبر سمات مميزة له. ولا شك أن في الإسلام طاعات معينة, ألزم بها أتباعه, وتعتبر فيما بينهم أموراً مقررة لا صلة لغيرهم بها, غير أن التعاليم الخُلُقية ليست من هذا القبيل؛ فالمسلم مكلف أن يلقى أهل الأرض قاطبة بفضائل لا ترقى إليها شبهة, فالصدق واجب على المسلم مع المسلم وغيره, والسماحة والوفاء والمروءة والتعاون والكرم.. الخ.
وقد أمر القرآن الكريم ألا نتورط مع اليهود أو النصارى في مجادلات تهيج الخصومات ولا تجدي الأديان شيئاً. قال الله تعالى: [وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]{العنكبوت:46}. واستغرب من أتباع موسى وعيسى أن يشتبكوا مع المسلمين في منازعات من هذا النوع الحاد:[قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ] {البقرة:139}. وحدث أن يهودياً كان له دَيْنٌ على النبي, فجاء يتقاضاه قائلاً : إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطل!! فرأى عمر بن الخطاب أن يُؤدب هذا المتطاول على مقام الرسول, وهَمَّ بسيفه يبغي قتله. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أسكت
عمر قائلاً: (أنا وهو أولى منك بغير هذا, تأمره بحُسن التقاضي, وتأمرني بحُسن الأداء), وقد أمر الإسلام بالعدل ولو مع فاجر أو كافر. قال عليه الصلاة والسلام: "دعوة المظلوم مُستجابة, وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه) ... وبهذه النصوص, مَنع الإسلام أبناءه أن يقترفوا أية إساءة نحو مخالفيهم في الدين. ومن آيات حسن الخلق مع أهل الأديان الأخرى ما ورد عن ابن عمر: أنه ذبحت له شاة في أهله ? فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)..
أما من الناحية العامة, فقد قرر الإسلام أن بقاء الأمم وازدهار حضارتها, واستدامة منعتها, إنما يُكفل لها إذا ضمنت حياة الأخلاق فيها, فإذا سقطت الخلق سقطت الدولة معه.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ويؤكد هذه الحقيقة حديث الرسول لقومه وعشيرته, فقد رشحتهم مكانتهم في جزيرة العرب لسيادتها, وتولي مقاليد الحكم بها. ولكن النبي أفهمهم ألا دوام لملكهم إلا بالخُلُق وحده. فعن أنس بن مالك قال: "كنا في بيت فيه نفر من المهاجرين والأنصار? فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعل كل رجل يوسع رجاء أن يجلس إلى جنبه.. ثم قام إلى الباب فأخذ بعضادتيه,
فقال: (الأُمَرَاءُ من قُرَيْشٍ ثَلاَثاً ما فَعَلُوا ثَلاَثاً ما حَكَمُوا فَعَدَلُوا وَاسْتُرْحِمُوا فَرَحِمُوا وَعَاهَدُوا فَوَفَوْا فَمَنْ لم يَفْعَلْ ذلك منهم فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). هذا الحديث حاسم في أنه لا مكانة لأمة ولا لدولة ولا لأسرة إلا بمقدار ما تمثل في العالم من صفات عالية, وما تحقق من أهداف كريمة. فلو أن حكماً حمل طابع الإسلام والقرآن, ثم نظر الناس إليه فوجدوه لا يعدل في قضية, ولا يرحم في حاجة, ولا يوفي في معاهدة, فهو باسم الإسلام والقرآن قد انسلخ عن مقوماته الفاضلة, وأصبح أهلاً لأن يلعن في فجاج الأرض وآفاق السماء. ومن أقوال الإمام ابن تيمية: "إن الله يقيم الدولة العادلة, وإن كانت كافرة, ولا يقيم الدولة الظالمة, وإن كانت مسلمة" . إن الخلق في منابع الإسلام الأولى من كتاب وسنة هو الدين كله, وهو الدنيا كلها, فإن نقصت أمة حظاً من رفعة في صلتها بالله, أو في مكانتها بين الناس, فبقدر نقصان فضائلها وانهزام خلقها".
الثبات:
ويقصد بالثبات أن الفضائل الأساسية للمجتمع من صدق ووفاء وأمانة وعفة وإيثار مرتبطة بنظام الشريعة العامة، وهي أمور لا يستغني عنها مجتمع كريم، مهما تطورت الحياة، وتقدم العلم بل تظل قيماً فاضلة ثابتة.
إن الأخلاق في الإسلام لا تتغير ولا تتطور تبعا للظروف الاجتماعية والأحوال الاقتصادية، بل هي حواجز متينة ضد الفوضى والظلم والشر، كما قال الله تعالى: [تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {البقرة:229}.
وأما السبب الذي يجعل أخلاق الإسلام ثابتة فهو:
ارتباطها بالفطرة البشرية التي تتصف بالثبات ويرثها الأحفاد عن الآباء والأجداد (كل مولود يولد على الفطرة) فالخلق فطرة.
وكونها نابعة عن الدين، وإذا كان الدين يصلح لجميع الناس، ويهدف إلى الخير المطلق، لأنه من الله سبحانه وتعالى، وقد راعى فيه الخير العام. قال تعالى: [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] {الملك:14} فكذلك الأخلاق الإسلامية.
ويترتب على خاصية الثبات هذه أن الأخلاق مختلفة عن التقاليد؛ لأن التقاليد تتغير بين الفينة والأخرى, بتغير مبررات وجودها، وليس كذلك الأخلاق، لأنها تقوم على أسس ثابتة كالحق والعدل والخير.
كما أن الثبات في الأخلاق من شأنه أن يبعث الطمأنينة في حياة الفرد، وفي حياة المجتمع, بخلاف من ينظر إلى الأخلاق على أنها تتطور وتتبدل بتبدل الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, فإن من شأنها أن تجعل الإنسان يعيش من غير قيم عليا, وفي اضطراب وقلق.
الجمع بين الواقعية والمثالية:
فأما كونها واقعية فتعني أنها عملية وقابلة للتطبيق, ولا يستعصي على أحد من الناس تطبيقها وتجسيدها في حياته, ولكنها في ذات الوقت مثالية أيضاً. بمعنى أن من الناس من تتوق نفسه إلى معالي الأمور, و لا يرضى لنفسه بأن يكون كسائر الناس, ولا يشبع ذلك نهمه ورغبته في التسامي بخلقه, ورغبته في التحلي بالفضائل, ولكن ليس كل الناس يطيق ذلك, فجاء الإسلام وراعى بتشريعه استعدادات هذا وذاك, ولم يحمل الناس على ما لا يطيقون, وما يمكن أن تمله نفوسهم وتتقاصر عنه, فشرع العدل وذلك بأن يصل كل ذي حق إلى حقه, ولكن دعاه في الوقت ذاته إلى الإحسان وهي مرتبة أعلى من العدل فيها التضحية والصفح والتجاوز, فقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المائدة:8} وقال أيضاً:[وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] {الشُّورى:40} [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] {النحل:126}.
وهذا يختلف عن الدعوات المثالية التي نادى بها بعض الفلاسفة من أمثال أفلاطون في كتابه الجمهورية الفاضلة, وكذلك النصارى في الوصايا التي نسبوها إلى نبي الله عيسى عليه السلام, وهي مستعصية على التطبيق, ولا تستقيم معها حياة الإنسان, وسرعان ما يملها, وتسأم نفسه من فعله لما فيها من تكلف شديد. قال عليه الصلاة والسلام: (عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنْ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا). وفي معناه قوله تعالى: [فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] {التغابن:16}.
الوسطية:
وتعني كون الأخلاق الإسلامية وسطاً بين طرفين متضادين, وهذه الوسطية والاعتدال جلية في جوانب الدين الإسلامي كله؛ ففي نظرته إلى تكوين الإنسان كان وسطاً بين:
غلاة المثاليين الذين يعتبرون الإنسان روحاً علوية محبوسةً في الجسد ويجب عليه أن يتحرر منه.
غلاة الواقعيين الذين يعتبرون الإنسان جسداً فقط ويتنكرون للروح ومتطلباته.
فجاء الإسلام وقرر أن الإنسان مخلوق مركب من عقل وشهوة, وفيه استعداد للتقوى والفجور, وقد بين الله له طريق الخير وطريق الشر بوساطة أنبيائه ورسله, ثم ترك له حرية , فقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (7-10) سورة الشمس.
وفي نظرة الإسلام إلى الحياة كان وسطاً بين طرفين متقابلين هما:
من يرى أن الحياة هي هذه الدنيا التي نعيشها فقط.
وأولئك الذين يتنكرون لهذه الحياة الدنيوية ومتعها, ويرون أن السعي يجب أن يكون للآخرة فقط.
فجاء الإسلام ليقرر الانسجام والتوافق بين الحياتين, وأن الدنيا مزرعة للآخرة, ويجب للإنسان أن يعمل لها ويسعى في عمارتها لأنها تمثل جزءاً من المهمة التي خلق الله عز وجل البشر من أجلها. قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } (61) سورة هود, أي طلب منكم عمارتها, وقال أيضاً: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (32) سورة الأعراف.
وفي دعوته إلى التحلي بالفضائل الخلقية كان وسطاً لا يقبل الزيادة ولا النقصان, فعلى سبيل المثال لا الحصر, حث على:
الحكمة واعتبرها فضيلة, قال تعالى: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا] {البقرة:269} ولكنها تأتي بين رذيلتين هما: الخِبُّ والبَلَه. والخب: إفراطٌ وزيادة من جهة الاتصاف بالمكر والحيلة وسوء الظن. والبله: تفريط ونقصان عن الاعتدال, وسذاجة وسفه.
والسخاء واعتبره خلقاً كريماً, لكنه بين أنه يأتي بين رذيلتين, هما: الإسراف والتقتير, قال تعالى: [وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا] {الإسراء:29} وقال: [وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا] {الفرقان:67}.
والشجاعة وهي وسطٌ بين رذيلتي التهور والجبن. فالتهور زيادة عن الاعتدال، ويقدم بها الإنسان على الأمور المحظورة، التي يجب في العقل الإحجام عنها, قال تعالى: [وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] {البقرة:195} . والجبن نقصان عن الاعتدال, قال تعالى في وصف المنافقين: [رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ] {التوبة:87}
والعفة وهي وسط بين رذيلتي الشره والخمود. فالشره هو إفراط الشهوة إلى المبالغة في اللذات. والخمود هو خمود الشهوة عن الانبعاث إلى ما يقتضي العقل نيله وتحصيله.
والحياء وهو وسط بين رذيلتي الوقاحة وصفاقة الوجه من جهة, والخور والمهانة من جهة أخرى.
والتواضع وهو وسط بين رذيلتي الكبر والعلو من جهة, والذلة والحقارة من جهة أخرى.
والعدل هو التوسط المحمود في كل شيء, بأن يعطي كل ذي حق حقه, من غير غبن وتغابن. والغبن إفراط أي أن يأخذ ما ليس له، والتغابن تفريط, أي أن يعطي في المعاملة ما ليس عليه حمد وأجر.