العاطفة :
*
القصيدة في جملتها – تفيض بحرارة العاطفة وحرقة القلب والرهبة ، وهي عاطفة صادقة صحيحة باعثها أسباب حقيقية ، وفيها قوة أثارت فينا مشاعر الدهشة والإكبار أمام عظمتها ، وسمو هذه العاطفة لا يستطيع أحد أن ينكره ، إذ تدفع بنا إلى نوع من السلوك المثالي كالعفو عند المقدرة والسماحة والحلم والرأفة والرحمة وفيها شدة تأثير بعثه هذا الشعر في نفوس سامعيه . فقد قدمها كعب بن يدي ّ توبته وإسلامه اعتذار عن جرم ارتكبه وجناية اقترفها ، وخوفًا من حكم مؤكد بالموت لن يمنعْهُ منه إلاّ صفح الرسول وغفرانه ، ولهذا نراه قد أفرغ في تلك القصيدة كل ما في عقله وقلبه من أفكار وانفعالات حتى لنشعر أن لكل حرف من حروفها يداً ضارعة ، وعينًا خاضعة تنطق بأحاسيس كعب ومشاعره وتستعطف الرسول وتسترحمه ، وقد ظهر فيها الصدق والإخلاص وفاضت منها الإنابة والإيمان فإذا الرسول صلى الله عليه وسلم يتملكه العجب وتمس ُّ قلبه الشفقة بالإنسان فيخلع على كعب بعد إنشاد قصيدته " بردته " التي شرفت بمس جسده وكريم ملبسه إيذانًا بالقبول وإعلانًا بالصفح والغفران .
*
*جمع فيها بين التصوير الجزئي والكلي فرسم لوحة كلية قائمة على الصوت
*
واللون والحركة فالصوت في ( أغن ، الأقاويل ، محازيعًا ) واللون في (مكحول
*
، تلون ، نور ، بيض ، السود) والحركة في ( بانت ، رحلوا ، تهليل ، أمست ،
*
يسعى ، خلوا سبيلي ، زولوا ، يمشون ) .
*
الصور :
*
□ *في البيت الأول ( فقلبي اليوم متبول ) . فقد شبه القلب بالإنسان الذليل * * * *المتعب الذي أنهكه الحب وأذله . وجه الشبه الإذلال والخضوع .
□ وقوله ( لم يجز مَكْبولُ ) شبه قلبه بالأسير المكبل الذي لا فكاك له من قيد * * * ولا يجد من يفديه ويخلصه من أسره *على سبيل الاستعارة المكنية .
*
□ وفي البيت الثاني ( غضيض ُ الطرف مكحول ) كناية عن جمال محبوبته سعاد
وفي خلال هذه اللوحة الكلية جاءت الصور الجزئية بين التشبيه والاستعارة والكناية ومواطن أخرى للجمال نفصلها فيما يلي :
□ وفي البيت الثالث ( كما تلون في أثوابها الغُولُ) تشبيه لسعاد في تلونها وعدم استقرارها بالغول التي تظهر للناس في الفلاة فتتلون لهم في صور شتى وتغولهم فتهلكهم * .
□ في البيت الثامن ( آلة حدباء ) كناية عن النعش أو عن الموت لأن الحمل * * * * * * * * * *
* *على الآلة الحدباء يستلزم الموت .
*
□ والبيت التاسع ( والعفو عند رسول الله مأمول ) كناية عن نسبة العفو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
*
*
* ** *لقد أبطل الإسلام كل الخرفات الجاهلية من الغول والعنقاء والهامة و الطيرة والنوء وما إلى ذلك .
□ وفي البيت الثاني عشر " وضعت يميني " كناية عن إعلان إسلاميه وقوله " قيلة القيل " كناية عن نفاذ كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم .
□ وفي البيت الثالث عشر " إن الرسول لسيف يستضاء به " تشبيه للرسول صلى الله عليه وسلم بالسراج المنير والهادي إلى السبيل . وسر جماله التوضيح .
*
□ *وفي البيت الرابع عشر ( ببطن مكة ) استعارة تصريحية فقد شبه الوسط بالبطن وحذف المشبه وصرح بالمشبه به .
*
□ والبيت السادس عشر ( شم العرانين ) كناية عن شرفهم وعزتهم لأن شمم الانسان وإباءه يظهر أول ما يظهر في أنفه .
□ في البيت السابع عشر ( بيض سوابغ ) كناية عن جودة المعدن الذي صنعت منه هذه الدروع ، وقوله " قد شُكَّتْ *لَها *حَلَقٌ *كأنها حَلَقُ * القَفْعاءِ * مَجدولُ " تشبيه فقد شبه حلقات الحديد الرفيعة المتينة التي تنسج منها الدروع في استدارتها وفي تداخلها بعضها ببعض على نحو من الامتزاج والاتفاق بحلق القفعاء المحكمة المفتولة .
□ وفي البيت الثامن عشر ( يمشون مشي الجمال الزهر ) تشبيه ، شبه فيه مشيهم إلى ساحة الوغى ثابتين هادئين غير وجلين بمشي الجمال ..... التي تروق من يراها *اطمئنان مشية ، وفخامة طلعة .
□ وفي البيت التاسع عشر ( لا يفرحون إذا نالت رماحهم ) كناية عن قوة العزيمة وصلابة الإرادة وعلو الهمة .
□ والبيت الأخير كله ، كناية عن شجاعتهم .
*الموسيقى :
ظاهرة في الوزن والقافية ، وبعض المحسنات البديعية ، وداخلية خفية نابعة من انتقاء الألفاظ وحسن تنسيقها وترابط الأفكار وجمال التصوير،-
وصدق العاطفة .
لقد نظمت هذه القصيدة على بحر البسيط- وهو من الأوزان الطويلة -واختيار الشاعر له يعد دليلا على إدراكه أنه يستوعب المشاعر والأفكار مهما تبلغ من حدة وعمق فهو يناسب الفكر والتأمل وبث الحزن ، وخيبة الرجاء كما يتميز باتساع أفقه وجمال إيقاعه .
وقصائد الندم *المصحوبة بفعل الاعتذار قد تتطلب طول النفس ، لكونها تعبر عن حزن الإنسان ومعاناته النفسية والحياتية ، إن هذه الأوزان الطويلة صالحة للسرد والعرض ...... وهذا ما يتطلبه الموقف ، وهي صالحة للحوار والتعمق فيما يصيب النفس الإنسانية من الأحزان والأوجاع ، ومن ثم يتيح للناظم بها مجالاً للتأمل العميق عند مواجهة الحدث وتأثيره عليه . ولعل الوزن باتساعه وطوله قد تناسب مع ألم كعب الموسع والمتمثل من خلال استخدامه للفظة " بطن مكة " والتي وجد في بحر البسيط ما يتلاءم مع دلالة هذه الكلمة من التوسع والانطلاق .
القافية :
*
يقول:*
بانَتُ *سُعاد *فقلبي * اليوم * مَتْبولُ * * * مُتِيَّمٌ * *إثرَها * *لم * يجز * مَكْبولُ
وما * سعادُ *غداةَ البينِ *إذ *رحلوا * * إلا *أغَنُّ غضيض *الطرف *مكحول
*
ولننظر في اختياره للألفاظ التي استخدمها للوصول إلى ما يقصد من تبيين حالة الضيق والضجر على جاهليته التي تعلق بها قلبه وخدع *بها زمناً ثم استبان له بعد ذلك أنها ليست بنافعته وذلك حين جَدَّ الجدّ وانتصر الإسلام واكتسحها من طريقة اكتساحًا مثل «(سعاد ، غداه البين ، رحلوا ، أغن ُّ ) إن استخدام حركة الشدة في الكلمة الأخيرة ، دلل على حركة نفسية داخلية مصاحبة للأعداد للرحيل والضيق النفسي عندما أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه وهو في تكراره لحرف الميم يشكل وحدات موسيقية متشابهة تسهم في بيان حالة الشاعر عند اتخاذه قرار الرحيل وهي حالة يمتزج فيها الضيق والهم بالعقلانية في اتخاذ القرار .
كما نشير إلى أن تكرار لفظة " سعاد " مرتين ، يؤكد على شدة الوجد والتعلق الذي يكنه الشاعر لسعاد التي هي رمز سعادته والتي تركته أيام محنته وفارقته فراق غير وامق .
ورحلت إلى غير عودة وهجرته ليذوق ويلات الشقاء والحرمان من الأمن والأمان . وهو ما منح المعنى جمالاً والصياغة تأثيرًا موسيقياً رائعًا .
المحسنات البديعية :
*
لقد استخدم الشاعر في مطلع قصيدته التصريع مما أخفى مزيدًامن * *
*الموسيقية والتتابع حيث يقول :
* *بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * * *متيم أثرها لم يجز *مكبول
فالتصريح هنا بين كلمة " متبول " في الشطر الأول وكلمة " مكبول " في الشطر الثاني وهو ما حقق نغم داخلي بين الشطرين .
* * كما أنه استخدم الطباق في قوله ( لا يفرحون اذا نالت ) .
فقد طابق بين الكلمتين : " يفرحون " ، " مجازيع " مما جلّى المعنى وأضفى على البيت نبرة موسيقية هادئة زادت في تنغيمه ، كما عكست مشاعر الشاعر ، مما يختلج في قلبه من مشاعر.