ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم اﻹسﻼم وباطنهم الكفر فقال
:{8 - 10}
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ*}
واعلم أن النفاق هو: إظهار الخير وإبطان الشر، ويدخل في هذا التعريف النفاق اﻻعتقادي, والنفاق العملي، كالذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " آية المنافق ثﻼت: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان " وفي رواية: " وإذا خاصم فجر "وأما النفاق اﻻعتقادي المخرج عن دائرة اﻹسﻼم, فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها، ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم [من مكة] إلى المدينة, وبعد أن هاجر, فلما كانت وقعة " بدر " وأظهر الله المؤمنين وأعزهم، ذل من في المدينة ممن لم يسلم, فأظهر بعضهم اﻹسﻼم خوفا ومخادعة, ولتحقن دماؤهم, وتسلم أموالهم, فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم, وفي الحقيقة ليسوا منهم.فمن لطف الله بالمؤمنين, أن جﻼ أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها, لئﻼ يغتر بهم المؤمنون, ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم [قال تعالى]: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ*} فوصفهم الله بأصل النفاق فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ*} فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأكذبهم الله بقوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ*} ﻷن اﻹيمان الحقيقي, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين.والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا, ويبطن خﻼفه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع، فهؤﻻء المنافقون, سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك, فعاد خداعهم على أنفسهم، فإن* هذا من العجائب؛ ﻷن المخادع, إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد* أو يسلم, ﻻ له وﻻ عليه، وهؤﻻء عاد خداعهم عليهم, وكأنهم* يعملون ما يعملون من المكر ﻹهﻼك أنفسهم وإضرارها وكيدها؛ ﻷن الله تعالى ﻻ يتضرر بخداعهم [شيئا] وعباده المؤمنون, ﻻ يضرهم كيدهم شيئا، فﻼ يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون اﻹيمان, فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم, وصار كيدهم في نحورهم, وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا, والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة.ثم في اﻵخرة لهم العذاب اﻷليم الموجع المفجع, بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم, والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم ﻻ يشعرون بذلك.
وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ*} والمراد بالمرض هنا: مرض الشك والشبهات والنفاق، ﻷن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة, ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع, كلها من مرض الشبهات، والزنا, ومحبة [الفواحش و]المعاصي وفعلها, من مرض الشهوات ، كما قال تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وهي شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المرضين, فحصل له اليقين واﻹيمان, والصبر عن كل معصية, فرفل في أثواب العافية.وفي قوله عن المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا*} بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين, وأنه بسبب ذنوبهم السابقة, يبتليهم بالمعاصي الﻼحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ*} وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ*} وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ*} فعقوبة المعصية, المعصية بعدها, كما أن من ثواب الحسنة, الحسنة بعدها، قال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى*}
{11 - 12} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ*}
أي: إذا نهي هؤﻻء المنافقون عن اﻹفساد في اﻷرض, وهو العمل بالكفر والمعاصي, ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم ومواﻻتهم للكافرين {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*} فجمعوا بين العمل بالفساد في اﻷرض, وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصﻼح, قلبا للحقائق, وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقا، وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية, مع اعتقاد أنها معصية فهذا أقرب للسﻼمة, وأرجى لرجوعه.ولما كان في قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*} حصر لﻺصﻼح في جانبهم - وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل اﻹصﻼح - قلب الله عليهم دعواهم بقوله: {أﻻ إنهم هم المفسدون*} فإنه ﻻ أعظم فسادا ممن كفر بآيات الله, وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه, ووالى المحاربين لله ورسوله, وزعم مع ذلك أن هذا إصﻼح, فهل بعد هذا الفساد فساد؟" ولكن ﻻ يعلمون علما ينفعهم, وإن كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم حجة الله، وإنما كان العمل بالمعاصي في اﻷرض إفسادا, ﻷنه يتضمن فساد ما على وجه اﻷرض من الحبوب والثمار واﻷشجار, والنبات, بما يحصل فيها من اﻵفات بسبب المعاصي، وﻷن اﻹصﻼح في اﻷرض أن تعمر بطاعة الله واﻹيمان به, لهذا خلق الله الخلق, وأسكنهم في اﻷرض, وأدر لهم اﻷرزاق, ليستعينوا بها على طاعته [وعبادته]، فإذا عمل فيها بضده, كان سعيا فيها بالفساد فيها, وإخرابا لها عما خلقت له.
{13} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ*}
أي: إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس, أي: كإيمان الصحابة رضي الله عنهم، وهو اﻹيمان بالقلب واللسان, قالوا بزعمهم الباطل: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون - قبحهم الله - الصحابة رضي الله عنهم, بزعمهم أن سفههم أوجب لهم اﻹيمان, وترك اﻷوطان, ومعاداة الكفار، والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك, فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمنه أنهم هم العقﻼء أرباب الحجى والنهى.فرد الله ذلك عليهم, وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة, ﻷن حقيقة السفه جهل اﻹنسان بمصالح نفسه, وسعيه فيما يضرها, وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم، كما أن العقل والحجا, معرفة اﻹنسان بمصالح نفسه, والسعي فيما ينفعه, و[في] دفع ما يضره، وهذه الصفة منطبقة على [الصحابة و]المؤمنين وصادقة عليهم، فالعبرة باﻷوصاف والبرهان, ﻻ بالدعاوى المجردة, واﻷقوال الفارغة.
ثم قال تعالى: {14 - 15} {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ*}
هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، و[ذلك] أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين, أظهروا أنهم على طريقتهم وأنهم معهم, فإذا خلوا إلى شياطينهم - أي: رؤسائهم وكبرائهم في الشر - قالوا: إنا معكم في الحقيقة, وإنما نحن مستهزءون بالمؤمنين بإظهارنا لهم, أنا على طريقتهم، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة, وﻻ يحيق المكر السيئ إﻻ بأهله.قال تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ*} وهذا جزاء لهم, على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة,حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين, لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم،
ومن استهزائه بهم يوم القيامة, أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا, فإذا مشي المؤمنون بنورهم, طفئ نور المنافقين, وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين, فما أعظم اليأس بعد الطمع، {*يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ*} اﻵية.
قوله: {*وَيَمُدُّهُمْ*} أي: يزيدهم {*فِي طُغْيَانِهِمْ*} أي: فجورهم وكفرهم، {*يَعْمَهُونَ*} أي: حائرون مترددون, وهذا من استهزائه تعالى بهم.ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم:
{*16*} {*أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ*}
أولئك, أي: المنافقون الموصوفون بتلك الصفات {*الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى*} أي: رغبوا في الضﻼلة, رغبة المشتري بالسلعة, التي من رغبته فيها يبذل فيها اﻷثمان* النفيسة. وهذا من أحسن اﻷمثلة, فإنه جعل الضﻼلة, التي هي غاية الشر, كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصﻼح بمنزلة الثمن، فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضﻼلة رغبة فيها، فهذه تجارتهم, فبئس التجارة, وبئس الصفقة صفقتهم*وإذا كان من بذل* دينارا في مقابلة درهم خاسرا, فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟" فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضﻼلة, واختار الشقاء على السعادة, ورغب في سافل اﻷمور عن عاليها* ؟" فما ربحت تجارته, بل خسر فيها أعظم خسارة. {*قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ*}وقوله: {*وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ*} تحقيق لضﻼلهم, وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء, فهذه أوصافهم القبيحة.