مناسبة القصيدة
في عام 1902 مرض مطران إثر تجربة حب فاشلة ،
فأشار عليه بعض الأصدقاء أن يذهب إلى ضاحية مكس في الإسكندرية للاستشفاء ، وكان يعاني من ألم في قلبه بسبب الحب إلى جانب مرضه الجسدي ، فانتقل من القاهرة إلى الإسكندرية للاصطياف والاستشفاء ،
ظانا أن هذا يشفيه من علته ، لكن شجونه تضاعفت ، فأخذ يبث شكواه في هذه القصيدة الرائعة إلى البحر ، واصفاً غروب الشمس ، مقارناً حالته بحال المساء في أسلوب شعري تميز بقوة العاطفة ، وصدق الوجدان !
.. معاني الكلمات ..
داءٌ ألــم فــخــلـتُ فيـه شِـفــائي مــن صبوتي فتضاعفت بــرحــائي
صبوتي : شدة الشوق ، برحائي : الشدة والمشقة وخص به بعضهم شدة الحمى فإذا اشتدت الحمى فهي البُرحاء
يــا للضعيفين اســتبــدا بي ومـــا في الظلم مــثل تحــكــم الضعفاء
قلب أذابـته الصبـــابــة والجـوى وغــــلالـــــة رثـت مـــن الأدواء
الصبابة : الشوق وقيل رقته وحرارته ، والجوى : تطاول المرض والهوى الباطن ، وغلالة : شعار يلبس تحت الثوب
إني أقـــمت على التعــلة بالـمنى في غـــربــة قــالـوا تكـون دوائي
التعلة: التلهي بشيء عن شيء
إن يشف هذا الجسم طيب هوائها أيـلـطـف الـــنيران طــيبُ هواءِ؟
عــبــثُ طـــوافي في البــلادِ وعلةٌ فـي عــلَــةِ مــنفــاي لاستشْفاءِ
مُــتـفـــردٌ بصبــابـتي مــتـفــردٌ بكـــآبــتـي مُــتـفــردٌ بعنـــائِي
شاك الى البحر اضطراب خواطري فيجيبُنِي بريــاحِــه الـهـوجــاءِ
الريح الهوجاء : سريعة الهبوب ، وشديدة الهبوب .
ثــاوٍ على صـخــرٍ أصمُ وليت لي قلبـــاً كهذي الصخــرة الصماء
ثاو : مقيم ، والصماء : الشديدة الصلبة الملساء
ينْتابهــا مـــوج كمــوج مكارهيويفتها كــالسقْمِ في أعْضــــائيِ
ينتابها : يصيبها مراراً وتكراراً ، ويفتها : يحطمها وينهيها
والبحــــرُ خفاقُ الجوانب ضائقٌ كمداً كصدْري ســـاعة الإمساء
كمداً : الحزن والغم الشديد
تغْشى البريًـــةَ كـــدرةٌ وكــــأنْها صـعدتْ إلى عيني من أحشائِي
الكدرة : ما نحا نحو السواد والغبرة
ا لَلْغُرُوبِ وَمَــــا بــهِ مِـنْ عِـــبْرَةٍ لِلْمُسْتَهَـــامِ ! وَعِــــبْرَةٍ لِلـرَّائي !
المستهام : شديد الحب ، وعبرة : بفتح العين دمعة ، وبكسرها فائدة وعبرة ودرس في الحياة
أَوَلَيْسَ نَزْعَـــاً لِلنَّهَـــارِ ، وَصَرْعَـــةً لِلشَّمْسِ بَيْنَ مَآتِــمِ الأَضْــــوَاءِ ؟
نزعاً: موتاً ونهاية ، وصرعة : الصرعة الطرح على الأرض
أَوَلَيْسَ طَمْـــسَاً لِلْيَقِينِ ، وَمَبْعَثَـــاً لِلشَّــكِّ بَيْنَ غَــلائِلِ الظّلْمَـــاءِ ؟
أَوَلَيْسَ مَحْوَاً لِلوُجُـــودِ إلَى مَـــدَىً وَإِبَـــادَةً لِمَعَالِــــمِ الأَشْيَــــاءِ ؟
حَتَّى يَكُـــونَ النُّــــورُ تَجْدِيدَاً لَهَا وَيَكُونَ شِبْهَ البَعْــثِ عَوْدُ ذُكَـاءِ
عود ذكاء : الذكاء اسم علم للشمس ، والمقصود رجوع الشمس بعد الغياب
وَلَقَدْ ذَكَــرْتُكِ وَالنَّهـَـــارُ مُـوَدِّعٌ وَالقَـلْبُ بَيْنَ مَهَـابَةٍ وَرَجَـاءِ
وَخَوَاطِـرِي تَبْدُو تُجَاهَ نَوَاظِـرِيكَلْمَى كَدَامِيَةِ السَّحَابِ إزَائي
كلمى : جريحة ، دامية السحاب : السحابة الحمراء
وَالدَّمْعُ مِنْ جَفْني يَسِيلُ مُشَعْشَعَاً بسَنَى الشُّعَــاعِ الغَـارِبِ المُتَرَائي
مشعشعاً: ممزوجاً ، السنى : الضوء ، الغارب المترائي : الذي يميل للغروب ولا يزال بعضه يتراءى ويظهر
وَالشَّمْسُ في شَفَـقٍ يَسِيلُ نُضَـــارُهُ فَــوْقَ العَقِيقِ عَلَى ذُرَىً سَوْدَاءِ
النضار : الذهب ، العقيق : الياقوت أحجار كريمة لونها أحمر والمراد السحاب الأحمر ، والذرى : السحب المرتفعة كالجبال السوداء .
مَرَّتْ خِـــلاَلَ غَـمَـامَتَيْنِتَحَــــدُّرَاًوَتَقَطَّرَتْ كَــالدَّمْعَةِ الحَمْــــرَاءِ
غمامتين : سحابتين ، وتقطرت : سالت قطرات
فَكَـــأَنَّ آخِــرُ دَمْعَةٍ لِلْكَــوْن ِ قَـدْ مُزِجَتْ بــآخِرِ أَدْمُـعِي لرِثَـــائي
وَكَأَنَّني آنَـسْــتُ يَــوْمِـي زَائِــــلاً فَرَأَيْتُ في المِرْآةِ كَيْفَ مَسَـــــائي
آنست : أبصرت .
.. تحليل الأفكار ..
المقطع الأول .. تحدث الشاعر عن ( نار الشوق وآلآم المرض والغربة !! )
لقد عبرَّ في حسرة غالبة ، ويأس مطبق عن خيبة أمله في أن مرض الجسم سيشغله عن معاناة النفس .. لقد تضاعفت معاناته من الأمرين كليهما : آلام الجسد ومعاناة النفس ، وتعجب من تحكم الضعيفين : الجسم والعاطفة في كيانه ، وتأثيرهما على فكرة وعقله ، وهو حزين ، لأن عمره قد ضاع . وأصبح وحيداً يكابد لوعة الشوق والحب ولا أحد يشاركه حزنه
¢المقطع الثاني ..نجد ( شكوى الشاعر للبحر وانعكاس مشاعره على الطبيعة )
¢فقد جاءت الرياح مضطربة رداً على اضطرابه وعلى مشاعره المضطربة ، وقد أقام على صخرة صماء تمنى أن يكون له قلب مثلها حتى لا يشعر بالألم ولوعة الفراق ، ولكنها كانت تعاني من البحر الهائج الذي يأتي بشدة ليفتتها كم تفتت الأسقام والأمراض جسده ، والبحر أيضاً مضطرب وضائق وكله حزن كصدره وقت المساء ، لأنه الوقت الذي يعمه الهدوء وتلفه السكينة .
.. تابع تحليل الأفكار ..
¢المقطع الرابع والأخير ..يخاطب محبوبته مؤكدًا امتزاج مشاعره بمظاهر الكون الحزينة الباكية ساعة الغروب وأن الكون كله ساعة الغروب مرآة لمعاناته .. فهو قد تذكرها لما رأى منظر الغروب ورأى النهار يودع الكون ليحل المساء محله وقلبه حينئذ مابين الخوف والرجاء . إن مشاعره وخواطره أصبحت جريحة كالسحاب الذي تعلوه حمرة الشفق ، و الدمع ظل ينهمر من عينيه ، مشعشعاً مثل الشعاع الآخذ في الزوال مع غروب الشمس ، والأشعة الذهبية أخذت تتراءى له من منظر الغروب ، ووراءها شفق في حمرة العقيق ومرتفعات تدنو منها خيوط الظلام ! لقد مرت الشمس وسط سحابتين وكأنها دمعة حمراء يذرفها الكون لوداع النهار ، بل هي آخر دمعة يذرفها لرثائه ، وامتزجت بدموعه لتشاركه أحزانه .. هذه المناظر كلها تصور نفسه ؛ لقد أحس أن هذا اليوم هو آخر يوم في حياته ، وأن كل الذي يعانيه انعكس على الطبيعة كالمرآة تمامًا..!!
.. مدى ترابطها فكرياً ..
بدأ الشاعر هذه الأبيات عن عيشه في الإسكندرية للاستشفاء بناء على نصيحة بعض أصدقائه ، ولكنه في البيت الثاني يشك في قدرة هواء الإسكندرية على شفائه جسماً وقلباً، فلما زادت الآلام في البيت الثالث سقط في مستنقع اليأس الذي وصفه في الأبيات من الرابع إلى السابع ... وهذا دعاه للشكوى للبحر ، وتجاوبه معه ، ومشاركته الطبيعة آلامه ، ثم خص الطبيعة وحالها وقت الغروب ، وما أثاره الغروب في نفسه من خواطر الفراق والموت ، المتمثل في موت الشمس وتشييع
جثمانها وبكاء الكون الممتزج ببكاء الشاعر ... مما يعني أن الأبيات سلسة مترابطة من حيث الأفكار
الألفاظ والعبارات ..
في القصيدة ألفاظ موحية دالة ، متخيرة تؤدي المعاني في دقة ، وتدل على أن الشاعر يزنها بميزان دقيق ، ويضعها في مواضعها التي لا يحسن فيه غيرها. ومنها على سبيل المثال لا الحصر ..أن تكرار الصبوة ، والصبابة ، أذابته ، ويفتها، وتكرار لفظ الدمع والدمعة الحمراء ، وآخر دمعة وآخر أدمعي ،ونحوها لما تدل عليه من شدة معاناة آلام الهوى والحزن ، وألفاظ تصور قمة اليأس من مثل : عبث وعلة في علة ، كآبتي ، عنائي ، مآتم.. وهكذا !
وفي البيت الأول يوحي العطف بالفاء بتتابع المواقف ، وتوالي المفاجآت ... داء ألم فخلت .. فتضاعفت برحائي....
مما يشعر بأنه كان يعلق أملا عريضا على رحلته الاستشفائيه في إزالة معاناته النفسية ،
فجاءت النتائج مخيبة لأماله مضاعفة لمأساته .
¢ومن هذا القبيل أيضا تكرار بعض الصيغ والعبارات التي تدل على شدة إحساس الشاعر بمعانيها وتأثيراتها . فهو عندما يصور حاله في حرمانه وشقاءه في غرامه يختار صورا تمثل ذلك ، وتضاعف الإدراك له ، وتعمق الإحساس بخسارته ، وتعلقه بالوهم أو ما يشابه الوهم . انظر إلى كلمة (التعلة ) التي توحي بالآمال الكاذبة ، وكلمة (قالوا ) وهي بمعنى : زعموا لتوحي بالشك في فائدة هذه الرحلة !!
وأيضا صيغة الوصف باسم الفاعل المتكررة في الأبيات : متفرد......شاك إلى البحر.... ثاو على صخر أصم..... كلها ذات إيحاءات معبرة تصور ثبات اهتياج الخاطر، وتمكن الحيرة ، واستحكام البلاء ، وضياع الامل
¢وتأمل( شاك ) و( اضطراب خواطري) و( ثاو ) و(ينتابها ) و(مكارهي ) و( السقم) و ( ضائق) و( كمدا ) و( كدرة ) يطالعك جو نفسي كئيب يلف الشاعر من كل جانب كما أن تخصيص ضيق الصدر بساعة الإمساء طبيعة بشرية منذ القدم فالمساء ينذر بقدوم الليل الذي يهجم على القلوب بجيوش الهموم . وقد تردد ذلك في شعر امرئ القيس حيث يقول :
وليل كموج البحر أرخى سدوله علــــي بأنواع الهموم ليبتلى
¢ثم انظر إلى حسن التقسيم في هذه الجمل المتناسقة : ( متفرد بصبابتي ، متفرد بكآبتي ، متفرد
¢بعنائي ) لتجد الموسيقى واضحة ، وإضافة كل منها إلى ياء المتكلم للإيحاء بأنه ألمٌ خاص ، ثم تكرار كلمة متفرد لتوكيد هذا الشعور بالألم ...
¢وفي المقطع الأخير أيضًا جاءت الألفاظ موحية بالحزن مثل ( عبرة ، نزعا ، صرعة ، مآتم ، كلمى ، دامية ، دمعة،رثائي ) وكلها تتعاون في التعبير عن آلام الشاعر .
.. الأسلوب ..
مزيج من التقرير والتصوير ،أغلبه خبري لتقرير المعنى، والإنشائي قليل يتمثل في: أيلطف النيران طيب هواء؟ استفهام للنفي والاستبعاد. ليت لي قلبا كهذي الصخرة الصماء تمني يصور قوة المعاناة .. يا للغروب ! نداء للتعجب، أو ليس نزعاً للنهار وصرعة للشمس ؟ أو ليْس طمسا لليقين ...؟ أو ليس محوا للوجود ..؟ كلها جمل استفهامية للتقرير ، تؤدي دورها في شد القارئ وإثارة المشاعر ، وإبراز معاناة الشاعر .... !
وعلى الرغم من حرص الشاعر على الألفاظ الموحية المعبرة جاءت بعض الألفاظ قلقة في مكانها مثل : أحشائي دون قلبي أو صدري ، وإزائي جاءت حشوا ؛ لأن كلمة ( تجاه نواظري ) أدت المعنى ، ولكن استدعتها القافية ليس إلاّ ! وبعض الكلمات لم تلائم الجو النفسي للقصيدة مثل : الذهب ، و الياقوت الأحمر ...!
.. عاطفة الشاعر ..
تسيطر على القصيدة عاطفة واحدة هي عاطفة الحزن والألم التي جاءت قويه عميقة ، محققه بذلك وحدة الجو النفسي ، وقد كانت ثائرة مهتاجة، أضفت على عباراته طابعها الغاضب المحبط ؛ إذ يدرك عقله الواعي أسباب مصابه ، ودواعي تعاسته ، ولكن يستعصى على قلبه الواله أن يطاوع العقل في التعزي أو يوافقه على السلوان !! وهي تقرير للواقع الذي لا يتعلق صاحبه بالوهم ، ولا يحلق في آفاق الخيال، يتقبل اليأس في راحة ويتجرع الإحباط حيث لا مكان للأمل،ويصاحب العناء حيث لا مطمع له في الراحة !
.. الصور ..
أسهمت الصور في رسم معاناة الشاعر، فالقلب شيءٌ صلب يذوي ، واستبدادُ البدن والعاطفة به كاستبدادِ الظلمة ، ولوعةُ
الحب وعذابُه وحرقتُه نيرانٌ تكادُ تحرقه، والبحرُ إنسانٌ يتجاوب معه ، وحزين تخفق أمواجه حزنا وللصخرة قلب ، والموج يفتها بأمواجه ، والسواد الذي يغطي الكون إنما هو شيء مما يملأ صدره من هم ، وللنهار روح تُنزع ، والشمس كالإنسان تُصرع وتموت، وتُشيع أضواء الغروب جثمانها ، والخواطر والسحاب كلمى ودامية ، والشفق كالذهب .. وهي - أي الشمس -كالدمعة الحمراء يذرفها الكون لوداع النهار ، والكون كله مرآة لمعاناته ..!!
وهذه الصور بلا شك تدل على خيالٍ خلاق واسع ، قادر على تصوير المعاناة ، ونقلها للقارئ بدقة !
.. الموسيقى ..
ظاهرة وخفية :
الظاهرة في القافية همزة مكسورة مشبعة بالياء أحياناً تعبر عن الجو النفسي الحزين والقلب الكسير الحزين ،
والخفية في التناغم بين: الألفاظ الموحية ، والعبارات الجميلة ، والمعاني السامية ، والصور الرائعة، والعاطفة الصادقة .