وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الشهير في الصحيحين (الدين النصيحة ثلاثاً، قيل: لمن يا رسول الله ؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم). فإذا كانت النصيحة واجبة على المسلمين لولاتهم فكيف يستأذن الولاة في النصيحة؟!
وفي السنن بسند صحيح (من سئل من علم فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)، فكيف يكتم العلم إلا بترخيص؟!
فإذا كان لا يجوز الصدع بالحق إلا بترخيص، فلماذا سمي صدعاً بالحق إذن؟!
ومما يدل على مخالفة هذا القرار للشريعة أن الفتيا بإجماع الفقهاء عن بكرة أبيهم (فرض كفاية) وعلى ذلك فإذا لم يقم المفتون المرخص لهم بالفتيا والبيان في منكرٍ من المنكرات وجب على غيرهم أن يقوموا بالبيان والإنكار والاحتساب.
اتفق الأصوليون عن بكرة ابيهم على أن المقلد هو الذي يجتهد في البحث عن الفقيه الذي يستفتيه بحيث يختار الأعلم والأتقى، ولم يقل أصولي واحد بجواز أن يمنع الناس من اختيار الفقيه الذي يرضونه!
وأما قولهم أن الفتاوى الخاطئة تجعل من السائغ منع الناس جميعاً من الفتيا إلا بإذن، فهذا مردود بكون الخلل في الفتيا وقع في عصر النبوة ولم يمنع الناس منعاً عاماً، بل منع المخطئ فقط، كما في حديث صاحب الشجة الذي أفتوه أصحابه في مسألة في التيمم خطأ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟! فإنما شفاء العى السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده).
وهذا الحديث رواه ابوداود وصححه ابن الملقن في البدرالمنير واعتمد عليه عامة الفقهاء في كتاب التيمم، والمراد أن هذا الخبر النبوي يوضح كيف تعامل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع ظاهرة الخطأ في الفتيا بالمنع الخاص لا بالمنع العام.
ولقد كان أهل العلم المحققين في شتى بقاع الإسلام يضجون من (التعصب المذهبي) الذي يحمل فيه الناس على (مذهب فقيه) بعينه، ويرون ذلك مخالفاً للشريعة، فكيف بالتعصب السلطاني الذي يحمل فيه الناس على المفتين الذين يختار فقههم سلطان بعينه؟! فكل ما قاله أهل العلم في إلزام الناس بمذهب بعينه فهو موجود وأضعافه في إلزام الناس بالمفتين الذين يختارهم سلطان بعينه.
بل إن الإمام ابن تيمية يرى أن ما تضمنه القرار من حمل الناس على مفتين معينين يختارهم السلطان يدخل في الحكم بغير ما أنزل الله كما يقول:
(وولي الأمر إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة حكم بين الناس به، وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا حتى يعرف الحق حكم به؛ وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا؛ ترك المسلمين على ما هم عليه، كل يعبد الله على حسب اجتهاده؛ وليس له أن يلزم أحداً بقبول قول غيره وإن كان حاكمًا، وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله ووقع بأسهم بينهم، وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول) [الفتاوى، 35/387]
وأما ما جاء في القرار الملكي من قصر النهي عن المنكر على أصحاب الولايات حيث يقول القرار (ولا شك أن للاحتساب الصادق جادة يعلمها الجميع ، خاصة وأن الذمة تبرأ برفع محل الاحتساب إلى جهته المختصة)، (وفي مشمول هؤلاء كل من أولع بتدوين البيانات).
فهذا أيضاً خطأ مخالف للشريعة، فالجهة المختصة وهم أصحاب الولايات لهم قدر زائد وهو التغيير بالقوة والإلزام، بخلاف عامة المسلمين فعليهم واجب النهي عن المنكر باللسان والقلب والمخاطبة والمناصحة ونحوها بلا ولاية، وأهل العلم في كتب الحسبة يبينون دوماً الفرق بين المحتسب الذي يملك ولاية وعامة الناهين عن المنكر، بل نقل الجويني الإجماع على أن الإنكار ليس محصوراً في أهل الولايات، كما يقول النووي في شرح صحيح مسلم:
(قال العلماء: ولا يختص الامر بالمعروف والنهى عن المنكر باصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين، قال إمام الحرمين: والدليل عليه اجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذى يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين اياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من غير ولاية)
بل ذكر الغزالي ملحظاً لطيفاً وهو أن فرض استئذان الولاة للنهي عن المنكر هو منكر في حد ذاته يجب إنكاره! حيث يقول الغزالي في إحياء علوم الدين:
(واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، بل كل من أمر بمعروف؛ فإن كان الوالي راضيا به فذاك، وإن كان ساخطا له؛ فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه، فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه)
وهذا المعنى الذي ذكره الغزالي معنى طريف وتعليل بديع للغاية.
وهذا المعنى الذي ذكره العلماء هو الذي دلت عليه النصوص، كحديث (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ولو كان إنكاراً بإذن لم يكن جهاداً أصلاً، بل ولا كان أفضل الجهاد!.
وحديث (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأنكر عليه فقتله) فلو كان مأذوناً له لم يقتله.
وهكذا كان الصحابة ينكرون بقوة وبلا إذن، ففي صحيح مسلم (عن عمارة بن رؤيبة قال: رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه، فقال: "قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يزيد على أن يقول بيده هكذا" ) [مسلم، 2053].
وجاء في فتاوى ابن عثيمين أنه سئل:
(هل يجوز لمن أراد أن ينكر المنكرات أن ينكرها على المنابر، وهل هذا هو منهج أهل السنة والجماعة؟ الجواب: أما المنكرات إذا شاعت فلابد أن تنكر على المنابر) [لقاء الباب المفتوح، ل94]
ومن مفاسد هذا القرار تهييج الغضب في نفوس الشباب المتدين، عبر كبت العلماء المستقلين من قول كلمة الحق، وكلمة الحق من أعظم مصادر التنفيس السياسي، ولا تنفجر إلا الأنابيب المغلقة، وإغلاق الطرقات المشرعة يلجؤ الناس لحفر الأنفاق المظلمة.
وأما من يقول من العلماء أو الدعاة إنني أخشى كذا، وأخشى كذا، فالجواب أن الله تعالى بين أن تبليغ الدين لا ينفك عن الأذى والخوف من تسلط النافذين، ودواء ذلك، بل أنجع دواء على الإطلاق، هو "تجريد التوحيد" بأن لا يخاف الداعية إلا من الله كما قال تعالى (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) [الأحزاب، 39].
فلا يستجلب حفظ الله بمثل طاعة الله جل وعلا، ولا يستجلب الحفظ بمعصية الله أو بالتقصير في تبليغ دينه أبداً.
هذا بالنسبة للموقف الشرعي من القرار، أما موقف الإسلاميين من القرار فقد رأيتهم انقسموا ثلاثة أقسام: فريق فهموا القرار على ظاهره، وهو أنه يستهدف إيقاف الصوت الشرعي المعارض للمشروع التغريبي، وهؤلاء وقفوا منه موقفاً سلبياً ونشروا مواقفهم إما بتعليقات على الشبكة أو في استضافات فضائية.
والفريق الثاني: سعى إلى تأويل ألفاظ القرار لحملها على معنى شرعي صحيح، وصاروا يمدحون القرار ومقصودهم المعنى الشرعي الذي أبانوه، لا ظاهر القرار، وحجة هؤلاء أننا في معركة مع الليبراليين وليس من مصلحتنا أن نسلمهم القرار ببساطة ونقر أنه ضد الدعوة وأهلها، وهؤلاء اجتهادهم اجتهاد دعوي مقبول، وهم مشكورون على كل حال، ورأيت بعض الأفاضل ممن ينتقد القرار يشنع على هؤلاء الإخوة، وهذا خطأ، فالفرق بين الفريق الأول والثاني أشبه باختلاف الوسائل لا اختلاف المقاصد، واختلاف الوسائل يدخل في اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد.
وأما الفريق الثالث: فقد مدح القرار مدحاً مطلقاً دون أن يحمله على معنى شرعي صحيح، وهؤلاء قليلون جداً، لكن موقفهم موقف خطير لتضمنه إقرار معنى باطل وإضفاء الشرعية عليه، وهو أن يتدين الناس بالدين الذي يختاره السلطان، لا باجتهادهم هم في اختيار من يرضون دينه.
ومن الأمور المستغربة عدم قابلية القرار للتطبيق، فلا الإعلام سيسكت عن إثارة الفتاوى التغريبية تحت ستار أنها رأي لا فتوى، أو مجرد عرض للخلاف الفقهي لا فتوى، ولا المشايخ المستقلين سيسكتون عن الصدع بالحق فليس لديهم رخص سيخسرونها، وهؤلاء هم طرفي المعادلة (الإعلام – العلماء المستقلين) وكلاهما لن يسكت عن الكلام في المسائل الشرعية، فإذا كان طرفا القضية لن يسكتا فما فائدة القرار إذن؟!.
وأي جهة سياسية تصدر أمراً من الصعب تطبيقه فإنها تصرف من رصيد هيبتها، فالحقيقة أن من أشار على الديوان بإصدار القرار لم يستهدف لهم الخير أبداً، فهذا فيه هز لهيبة القرارات الملكية، بتجرئ الناس على انتهاكها، وهذا ليس في مصلحة الجميع بتاتاً، بل من مصلحة الجميع أن تبقى الجهات التنظيمية لها احترامها، فبإجماع الباحثين في العلوم السياسية أن دولة النظام من أهم مؤشرات النضج السياسي، وليس من مصلحتنا جميعاً أن تصبح الأمور فوضى.
ثم إن القرار لاثمرة له عملياً، ولنأخذ مثالاً على ذلك، لنفترض أنه أنشئت جامعة أخرى مختلطة على غرار كاوست، وتهيب المرخص لهم بالفتيا من الفتيا خوفاً من أن تسحب رخصهم، فهاهنا يجب على غير المرخص لهم من أهل العلم أن يصدعوا بالحق، وعليه فإن فكرة هذا القرار لا فائدة لها عملياً في تقييد العلماء المستقلين.
على أية حال .. هذا القرار ليس قراراً عفوياً وتلقائياً، بل هو قرار خرج من رحم معركة، وآثار جراحات كاوست، وقرار تأنيث الصبيان، وقرار تكشير الفتيات؛ بادية عليه، فيجب أن نفهمه في هذا السياق.
وهل المقصود من هذا النقد تجرئ الناس والشباب على الفتيا؟ لا، قطعاً، ليس هذا المقصود، بل ما من طالب علم يزداد إيمانه وعلمه إلا ونقصت جرأته على الفتيا، سيما إذا استحضر قوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر 60]، وقوله تعالى (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود، 18] ، وكل من تكلم في المسائل الشرعية بلا بحث ولا علم فقد وقع في الكذب على الله، فليستعد ليوم يكون فيه وجهه مسوداً، بل ومن أكثر مشاهد سيرة السلف بهاء تلك الهيبة التي تعتريهم عند الفتيا، لاستحضارهم عظمة الله وكونهم يتكلمون عنه وينسبون إليه، ولكن المقصود إنكار الرغبة في منع كلمة الحق في الفتيا والاحتساب، لا تجرئ الشباب وصغار طلاب العلم على الفتيا.
-قتل ملاك الفضائيات أم قتل المفتين:
لو عاد القارئ إلى الوراء ليتذكر المعركة التي دارت حول فتيا الشيخ صالح اللحيدان –حفظه الله- حول ملاك الفضائيات حين قال:
(إن من يدعوا إلى الفتن إذا قدر على منعه ولم يمتنع؛ قد يحل قتله، لأن دعاة الفساد في الاعتقاد أو في العمل إذا لم يندفع شرهم بعقوبات دون القتل؛ جاز قتلهم قضاءً).
هذا نص كلامه، وهو موافق لترجيح ابن تيمية حين قال (فإذا كان المقصود دفع الفساد ولم يندفع إلا بالقتل قتل) [الاختيارات الفقهية].
ومع ذلك طار الإعلام الليبرالي بهذه العبارة، ووضع لها العناوين الإرجافية أن الشيخ اللحيدان يدعوا لقتل ملاك الفضائيات، طبعاً ما سبب الانزعاج الليبرالي من ذلك؟ يقولون أن السبب هو الحرص على حفظ الدماء وأن لاتكون الفتيا فيها بهذه البساطة، حتى لو كان ملاك الفضائيات ينشرون الفنون الهابطة.
حسناً .. لنفترض أن هذا هو السبب، وهو الغيرة والحمية لدماء المسلمين من قبل الليبراليين، فلماذا لم نسمع ذلك الدوي حين نشرت الوطن مستبشرة مهللة هذا الخبر (كشف القاضي في محكمة الاستئناف الدكتور فؤاد الماجد بأن عقوبة مخالف الأمر الملكي ستكون تعزيرية، وعقوبتها تتراوح ما بين أخذ التعهد إلى أن تصل إلى حد القتل) [صحيفة الوطن، 13/8/2010].
لماذا لم نسمع عناوين من مثل (الماجد يفتي بقتل المفتين) على غرار (اللحيدان يفتي بقتل ملاك الفضائيات)؟ أم أن دم من ينشر الفنون الهابطة دم غال أزرق، ودم من ينشر كلام الله ورسوله دم بارد رخيص؟ مجرد سؤال فقط..
-تساؤلات:
بعض الشباب الأخيار في أنفسهم كانت لديهم بعض التساؤلات يقولون فيها: ألا يمكن أن يكون الصراع الاسلامي التغريبي مجرد لعبة خلقتها الحكومة لإلهاء الناس عن قضاياهم الحقيقية؟ ألا يمكن أن يكون الاسلاميون عبيد الحكومة وخدم الاستبداد؟ ألا يمكن أن يكون هذا الصراع كله مسرحية وأول المستفيدين منها هي الحكومة؟ إلى آخر هذه التساؤلات.
حسناً يا أخي الكريم .. حين تتأمل حملة الإقالات التي طالت مناصب رفيعة، كمنصب رئيس مجلس القضاء الأعلى، ومنصب عضو هيئة كبار العلماء .. وحين تتأمل حملة حجب مواقع المواقع الدعوية مثل البراك والمنجد ومفكرة الدعاة ونور الاسلام الخ .. وحين تتأمل إغلاق قناة فضائية كاملة بعد جهود وأموال ويشرف عليها أمثال الطريفي والاحمد والحميد والزامل والهبدان.. وحين تتأمل قراراً ملكياً يصدر بهدف إسكات هذا الصوت الدعوي المعارض للمشروع التغريبي .. فهل بعد ذلك لديك أدنى ذرة شك أن هؤلاء مرغوبون ومطلوبون؟ إذا كانوا مطلوبين مرغوبين فلماذا تتم محاربتهم من قبل جهات رسمية؟!
حسناً .. انتقل إلى مواقع أخرى تمارس نقداً سياسياً صريحاً جداً، مثل (مجلة العصر ومجلة رؤية) .. ومع ذلك تجدهما لم يعانيان من حجب ولا غيره.. فهل يمكن أن يكون الموقع المحجوب والقناة المغلقة هي التي يمثل أصحابها خدم الاستبداد؟ أعتقد لو فكرنا بموضوعية لوصلنا لنتيجة جيدة.
-ضحايا المشروع:
خلال السنوات السابقة كنت أقابل بعض الشباب الذي يتحدث كثيراً عن (الوعي) و (الوعي السياسي) و (فهم الواقع) .. الخ، ثم إذا أخذت أتأمل قناعاته الشرعية وجدته ضحية لهذا المشروع التغريبي الضخم الذي يديره بعض نافذي الديوان والاعلام، بل أحد هؤلاء رأيته مرة يردد نفس الفتاوى التي يرددها الإعلام عن العلماء والدعاة فيقول لك البراك يفتي بقتل من يقول بجواز الاختلاط، ويفتي بوجوب حجاب المرأة أمام المرأة، والاحمد يفتي بهدم الحرم، وكذا وكذا الخ.
بل دعني أفشي لك سراً، كنت أقول لمجموعة من المراقبين لا داعي للقلق على النخب المثقفة من إرجاف الإعلام، لأنهم يقرؤون، بخلاف العامة، فإذا بالمشكلة أن هذه الإشاعات الإعلامية عن العلماء ترددها شخصيات مشغولة بالشأن السياسي وتعطيك المحاضرات في الوعي السياسي، ومع ذلك تنطلي عليهم إشاعات الإعلام ويرددونها بنفس الصيغة الإعلامية! يا ألله .. كم أشعر بالشفقة والرثاء لمن يتوهم نفسه واعياً سياسياً وإذا به أول الضحايا!
التلاعب الإعلامي المنظم بصورة الفتاوى، وبالحاضر والغائب من فتاوى العلماء بهدف التأثير السلبي طويل المدى على صورة الفقيه الشرعي في الوعي الاجتماعي صار له ضحايا كثيرون للأسف الشديد، وهم يتوهمون أنهم خارج الطبخة السياسية، بينما هم يحرَّكون داخل القِدر منذ سنوات.
-كيف نتعامل مع الديوان؟
الديوان الملكي اليوم يطرح مسارين متفاوتين جداً، أولهما: مسار المشروعات التنموية، وهي كثيرة، وتغدق عليها ميزانيات ضخمة، سواء في الجامعات أو المؤسسات الاقتصادية أو مشروعات الطرق ونحوها، وهذا المسار يجب أن ندعمه ونشكره ونشجعهم عليه، فهذه أموال المسلمين وحاجاتهم ويجب أن نشجع كل بادرة فيها شئ من العدل السياسي.
والمسار الثاني: هو مسار المشروعات التغريبية، خصوصاً في قضايا المرأة، عقيدة المسلم تجاه الكافر، وترقيق الدين بالخلافيات، وأحياناً يتترسون في مشروعهم هذا ببعض أصحاب اللحى الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، وهذا المسار يجب أن نقاومه مقاومة صريحة حازمة لا هوادة فيها، ولا يسعنا أن نكتم الحق لأننا لا نحمل رخصة إفتاء أو رخصة احتساب.
وأظن أنه من المهم أن تكون صورة العلماء والدعاة المستقلين متوازنة، فليس من اللائق أن لايرونا إلا رقباء على انحرافاتهم، بل يجب أن نكون داعمين للخير، مجابهين للشر، وهذا هو التوازن الشرعي المطلوب.
وهذا الموقف المتوازن يجب أن نقفه -أيضاً- مع الطوائف الفكرية، ولأكون صريحاً ويتضح المراد بعيداً عن العمومات، فالأستاذ ابوبلال عبدالله الحامد –حفظه الله- رجل نبيل ويقوم بدور ممتاز في المطالبة بالعدل، لكنه على الجانب الآخر يقوم بدور سئ جداً في تحريف بعض القضايا الشرعية، وكمثال على ذلك القاعدة التي نشرها على حائطه قبل أيام بما تتضمنه من تهوين من شأن الحديث "المتواتر" كما يقول ابوبلال هداه الله:
(فكل حديث يصرح بطاعة الجائر، والصبر عليه، والصلاة خلفه، والجهاد خلفه، وترك جهاده السلمي؛ فهو متروك، لأنه غير صحيح متنا، لايقطع بصدقه، ولا ينبغي العمل به، حتى لو كان حديثا صحيحاً متواتراً).
لاحول ولاقوة إلا بالله، إذا وصل الأمر إلى الاستهانة بالأحاديث المتواترة بهذا الشكل فماذا بقي لسنة رسول الله من التوقير إذن؟ ولم يقده إلى ذلك إلا استغراقه في التغريب السياسي، ولكن ومع ذلك فليس من اللائق بتاتاً أن لا يجدنا الأستاذ ابوبلال إلا حيث أخطأ، ولا يجدنا حيث أصاب، فهذا يجعل صورة طالب العلم والداعية غير متوازنة بتاتاً، فله مواقف أخرى رائعة ومشكورة، يجب أن نشكرها وندعمها.
-أنوار لن تطفأ:
بعد هذه المحطات الخاطفة حول تطورات المشروع التغريبي في السعودية من المهم أن نقف عند أهم نقطة في الموضوع، وهي أن المؤشرات تدل على أن الفتن قادمة، وأن النافذين السياسيين ورؤساء التحرير، ومدراء المحطات الفضائية التغريبية؛ يعدون الكثير ويتواطؤون على تمرير مشروعات تغريبية خطيرة، وخصوصاً بعد حملة حجب مواقع المشايخ، وإغلاق فضائية الأسرة، وقرار إسكات المشايخ المعارضين للتغريب؛ فهذا يدل على أن ثمة فتن قادمة، وثمة متساقطون قادمون لن يستطيعوا أن يقاوموا جبنة الديوان..
ولكن علينا دوماً أن نعمل ونحن نتمتم (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة، 32]