المحاضرة الرابعة أغراض الشعر العباسي: ( المدح)
مقدمة: سيطرت الموضوعات القديمة من مدح ورثاء وهجاء وفخر وغزل على أغراض الشعر العربي في العصر العباسي ،غير أنه توجد إضافات في مضامين كل غرض من الأغراض القديمة بسبب الحضارة وظروف كل عصر ، كما استجدت أغراض جديدة ظهرت في العصر العباسي الأول ، ونمت في العصر العباسي الثاني، كالشعر التعليمي .
أولاً- المدح: ترديد المثاليات القديمة في قصيدة المدح العباسية
كان الشاعر الجاهلي والإسلامي يرسم في ممدوحه المثالية الخلقية الرفيعة التي تقدرها الجماعة،من سماحة وكرم وشجاعة وعفة وشرف ومروءة، إلى غير ذلك من هذه المعاني .وجاء العصر العباسي، وأخذ الشعراء العباسيون يعيدون هذه المثل والمعاني ويجسمونها في ممدوحيهم تجسيماً قوياً، حتى لتصبح كأنها تماثيل قائمة نصب أعين الناس كي يحتذوها ويحوزوا لأنفسهم مجامع الحمد والثناء.
مثاليات جديدة أضافتها قصيدة المدح العباسية:(المعاني الإسلامية)
وقد مضى الشعراء العباسيون في مديح الخلفاء والولاة يضيفون إلى هذه المثالية مثالية الحُكم وما ينبغي أن يقوم عليه من الأخذ بدستور الشريعة وتقوى الله والعدالة التي لا تصلح حياة الأمة بدونها، كما في مدح مروان بن أبي حفصة للمهدي، قائلاً:
أحْيَا أمِيرُ المُؤْمِنينَ مُحَمَّدٌ سُنَنَ النَّبِيِّ حَرَامَها وحَلالَها
و يقول أبو العتاهية في هارون الرشيد: وراعٍ يُراعي اللّيلَ في حِفظِ أُمّةٍ، يُدافِعُ عَنها الشّرَّ، غَيرَ رَقُودِ
وقد يكون الخليفة سيئ السلوك، ولكن الشعراء يمدحونه بنفس هذه المثالية الكريمة للخلفاء، لأنهم لا يمدحونه من حيث هو ، وإنما يمدحونه كخليفة للمسلمين وموضع آمالهم، وكأنما يريدون أن يرفعوا أمام عينه الشعارات التي تطلبها الأمة في خليفتها وراعيها، لعله يثوب إلى طريق الرشاد.
من ذلك مدح على بن الجهم للمتوكل: لَهُ الْمِنَّةُ الْعُظْمى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وطاعَتُهُ فَرْضٌ مِنَ اللـهِ مُنْزَلُ
• تابع:التجديد في مطلع قصيدة المدح العباسية
كما جدد الشعراء العباسيون في مطلع قصيدة المديح ومقدماتها , بل لقد ترك بعضهم تلك المطالع .
كما ظل الشعراء العباسيون في مداحهم يقلدون القدماء في الوقوف على الأطلال ، ووصف الصحراء ، ولكن مع إضافات كثيرة ، حتى يلائم بينه وبين عصره.وتتسع الإضافة أحياناً وتضيق أحياناً، ولكنها دائماً تعبر عن الذخائر العقلية والخيالية للشاعر العباسي، فقد جعلوا الأطلال رمزاً لحبهم الداثر،وأما رحلة الصحراء فرمز لرحلة الإنسان في الحياة.
وحاول بعض الشعراء العباسيين أن يترك الحديث عن الأطلال المهجورة إلى الحديث عن القصور، من ذلك قول أشجع السلمي:
قَصَرٌ عَلَيهِ تَحِيَّةٌ وَسَلامُ نَثَرَت عَلَيهِ جَمالَها الأَيّامُ
وعلى نحو ما استبقوا الأطلال وما يتصل بها من حنين ، استبقوا رحلة الصحراء ، وتفننوا في وصف وعوثة طرقها ورياحها الحارة ، كما قال صريع الغواني:
وَمَجهَلٍ كَاطِّرادِ السَيفِ مُحتَجِزٍ عَنِ الأَدِلاءِ مَسجورِ الصَياخيدِ
تَمشي الرِياحُ بِهِ حَسرى مُوَلَّهَةً حَيرى تَلوذُ بِأَكنافِ الجَلاميدِ
الصياخيد:اليوم اللافح الحر. الجلاميد:الصخور.
فالرياح من شدة الحر تلجأ إلى أطراف الصخور ، كانها تريد الفرار من هذا الجحيم المطلق وجعلتهم موجة المجون الحادة في العصر يصفون في مقدمات مدائحهم الخمر أحياناً ، واستهل ذلك بشار ، وتوسع فيه أبو مسلم وأبو نواس وأبو العتاهية سعة شديدة.
وعنوا على نحو ما عني الشاعر القديم ببث الحكم والأمثال في ،مثل قول أبي تمام في فضل المحسود ونقص الحسود:
وإِذَا أَرادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضيلَةٍ طُويَتْ أَتاحَ لَها لسَانَ حَسُودِ
لَوْلاَ اشتعَالُ النَّارِ، فيما جَاوَرَتْ ما كَانَ يُعْرَفُ طيبُ عَرْف العُودِ
عناصر مستمدة من البيئة الحضارية.
كما أضاف الشاعر العباسي لقصيدة المدح عناصر مستمدة من بيئته الحضارية.
التناسب بين الممدوح وما يُمدح به.
ودفعتهم دقتهم الذهنية أن يلائموا بين مدائحهم وممدوحيهم ؛ فإذا مدحوا الخلفاء نوهوا بتقواهم وعدلهم في الرعية ، وإذا مدحوا القواد أطالوا في وصف شجاعتهم، وإذا مدحوا الوزراء تحدثوا عن سياستهم ، وإذا مدحوا عالماً أشادوا بعلمه ، وكذلك صنعوا بالفقهاء والقضاة والمغنيين.
يقول المتنبي مادحاً سيف الدولة:
ما لي أُكَتِّـمُ حُبّـاً قد بَـرَى جَسَـدي
وتَدَّعِـي حُـبَّ سَيـفِ الدَولـةِ الأُمَـمُ
إِنْ كـانَ يَـجمَـعـُنـا حُبٌّ لِغُـرَّتـِهِ
فَلَـيتَ أَنَّـا بِقَـدْرِ الحُـبِّ نَقـتَسِـمُ
قـد زُرتُـه وسُيـُوفُ الهـِنـدِ مُغمَدةٌ
وقـد نَظَـرتُ إليـهِ والسُـيُـوفُ دَمُ
وَ كـانَ أَحـسَـنَ خـَلـقِ الله كُلِّهـِـمِ
وكانَ أَحْسَنَ مـا في الأَحسَـنِ الشِيَـمُ
تصوير الأحداث في قصيدة المدح:
وكان الشعراء العباسيون في مدائحهم يصورون الأحداث السياسية والعسكرية التي وقعت في عصور الخلفاء وبخاصة الفتن والثورات الداخلية وحروب الخلفاء ضد أعداء الأمة وحروبهم ضد الروم والترك .
بذلك فقد أصبحت وثائق المديح وثائق تاريخية (سياسية عسكرية ) هامة تشتمل على أحداث الفتوحات والفتن والمعارك المهمة في تاريخ الأمة .
تعقيب:
وعلى هذا النحو ازدهرت المدحة على لسان الشاعر العباسي لا بما رسم فيها من مثاليتنا الخلقية وسجل من الأحداث وصوَّر من البطولات العربية فحسب ، بل أيضاً بما تمثل من العناصر القديمة وأذاع فيها من ملكاته وما أضاف إليها من عناصر جديدة استمدها من بيئته الحضارية ومن نفسيته وملكاته العقلية