عرض مشاركة واحدة
قديم 2011- 9- 18   #2
Mo0oly.B
متميزة في ملتقى السعادة والنجاح
 
الصورة الرمزية Mo0oly.B
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 73539
تاريخ التسجيل: Thu Mar 2011
المشاركات: 8,023
الـجنــس : أنـثـى
عدد الـنقـاط : 9263
مؤشر المستوى: 148
Mo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond repute
بيانات الطالب:
الكلية: ~~كُلِيــة ـإلعِــلُــوــمْ ـالإِدَآآرِيـَـهــ وَ تـَخْــطِــيــطْ ~~
الدراسة: انتساب
التخصص: ~~ ـإِدَآآرَةْ ـأَعْــمَــآآآلْ ~~
المستوى: خريج جامعي
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
Mo0oly.B غير متواجد حالياً
Ei28 رد: فضاء الجسد "الجنس الثالث"

I'm Back

كلما مرت أمامي عذابات الشجار في أرجاء الدار هممت بالصراخ: يا وردة الراحة، ويا قلب الذكورة النائمة في شجر الزيتون، ويا علقم التأوهات الغريبة.. هيئوا طقوسكم للاحتفاء بذكورتي على جذع نخلة، وعلموا الضوء أن يبدد عتمتي ووحشتي الشديدة..
عندما بلغت السادسة من عمري كنت أعاني من رقة مفرطة في الطبع والروح.. رقة لا تتناغم مع طفل يشق الغبار.. ويشاكس طواحين الهواء، وها هو يخاطب الأشباح وأشباه الرجال.. واختلال يعبث بروحي لا أفهمه، وآلام جسدية تلم بي بين الحين والآخر، ولكني بشكل عام صرت أفضل من ذي قبل، أصبحت أخرج من البيت لأمشي على غير هدى.. أستكشف ما حولي ماضياً عبر الأزقة الضيقة.. أمسح بيدي على الجدران القديمة لمدينتي حتى أجد أطراف أصابعي وقد تشققت، فألعق دماء مدينتي "بيت لحم" المدينة النبيلة الكريمة الشامخة "بيت الإله لاحاما" كما تذكر ألواح تل العمارنة.. مدينتي الخصبة التي تقبع تحت قدمي مدينة القدس مسقط رأس المسيح عليه السلام، تنتشر فيها حقول القمح والشعير والزيتون والكروم. "كانت سحر أختي تصر على تلقيني هذا الجزء التاريخي" منزلنا القديم الذي يقع وسط الحارات المتراصة والشوارع الضيقة يبهرني، يلهب روحي، ويناديني للمشي قربه وحوله.. غير مبالٍ بالأطفال من حولي يتضاحكون ويتصايحون ويتعاركون وأنا أنظر إليهم مذهولاً..
لم أتشاجر مع أحدهم البتة من قبل، لم أحاول حتى أن أستفز أي واحد منهم، خاصة أولئك الذين اعتادوا أن ينعتونني بـ "نداء البنوتة"..
أنتهي من جولتي اليومية، ترافقني الوحدة التأمل في كل ما حولي، ثم أعود للبيت.. أغسل نفسي من أدران الناس والأطفال والشوارع التي علقت بي.. أنام في حضن أمي نوماً هنيئاً أصحو منه مذعوراً على صوت أبي وهو يهدر:
- افهمي جيداً يا ساشا: أنا لن أرضى بأن أصبح لبانة تحت ضروس الجميع آخر عمري في المدينة.. نداء ولد يعني ولد.. وقد اتفقت مع المزين على ختانه.
كانت أمي ترد عليه بصوت هامس حتى أظل نائماً كما تعتقد:
- طبعاً يا أحمد "نداء ولد ونص كمان"، ولكن كل ما أطلبه منك هو أن نأخذه إلى طبيب لختانه، ولا داعي للعم "صالح" المزين..
- وما له صالح؟ كل شباب المدينة تختنوا على يديه!
تعودت أن أسمع صراخهما وهما يتشاحنان؛ لإصرار أمي التي تتبع حاستها السادسة، وقلبها المفعم بالأمومة الرائقة، وهي تدرك بأن هناك خللاً في تركيبتي لا تعرفه، فتتمسك بعرضي على طبيب، وكانت - بعد أن تفشل محاولاتها في إقناعه - تطفئ نار دموعها بالنظر في عيني الضاحكتين، واحتضان جسدي الضعيف الصغير، محاولة أن تتناسى ما يؤرقها حول نوع جنسي - وعلى استحياء - وحتى تتأكد من صدق حدسها وهي تتحسسني قائلة:
- ما رأيك في حمام دافئ أفرك فيه جسمك؟
تعلمت أن أرعى نفسي كشجرة منكسرة تداوي قلبها الجريح دون مساعدة أحد، وخاصة عندما كان أبي يداهم غرفتي ليلقي في وجهي بتلك الممنوعات، وأنا منكمش في فراشي، تفر دموعي فزعاً.. حتى إذا أدار ظهره أحتضن نفسي الممزقة، وأنكفئ على هواجسي وهلعي، مجترّاً اللامعني، ومرارة البحث عن وجود، وذكورة بعيدة جداً عن وعيي وإدراكي.. وعندما أحاول يائساً استدرار الرجولة الضائعة، وأتذكر شجار أبي وفزع أمي من ضجيجه، تتساقط دموعي جمرات في فراشي فلا أنام، ولا أقدر حتى على الرقاد.
- ااااه يا أبتي....
أموت من عجزي عن إبهاجك، وأموت أكثر من حزني على أمي، وأتعجب من ممنوعاته ونواهيه لي ولها!
النوم في حضن أمي ممنوع!
الهمس في الكلام ممنوع!
اللعب بلعب أختي سحر ممنوع!
اللعب في الشارع مع الفتيات ممنوع!
النوم في غير غرفتي مع أحد ممنوع!
عند مخاطبتي أي أحد على أن أنظر إلى عينيه مباشرة!
التحدث بصوت منخفض عندما أطلب أي شيء ممنوع!
كانت تلك قوانينه التي لم أشعر بأهميتها يوماً، تجلدني بسياط الرجولة التي كثيراً ما كان يتشدق بها.. وكنت أعتقد بأن كلام الجيران وأصدقائه عند رؤيتي، وإصرارهم على أني غير طبيعي، وشكه الدائم في صحة كلام أمي بأني "ولد ونصف" كل هذا جعله يتعامل بشدة معي، رافضاً بكبريائه الذكوري أن تكون له نطفة مختلة، وضعت داخلي لسبب لا يعلمه.
يا قرة عيني يا سحر: لن أنسي دموعك أنت وأمي بعد إصرار الوالد على دعوة أصدقائه لحضور حفل ختاني، وإخلاله بوعد أمي بأن يقوم طبيب بعملية الختان لي.. لن أنسي ما حييت الرعب الذي عشته للحظات ,وأنا مقيد عارياً إلا من خوفي وألمي وخجلي , وأنا أري كل العيون تقتحم حرمة جسدي وقدسية حياتي، متعلقة بعضوي الذكري الذي سيقوم بقطع جزء منه عمي صالح المزين.. حتى أتطهر كسنة نبينا محمد عليه السلام، كما قال لي الوالد، ثلاثة أيام بلياليها قبل تلك العملية، وأبي يجلس إلى ليكرر أحد نواهيه: إياك والبكاء فإنه ليس من شيم الرجال..
ولست أدري لم كل تلك الحماسة والفرح غير المبرر لقطع جزء مني بدون إرادتي وبلا حول ولا قوة وقد خلقني الله هكذا؟!
ألم يكن قادراً على تجنبي الألم والمهانة على يد أقرب الناس لي؟
ألم يكن من المفروض أن أترك حتى أكبر وأقرر إذا كنت بالفعل أريد التخلص من تلك الجلدة أم لا؟
وما الحكمة من تلك الاحتفالية اللا إنسانية الموجعة، وأنا عاجز، وغير قادر على المقاومة، ولا حتى البكاء؟
أحكم أبي تقييد يدي، واحتضنني بقسوة من الخلف.. كادت أن تكسر أضلعي الضعيفة.. وأمسك عمي أسعد بقدمي اليمنى، وعمي محمود باليسرى، وأجلساني أرضاً أمام عمي صالح الذي نظر إلى عضوي، وهو يحمل سكيناً حادة، يلمع نصلها أمام عيني.. أمسك بالسكين وقلبه بين أصابعه، وجعل يهمهم بينه وبين نفسه.. وفجأة قال:
- يا سيد أحمد: لا أستطيع أن أطهره؛ فعضوه أصغر من أن يقطع منه، عليك بطبيب مختص؛ فهذا أفضل..
رد والدي بجفاء: ماذا تعني؟ قل إنك أصبحت عجوزاً خرفاً أعمى، وصرت أجبن من أن تختن الآن.. نداء سليم ولا بد من تختينه..
أرخي عمي أسعد وعمي محمود من قبضتيهما.. لم أستطع حبس آلامي ودموعي.. سمعت أحدهم يقترح: خذه إلى المستشفي يا أحمد.. هذا أفضل..
فجأة نزلت كف الوالد فوق خدي ليطفئ خيبته وخجله أمام الجميع وصرخ في قائلاً: ألم أقل لك إن البكاء للنساء يا عرص؟
اختفيت لمدة يومين داخل ذاتي ، لم تقبل نفسي الطعام، خاصة وأنا أتذكر الرعب الذي لفني وأنا أرى سكين عمي صالح وهو يلوح بها أمامي.. وكم من مرات تخيلت الوجع والألم والدماء، لو تمت تلك العملية، فأنتفض من نومي جزعاً، لأجد أمي الصغيرة سحر بجانبي تهدهدني وتبكي معي..
رفض والدي الذهاب بي إلى طبيب.. تخلف عن عمله أياماً لا أدري عددها، بعد أن انتشر الأمر في المدينة، وكنت كثيراً ما أسمعه يتحدث مع نفسه بصوت عالٍ وهو يتساءل: ما هي حكمتك يا رب؟ أعلمني إياها حتى أفهم.. بعد خمس عشرة سنة من الحنين لنطفة مني تمشي على الأرض تعلي اسمي.. ترسل لي بحثالة لا هي ولد ولا هي بنت.. لماذا أنا؟! ثم يبكي بصوت عال يمزق نياط القلب، وأمي بجانبه تبكي صامتة ذاهلة عما حولها من شدة ما تعاني من ألم..
وعلى غير توقع مات أبي.. امتطى ظهر الموت فجأة ورحل.. رأيت جثمانه مسجًّى فوق السرير، والقسوة تلف وجهه رغم إغلاق عينيه، نافذتيه على العالم..
تري إلى أين سيُذهب به؟ إلى الجنة أم النار؟
أبعد كل هذا القهر الذي شربته منه يدخل الجنة؟
ولماذا تبدو ملامحه ساكنة، لا تنم عن شيء؟
هل سيلقى الله ويعاتبه على هديته التي لم يتقبلها يوماً؟
حاول بعض الرجال إخراجي من الغرفة، ولكني أصررت على البقاء حتى النهاية.. عم علي جارنا - زوج جمانة صديقة أمي - أحضر قماشاً كثيراً أبيض.. وأتي السيد محمود زوج راشيل بخليط من العطور العربية النفاذة.. أما حنا فقد كان يجيء ويذهب بين المطبخ وغرفة النوم محملاً بأوانٍ مليئة بالماء الدافئ..
حمل الرجلان جثة أبي ووضعاها على الأرض فوق قطعة قماش، وخلعا عنه ملابسه، وغطياه بقطعة أخرى من القماش من بداية منطقة الخصر.. انساب الماء الفاتر فوق بلاط الغرفة، وتعالت تمتمات السيد محمود وابن خال والدي آخر أقربائه بالأدعية التي تُقرأ أثناء التغسيل.. وبعد أن انتهيا من الماء، صبّا فوق جسده الكثير من الروائح التي لن تخرج من أنفي أبداً رغم السنين؛ فللموت رائحة..
جففا الجثة، وبدءا في عملية التكفين الأخيرة، حتى إذا انتهيا واختفى وجه والدي انفجرت بالبكاء..
خرجت من الغرفة، واتجهت حيث أمي التي التصقت بها سحر، كانتا تبكيانه ومعهما نساء أخريات.. قبلت يد أمي وقلت لها:
أنا ذاهب مع بقية الرجال للصلاة ومن ثم سنتجه إلى مقابر البلدة.. كانت تلك أول مرة أشعر بمشاعر رجولية تنتابني، ولكن للضرورة أحكام.
ارتفع صوت أمي بالبكاء، وانتحبت سحر، وصاحت بقية النساء.. اجتذبتني إحداهن وعصرتني في حضنها، من بين رائحة جسدها التي دهمتني، سمعتها تقول:
شد حيلك يا نداء.. أنت الرجل بعد أبيك..
تخلصت منها بعد أن شعرت بالاختناق، وأنا أهمس بيني وبين نفسي: لا أريد أن أكون بديلاً لهذا الرجل الذي رحل فجأة بقسوة، غير مبالٍ بأمي وأختي..
كثيرٌ من الرجال مضوا خلف جنازته، ولأول مرة أدرك بأن غالبية سكان الحي قد أحبوه وأثنوا على أخلاقه.
دُفن الوالد، وانتهت مراسم العزاء المملة، شعرت أخيراً بأني عصفور بغير جناحين.. أنتقل في كل ركن من أركان منزلنا بدون نظرة ازدراء أو استخفاف.. الحمد لله.. الآن ستبدأ الحياة..

الاخرون هم الجحيم

ثمّ أمر لا يمكن إنكاره، كما لا يمكن الفرار منه؛ إنه الشارع وما أدراك ما الشارع؟ تلك المدرسة التي نتعلم فيها المستور والمحظور، المدرسة التي تذيـبنا كتلة واحدة.. نتقاسم في دهاليزها الضحكة الندية وهمومنا الصغيرة، نبلل جباهنا بعرق الجري خلف النضج البطيء، والخصوبة المتعثرة.
السابعة من العمر المذبوح كانت بداية جديدة لكي أخرج من منزلي، وأواجه العالم، وأصبح مثل أي طفل آخر.. كم كانت فرحتي شديدة وأنا أرى أمي واستعداداتها لدخولي المدرسة، لكنها – ويا ليتها ما كانت - باتت من أشد السنوات إيلاماً لي وإذلالاً، فقد واجهت نذالة زملائي وأقراني من الأولاد الذين لا يختلفون في تكوينهم وطريقة تفكيرهم الفطري الذكوري عن المرأة.. عن السادة الكبار من الذكور، وإن تشدقوا بغير ذلك. من قال بأن الأطفال أبرياء!؟
إن عقدنا جميعاً تتشكل خلال تلك المرحلة ,وعبر تعليقاتهم؛ لتذكرنا بأنهم مثال حي على اللؤم والنذالة والاستغلال..
وها أنا ندااااء الذي لم تكن ملامحه الجميلة الأنثوية غير مقبولة، وأنا أدرس بجانب البنين في نفس المدرسة التي رفضتني في البداية، ولكن مع ضغط أمي قبلني المدير..
سبقتني قصة ختاني الفاشلة أينما يممت وجهي، وشهدت براعة في الإهانات من الطلاب، والتي تعلموها من مدرستهم الأولي "الأهل" وإساءات كانت تطحن نفسي أبسطها:
ابتعد عنا؛ أنت لست ولداً!
أمي قالت لي: لا تلعب مع البنات.
بنت أنت أم ولد؟
لم تكن بيدي حيلة.. كنت أبكي كلما انفردت بنفسي.. وأنصت إلى قلبي وهو يكاد من الحزن يتوقف، وأدقق في شكلي ولا أستوعب شيئاً، وأتساءل بيني وبين نفسي: من أكون؟ أخليطاً من خير وشر؟ أم من رهبة وفتون؟
وعلى هزهزات الحيرة وشواطئها البعيدة الغامضة أغفو، تطاردني الكوابيس، فأصحو مذعوراً لأجد يدي وقد اندست تحت منامتي أتلمس عضوي الصغير وأداعبه، ثم فجأة تتردد صرخات أولاد المدرسة في غرفتي: أنت ملعون.. ابتعد عنا!
أنتبه متلفتاً في فراشي، وساحباً يدي بسرعة، لأرى الجدران مطلية بضحكات الصغار، وانكسارات الفرحة في جوف أمي وأختي.
مع هذه اللحظات الحارقة تعلقت بالوحدة، في وقت كنت أحتاج فيه إلى الرفقة واللهو مثل الأخرين.. لكن تهمتي لا تغتفر، ففي المجتمعات المجرمة لن نجد بريئاً.
اتسعت دائرة الاتهامات والإهانات وتأليف النكات، ولم تقتصر على الطلبة فقط؛ بل امتدت إلى الأساتذة الكرام الذين استغلوني لتأديب الآخرين من الطلاب، والسخرية من نعومة وجمال ملامحي، فحرمت من المشاركة في أي نشاط طلابي أو تسلية جماعية تحت شعار: "ممنوع البنات" وهكذا تعلمت أن أكتم وجعي... أتدثر بالراحة فقط وقت الإجازات..



وما أدري، إذا يممت وجهاً أريـــــد الخـــير أيهـــــما يلينــي
هــــل الخير الذي أنا أبتغيـه أم الشر الذي هو يبتغيني؟!
(المثقب العبدي)
كيف أزهو باقتطاف زهرة رابية، وأنا يا قارئي لم أتطهر بعد من رغوة الإثم الطافح في فناء المدرسة، وحجرة الناظر؟! تلك هي الحقيقة المرة، حقيقة أن يفاجئني صحو الزمان، فأندس تحت جلدي مدعياً التخفي، ولكن لا خفاء، ولا ظهور!
منذ دخولي للمدرسة ولمسي طباع الأولاد الجافة التي لا براءة فيها أدركت أن هناك صنفين لا ثالث لهما: الأول من يسلم مؤخرته ليعيش بسلام، والآخر من يأخذها ليؤمن لهم الحماية..
في الصف الثالث الابتدائي طفح الكيل ولأنني كنت أقص على أختي (والدتي الصغيرة) سحر كل ما يدور معي من إساءات تزهق روحي، تقدمت هي بالشكوى للسيد مدير المدرسة، ذاكرة له عن مضايقات الطلاب لي..
استدعاني المدير الذي لم أكن أحبه إلى مكتبه، وبدأ حديثه معي، رابتاً بيده الغليظة فوق شعري المنسدل، وصوته المزعج يتسلل إلى أذني بجرأة وقحة:
- لماذا لم تأت إليّ مباشرة، وتحكِ لي عن الذين يضايقونك؟
لم ينتظر إجابة مني، وتمعن في ملامحي وكأنه يراني لأول مرة وقال: أنت جميل جداً يا نداء، إذا استمعت لكلامي وفعلت ما سأطلبه منك سأجعل كل الطلاب يخافونك، ونظر في عيني وابتسامة خبيثة ترتسم فوق ملامحه الأربعينية، غضضت من بصري وبصوت هامس رددت:
- أشكرك يا أستاذ..
كانت النزوة الشيطانية التي تشتعل جذوتها فجأة تجول في عينيه.. رأيته يتجه لباب الغرفة ويضع المفتاح في جيبه. توجست شرّاً وأنا أراه يتقدم تجاهي مبتسماً ابتسامة خبيثة، ثم بدأ يتحسس جسدي ووجهي باشتهاء!
- نداء.. اخلع البنطلون؟
بهت واحتلني خوف مجهول وأجبت بضعف واستكانة:
- أنا آسف يا أستاذ.. لا أستطيع.
- ولم يا حبيبي أنا أريد الاطمئنان عليك..
- أنا آسف.. لا أستطيع.. أمي قالت لي: إياك أن يلمسك أحد..
تجهم وجهه وصرخ بحدة:
- ماذا تعني ؟ عندما أقول لك شيئاً يجب أن تفعله وإلا..........
جذبني من شعري بغتة، وفح بأنفاسه اللاهثة، وحملني ثم كبني على وجهي فوق المكتب، وبدأ بنزع البنطلون عني فبدأت ابكي..
نزع بنطلونه بتوتر وهو يفح: إياك أن أسمع صوتك وإلا جلدتك.
حاول اغتصابي وإصبعه الغليظ يخترق لحمي..
حتى الآن لا أذكر كيف استطعت التملص من يديه، والهرب عبر النافذة المطلة على الحديقة الخلفية..
أخذته المفاجأة وتردد صوته يهدر ورائي:
- قسماً عظماً لأجعل أيامك هنا سوداء يا خ...................
اختبأت في حمام المدرسة، وأغلقت الباب وجلست خلفه.. شعرت بنار تشتعل في جسدي وعقلي، فيما كنت أحس بخط من الدم ينسال، بكيت ما شاء لي البكاء.
انتظرت حتى انتهاء الدوام وخروج كل الطلاب، وتسللت إلى الصف، حملت حقيبتي والخوف يشلني، وعندما رآني حارس المدرسة قال مشفقاً ومتعجباً:
- أين كنت يا نداء؟ لقد ذهب كل الأولاد؟
فتح لي البوابة وحاول أن يربت فوق كتفي إلا أنني فزعت، وخرجت مسرعاً، ومشيت ومشيت.. لا أدري إلى أين!
زالت معالم الأماكن.. ذابت.. وخطواتي الثقيلة الخائفة المتألمة تدق الأرض.. يلفني الارتياب والشك والخوف والوجع.
حين وصلت منزلنا ورأتني أمي هلعت لمنظري واضطراب ملابسي، ولاحظت احمرار عيني، فأصرت على معرفة سبب بكائي، ولسبب لا أدركه حتى الآن لم أبح لها بالأمر.. غسلت بقايا الدماء التي علقت بسروالي الداخلي بسرية تامة، وتذكرت بإشفاق وجه أمي والهلع البادي عليه:
آه يا أمي يا حبيبتي.. لا أريد لكِ أحزاناً فوق أحزانك..
لا أريد أن أرى نظرة ألم تتجول في عينيك الجميلتين..
أريد السكينة تورق داخل نفسك المعذبة بي..
أنت من يمسح دمعي.. ويجبر قلبي الكسير..
ترى من يأخذ بيدي لحدائق اليقين حتى أعرف من أنا؟
ولمن أشكو صدعي ومزيج الجراح المسكوب في قلبي؟
أثناء الطابور الصباحي في اليوم التالي لنجاتي من بين براثنه، أفقت على صوته ينادي اسمي عبر الميكروفون آمراً إياي بالصعود إلى المنصة.. تعثرت في خجلي والأسئلة تركض في رأسي:
- ترى ماذا يريد مني بعد فعلته النكراء؟
باغتني أمام جموع الطلاب، وجذبني من شعري صارخاً:
- مدرستنا لا مكان فيها للمخنثين! ( كانت تلك أول مرة أسمع فيها هذا التوصيف) مدرستنا مصنع الرجال وليست للبنات.. شعرك هذا سنتخلص منه اليوم؛ حتى تسترجل وتكون عبرة للآخرين
لم يكن شعري أطول مما هو عليه عند الكثير من الطلبة الذين كان لديهم من الحظ ما يكفي لفصل جيناتهم عن أي سمة من السمات الأنثوية وقت تكوينهم؛ لكن في مجتمع يضم كل المظالم والبغضاء وانتهاك الآخر تموت النفوس ولا تحيا.
وسط بكائي وضعفي وقلة حيلتي أمسك بمقص في يده، وراح يقص شعري وهو يسرد ويسهب للطلاب عن ماهية الفروق الأساسية بين الأولاد والبنات.
بعد أن انتهى من انتصاره أمام الطلاب، قال لي: لا تذهب للصف وانتظرني في المكتب، ثم هددني متوعداً: إن نطقت بشيء عما حدث في اليوم السابق فسأقتلك.ما تزال ملامح هذا المدير محفورة في ذاكرتي، ولم أزل رغم السنين ألتقطها من زواياها، أحفظها، وأبقي عليها علامة من علامات الانحراف الخفي في مؤسساتنا التربوية،
أسأل نفسي أحياناً:
- كم من الطلاب راودهم المدير الفاضل عن أنفسهم؟ وكم واحداً منهم استطاع الهروب عبر النافذة.
ما أبشع أن تستقر القساوة في قلوب البشر الذين تلقوا تعاليمهم الأخلاقية من دساتير الذئاب، فملكوا الاستعداد لنهشك - حتى لو كنت قديساً - بلا ذنب جنيته.
رفضت الذهاب للمدرسة. وكان رفضي قاطعاً، على الرغم من ضغط الوالدة.. رضخت أمي لطلبي بعد موافقة أختي سحر التي كانت قد أنهت دراستها الجامعية بجامعة بير زيت، وبدأت الاستعداد لنيل الماجستير في اللغات..
حولت أمي أوراقي للدراسة المنزلية. وهكذا لم أكن أغادر منزلنا إلا للضرورة القصوى، وتحديداً وقت الامتحانات..
كانت أمي الصغيرة وقدوتي البديعة سحر خير معين لي.. وبمساعدتها حصلت على الابتدائية والإعدادية. كانت معظم أوقاتي فارغة كنفسي تماماً، جليستي ورفيقتي الوحدة، وصباحات من التعب والمرارة.
مع وحدتي كنت أشعر بالهواء يتسلل تحت ثيابي وينحني؛ خشية أن يلامس جسدي غير المحدد الهوية، لأرحل مع هواجسي وسنواتي القليلة وأنا أتحسسه لأتعرف على سره الخفي، الذي لاك الرابعة عشرة من عمري بلا طائل..

وكان جسدي يشتعل بهدوء...

ولسبب لا أدركه كانت تلك المرحلة لوحة من شقاء - بكل تفاصيلها - وواقعاً مريضاً متجهماً وصعباً، دعاني إلى الضجر والمرض والفتور؛ فقد أمضيت نصف وقتي أو – إن لم أبالغ - ثلاثة أرباعه ما بين المستشفيات العامة والعيادات الخاصة، أشكو أوجاعاً رهيبة في منطقة الحوض وحول البطن، جعلتني أشعر بروحي خالية، وكأنها تتجول بي في ضباب مزيف..
كنت أبكي ليل نهار آلامي التي انتشرت، وأعاني تعسف الأطباء وجهلهم، وإصرارهم على أنني أعاني من المرارة، أو ربما الزائدة؛ لذا اقتصرت كل الفحوصات على هذين الاحتمالين حتى اختفت الأوجاع فجأة.. وبلا مبرر..
تواريت ونفسي خلف الأيام.. وكم تمنيت أن تغرق في النوم السنوات حتى لا تقتلني الحسرات، وتلهبني بشظاياها التي فتحت سراديب من نار داخل شراييني لتلتهم الرابعة عشرة من عمري دون أن أدرك من أنا؟!
شكوت لأمي الصغيرة سحر فهمست وهي تهدهدني: اسمع ما قاله الشاعر:
لا تخشها يا أخي الصغير
ادخلها بضراعة عصفور شتوي
انس بأنك مريض
وأنك ما بين ذكر وأنثي
لا تنطفئ يا صديقي الصغير
ولا تنم في نقاط خائفة
سنواتي الأولى التي قضيتها ما بين النظر والتأمل جعلتني أبدو أكبر من عمري بكثير..
أنظر إلى أمي التي كنت أراها طيلة الوقت محنية فوق لوحاتها، أو مقرفصة في المطبخ وهي تعد الطعام دون أن تحتج.. كانت تنهض من وقت لآخر تتمطي كي تطرد الوجع، ولتنشر في البيت روائح طبخها الشهي.. تساعدها أحياناً أختي سحر إذا كانت غير مشغولة بدراستها في الجامعة أو بقراءاتها المتنوعة أو أساعدها، أنا أحيانا كي أطرد الملل.

السيده الجسد ليست تلميذه للشيطان...

في جلسات الصفا ووقت الفراغ كانت ترسم أوجاعها بالفرشاة، وتصب ألوانها الباهرة فوق لوحة، أو تدعو صديقاتها على صحن تبولة، وفنجان من القهوة، وبعض من فطائرها البديعة.. راشيل وعبلة وجمانة.. صديقاتها المقربات، وزميلاتها في التدريس، واللواتي أعرف عنهن وأزواجهن كل شيء؛ بحكم أنهن لا يخجلن مني؛ باعتباري جزءً منهن.
عبلة المسيحية، ذات الوجه الطفولي البريء، والجسد الذي لا تطفئه نار، الجريئة دون حذر، الجميلة التي دوماً تشتكي عجلة زوجها، والذي ما استطاع أبداً أن يجعلها تتدفق أنهاراً بين يديه.. كانت غالباً ما تنهي شكواها بالسؤال المعتاد:
- تري كم عدد النساء مثلي اللواتي لا يشعرن بثورة أجسادهن مع أزواجهن؟
ثم تبدأ موالها الحزين: آه ما أتعسني وأنا أعلم بأن هناك نساء تدور الدنيا بهن، ويتعلقن بالنجوم في كل مرة يأتيهن أزواجهن؟ ثم فجأة تضحك ضحكة لاهية، تداري بها ضيقها، ثم تسأل دون أن تنتظر الإجابة: ماذا أفعل، وحنا أبداً لا يرويني؟
تضحك أمي وراشيل وجمانة على أسئلة عبله وحديثها، ولا يبدين تعليقاً، فتستفزهن بكلماتها: والمسيح الحي لو كان فيه طلاق لطلقته.
ترد راشيل اليهودية، الرقيقة كنسمة بحرية، والتي أحبت محموداً المسلم، وتزوجته، وعاشت معه في رفاهية وسعادة تحسدها عليهما كل قريباته المتزوجات وغير المتزوجات، لحسن خلقه، وقد تمنين أن يكون محمود الرجل الوسيم الأنيق الذي يمتلك محلاًّ بمدينة القدس ويتاجر في الأنتيكات من نصيبهن، غير أن راشيل كانت قد كبلت قلبه الذي لم يتسع لغيرها.
ردت بهدوء ورزانة على عبله: مشكلتك يا عبلة فقط تكمن في أنك حتى الآن لم تحبي حنا، لذا فمن الطبيعي ألا تشعري بجسده مهما فعل لكِ.. وأعتقد أنه أدرك تلك الحقيقة فأصبح عجولاً عندما يأتيك حتى لا يشعر بضيقك لو أطال..
- والعذرا كلامك غير صحيح؛ فلو كان يستطيع أن يكون غير ذلك لفعل، ولكن تركيبة جسده صممت على ذلك، ولو أنه حاول ولو مرة مخاطبة مشاعري وأحاسيسي، وأشعرني بجمالي لكنت تسامحت في عدم إرضاء جسدي، وأحببته، ولكنه يأتيني مثل البهيمة، صامتاً لا يعرف من تضاريس جسدي سوى مكان واحد، يفرغ فيه شهوته، ويقوم سريعاً!
تمسك بخيط الحديث جمانة ذات الجمال الآخاذ، القوية كنمرة لا تقاوم، زوجة الاستاذ "علي مدرس الفلسفة والمنطق في المدرسة الثانوية، وبهدوء شديد فتقول:
  رد مع اقتباس