تشكري على اجتهادك
قَالَ الزُّهْرِيُّ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : ... وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا ، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ ، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ ، فَيَرْجِعُ ؛ فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ " .
هذه الزيادة ليست من كلام عائشة رضي الله عنها ، بل هي من كلام الزهري ، وهو من التابعين لم يدرك تلك الحادثة ، ولم يذكر هو أن أحدا من الصحابة حدثه بها ، ولذا نصَّ على ذلك في الرواية نفسها بقوله : " فيما بلَغنا " .
وبلاغات الزهري وغيره لا تُقبل ؛ لأنها مقطوعة الإسناد من أوله ، فهي كالمعلَّقات تعريفاً وحكماً ، ومجرد وجود مثل هذه البلاغات أو المعلقات في كتاب الإمام البخاري لا يعني أنها صحيحة عنده ، أو أنها مما يصح أن يقال فيها : رواه البخاري ؛ لأن الذي يقال فيه ذلك هو ما رواه فيه مسندا .
هذا العزو للبخاري خطأ فاحش ، ذلك لأنه يوهم أن قصة التردي هذه صحيحة على شرط البخاري ؛ وليس كذلك ، وبيانه أن البخاري أخرجها في آخر حديث عائشة في بدء الوحي
قد جاءت أسانيد أخرى فيها ذِكر حكاية محاولة النبي صلى الله عليه وسلم الانتحار أثناء انقطاع الوحي بعدما جاءه أول مرة ، وكلها أسانيد مردودة ، ما بين ضعيف وموضوع
. أن فترة انقطاع الوحي كانت لإزالة الخوف الذي جاء لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أول ما جاءه الوحي ، وأنها للاستعداد لما بعده ، فكيف يلتقي هذا مع همِّه صلى الله عليه وسلم بالانتحار ؟! .
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك للحظة في كونه نبيّاً ، فقد ثبَّت الله تعالى قلبه بالوحي ، وما وجده من الرهبة من نزول الوحي أول مرة فيدل على بشريته ، وعلى شدة الوحي ، وقد كان يعاني صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عند نزول الوحي في بعض صوره .
والخلاصة :
لم تصح رواية همِّ النبي صلى الله عليه وسلم وسلم بالانتحار لتأخر الوحي عليه أول أمر الرسالة ، والزيادة التي في البخاري ليست على شرطه فلا تنسب للصحيح ، وقد أثبتها البخاري رحمه الله أنها من قول الزهري لا غيره ، فهي بلاغ مقطوع الإسناد لا يصح ، وقد ذكرنا للحديث روايات أخرى كلها يؤكد عدم صحة القصة لا سنداً ولا متناً .
والله أعلم.