رد: ما رأيكم بهذا المقال ؟ " اوروبا وكفاح العقل المستنير"
أوروبا وعصور الظلام.. كفاح العقل المستنير (2)
محمد بن علي المحمود
لم يكن رجال الدين المسيحي ليتخلوا عن نفوذهم الكبير، وهيبتهم المتغطرسة بسهولة. ولهذا فقد استماتوا حتى الرمق الأخير، في سبيل منع انتشار العلم، ومحاصرة الخطاب الفلسفي، بكافة وسائل الرعب المتاحة آنذاك. لكن، وبعد لأي، نجح العقل المستنير في زحزحتهم عن طريقه، إلى أن تم له الانتصار الكامل عليهم في القرن التاسع عشر، حيث أصبح رجل الدين لا يهيمن إلا على الكنيسة وحدها، بل وحتى هذه الهيمنة تزعزعت في القرن العشرين.
من يتخيل - ولو للحظة - الحالة التي وصل إليها النفوذ الكنسي في القرن العشرين، ويعود - بذاكرته - قليلا إلى القرن السادس عشر، أو السابع عشر، يدرك - بوضوح - أن هناك معجزة قد حدثت. رجال الدين الذين كانوا يشعلون النار، ويلقون فيها من يختلف معهم في بعض مفردات العقيدة؛ ليموت احتراقا، أصبحوا بعد ثلاثة قرون، يستجدون الناس؛ ليعترفوا بهم، ويقدموا التنازلات تلو التنازلات؛ ليظفروا بتسامح المجتمع معهم، ولينسى الناس أخطاء/ جرائم الماضي.
لم يكن هؤلاء الأصوليون القساة، الذين يحرقون الناس أحياء باسم الدين، يستطيعون أن يفعلوا ما فعلوه من جرائم، لو لم يكونوا يحكمون قبضتهم على أفكار ومشاعرهم، ويتصرفون بمجريات الأمور، بقوة النفوذ الجماهيري. بدليل أنهم لما فقدوا هذا الانقياد الجماهيري؛ جراء تطور الوعي الذي صنعه فلاسفة التنوير، لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا، حتى لمن يفضح - صراحة - التاريخ الكهنوتي المقدس!، ويعرضه جهارا في وسائل الإعلام بأنواعها.
معظم الأفعال الوحشية التي قام بها رجال الدين، من تقطيع أجساد الناس أحياء، وإحراقهم على الملأ، كانت تتم بتأييد جماهيري؛ لأنها كانت تتم بدعوى الحفاظ على الدين، من خطر المهرطقين. لقد شحنوا الناس بمفردات عقائدية، جعلوها - في تصورهم - هي (العقيدة الإلهية الصحيحة)، أو (العقيدة الصافية)، أو (العقيدة النقية). وصوروا للناس أن من يخل بمفردة من هذه المفردات التي تبنتها الكنيسة في تاريخها الطويل، فهو مبتدع مهرطق، يسعى إلى هدم الدين، وصد الناس عن الطريق القويم. ولهذا كان الناس - جراء شحنهم بهذا الوهم - يؤيدون هذه العقوبات الوحشية، بل ويتفرجون عليها بكل سرور وابتهاج.
الأصوليون المسيحيون، كانوا يتصورون، بل ويؤمنون، أنهم ينفذون بهذه الأعمال إرادة الله. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فهم يرون أن العلم لا قيمة له، حتى وإن كان نافعا في هذه الحياة الدنيا، لأنه يصرف الناس عن الاقتناع بالدين، وعن التسليم الكامل لإرادة الله - كما يتصورونها -. فالمهم - عندهم - ليس عمارة الدنيا، بل ولا السعادة فيها، وإنما المهم هو الخلاص الأخروي، حيث السعادة الأبدية. أما الدنيا، فما تستحق غير الازدراء والاحتقار.
صحيح أن بعض كبار رجال الدين، كانوا يعرفون أنهم يمارسون دجلا نفاقيا على الناس، وأن تعصبهم ليس إلا متاجرة بالدين. لكن، معظمهم، وخاصة الصغار من رجال الدين، وعموم الجماهير، كانوا يتصورون - بكل يقين وإيمان - أنهم ينفذون إرادة الله، وأن جميع مفرداتهم العقائدية، بكل تفاصيلها، حتى التي يعلمون أنها تمت بصياغة بشرية، هي العقيدة الوحيدة المقبولة يوم الحساب. وهذا ما يجعلهم يرون أن الخارج عليها - فضلا عن الذي يحاول نقدها - يستحق أي عقاب ينزل به، مهما كان قاسيا، والضمير مستريح جدا؛ لأنه - في تصورهم - ينتقد العقيدة الصحيحة الصافية النقية، التي رضيها الله لعباده. ومن يعارض عقيدة الله - في تصورهم - فقد أصبح عدوا لله!.
يقول هاشم صالح، في كتابه (مدخل إلى التنوير الأوروبي) وهو الكتاب المتميز بجمال العرض التعليمي، والممعن في التبسيط إلى درجة الإملال، واصفا حال الأصولي المتطرف في كل العصور ص 248"فالشخص الأصولي المتطرف هو شخص سعيد جدا، ومطمئن جداً جداً على عكس ما نتوهم، إنه أسعد خلق الله على الأرض. لماذا؟ لأنه يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، الحقيقة المتعالية، الحقيقة المقدسة، الحقيقة التي لا حقيقة بعدها. وبالتالي فهو يستغرب جدا كيف يوجد أناس آخرون لا يعترفون بهذه الحقيقة أو لا يعتنقونها فورا".
وهذه هي أزمة الأصولي، أو - على الأصح - هذه هي أزمة المجتمع معه، فما يتوهمه، يصبح عنده يقينا. ولا يكتفي بهذا، بل هو يسعى إلى فرض هذا اليقين - بالقوة والإرهاب - على الناس. ومن لا يوافقه على كل يقينه، أو على كل تفاصيل يقينه، يصبح حلال الدم والعرض والمال. هذه هي طبيعة التفكير الأصولي، أيا كان منطلقه العقائدي، وأيا كانت سياقاته التي يعمل عليها. ولا يختلف أصولي عن آخر، إلا بما تمليه اشتراطات الواقع، وليس بما تستلزمه مبادئ الأصولية، فهي واحدة، إذ إن (نمط) تفكيرها نمط متطابق.
وليست الأصول العقائدية التي يجري ذبح الناس على أساسها، أصولا منذ زمن التنزيل، كما يدعي لها أصحابها، وإنما هي أصول تم استنباطها بفهم بشري، وإضافات تراكمت عبر التاريخ، حتى أصبحت من اليقينيات التي يتم تكفير من يتردد في الإيمان المطلق بها. ففي الكنيسة الكاثوليكية، كانت ألوهية المسيح، وعقيدة التثليث، والمعمودية، والعشاء الأخير...إلخ، أصولا عقائدية، ومن يرتاب في شيء منها، أو يحاول ممارسة التفكير العقلاني عليها، يصبح كافرا، مستحقا للحرمان، ومصيره في الآخرة نار جهنم خالدا فيها - كما يزعمون -.
لقد عانت أوروبا طويلا من هؤلاء. فمن يشكك بشيء من هذه العقائد التي أصبحت من صلب العقيدة الصحيحة النقية الصافية، كان يتم إحراقه حيا. فالراهب (يوحنا هوس) الذي كان عميدا لجامعة براغ في بداية القرن الخامس عشر، والذي كان داعية إلى الإصلاح الديني، وكشف الكثير من تجاوزات رجال الدين، واستغلالهم للناس، تم إعدامه حرقا عام 1415م-، بتهمة الهرطقة. إذن، فمجرد الدعوة للتجديد الديني، ولو من رجل دين، ومن داخل الخطاب ذاته، كانت في كثير من الأحيان، تؤدي إلى التصفية الجسدية، على إيقاع اللهب الأصولي.
لقد كان هذا العقاب الرادع لمن حاول تجديد الخطاب الديني فحسب. أما التشكيك في الأصول العقائدية صراحة، فقد كانت عملية حرقه حيا، هي أبسط أنواع العقاب. فالفيلسوف (ميشيل سيرفيه) أحرقه رجال الدين حيا، بتهمة التشكيك في عقيدة التثليث، و (توماس مور) انتهى بقطع رأسه، و (جيوردانو برونو) مع أنه كهنوتي، إلا أنه جرد من رداء الكهنوت؛ بسبب آرائه، وتم إعدامه حرقا عام 1600م. ويذكر أن رجال الدين قدموا له قبيل إحراقه مباشرة، صورة المسيح على الصليب، فرفضها بإباء، وأشاح بوجهه عنها. فرجال الدين، يتصورون أنه - وإن أذنب واستحق الحرق حيا - إلا أنه لا بد أن يموت على العقيدة الصحيحة. ولهذا قدموا له الصليب عند إحراقه!.
ليس هذا التوحش الأصولي في فرنسا أو إيطاليا، أو البلدان التي كان يسيطر عليها التعصب الكاثوليكي، وإنما حدث الكثير من عمليات الإعدام، حتى في إنجلترا أيضا، وفي وقت متأخر نسبيا. ففي عام 1612م أوقد رجال الدين نارا عظيمة في محرقة سميثفيلد، واجتمع الناس، ليروا (بارثولوميو ليجات) وهو ينفذ فيه حكم الإعدام حرقا؛ لأنه آمن أن المسيح بشر وليس إلها، وأن الإنسان يجب أن يعبد الله وحده، ولرفضه التضرع للمسيح. وفي العام نفسه 1612م تم إحراق (إدوارد وايتمان) لأنه شك في التثليث، والعشاء الأخير، وآمن أن الله واحد. وتم في عام 1633م قطع أذني المحامي (وليم برين) بتهمة الهجوم على الكنيسة. وفي عام 1650م تم إعدام الجندي (دابليو سميث) شنقا؛ لإنكاره ألوهية المسيح.
هذه نماذج، وغيرها كثير من ضحايا التعصب الأصولي. والضحايا ليسوا بالعشرات، وإنما بمئات الألوف. يقول هاشم صالح في كتابه السابق، عن هذا النهج من التعذيب الوحشي، والقتل، وأسلوب الحرق للمعترضين على أصولية رجال الدين، وهو النهج الذي مارسته محاكم التفتيش، ص136"ويقال بأنه ذهب ضحيته خمسون ألف شخص بين عامي 1570و1630، أي خلال ستين سنة فقط. وكانت الضحية تُعذَّب أولا ثم تلقى طعمة للنيران، أو تحرق مباشرة. وتركت محاكم التفتيش أثرا سيئا جدا وأسود في الذاكرة الجماعية الأوروبية. وساهمت في تدمير التصور المسيحي القروسطي للعالم: تصور بشع، قائم على الإرهاب والخوف والمراقبة والشبهات. ولم تقم للأصولية المسيحية قائمة بعد أن لوثت نفسها بتلك العملية البشعة وخلعت عليها التبرير اللاهوتي والمشروعية الدينية".
وقد أوردت هذا النص؛ حتى لا يتصور أحد أنني بالغت في عدد الضحايا. فإذا كان الضحايا في ستين سنة فقط، قد بلغوا خمسين ألفا، فكيف يكون الأمر في عمر محاكم التفتيش الطويل، الذي امتد لما يقارب سبعة قرون؟!. وبشاعة طريقة القتل، وضخامة العدد، لا شك أنهما يصيبان المرء بالفزع، إذ كيف يمكن أن يتم كل هذا باسم الدين، وكيف كانت الجماهير تؤيد مثل هذا، وهي تعتقد أنها تصون عقيدتها الصافية من عبث العابثين؟!.
لا شيء أشد مأساوية من أن تمارس الجماهير اضطهاد نفسها بنفسها، من غير أن تشعر، تحت تصورات مذهبية، أو طائفية، أو دينية. زعماء الأصولية - من كل دين وطائفة ومذهب - قادرون على جعل الجماهير البائسة، تؤيد أن يعدم بعضها بعضا، بل ويحرق بعضها بعضا. ففي عام 1167م، في فيزيلاي، شمال فرنسا، تم القبض على مجموعة اتهمت بالهرطقة؛ لأنها تنكر أسرار الكنيسة (معجزاتها اللامعقولة). وقد عرض رجال الدين على هذه الجماعة التوبة، حتى لا يحرقوا أحياء، فرفض سبعة أفراد الرجوع، وثبتوا على مبادئهم. حينئذ نادى رئيس الدير الجماهير: ما نوع العقاب الذي يستحقون؟، فهتفت الجماهير: الموت حرقا.
لقد طلبت الجماهير أن يقتل هؤلاء بالنيران؛ لمجرد أنه اختلفوا معهم في تفسير مسائل دينية مذهبية. لكن - وهنا المشكلة - هذه الجماهير لم تعد ترى هذه المسائل مجرد قضايا اعتقادية خاصة، وإنما تصورت - عبر الشحن العقائدي الأصولي الذي غذيت به في المواعظ الأسبوعية كل يوم أحد - أن هذه الجماعة خطر على الدين، وأن من تمام العقيدة، أن يكره الإنسان هؤلاء. وكلما كانت كراهيته لهم أشد، كلما كان إيمانه أقوى. ومن ثم كانت الجماهير التي تهتف بهذا العقاب الوحشي، تتصور أنها تعبر بهذه القسوة عن صدق إيمانها، وأن ولاءها للدين ورجاله ولاء عميق، وبراءتها من هؤلاء المهرطقين براءة من لا تأخذه في الله لومة لائم.
إنها إشكالية التعصب. كل من هؤلاء وهؤلاء يرى أنه على حق صريح، وأن عقيدته هي العقيدة الإلهية التي سوف تنجيه يوم القيامة من عذاب النار. فالمهرطقون يرون أنهم - بإنكار بعض الأشياء - ينفون عن العقيدة ما علق بها - عبر العصور - من شوائب. ولهذا فهم مستعدون للموت في سبيل ما يؤمنون به غاية الإيمان. ونحن نعرف أن رجال الدين قبل أن يحرقوا أي خارج عليهم من جماعات أو أفراد، كانوا يعرضون عليهم التوبة، والرجوع عن آرائهم، ويخبرونهم أنهم إذا لم يرجعوا، فإن مصيرهم الموت حرقا. ومع هذا، يأبى كثير منهم الرجوع عن عقيدته، ويفضلون أن يحرقوا أحياء، على أن يتنازلوا عن عقائدهم. والجماهير من جهتها ترى أنها على حق، وأنهم لن يتسامحوا مع أحد - مهما كان - على حساب دينهم، ولو أن يحرقوا فريقا من أقرب الناس إليهم وهم أحياء.
كيف استطاعت أوروبا أن تخرج من كل هذا الظلام الأصولي الرهيب؟. هل اجتمعت الطوائف والمذاهب وجماعات الأصوليين، وقرروا نبذ العنف، وإرساء قيم التسامح، وتشجيع التقدم العلمي؟. طبعا، لا. ولا يمكن لهؤلاء أن يقدموا شيئا؛ لأنهم لا يستطيعون أن يقدموا ما لا يملكونه أصلا. فالتنابذ الأصولي قائم على الاحتراب، ومحاربة كل جديد، والارتياب بقيم العقل، بل وبالفاعلية الإنسانية ذاتها.
العقل المستنير، الذي يمثله الفلاسفة والعلماء، هو - وحده - الذي وضع أوروبا على الطريق، وتجاوز بها هذا العبث الأصولي الذي كان يخنق أنفاسها. لقد جاهد هؤلاء في سبيل الخروج من هذا النفق الأصولي المظلم، الذي كان يشد أوروبا إلى الخلف، كلما حاولت التقدم خطوة إلى الأمام، والذي تسبب في تأخر التقدم لأكثر من عشرة قرون. عشرة قرون، كانت أوروبا رهن الاعتقال الأصولي، تقدم الأجيال تلو الأجيال، قرابين لرجال الدين، مصدر البؤس والشقاء.
قد يردد بعضهم، أن الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر، هو الذي حرر رجال الدين من التعصب الأعمى، وأنه هو الذي ساعد على نشر التقدمية، باعتباره تطورا في السياق الديني. وفي هذا شيء من الصحة. لكن، لم يكن الإصلاح الديني إلا ثمرة من ثمار الجهد الذي بذله الفلاسفة والمفكرون والعلماء من قبل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فلم تكن البروتستانتية متسامحة، ولوثر نفسه، لم يكن ديمقراطيا، وكان رافضا لحرية الإرادة. وموقفه من ثورة الفلاحين يؤكد هذا.
إذن، فما في الإصلاح الديني من إيجابية، فإنما هو بتأثير الثورة التي أحدثها العقل المستنير، منذ بدأ في التخلّق في القرن الثالث عشر. وما فيه من تعصب وجمود، فمن جذره الأصولي. وإذا كان الكاثوليك قد اضطهدوا البروتستانت في فرنسا، إلى درجة ممارسة التطهير المذهبي بالقتل الجماعي، فإن البروتستانت مارسوا الكثير من صور التعصب، في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية. وهذا يدل على أن تجاوز أوروبا لذهنية التعصب، كان في الأساس بجهد العقل المستنير، وكان الإصلاح الديني عاملا ثانويا، وإن كان ضروريا في ذات السياق.
إن التغيير الحاسم، لم يأت - ابتداء - عن طريق رجال الدين، وإن كان لا بد أن يمر من خلالهم، وإنما أتى من خلال العقول التي تصنع الاستنارة، وتمتلك التحرر الكامل من التصورات الماضوية، التي تهيمن على الوعي الأصولي الخرافي. ولهذا استمر كفاح العقل، حتى بعد نجاح الإصلاح الديني، وكان هذا العقل يصطدم به أحيانا، ويجبره على التحول في كثير من الأحيان.
لقد كان على المفكرين والعلماء التجريبيين، أن يواجهوا - بشجاعة - كل أنواع الخرافة الأصولية، ليس فيما يدخل في الشأن الديني الخاص، أو الاجتماعي المرتبط بالديني ضرورة، وإنما في دقائق الشأن العلمي أيضا. فقد كان رجال الدين من جهتم يحشرون أنفسهم في كل شيء؛ لأنهم يمنحون كل شيء تفسيرا دينيا. ومن ثم يصبح كل شيء له تفسير مقدس، أي ديني. ولهذا، فعندما كافح جاليليو لإثبات دوران الأرض، واجهه رجال الدين بتفسيرهم لهذه المسألة. وهو تفسير - كما يزعمون لأنفسهم - مقدس!.
كيف تصبح مسألة فلكية، أصلا عقائديا؟، ما علاقة رجال الدين بمسألة: دوران الأرض؟!. يقول كرين برنتن، في كتابه (أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي) ص 427"وكانت العقيدة المسيحية تلزم نفسها إلزاما كاملا بالنظرية الأخرى التي تقول بأن الأرض ثابتة وأن الشمس تدور حولها. وبفعل المشاعر القوية انحاز كثير من الرجال الأذكياء إلى العقيدة التي ترى أن كوكبنا - المكان الذي ضحى فيه المسيح بنفسه - لا بد أن يكون (مركز) كل شيء".
نلاحظ هنا: التفكير عن طريق المشاعر من جهة، وعن طريق اللوازم، من جهة أخرى، حيث لزم - حسب هذه الطريقة في التفكير - أن تكون الأرض مركز الكون. وهذه الطريقة، طريقة التفكير باللوازم يمكن أن توصل - بسهولة - إلى التكفير في أي دين. وللتوضيح، فمثل هذه الطريقة في التفكير، يمكن أن يأتي أحدهم ويعتبر اللغة العربية أفضل اللغات، بلازم كون القرآن نزل بها. وقدسية القرآن مسألة عقائدية، يؤمن بها جميع المسلمين. لكن اللازم المزعوم: قدسية اللغة العربية، ليست عقائدية. ومع هذا، يمكن أن يأتي من يجعلها من لوازم الإيمان بالقرآن، ومن ثم، يتم تكفير من لا يعتقد أن اللغة العربية أفضل اللغات.
المهم في سياق قضيتنا: دوران الأرض، أن هذا اللازم (مركزية الأرض) أصبح أصلا عقائديا في المسيحية، يتم اضطهاد عالم كبير بحجم جاليليو، بسبب مخالفته؛ لأنهم يعتقدون أنه بمخالفة هذا الأصل يكفر. ولولا أنه خضع لرجال الدين، في المحاكمة التي أقاموها له، وتراجع فيها - ظاهريا - عن رأيه؛ لتم إحراقه حيا. ويكفي أنه مكث بقية حياته رهن الإقامة الجبرية، يعد عليه رجال الدين أنفاسه، ويراقبون كل ما يصدر عنه. ويكفي - أيضا - أن الفيلسوف العظيم: ديكارت، امتنع عن نشر بعض ما كتب؛ حينما سمع بمأساة جاليليو، وهرب من بلده: فرنسا، حيث النفوذ الكاثوليكي، إلى هولندا، حيث كانت تتمتع بمستوى كبير من التحرر الليبرالي.
|