عرض مشاركة واحدة
قديم 2011- 9- 18   #12
Mo0oly.B
متميزة في ملتقى السعادة والنجاح
 
الصورة الرمزية Mo0oly.B
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 73539
تاريخ التسجيل: Thu Mar 2011
المشاركات: 8,023
الـجنــس : أنـثـى
عدد الـنقـاط : 9263
مؤشر المستوى: 148
Mo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond reputeMo0oly.B has a reputation beyond repute
بيانات الطالب:
الكلية: ~~كُلِيــة ـإلعِــلُــوــمْ ـالإِدَآآرِيـَـهــ وَ تـَخْــطِــيــطْ ~~
الدراسة: انتساب
التخصص: ~~ ـإِدَآآرَةْ ـأَعْــمَــآآآلْ ~~
المستوى: خريج جامعي
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
Mo0oly.B غير متواجد حالياً
رد: فضاء الجسد "الجنس الثالث"



- يا نداء أعرف أنك عبقري في الكمبيوتر.. وقد استطعنا أن نحقق أرباحاً كثيرة من وجودك معنا.. ولكن كفيلي وشريكي يرفض أن تستمر في العمل معنا؛ حتى لا تفتن الشباب في الشركة..
- ولكن هذا ظلم؛ فأنا لا أختلط بأحد.. ولا أتحرش بأحد.. إنما فقط أعمل وأعمل..
- والله لقد شرحت له حالتك، وأعلمته عن تقاريرك الطبية، ولكنه يأبى إلا أن تغادر.. وسيسمح لك بنقل الكفالة إن أحببت..
هزمتني الأنثى بداخلي فبكيت أمامه.. نهض من خلف مكتبه، وتقدم نحوي وربت فوق كتفي بحذر وقال:
- ليس الأمر بيدي والله يا نداء.. وأنت تعلم كم أحبك وأحب أختك سحر.. ولكن ما باليد حيلة.. وعلى كل أنا أفضل أن تبقي كفالتك علي، فهذا سييسر عليك كثيراً من الأمور، وتستطيع أن تعمل في أي مكان.. كما أني سأبعثك لأحد الأصدقاء لتعمل لديه، وشريكه الخليجي أكثر مرونة وتقبلاً لحالتك بعد أن قصصتها عليهما..
- أشكرك أستاذ.. أراك على خير..
انسحبت من أمامه مكسوراً مقهوراً يائساً.. اعتكفت في المنزل لمدة شهر أنا وصديقي الذي لا أمل صداقته "اللاب توب"، وأنيسي الوحيد هرموناتي وأدويتي البديلة، وأمراض نفسي التي لا شفاء منها..
كنت أتسلي بالانتساب لأي مجموعة أون لاين، لأصبح فاكهة كل مجموعة؛ فصورتي صورة امرأة جميلة يتهافت على مهاتفتها كل الرجال، ومن كل الأعمار.. ولكن الصوت صوت رجل.. من هنا كانت تبدأ النقاشات حول هويتي.. كفيضان يتدفق على شجرة مستكينة تدق فوق جسدها الواهن أسئلة لا تنتهي.. خاصة التي تتعلق بحالتي..
وكان أسوأ ما في تلك الأسئلة التي كانت تخترق أذني كصوت زجاج يتكسر دون أي مشاعر أو مراعاة للذوق: تلك التي تخص حالتي وعلاقاتي الجنسية..
سألوني: متي ولدت؟ وكيف عشت؟ ولم يلمسوا العذاب الذي عانيته ولا أزال من الناس حولي..
سألوني في أي مدرسة درست؟ ونسوا آلامي ونذالة الطلاب حولي..
سألوني كيف أمارس الجنس؟ ولم يسألوني عن قيمي التي تمنعني من خدش حيائي وطهارتي!
اتصلت بصديقتي نهال منقذتي.. وبكيت ما شاء لي البكاء فقابلت بكائي ببكاء خلع قلبي، وقالت بعد أن رويت ما حدث لي:
- ولماذا ترفض الذهاب للعمل الجديد؟ ربما يكون أحسن من الأول..
- بالتأكيد سيكون مثل الأول وأزفت..
- لقد تعلمت منك ألا أحكم على الآخرين إلا بالاحتكاك..
- لقد مللت النظرات المندهشة عند رؤيتي وسماع صوتي، تعبت من التحرش الدائم بي..
- نداء: هذا قدرك فلا تشك.. اذهب للشركة الأخرى التي أوصاك بها مديرك السابق..
- ومن قال لك إنني لم أذهب..
- أوكي.. وكيف المكان والعاملون فيه؟
- شوفي يا ستي: استقبلني المدير اللبناني الشاذ أصلاً استقبال الفاتحين، ووضعني على قائمة أصدقائه المقربين من أول نظرة.. وسلمني القسم الخاص بالآي تي، كما رتب لي شقة صغيرة أنيقة ذات موقع استراتيجي..
بقي على علاقته الطيبة بي حتى وصل كفيلنا الخليجي من السفر..
عندما رآني هذا الرجل المحترم وقعت في قلبه كحبة لؤلؤ انغرست في صدفتها، وخاصة أنه يعرف بقصتي كاملة، ومن هنا بدأت الصراعات؛ لأن مديري اللبناني - مع كل كفاءته في العمل - كان غيوراً جداً على صاحب الشركة! وقد لاحظ معاملته الطيبة معي فظن السوء، ومن ثم بدأ يحوك المؤمرات لاقتلاعي من الشركة؛ خاصة عندما علم أنه اصطحبني ذات يوم لحفلة مع بعض أصدقائه حيث سهرنا ليلة من ألف ليلة في فيلا رائعة امتلأت برجال من كل الأجناس، وصبايا من كل لون، وموسيقى صاخبة، وفتيات ورجال يرقصون ويتبارون مع النساء في هز الوسط؛ فشرت فيفي عبده أمامهم!فجأة انتبه الجميع لدخولنا، وعلى الرغم من ملابسي الرجالية الفضفاضة فإن الرجال الكلاب لهم نظرة أيضاً في الجمال، سكتت الموسيقي ليقدمني السيد فطيس وكأني كائن من كوكب آخر.. امتلأت العيون بالدهشة، ورحب الكل بي لأدرك أن تحت السطح الهادئ الساكن للبلد الجميل بركاناً من المعاصي على وشك الانفجار.. بعدما رأيت ما رأيت..
لم يحتك بي أحد يومها؛ احتراماً للسيد فطيس.. كان الكل لاهياً بصديقته أو صديقه، فانتبذت ركناً قصيّاً أراقب منه ما يحدث، حتى إذا كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل دخل ميشيل مدير الشركة، وقد فاحت منه رائحة الخمر، يرعد صاخباً موجهاً كلامه لي: - هيك يا نداء؟ بدك تاخده ع جاهز حبيب ألبي.. واللي خلأك ما بخليك تعيش سانيه!
بهت ووقفت أنتظر أن يوضح ما يقول لأني لم أفهم ماذا كان يعني، ولكن السيد فطيس أخذه بعيداً عني وعن الجميع..
بعدها بقليل دخل السيد فطيس وميشيل والابتسامة تعلو وجهيهما، وتوجه إلى ميشيل محتضناً إياي وهو يردد:
- سوري حبيب ألبي.. اعذرني..
وجهت حديثي للسيد فطيس:
- حصل خير .. بس ممكن أروح هلأ؟
- هيدا انت لسه زعلان حبيبي!
- لا.. ولكن ضروري أكون بالشركة بكير.. منشان عندي شغل كثير..
رد السيد فطيس مبتسماً وقال:
- ولا يهمك.. بكره خله إجازه..
أخذني ميشيل من يدي إلى الخارج موجهاً كلامه للسيد فطيس:
- دئيئة حبيب ألبي.. راجعلك.
- إنت ما بتفهم، شفت هيدا صاحب شركة الصرافه الكبري بده اياك..
- يا ميشيل: انا ما بنفع أي أحد.. وهادا الكلام قلته لك من البدايه؛ ليش بتحاول مرة تانية..
- إنت غبي؟ هيدا بده يغنيك للأبد.. وتسافر معه.. وتعمل العملية.. والحياة بدها تضحك إلك.
تركته وخرجت، فسمعت صوته يردد خلفي:
- ك............. أختك شو غبي , على شو شايف حالك..في طريق عودتي قررت قراراً نهائيّاً بأن أستقيل من الشركة، متحسراً على أجمل المواقع التي قمت بتصميمها، والذي نسبها السيد ميشيل لنفسه..
وها أنا الآن أبحث عن عمل مرة أخرى.
بعد أن خرجت من الشركة بغير عودة اتصلت بصديقتي نهال وشرحت لها ما حدث..
- ولكن من الخطأ يا نداء ألا تثبت في مكان..
- نهال يا حبيبتي: أنت تعلمين كما يعلم غيرك أنني لا أريد من حياتي إلا أن يتركني الناس أعمل فقط..
- هذا عشم إبليس في الجنة؛ فأنت بالنسبة لهم صرعة جديدة، وشيء غريب، ولا بد أن يكون احتكاك بهم وتحرش منهم..
- لا يا نهال: أنا لست معك.. هناك من يتقبلون وضعي، ويحاولون مساعدتي دون استغلالي.. ولكنهم قلة، ومن بينهم الآن سيدة فاضلة تسعى لتشغيلي في قناة فضائية جديدة للأطفال..
- واو , هادا خبر مفرح.. المهم إذا ربنا راد واشتغلت حاول أن تثبت نفسك..
- إن شاء الله.. المهم كيفك انتي؟
- أنا في انتظارك مليت على رأي الست ثومه.. وكل يوم أتخيلك معي نمارس أنوثتنا.. نسخر من الدنيا، وعيناك تحدق في أحزاني فتقتلعها من داخل نفسي لتبقي أنت الأمل الذي أبحر إليه كل يوم، لتكون قربي، تحميني من نفسي, لأهديك كل ألوان الدنيا وزهورها..
- والله صرت شاعرة يا ملعونة.. بس دايماً بتنسي إني أنا لاشيء..
- نداء بلا سخافة.. وحشتني يا نقطة ضوء ظهرت على شاشة حياتي المظلمة.
- بس نقطة؟ والله هادي إهانة.. لكن مقبولة منك يا نونو..
- كيف الصحة الآن بعد الهرمونات الأنثوية يا حلو.
- أنا ولله الحمد في انتظار السرطان كما أكد حاييم وأمجد وبعض الأطباء هنا بالخليج.
- يا رب عدوينك يا قمر.. طيب حبيبي ليش ما تتوقف، وبلاش تاخد الهرمونات لا الذكرية ولا الأنثوية، وخاصة أنو جسمك ثبت على الشكل الأنثوي؟
- من الصعب أن أتوقف.. خاصة في هذه المرحلة من العمر..
- أي مرحلة..
- الخامسة والعشرين خريفاً..
- نداء: نسيت أقول لك: بيكفي تليفون.. هادا كتير.. كلمني على الشات..
- خلص.. خليها لبكره.. أنا تعبان..
- أوكي حبيبي.. دير بالك على حالك..
إلى الجحيم يا أنا ...
بعد فترة قصيرة اجتزت امتحان القناة الجديدة للأطفال.. وقبلت للعمل كمصمم ويب ماستر..
أخذتني التجربة الجديدة.. وسلختني عن عالمي تماماً وغرقت في العمل، ولكن يا فرحة ما تمت، فبعد تجربة عام طويل يحتاج إلى مجلد آخر لكتابة ما مر بي أجبرت على الاستقالة لعدم استقرار حالتي الصحية كما قيل لي! وبعد كر وفر لأيام عديدة وأنا حبيس البيت أتأمل غربتي ووحدتي وحياتي التي بلا معني قررت الرحيل.. لا حاجة لي في دنيا من غير أمن..
كنت أتساءل دائماً.. إذا ما فكرت يوماً بالانتحار.. كيف سيكون ذلك.. يجب أن أبحث عن وسيلة غير مؤلمة..
جرعة زائدة من المخدرات.. من أين سأحصل عليها؟
رصاصة من مسدس.. سم قاتل.. حريق.. غرق.. أم ماذا؟
علي بالبحث عن طرق سهلة للموت.. ولكن هل يزيد الموت الألم أكثر؟ لا تهم الطريقة.. فلا بد أن تنجح واحدة.. المهم التنفيذ..
تداخلت الصور..
ها هو الموت ينتظرني في الأسفل..
تحدثت مع نفسي، وسألتها متى ستقرر الخلاص.. تجاهلت تشبث الأنثى داخلي بالحياة، وحتى تشبث الذكر..
الذكر؟ وأي ذكر.. الأنثى؟ أي أنثى.. والخنثى؟ وأي خنثى.. جميعهم سينالون نصيبهم مني ما عداي.. فخلصني يا رب.. وعجل بخلاصي..
انت تعلم ياربي بأني لست مسؤولا عما انا فيه .. وأظنك لن تعذبني افكر بالخلاص ؛ فأنا جئت لحكمتك التي لم أفهمها..
فقد ضاعت أيامي سدىً، وضاعت معها حقيقتي..
وهل الموت هو الحل المناسب؟
وكيف ستعوضني عن حياتي؟
وهل ستكون لي حياة أخرى؟
هل الموت هو لا مادة.. لا وجود.. لا زمن هناك ولا مكان؟
هل الموت حياه أخرى أكثر تحديداً بالنسبة لي..
أنا أدرك أن الموت بداية نهاية.. فهل هو نهاية للآلام أم بداية لها؟!
وهل هو عالم بلا ذكور وبلا إناث..
هل سيترحم على من عرفوني؟
هل سيشفقون علي؟
هل سيغير انتحاري من هذا العالم القميء الذي لا يفهم الآخر.. ولا يحترم الاختلاف؟
وما المهم في موتي؟ فلأذهب إلى الجحيم ومعي كل أمراضي النفسية..
سكان العالم سبعة مليارات .. فلينقصوا واحداً.. إلى الجحيم يا أنا..
لم تكن يا أنا يوماً سعيداً... فمم الخوف وعلام الحسرة؟
إنها نهايتي أنا.. أخطها صرخة ألم.. أكتبها علها تنقذ من بعدي بعض من كانوا مثلي، أو من سيكونون.. علها عبرة.. أو خبرة.. لمن سيتعاملون مع نفس حالتي..
يبدو أن الموت لا يزال مشغولاً؛ لأنه أقنعني بالتمهل، حتى استعرض شريط حياتي قليلاً قليلاً، قبل اختيار الميتة الميسرة..
تأملت الماضي.. وانسالت الذكريات.. وهمت أدمعي..
تذكرت أبي القاسي.. وأمي الرائقة الصافية.. وأختي سحر الحنون..
تذكرت نهال حبيبتي، تنتظر مني ارتباطاً أبديّاً ــ روحاً وجسداً ــ دون إياب مني..
تذكرت جراحاتي ومعاناتي.. وأحداثاً كثيرة مرت على حياتي..
تذكرت جهاداً صديقي..
تذكرت كل الذين عرفتهم.. والذين لم يعرفوا نصف ما عرفت..
تذكرت الكم الهائل من الكتب التي قرأت..
تذكرت كيف تعلمت الفلك.. وكتبت عنه.. وبرعت فيه..
تذكرت فنون التجميل وحكاياتها المدهشة..
تذكرت كيف كنت بارعاً في البرمجة والتصميم..
تذكرت الناس والمجتمع بمضايقاته التي أجبرتني على التحدي..
تذكرت كم كنتم يا زملاء مدرستي وجامعتي قساة.. بمنتهي القسوة..
تذكرت مشكلة المشكلات في بلادنا.. الاستغلال والاستغلال..
تذكرت - والدمع في عيني - كم كنت صيداً سميناً وسهلاً لهؤلاء المستغلين..
تذكرت كيف ربيت نفسي.. وصنعتها.. وصنتها.. وهذبتها..
تذكرت أن أحداً لم يلمسني.. وكم الاتهامات التي كيلت لي..
تذكرت كم كنت صادقاً مع نفسي والآخرين..
تذكرت بيت لحم وجروح طفولتي ومراتعها..
تذكرت خيباتنا العربية.. وكبواتنا الكثيرة.. وأنظمتنا الفاسدة..
تذكرت تقاليد قومي التي أبداً لم تنصفني..
تذكرت من هم في مثل حالتي.. وتحسرت عليهم.. في ظل عالم يكفر بحكم الله وخلقه..
تذكرت كيف يدفعهم المجتمع إلى سلوك طريق الانحراف بدلا من التميز وإثبات الذات..
تذكرت قول المسيح عليه السلام في توصيفه لنا "إنهم ينهلون من حكمة الرب التي لا نفهمها، بل هم من سيفهمونها.. فترفقوا بهم".
وتذكرت ما جاء في التلمود "إن اللعنة لا تغادر أجسادهم، فأقصوهم بعيداً حتى لا تكون فتنة".
ما يزال دمعي مصرّاً على زرع الغيوم أمام عيني لتختفي أشياء وأشياء..
ورغم كل عذاباتي كبريء صلب من أجل ذنب لم يرتكبه.. ورغم آلامي المعلقة في رقاب كل من عرفتهم.. ولمست خيرهم القليل وشرورهم الكثيرة..
أهديكم يا ناس محبتي وبحوراً هادئة، وسماء تعج بأسراب الطيور، وأفقاً يسبح فيه الأبيض والأزرق.
أهديكم تجربتي التي تعذبت بكم دون ذنب جنيته.. ووردة حمراء ندية عبقة ملتفة.. تزهو على أوراقها الغضة بأنفاس الصباح وهمس الحب..
أهديكم لحظات تلمسون فيها الأرواح المتعبة.. وتربتون عليها برفق..
أهديكم رقصة تبدأ بعد الغروب عند البوابة.. وتنتهي في الفجر على السرير..
أهديكم كلمات تتجاوز الحروف إلى المشاعر مباشرة.. صرخة رفض حرة متمردة.. وكسراً للقيد، وإعلان استقلال من الدرجة الأولى، وأمنيات باحترام عجز الآخرين.. ووعداً لي منكم بصفاء قلوبكم وتجلي مشاعركم.
بهدوء شديد تناول نداء أدويته كلها، وجلس يفرغها من حاوياتها.. أحصاها فتجاوزت المائة وخمسين حبة.. أحضر زجاجة ماء كبيرة.. أخرج رسالة كان يعتز بها كلما ضاقت به السبل.. فتحها أمام عينيه وقرأها.. نهل من كلماتها لعلها تبعث فيه أملاً خابياً.. كانت من أمه الثانية، التي احترمت الاختلاف في شخصه، ووقفت بجانبه، وآمنت به كإنسان لا يختلف عن الآخرين..
جاءت تلك الرسالة في وقت كان على وشك الانتحار, من أحد الشعراء المميزين الذين تعاطفوا مع حكايته عندما رويت أمامه, وأطلقت على اسم نداء؛ حتى لا تجرحني بذكر اسمي الحقيقي..
قبل أن يقرأها بدأ بتناول حبات الدواء، الواحدة تلو الأخرى، حتى انتهى من تناول مائة وعشرين حبة..
حاول أن يستمر.. لكن بكاءه من أجل ذاته المتصدعة الوحيدة، ودموعه التي لم تتوقف، جعلته يتوقف، لتجري عيونه فوق الأسطر، يلتهمها بنهم قبل النهاية..
رسالة محبة وسلام إلى صديقي نداء...
باسم الثقة في عدالة الله.. وحكمته.. ومحبته العظيمة، ورعايته لنا في كل وقت، وحتى آخر لحظة من حياتنا..
وباسم صداقتي الحضارية لك، ولكل البشر الأخيار الطيبيين الأقوياء بروحهم مثلك..
إسمح لي بأن أحبك بروحي، مؤمناً بروعتك وأنت تكتشف خرائطك الإبداعية, داخلك وهل يمكننا إلا أن نحب أولئك المبدعين مثلك؟
لقد أحببتك بحق، وكأنك جزء جميل مني، من روحي، هذا ما فعلته كلمات وأحاسيس تلك السيدة الرائعة الإنسانة الحنون "............ "
لقد جسدتك أمامي بكل جمالك وعذاباتك المرهفة، فأحببتك أكثر، وقررت على الفور أن أكتب لك يا نداء..
هل انتبهت مرة لاسمك المقترن بطلب العون والغوث، وهما صفتان لله عز وجل "يا معين ويا مغيث"؟ أعرفت الآن سر ما أنت فيه من اختلاف حباك الله به؟
لا تندهش من كلامي هذا، فلعل هناك حكمة عبقرية وراء هذا الاختلاف، أنا شخصيّاً أستطيع أن أدرك أن الله يريد أن يجعلك ويجعلنا نكتشفك أكثر، لأنه عز وجل لا يغلق باباً في نفوسنا وأرواحنا وأجسادنا إلا ويفتح أبواباً، وأنت يا صديقي أكثر شخص يدرك هذه الأبواب المفتوحة في روحك، لعل منها ذلك الحب الكبير الذي تكنه هذه السيدة "الأمومية الساحرة"، ولكني الآن أريد أن أشاركها هذا الحب؛ ليس تعاطفاً معك، بل إعجاباً بقدرتك على تحدي كل شيء، لتنتصر لنفسك المختلفة، ولتثبت لنا أن الاختلاف يمكن أن يحمل في أعماقه إبداعاً فذّاً لا يستطيعه العاديون من أمثالنا، وهذا ما حققته؛ ما دفعني لمحبتك، مستسمحاً إياك أن تضمني لقائمة أصدقائك؛ بل أشقائك.. الذين تشكو من قلتهم..
أخي وصديقي الطاهر المبدع القوي: نداء
أعرف تماماً أنك لن تخذل المعنى الذي يكمن وراء اسمك، فيجب أن تعلم جيداً، وبعلم اليقين - أنك تمتلك من جمال وصفاء الروح وشفافية القلب ما لا يمتلكه الكثيرون من العاديين، ومن المؤكد أن الله يحبك جداً؛ لأنه خلقك بهذه الكينونة، ولعلك تتفق معي أن الله لا يفعل شيئاً لا يحبه، لقد أحب الله الدنيا فخلقها، وأحبنا فخلقنا هكذا بكل ملامحنا وأعماقنا، ولو تأملنا كثيراً ذواتنا، ولو امتلكنا الكثير من الصبر، لاكتشفنا أنه لم يكن هناك أجمل من هذه الكيفية التي خلقنا بها.. وإذا لم نكتشفه الآن فسيساعدنا الله على معرفته فيما بعد، هذا شيء مجرب ومؤكد، لقد أحبك الله يا نداء كما أحب نبيه أيوب الصابر، وأنت صابر يا صديقي، بل كل الطيبين الشرفاء صابرون.. وسيمنحهم الله المكافأة العظمي يوماً ما..
وأخيراً أرجو أن تكرر لنفسك دائماً مقولة الإمام على رضي الله عنه: لا تدع جهل الآخرين بك يغلبك على علمك بنفسك..
ارتخت أخيراً يد نداء.. وأفلتت الرسالة لتسقط بجانبه.. وكفراشة خرجت من شرنقتها.. وفردت جناحيها للطيران في عين النور، غادر نداء دنيانا غير آسفٍ على شيء.. باحثاً عن عالم جديد.. وكينونة جديدة!

انتهى~

  رد مع اقتباس