و قال عماد الشربينى في كتابه "رد شبهات حول عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى ضوء السنة النبوية الشريفة":
الزيادة الواردة فى سند حديثعائشة رضى الله عنها غير ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقلشيئا منها، ولا فعلها، فهى لا تصح سندا ولا متنا لما يلى :
أ-فأما الدليل على عدم صحة هذه الرواية سندا فهو ما ورد فى الرواية ذاتها إذفيها "حزن النبى صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا…" والقائل "فيما بلغنا" هو الإمام الزهرى وهو أعلم الحفاظ، ولكن لا يقبل ما رواه من غير سند! فعن يحيى بن سعيد القطان قال : مرسل الزهرى شر من مرسل غيره، لأنهحافظ، وكلما قدر أن يسمى سمى! وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه وهذهالزيادة من هذه القبيل، حيث أنها منقطعة قد رواها الزهرى بلاغا، وهو منصغار التابعين، وجل روايته عن كبار التابعين، وأقلها عن صغار الصحابة فكيف بالكبار منهم، لاسيما من شهدوا بدء الوحي إلى رسول الله صلى اللهعليه وسلم وعلىذلك فلا سند يعتمد عليه، ولعل الإمام البخارى وغيره ممن أخرج هذه الزيادةأرادوا بذلك التنبيه إلى مخالفتها لما صح من حديث بدء الوحي الذى لم تذكرفيه هذه الزيادة، وخصوصا أن البخارى لم يذكر هذه الزيادة فى بدء الوحي،ولا التفسير، وإنما ذكرها فى التعبير على ما سبق فى التخريج.
... ويؤيدما سبق، أن الأئمة الحفاظ يذكرون عقب هذه الزيادة حديث جابر الصحيح فىفترة الوحي إلى الزهرى بنفس السند الذى يروونه عنه فى حديث عائشة الأول،ويفهم من صنيعهم ذلك: أن الزهرى نفسه كان يحدث بحديث جابر عقب حديث عائشة.
... ففى مصنف الإمام عبد الرزاق بعد فراغه من حديث عائشة : قال معمر، قالالزهرى، فأخبرنى – حرف الفاء هذا يفيد العطف على رواية سابقة، والتعقيببأخرى لاحقة، وذلك فى مجلس واحد - أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبدالله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحدث عن فترة الوحي،فقال فى حديثه : "بينما أنا أمشى سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسى، فإذاالذى جاءنى بحراء جالسا على كرسى بين السماء والأرض، فجئثت منه رعبا،ثم رجعت، فقلت : زملونى، زملونى، ودثرونى، فأنزل الله تعالى : { يا أيهاالمدثر } إلى { والرجز فاهجر } ... وكذلك الإمام البخارى ذكر حديث عائشة المتقدم فى بدء الوحي عن ابن شهاب،عن عروة، عن عائشة رضى الله عنها إلى قولها : ثم لم ينشب ورقة أن توفى،وفتر الوحي، ثم قال عقبة : قال ابن شهاب : وأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمنأن جابر بن عبد الله الأنصارى قال… فذكر الحديث بنحو رواية عبد الرزاق،غير أنه زاد فى آخره : "فحمى الوحي وتتابع" ... قال الحافظ ابن حجر : قوله : (قال ابن شهاب : وأخبرنى أبو سلمة) إنما أتى بحرق العطف، ليعلمأنه معطوف على ما سبق، كأنه قال : أخبرنى عروة بكذا، وأخبرنى أبو سلمةبكذا، وأخطأ من زعم أن هذا معلق، وإن كانت صورته صورة التعليق، ولو لم يكنفى ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنها دالة على تقديم شئ عطفته – وهو حديثعائشة المتقدم – ثم قال ابن شهاب – أى بالسند المذكور – وأخبرنى أبو سلمةبخبر آخر، وهو حديث جابر عن فترة الوحي)
... وكذلك فعل الإمام أحمدفى مسنده، مع أنه قد جمع فى مسنده مرويات كل صحابى على حده، دون الالتزامبالوحدة الموضوعية للأحاديث، لكنه لما روى حديث عائشة المتقدم عن عبدالرزاق عن معمر عن الزهرى، قال : فذكر حديثا لعله يشير إلى حديث جابرالذى أخرجه قبل ذلك فى المسند ... وكذلك صنعا مسلم، وابن حبان فى صحيحيهما عقب إخراجهما لحديث عائشة رضىالله عنها فدل هذا كله، على أن ابن شهاب الزهرى كان يحدث بالحديثينمعا، كما روى عنه غير واحد مما سبق بيانه، وأن الصواب فى رواية حديث عائشةبدون تلك الزيادة، كما أخرجه مسلم، والبخارى فى بعض مواضعه، وغيرهما
ب- أما الدليل على عدم صحة هذه الزيادة متنا فهو ما يلى :معارضتهالأصل من أصول الإسلام، وهو عصمة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلامبمعنى : حفظ الله ظواهرهم وبواطنهم، وتفكيرهم وخواطرهم، وسائرا أعمالهم،حفظا كاملا، فلا يقع منهم قط ما يشكك فى نبوتهم ورسالاتهم، وهذا البلاغالمعمرى أو الزهرى، لم يبق لعصمة النبى صلى الله عليه وسلم مكانا فى مدةالحزن اليائس التى تقول أقصوصة هذا البلاغ إنه صلى الله عليه وسلم مكثهاوهو يغدو مرارا كى يتردى من شواهق الجبال، ولاسيما على مذهب من يرى أن مدةفترة الوحي – وهى مدة الحزن اليائس – قد طالت إلى ثلاث سنوات، أو سنتينونصف سنة، أو ستة أشهر، وفى هذا البلاغ الضعيف تصريح بأن صاحبه يذهب مذهبمن يرى طول مدة فترة الوحي لأن ما ذكر فيه من الغدو مرارا لكى يلقىبنفسه من ذرا الشواهق يقتضى طول المدة، ولاسيما مع تمثل جبريل له وقوله : أنا جبريل، وأنت رسول الله حقا، أكثر من مرة.يتعارضهذا البلاغ مع ما يجب أن يكون عليه النبى صلى الله عليه وسلم من رسوخالإيمان بنبوته، وكمال اليقين برسالته، ولا شك أن ما جاء فى هذا البلاغ،من تبدى جبريل عليه السلام للنبى صلى الله عليه وسلم كلما أوفى بذروة جبللكى يلقى منها نفسه، وقوله له : يا محمد : أنت رسول الله حقا، فإذا طالتعليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل عليهالسلام، فقال مثل ذلك – يصور مدى ما بلغه ذلك الحزن اليائس – فى زعمقائليه – من نفس النبى صلى الله عليه وسلم حتى جعله يتشكك فى تبدى جبريلله، وفى إخباره أنه رسول الله حقا، فالنبى صلى الله عليه وسلم - كما تصرحبه عبارة هذا البلاغ – لم يكد يسكن جأشه لتبدى جبريل له وإخباره أنه رسولالله حقا حتى يعود إلىعزيمته فى إلقاء نفسه من ذرا شواهق الجبال، فيتبدىله جبريل مرة أخرى، ويقول له : يا محمد، أنت رسول الله حقا.
فأين سكون جأشه الذى أحدثه فى نفسه تبدى جبريل له، وإخباره أنه رسول الله حقا؟.
وأينرسوخ إيمانه برسالة ربه التى شرفه بها قبل فترة الوحي، وأنزل عليه فى أولمراتب وحيها فى غار حراء قرآنا يتلى، حتى يعود عن عزيمته لإلقاء نفسه منذرا شواهق الجبال إذا طالت عليه فترة الوحي؟!.
إن ما تضمنه هذا البلاغ الضعيف يشمل أمرين :
أحدهما : ظاهر محسوس، يمكن مشاهدته، والحكم بوجوده أو عدم وجوده بمقتضى إمكان مشاهدته حسا.
ثانيهما :باطن محجوب فى داخل النفس، لا يمكن معرفته إلا بإخبار صاحبه الذى دار فىنفسه، أو إخبار من أظهرهم عليه بنقل ثابت عنه.
فذهاب النبى صلى الله عليهوسلم إلى أعالى الجبال وشواهقها التى ألف الصعود إليها فى أزمان خلواتهوتطلعاته للتفكر فى عجائب آيات الله الكونية، وبدائع ملكوته، أمر محسوس،يمكن الحكم عليه برؤيته ومشاهدته، ولا حرج فى أن يكون النبى صلى الله عليهوسلم قد حزن فى فترة الوحي اشتياقا لأنوار الشهود الروحانى الأعلى الذىكان يغمره فى أوقات نزول الوحي، ونزول آيات القرآن المبين، حزنا كان يغدومنه إلى ذرا الجبال التى كانت مأنس روحه، تطلعا إلى آفاق أشواقه لشهودتجليات أمين الوحي جبريل عليه السلام الذى سبق له أن تجلى فى آفاقهابصورته الملائكية الروحانية العالية.
... وكون هذا الذهاب إلى ذراشواهق الجبال لقصد التردى منها ليقتل نفسه – كما هو نص عبارة البلاغالضعيف – أمر باطن محجوب بأستار الضمير فى حنايا النفس، لا يعلمه، ولايطلع عليه إلا الله علام الغيوب، وإلا صاحبه الذى دار فى حنايا نفسه، وعزمعلى تحقيقه عمليا، وإلا من يظهره عليه صاحبه العليم به، بأخبار منه إليه،وكل ذلك لم يثبت!.
... وما روى عن ابن عباس من قوله : "مكث النبى صلىالله عليه وسلم أياما بعد مجئ الوحي لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا حتىكان يغدو إلى ثبير مرة، وإلى حراء أخرى، يريد أن يلقى نفسه" غيرمسلم من وجوه:أ- أن حديث ابن عباس من رواية الواقدى، وهو معروف بالضعف، لا يقبل الجهابذة من المحدثين روايته إلا إذا اعتضدت بروايات الثقات.
ب- إذا صح سند الحديث إلى ابن عباس رضى الله عنهما، فهو اجتهاد لا يعلممعتمده، فى أمر لا سبيل إلى معرفته إلا بإخبار من النبى صلى الله عليهوسلم، ولم يثبت هذا الإخبار، فالحديث موقوف على ابن عباس، فيكون فى منزلةبلاغ الزهرى، كما يؤخذ من كلام ابن حجر يجب رفضه كرفض بلاغ الزهرى،وإبطاله كإبطاله، ولعل هذا الحديث الضعيف فى سنده، الباطل فى متنه ونصه،هو مستند بلاغ الزهرى، والزهرى إمام موثق، فلا حرج على البخارى فى إلحاقبلاغة بجامعه من جهة توثيق السند، على أن البخارى لم يلحقه بجامعه إلا فىموضع واحد فقط من مواضع حديث بدء الوحي، وهى متعددة فيه بالإسناد نفسهمقرونا بإسناد آخر تارة، وغير مقرون تارة أخرى، ولم يرد فى تلك المواضعذكر لهذا البلاغ الضعيف إلا فى كتاب (التعبير) بلاغا لا تأصيلا.
ثالثا : ثبت فى الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه، أن رسول الله صلىالله عليه وسلم تحدث عن فترة الوحي، ولم يرد فى كلامه صلى الله عليه وسلمكلمة واحدة، تشعر بما جاء فى هذا البلاغ الضعيف، حتى ولو مجرد حزن لحق بهتأسفا على هذه الفترة.
... هذا مع أنه لا نرى حرجا فى أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم قد اعتراه شئمن الحزن فى مدة فترة الوحي، لانقطاع أنوار الشهود الروحى، ولا نرى حرجافى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يغدو إلى ذرا الجبال تطلعا لتجلياتأمين الوحي الذى عهد لقاءه فى هذه الذرا، وهذا أمر فطرى وطبيعى، فالإنسانإذا حصل له خير أو نعمة فى مكان ما، فإنه يحب هذا المكان، ويلتمس فيه ماافتقده، فلما فتر الوحي: صار صلى الله عليه وسلم يكثر من ارتياد قممالجبال، ولاسيما حراء، رجاء أنه إن لم يجد جبريل فى حراء، فليجده فى غيره،فرآه راوى هذه الزيادة وهو يرتاد قمم الجبال، فظن أنه يريد أن يلقى بنفسه،وقد أخطأ الراوى المجهول فى ظنه قطعا.
... وليس أدل على ضعف هذهالزيادة وتهافتها من أن جبريل عليه السلام كان يقول للنبى صلى الله عليهوسلم كلما أوفى بذروة جبل : "يا محمد إنك رسول الله حقا" وأنه كرر ذلكمرارا، ولو صح هذا لكانت مرة واحدة تكفى فى تثبيت النبى صلى الله عليهوسلم وصرفه عما حدثته به نفسه كما زعموا.