المحاضرة التمهيدية
المقرر ذو شقين:
أولهما في الأخلاق عامة.
وثانيهما في أخلاق المهنة حاصة.
أهداف المقرر
نهدف من دراسة هذا المقرر تحقيق ما يلي:
1- الوقوف على تعريف الأخلاق في اصطلاح العلماء, وذكر أسسها وخصائصها في الإسلام.
2- تحديد وسائل التربية الأخلاقية في الإسلام.
2- الوقوف على أهمية المهنة وضرورتها في الحياة.
3- معرفة أخلاق المهنة في الإسلام.
4- الشعور بالمسؤولية الأخلاقية .
خطة تدريس المقرر:
سيتم توزيع المنهج على أربع عشرة محاضرة هي:
1- تعريف الخلق وطبيعته وأقسامه ومكانته.
2- أسس الأخلاق في الإسلام.
3- خصائص الأخلاق الإسلامية.
4- وسائل اكتساب الأخلاق.
5- المسؤولية عن السلوك الأخلاقي.
6- نماذج من أخلاق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم
7- تعريف أخلاق المهنة والحاجة إلى دراستها.
8- أخلاقيات العلم والتعلم.
9- أخلاقيات العمل التجاري والمهن الخدمية.
10- خلق الطهارة والاستقامة المهنية.
11- خلق التعاون المهني.
12- خلق الأمانة المهنية.
13- خلق المحبة المهنية.
14- دراسة لنماذج لمواثيق بعض المهن المعاصرة.
المحاضرة الأولى
تعريف الخُلُق و طبيعته ومكانته في الإسلام
أولاً .. تعريف الخلق :
الخُلُق لغة: بضم الخاء واللام الطبع والسجية. أي ما جُبِل عليه الإنسان من الطَّبع. وجمعه أخلاقٌ. وهو - أي الخُلُق – يمثل صورة الإنسان الباطنة ، التي هي نفسه التي بين جنبيه وأوصافها ومعانيها المختصَّة بها. كما أن الخَلْق يمثل صورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها .
واصطلاحاً: حالٌ للنفس راسخةٌ تصدر عنها الأفعال من خيرٍ أو شرٍ من غير حاجةٍ إلى فِكرٍ و رَوِيَّةٍ. وبهذا المعنى ورد قول الله سبحانه في مدح نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم }.
وقد يطلق الخُلُق على نفس المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على الوجه الأكمل. وبهذا المعنى ورد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق).
شرح التعريف وتوضيحه:
أما التعريف الأخير فواضح لا لبس فيه, إذ إن الصدق والسخاء والرحمة والعدل وحب الخير للناس كلها أخلاق حميدة, وفضائل مسلَّمة, يسعى عقلاء الناس للتحلي بها, وتربية أبنائهم عليها.وأما التعريف الأول فهو الذي يكتنفه بعض الغموض, ويحتاج إلى توضيح, فنقول:
يُقصد بـ (الحال) : الهيئة والصفة للنفس الإنسانية.
و (راسخة) : أي ثابتة بعمق. وهو ما يعني أن الأفعال تتكرر من صاحبها على نسق واحد حتى تصبح عادة مستقرة لديه. ومن ثمَّ كان مَنْ ينفق المال مرة أو مرتين أو ثلاث مرات على المحتاجين لا يوصف بخلق السخاء والجود, بل لابد من تكرره منه بحيث يصبح عادة له.
• و (من غير حاجةٍ إلى فِكرٍ و رَوِيَّةٍ) : أي من غير تكلف أو مجاهدة نفس , بل بسهولة ويسر وبطريقة تلقائية.
• يقول الإمام الغزالي رحمه الله: "الخَلْق والخُلُق عبارتان مستعملتان معاً, يقال: فلانٌ حسنُ الخُلُق والخَلْق. أي: حسن الباطن والظاهر. فيراد بالخَلْق الصورة الظاهرة, ويراد بالخُلُق الصورة الباطنة. وذلك لأن الإنسان مركبٌ من جسدٍ مدرك بالبصر, ومن روحٍ ونفسٍ مدركٍ بالبصيرة. ولكل واحد منهما هيئةٌ وصورةٌ: إما قبيحةٌ, وإما جميلةٌ. فالنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدراً من الجسد المدرك بالبصر, ولذلك عظم الله أمره بإضافته إليه, إذ قال تعالى: {إني خالقٌ بشراً من طين, فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين, والروح إلى رب العالمين, والمراد بالروح والنفس في هذا المقام واحد" .
ثانياً- موضوع علم الأخلاق:
يبحث علم الأخلاق في الأحكام القيمية المتعلقة بالأعمال التي توصف بالخير أو الشر, أو توصف بالحسن أو القبح, وهذا ما يميز الأخلاق عن الغرائز والدوافع؛ لأن الغرائز والدوافع هي الحاجات التي فطر الله الإنسان عليها كحاجته للأكل والشرب والنكاح والنوم... وهي أشياء لا تستوجب لصاحبها مدحاً ولا ذماً, ولا ثواباً ولا عقاباً, فإن مُدح الإنسان أو ذُم على شيء من ذلك , كان المقصود ليس نفس الفعل, وإنما طريقة صاحبه في تلبية تلك الحاجة , أو إشباع تلك الرغبة. فمن يأكل لا يمدح ولا يذم على فعله ذاك , وإنما يمدح إن أكل مما يليه وبهدوءٍ, ومضغ الطعام جيداً, وبدأ باسم الله, وانتهى بحمد الله, فهذا يحمد على فعله هذا, بخلاف من أكل بشراهة, وأدخل اللقمة على اللقمة, وجالت يده في القصعة ... فإنه يذم على فعله ذاك.
ثالثاً- أقسام الخلق:
• يمكن تقسيم الخلق إلى قسمين اثنين باعتبارين مختلفين:
• أولهما باعتبار الفطرة والاكتساب: وبهذا الاعتبار ينقسم الخلق إلى:
* أخلاق فطرية: جُبِلَ الإنسانُ عليها أي هي هبة ومنحة من الله تعالى, وليس للإنسان أي دور في اكتسابها. مثال ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأشج عبد القيس المنذر بن عائذ وكان وافد عبد القيس وقائدهم ورئيسهم - وعبد القيس قبيلة- ( إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم, والأناة ) فقال: أشيءٌ جُبِلتُ عليه, أم شيءٌ حدث لي؟ فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (بل شيء جبلت عليه). فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله". قال النووي: الحلم هو العقل. والأناة هي التثبت وترك العجلة. وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك له ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا إلى المدينة بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقربه النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه .
* أخلاق مكتسبة: يسعى الإنسان في تحصيلها بالتدريب والممارسة العملية, ومن خلال مجاهدته لنفسه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيح: ( العلم بالتعلم, والحلم بالتحلم).
• ثانيهما باعتبار القبول وعدمه شرعاً: وبهذا الاعتبار ينقسم الخلق إلى:
• 1 - خلق حسن: وهو الأدب والفضيلة وتنتج عنه أقوال وأفعال جميلة عقلا وشرعا.
• 2 - خلق سيئ: وهو سوء الأدب والرذيلة وتنتج عنه أقوال وأفعال قبيحة عقلا وشرعا.
• ولقد جاءت دعوته r إلى فضائل الأخلاق، فقد أسامة بن شريك قال: (كنا جلوساً عند النبي r كأنما على رؤوسنا الطير، ما يتكلم منا متكلم، إذ جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله تعالى؟ قال: (أحسنهم خلقاً) وحسن الخلق من أكثر الوسائل وأفضلها إيصالا للمرء للفوز بمحبة رسول الله r والظفر بقربه يوم القيامة حيث يقول: ( إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً) .
يقسم كثير من الباحثين المعاصرين ما جاء به الإسلام من تشريعات وأحكام إلى شعب أربعة هي:
عقائد , وعبادات , ومعاملات , وأخلاق .
وربما قسمها بعضهم إلى ثلاث شعب فدمجوا بين العبادات والمعاملات, فقالوا:
عقيدة , وشريعة , وأخلاق .
وهذا التقسيم إنما يصح بالنظر إلى الجهة الغالبة في تلك القضايا والمسائل التي تناولتها نصوص الشرع, وإلا فعند التأمل وإنعام النظر نجد أن هذه الشعب الثلاث أو الأربع لا تنفك عن بعضها, وأنها متداخلة متعاضدة كالبنيان يشد بعضها بعضاً. فالأخلاق التي يرد ذكرها في آخر الشعب لا تنفك عن العقيدة والعبادات والمعاملات, وهي في نفس درجاتها ومستوياتها من الأهمية والطلب. بل إنها تمثل جوهر رسالة الإسلام ولب شريعتها، بكل ما تحمله كلمة الأخلاق من عمق وشمول.
وبيان ذلك من وجوه :
• حث الإسلام على الفضائل وحذر من الرذائل في نصوص لا تحصى من القرآن والسنة, ووصل فيها إلى أعلى درجات الإلزام، ورتب عليها أعظم مراتب الجزاء، ثواباً وعقاباً، في الدنيا والآخرة. فالصدق يهدي إلى البر, والبر يهدي إلى الجنة, والكذب يهدي إلى الفجور, والفجور يهدي إلى النار. وامرأة دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها, ولا هي دعتها تأكل من خشاش الأرض. وبغي دخلت الجنة في كلب سقته. والمرء يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم لا يفطر, والقائم لا يفتر. ...
• بلغ من عناية الإسلام بالأخلاق أن الله سبحانه حين أثنى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلمفي القرآن الكريم اختار الثناء عليه من جهة أخلاقه ليُعلمنا أنه لا أبلغ ولا أرفع من هذه الصفة. فقال تعالى:{وإنك لعلى خلق عظيم}.
• جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الغاية والهدف من رسالته إتمام البناء الأخلاقي الذي بدأه من سبقه من الأنبياء والمرسلين, فقال فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق).
في باب العقائد نجد أن الإسلام يضفي على التوحيد صبغة خُلُقية، فيعتبره من باب "العدل" وهو فضيلة خلقية، كما يعتبر الشرك من باب "الظلم" وهو رذيلة خلقية, فيقول سبحانه: {إن الشرك لظلم عظيم} وذاك لأنه وضعٌ للعبادة في غير موضعها، وتوجه بها إلى من لا يستحقها. بل اعتبر القرآن الكريم الكفر بكل أنواعه ظلما، فقال تعالى: {والكافرون هم الظالمون}.
• والعبادات الإسلامية الكبرى ذات أهداف أخلاقية جلية منصوص عليها في كتاب الله:
• فالصلاة وهي العبادة الأهم في حياة المسلم، لها وظيفة سامية في تكوين الوازع الذاتي، وتربية الضمير الديني على الابتعاد عن الرذائل. قال تعالى: {وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} وهي كذلك تعين المسلم على مواجهة متاعب الحياة. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة}.
• والزكاة وهي العبادة التي تلي الصلاة في الأهمية, وسيلة لتطهير وتزكية النفس, وهما من الأهمية بمكان في عالم الأخلاق. قال تعالى:{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}.
• والصيام إنما يقصد به تدريب النفس على الكف عن شهواتها، وإدخال صاحبها في سلك المتقين, وهي جماع الأخلاق الإسلامية. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}
• والحج تدريب للمسلم على التطهر والتجرد والترفع عن زخارف الحياة, وضبط الجوارح. قال تعالى: {الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}.
• وفي مجال المال والاقتصاد كان للأخلاق حضورها سواءٌ في ميدان الإنتاج أم التداول أم التوزيع أم الاستهلاك.
• ففي مجال الإنتاج يجب أن تكون السلعة المنتجة نافعة مفيدة, وأما ما كان ضاراً بالناس أو مؤذياً لهم فلا يجوز إنتاجه مهما كان سيجلب لصاحبه من أرباحٍ ماديةٍ. قال تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}.
• وفي مجال التبادل يحرم الإسلام الاحتكار والغش وكتمان العيب, وإنفاق السلعة بالحلف الكاذب, واستغلال حاجة الآخرين أو استغلال بساطتهم أو طيشهم لخداعهم ففي الحديث الصحيح: "لا يحتكر إلا خاطئ" أي آثم. وفيه أيضاً: "من غش فليس منا". وفيه: "الحلف الكاذب منفقة للسلعة ممحقة للبركة. والتملك، لا يجوز للمسلم أن يتملك ثروة من طريق خبيث، ولا يحل له أن يأخذ ما ليس له بحق لا بالعدوان ولا بالحيلة.كما لا يحل للمسلم الملك بطريق خبيث، لا يحل له تنمية ملكه بطريق خبيث كذلك.لهذا حرم الله الربا والميسر، وأكل أموال الناس بالباطل، والظلم بكل صوره، والضرر والضرار بكل ألوانه.
• وفى مجال التوزيع أمر بالعدل بين الأولاد في العطية من الوالدين, كما وضع نظاماً دقيقاً في توزيع الميراث, والصدقات المفروضة, والغنائم والفيء والخراج والجزية وعطايا بيت المال. فقال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)
• وفي مجال الاستهلاك والإنفاق أمر الإسلام بالاعتدال والتوسط, والابتعاد عن الترف, والتبذير والإسراف والتقتير. قال تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً}. وقال أيضاً: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين}. ومن هذا الباب تحريمه لاستعمال أواني الذهب والفضة مطلقاً، وكذا تحريمه لبس الذهب والحرير على الرجال.
• وفي مجال السياسة ربط الإسلام السياسة بالأخلاق، فرفض كل الأساليب القذرة للوصول إلى الغايات مهما كانت تلك الغايات نبيلة, ورفض مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" وجعله سياسته مبنية على الصدق والرحمة والعدل والإنصاف والمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات والعقوبات، وفرض احترام الاتفاقات، والوفاء fالعهود. قال تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} وقال جل شأنه: {وبعهد الله أوفوا ..} وقال أيضاً {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
• وفي مجال الحرب لم تنفصل سياسة الإسلام عن الأخلاق, بل بقيت كما في السلم مبنية على العدل والرحمة والصدق والوفاء. قال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} , وقال جل في علاه: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام، أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب}. وجعل الغاية من الحرب إعلاء كلمة الله, والانتصار للحق والخير. قال تعالى: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان} وقال جل جلاله: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين}. وفي السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أصحابه إذا توجهوا للقتال بقوله: "اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً) وكذلك كان الخلفاء الراشدون المهديون من بعده يوصون قوادهم: "ألا يقتلوا شيخا، ولا صبيا، ولا امرأة، وألا يقطعوا شجرا، ولا يهدموا بناءً".
• وهكذا فما من مجال من مجالات الحياة يعيشها المسلم بمعزل عن القيم الأخلاقية والضوابط السلوكية, وما هذا الذي ذكرناه إلا غيض من فيض.