-تصاعد المواجهة مع شيوخ المعارضة للتغريب:
المراقب للساحة يلاحظ أن المواجهة مع المشايخ المعارضين للتغريب بدأت تتصاعد حدتها، فلما أفتى اللحيدان ضد فضائيات التغريب أجج الإعلام القضية وانتهت بإقالته، ولما أفتى الشثري ضد الاختلاط أجج الإعلام القضية وانتهت بإقالته، ثم دمرت أوحجبت المنتديات الاحتسابية واحداً بعد الآخر، ثم أغلق موقع الشيخ البراك والمنجد، ثم بالأمس أغلقت فضائية الأسرة التي يشرف التي يشرف عليها الشيخ محمد الهبدان ، وهيئتها الشرعية : عبدالعزيز الطريفي ، ويوسف الأحمد ، وسعد الحميد ، وعبدالمحسن الزامل، وهذه الإغلاقات والحجوبات المتتابعة لكل عالم داعية يلمس منه مقاومة مشروع التغريب يوضح بالضبط البوصلة الفكرية في السعودية.
-قرار قصر الفتيا والاحتساب على من يأذن لهم الديوان:
وقبل أيام معدودة صدر قرار الديوان بمنع أي عالم أو داعية من الفتيا أو الاحتساب إلا بترخيص من الديوان، قرأ البعض هذا القرار معزولاً عن سياقه السياسي، وكأنه قنديلٌ معلقٌ في الهواء، وهذا غلط تام، فالقرار ليس شيئاً غريباً أوحدثاً غير مفهوم، بل هو مجرد حلقة في سلسلة شلّ العلماء والدعاة المعارضين للمشروع التغريبي، بل إني على يقين جازم أن الملك نفسه لاصلة له بالقرار من قريب ولا من بعيد، وأما من صاغ القرار فلا يمكن أن يكون شخصية سياسية ولا تكنوقراطية بتاتاً، فالقرار فيه تفاصيل وإشارات لشخص مهجوس بصراعات شبكة الانترنت، تأمل ما جاء في القرار مثلاً :
(ومنهم من يكتب عرائض الاحتساب للمسؤولين فيما بينه وبينهم، كما هو أدب الإسلام ، ثم يعلن عنها ـ على رؤوس الأشهاد ـ ليهتك ما ستر الله عليه من نية، أو سوء تدبير على إحسان الظن به)
فأولاً: هل يليق بالديوان الملكي أن يدخل في هذه التفاصيل؟! قرار ملكي يتحدث عن حادثة شخص واحد كتب عرائض ثم نشرها! ماهذا؟! لا أشك أن من تولى صياغة القرار أنه قد أساء كثيراً لهيبة الديوان.
وثانياً: هل هذه عبارة مناسبة (ليهتك ما ستر الله عليه) وهل كتابة خطاب احتسابي فاحشة حتى يكون كشفه هتكاً لستر الله؟!
على أية حال .. الديوان الملكي ليس من اللائق إقحامه في تفاصيل لشخص واحد، بل الأولى أن يبقى الديوان مظلة للجميع.
بغض النظر عن الأخطاء في صياغة القرار، ماهو حكمه الشرعي؟ أعني ماحكم إسكات العلماء والمحتسبين عن الصدع بالحق في المشروعات التغريبية؟ وهل يجب على العلماء والدعاة الذين لا يملكون رخصاً بالفتيا أن يسكتوا عن إنكار المنكر؟ هذا هو حرف المسألة، وهذا ما سنتناوله في الفقرة التالية.
-لا يسعني كتم العلم!:
لما كان الامام ابن تيمية صادعاً بالحق، عقد له مجلس وأمر فيه بالانتهاء عن الافتاء، وصار غير مرخص له بالفتيا، فماذا فعل؟ يقول ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة ابن تيمية:
(ثم بعد مدة عقد له مجلس ثالث بسبب ذلك، وعوتب وحبس بالقلعة..، ومنع بسببه من الفتيا مطلقة، فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: "لا يسعني كتم العلم" ).
وفي حادثة أخرى حكاها ابن تيمية عن نفسه حيث يقول:
(يجيئني الرجل المسترشد المستفتي بما أنزل الله على رسوله ، فيسألني مع بعده ، وهو محترق على طلب الهدى، أفيسعني في ديني أن أكتمه العلم؟! ) [الفتاوى 3/258]
هذا وهوشخص واحد من أهل العلم يرى أنه لا يحق للسلطان منع المؤهلين من الفتيا، فكيف بمن يريد منع عامة العلماء إلا من يوافقه الرأي!
وهذا الصدع بالحق من العلماء حتى لو لم يرض السلطان ليس شأن ابن تيمية فقط، بل هذا شأن السلف، كما وقع من مالك في مسألة طلاق المكره حتى جلد، وكما وقع من الإمام ابوسماعيل الأنصاري حيث يقول عنه الذهبي:
(كان سيفاً مسلولاً على المخالفين، وطوداً في السّنة لا تزعزعه الرّياح، وقد امتحن مرّات، قال الحافظ محمد بن طاهر: سمعت أبا إسماعيل الأنّصاري يقول بهراة: "عرضت على السّيف خمس مرّات، لا يقال لي: ارجع عن مذهبهم، لكن يقال لي: أسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت) [تاريخ الإسلام، الذهبي، 33/54]
وقصص السلف في الصدع بالحق كثيرة جداً ليس هذا موضع إيرادها، وكنت قبل سنتين قد جمعتها من سير أعلام النبلاء مبتدأً من عصر صغار الصحابة حتى أواخر القرن الثالث، فكانت مادة هائلة تعكس ضعفنا المعاصر في الصدع بالحق، وأتمنى أن تتاح فرصة لاحقة لتحريرها ونشرها.
والمراد أن أساس الخلل في هذا القرار هو الخلط بين (المنع العام) و (المنع الخاص)، فالمنع العام بأن يمنع جميع العلماء من بيان الحق إلا من يختارهم سلطان معين، وأما المنع الخاص فبأن يمنع الجاهل وصاحب الهوى ومن ظهرت مخالفته لصرائح النصوص ونحوهم.
فالأول، أعني المنع العام، هذا معلوم البطلان بالقطع من الشريعة، ولا يعرف له سابقة في تاريخ الإسلام، ويلاحظ أن القرار أشار للمنع الخاص، وبنى عليه المنع العام، وهذا خلط واضح.
ومما يدل على مخالفة هذا القرار للشريعة قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ** إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة، 159-160].
فهذه الآية من تدبرها علم قطعاً بطلان هذا القرار الذي يريد أن يربط بيان ما أنزل من الكتاب بقرار سياسي، فهذا واجب من الله على كل عالم، ولا يجوز للقرار السياسي أن يقيد الواجب الذي أوجبه الله على العلماء.