رد: مقالات للثقافه والفكر والفلسفه .. كن معي و اقرأ وعلّق (متجدد)
~ 2 ~
جبل الخراب
ذات العماد - جسد الثقافة
"أعلمُ أنّني أعيشُ في خرابةٍ لأنني أفرّشُ أسناني كل صباح.
العالمُ تالفٌ لأن لا شيء يبقيهِ صالحا ً للاستخدام إلا الصيانة و التجديد و الإصلاح. الحياة ليست شيئا ً إذا أصبحت مطاردة مستمرة للخراب، و هيَ كذلك، و هيَ لا شيء إلا ذلك. و لو توقفنا عن إصلاح العالم وهلة لطفح بالموت و الدمار و العفونة و القـُبح. كلما استيقظتُ صباحا ً أخرجتُ يدي و وضعتُ صافرة الـsafety على سقفي و بدأتُ أطارد الخراب، و أتابع المطاردات اليومية و الأسبوعية و الشهرية و السنوية. البَرَكات لئلا تضيع، و السيئات لئلا تزداد سوءا ً، و كل شيء آخر ليبقى على حاله. أسمعُ جَرْسَ "عصافير السوس" و هي تتقافزُ على شجرتي المتعاظمة. تنقر الثمار و تمضغ الأوراق و تهز الأغصان و تهرس البراعم و تنخر و تحفر و تكشف الأحشاء الخضراء و النسغ الصافي للدود و الغبار. لا أراها بعيني لكنني أسمع، و أصدّق ما أسمع، و أسمعُ ما أتخيّـل. فأتحرّك لطرد "عصافير السوس" في الأنحاء غير المتوقعة و سعادتي الصغيرة الوحيدة أن أجدها لم تأتِ بعد إلى هذه الناحية. ستأتي لكنها لم تأتِ بعد. و كلما انتهى يومٌ أو عامٌ أو عُمرٌ، راعني أنه لم يذهب إلا في مطاردة الخراب. لا شيء آخر. الجسد رمز ذلك. معظم وقتي أمضيه في صيانة الجسد. كم يستهلك الواحد في سبيل أن يُبقي جسدهُ مكانا ً مقبولا ً لسُكنى روحه؟ إنني أستهلك الكثير و أشيع الفوضى حولي و أنتج أطنانا ً من الـمُخلفات فقط من أجل أن أحتفظ بحدٍ أدنى من القبول لوجودي، و لأشعر بقدرٍ قليل من الكرامة لإنسانيتي...
تنظيف الأسنان مرتين كل يوم.
الاستحمام مرة كل يوم.
رمي أنبوب المعجون الفارغ و قنينة الشامبو الفارغة في القمامة.
شراء معجونٍ جديد و شامبو جديد.
غسل الوجه، ترطيب الوجه و الشفتين.
ترطيب الذراعين و الساقين.
ترطيب كعب القدم بمرطب خاص ثم لبس الجوارب.
تهذيب الحاجبين. رسمهما بالقلم. رمي "بـِـراية" القلم القديم. شراء قلم جديد.
تهذيب الأظافر.
استخدام مقوي الشعر كل ليلة قبل النوم. ابتلاع قرص الزنك و الحديد كل يوم. قص أطراف الشعر التالفة. صبغ الشعر كل ستة أشهر.
إفراغ سلة الغسيل. فصل الثياب حسب ألوانها. غسل كل لون على حدة. إفراغ غالونات الماء المصبّن من الغسالة و ملؤها، تباعا ً. وضع الثياب المغسولة في المجفف مع ورق معطـّـر. كَي الملابس. طي الثياب. توزيعها على الأدراج.
نفض الغبار عن الكتب، و الطاولات، و اللوحات، و تحت السرير، و على قاعدة الأباجورة، و من قماش الستارة، و حامل الأحذية، و فوق الدولاب، و تحت الكنبة، و المكتب، و على الستيريو، و الأشرطة، و الاسطوانات، و من على أكتاف الثياب المركونة جانبا ً.
فرز الصحف و الأوراق و رمي القديم و البحث عن مكانٍ للجديد.
غسل أغطية السرير و إعادة توضيبه. تعطيره.
إفراغ سلة القمامة. تغليفها بكيسٍ جديد.
تنظيف أرضية الحجرة. تعطيرها. إفراغ كيس المكنسة الكهربائية.
شراء خضروات و معلبات جديدة كل أسبوع. رمي الخضروات التالفة في الثلاجة. قياس الوزن مرتين كل أسبوع.
قراءة الصحف الجديدة كل يوم. قراءة الأخبار الأخيرة على النت. تفريغ الإيميل من الرسائل المتراكمة. البقاء على اتصال بجماعة النت. مراجعة الموضوعات العالقة. تحديث المعلومات بشأنها.
قراءة كتاب جديد. استذكار معلوماتٍ من كتابٍ قديم. كتابة ملاحظاتٍ بالمعلومات و الأفكار المهمة لئلا تـُـنسى.
الإرسال و الاتصال و الرد على رسائل الصديقات.
مراجعة الأشخاص الذين مضى وقت طويل على الاتصال بهم و معاودة الاتصال.
الاجتماع بالصديقات مرة كل شهر.
زيارة طبيب الأسنان مرة كل سنة.
زيارة كل طبيب لمطاردة الأوجاع المختلفة و الطارئة.
سمكرة السيارة القديمة.
طلاء الحيطان المتشققة.
الاحتجاج على حكومة فاسدة.
المطالبة ببيئة أقل قذارة، لأتمكن من الموت فيها بقدر قليل مُحتمل من الألم، و قدرٍ معقول من الكرامة. ليس اختناقا ً بالغازات المسمومة، و لا غيلة، و جيفة لا تجد دفــّـانا ً. بطاعاتٍ تستنزل رحمة الله من أجل نعيم جنة أصل اختلافها عن الدنيا، أنها دار كرامة لا تبلى. آمين.
الكرامة التي نعيش عليها حيواتنا في الدنيا، كرامة هشة تنهار عندما نتقيأ أو نذهب إلى دورة المياة أو نمرض. و عندما نموت نتخلص بسرعة من الجثمان قبل أن تُفزعنا رؤيته يتعفن أمام أعيننا. و لو توقفنا عن صيانة الجسد الحي يوما ً أو يومين لأدركنا أننا ننطوي على جوهر تلف هذه الدنيا فينا. العالم الذي نسكنهُ، شديد الشبهِ بنا. الجمالُ فيه لا يولدُ عَرَضيا ً أو صدفة، و لا يدوم طويلا ً، و طوال وجودهِ يجب أن يُتابع و يُرعى بلهفة شديدة. و هوَ مُـعرّضٌ في أية لحظة للذوبان في ملح الحياة. الأعمال الصالحة تستلزم جهدا ً كثيرا ً لتوجد. ولادة إنسانٍ صالح. إنشاء الإنسان على الصلاح. استحكام الإنسان الصالح على القوة. منع القوة من إفساده. تسخير قوة الإنسان الصالح لنيةٍ صالحة. استرشاد القوة و النية الصالحتين بذكاءٍ يسمح لهما ببلوغ الصواب. لهذا يوجد عددٌ قليلٌ من الأعمال الصالحة في هذا العالم. الطبيعة تعود بتجديد نفسها دائما ً. لكنها من أجل أن تتجدد يجب أن تتلف أولا ً. لكنّ الأشياء التي تتلف لا تعود بذاتها، بل ببدائلها. المرأة الجميلة تذوي إلى الأبد. البيت الجميل تتشقق حيطانه و يتقادم و يتهدّم. المثير يصبح مُمِـلا ً. الأناس الأجمل الأضعف يرتدم العالم بغباره فوقهم و يُميتهم باكرا ً عندما يغفل جمالهم عن إدارك الخراب. الحقائق الجميلة بتقدم الوقت تختلط بالوهم. الأوهام الكريهة بتقدم الوقت تتكشف عن حقائق. رُقاقةُ الطيب الثمينة يسحقها رَدمُ المزابل.
و أين تذهب العذوبة التي تـُـنسى؟
أين تغور الشفاعات الطيبين التي لا تـُـستجاب؟
أين تذهب الأشياء الأكثر أصالة؟
أين يضيع الـود الذي تبدد؟
أين تذهب فضلات العالم التي تحتوي أفضل ما في الدنيا مختلطا ً بأقذر ما فيها دون تمييز؟
إلى جبل الخراب. جبل الخراب طويل، أطول من الدنيا، أطول إلى السماء. رماديّ أعلى من كل شيء. تأسس في بدء الخليقة. إليه تذهب الأرواح الضائعة. و الجمال الذابل. و الخير الذي انقصم ظهره. و طول الأمل الشقي. و الأفكار المغفلة. و الذكريات الحلوة المنسية. و المزابل. و بصاق معاجين الأسنان. و الماء الآسن. و الماء الـمُصبّن الذي يدوم في ثقوب الحمام، و يأخذ طريقة باندفاع ٍ إلى جبل الخراب، حيث يختلط بأفضل ضحكات طفولتي تحت الشمس، ضحكاتي التي نسيتها".
|