الموضوع: الدراسات الاسلامية فقة القضايا مصلح النجار
عرض مشاركة واحدة
قديم 2013- 5- 15   #6
تسذآ
أكـاديـمـي فـضـي
 
الصورة الرمزية تسذآ
الملف الشخصي:
رقم العضوية : 59121
تاريخ التسجيل: Fri Sep 2010
المشاركات: 508
الـجنــس : أنـثـى
عدد الـنقـاط : 99
مؤشر المستوى: 66
تسذآ will become famous soon enough
بيانات الطالب:
الكلية: كلية الاداب
الدراسة: انتظام
التخصص: دراسات إسلامية
المستوى: المستوى الثامن
 الأوسمة و جوائز  بيانات الاتصال بالعضو  اخر مواضيع العضو
تسذآ غير متواجد حالياً
رد: فقة القضايا مصلح النجار

الباب الثاني الأموال

وفيه أربعة فصول الثاني من الأمانات والأموال كما قال تعالى في الديون: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته، وليتق الله ربه}

ما يدخل في باب الأموال
ويدخل في هذا القسم: الأعيان، والديون الخاصة والعامة، مثل رد الودائع، ومال الشريك، والموكل، والمضارب، ومال الولي من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك، وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات، وبدل القرض، وصدقات النساء، وأجور المنافع ونحو ذلك وقد قال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم} إلى قوله: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}. وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} أي لا تخاصم عنهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {المؤمن من أمنه المسلمون على دمائهم وأموالهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله} وهو حديث صحيح بعضه في الصحيحين، وبعضه في سنن الترمذي، وقال {: من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله} رواه البخاري. وإذا
كان الله قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق، ففيه تنبيه على وجوب أداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم، وكذلك أداء العارية وقد {خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقال في خطبته: العارية مؤداة، والمنحة مردودة، الدين مقضي، والزعيم غارم، إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث}. وهذا القسم يتناول الولاة والرعية، فعلى كل منهما: أن يؤدي إلى الآخر ما يجب أداؤه إليه، فعلى السلطان ونوابه، أن يؤتوا كل ذي حق حقه، وعلى جباة الأموال، كأهل الديوان أن يؤدوا إلى ذي السلطان، ما يجب إيتاؤه إليه، وكذلك على الرعية، الذين يجب عليهم من الحقوق، وليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال ما لا يستحقونه فيكونوا من جنس من قال الله تعالى فيه: {ومنهم من يلمزك في الصدقات، فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون، ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله، إنا إلى الله راغبون إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل فريضة من الله، والله عليم حكيم}. ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه من الحقوق، وإن كان ظالما، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، لما ذكر جور الولاة، فقال: {أدوا إليهم الذي لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم} ففي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا: فما تأمرنا؟ فقال: أوفوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم} وفيها عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنكم سترون بعدي، أثرة أو أمورا تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم، واسألوا الله حقكم} وليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء، ليسوا ملاكا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني - والله - لا أعطي ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت} رواه البخاري عن أبي هريرة عنه نحوه. فهذا رسول رب العالمين، قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره، كما يفعل ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في
ماله، وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من أحبوا، وإنما هو عبد الله، يقسم المال بأمره، فيضعه حيث أمره الله تعالى. وهكذا قال رجل لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين - لو وسعت على نفسك في النفقة، من مال الله تعالى، فقال له عمر: أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء؟ كمثل قوم كانوا في سفر، فجمعوا منهم مالا، وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم، فهل يحل لذلك الرجل، أن يستأثر عنهم من أموالهم؟. وحمل مرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مال عظيم من الخمس، فقال: إن قوما أدوا الأمانة في هذا لأمناء، فقال له بعض الحاضرين: إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى، فأدوا إليك الأمانة، ولو رتعت رتعوا وينبغي أن يعرف أن أولي الأمر، كالسوق، ما نفق فيه جلب إليه، هكذا قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة، جلب إليه ذلك، وإن نفق فيه الكذب والفجور والجور والخيانة، جلب إليه ذلك والذي على ولي الأمر، أن يأخذ المال من حله، ويضعه في حقه، ولا يمنعه من مستحقه وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إذا بلغه أن بعض نوابه ظلم، يقول: اللهم إني لم آمرهم أن يظلموا خلقك، أو يتركوا حقك.

• أصناف الأموال السلطانية الغنيمة
الغنيمة) الأموال السلطانية التي أصلها في الكتاب والسنة، ثلاثة أصناف: الغنيمة، والصدقة، والفيء. فأما الغنيمة: فهي المال المأخوذ من الكفار بالقتال، ذكرها الله في سورة الأنفال، التي أنزلها في غزوة بدر، وسماها أنفالا، أنها زيادة في أموال المسلمين، فقال: {يسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول} إلى قوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} الآية، وقال: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا، واتقوا الله إن الله غفور رحيم} وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم} رواه أحمد في المسند عن
ابن عمر، واستشهد به البخاري. فالواجب في المغنم تخميسه، وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى، وقسمة الباقي بين الغانمين، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الغنيمة لمن شهد الوقعة وهم الذين شهدوا القتال، قاتلوا أو لم يقاتلوا، ويجب قسمها بينهم بالعدل، فلا يحابي أحدا، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه، يقسمونها. وفي صحيح البخاري: {أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، رأى له فضلا على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟} وفي مسند أحمد عن سعد بن أبي وقاص، قال: {قلت: يا رسول الله: الرجل يكون حامية القوم، يكون سهمه وسهم غيره سواء؟ قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد، وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم} ؟. وما زالت الغنائم بين الغانمين، في دولة بني أمية وبني العباس، لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر، لكن يجوز للإمام أن ينفل من ظهر منه زيادة نكاية كسرية تسرت من الجيش، أو رجل صعد حصنا عاليا ففتحه، أو حمل على مقدم العدو فقتله، فهزم العدو ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه كانوا ينفلون لذلك. وكان ينفل السرية في البداية الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس، وقال بعضهم: إنه يكون من خمس الخمس، لئلا يفضل بعض الفاتحين على بعض، والصحيح أنه يجوز من أربعة الأخماس، وإن كان فيه تفضيل بعضهم على بعض لمصلحة دينية، لا لهوى نفس، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، وهذا قول فقهاء الشام وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم، وعلى هذا فقد قيل: إنه ينفل الربع والثلث بشرط وغير شرط، وينفل الزيادة على ذلك الشرط، مثل أن يقول: من دلني على قلعة فله كذا، ومن جاء برأس فله كذا، ونحو ذلك، وقيل: لا ينفل زيادة على الثلث، ولا ينفله إلا بالشرط، وهذان قولان أحمد وغيره، وكذلك - على القول الصحيح للإمام أن يقول: من أخذ شيئا فهو له، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد قال ذلك في غزوة بدر إذا رأى ذلك مصلحة راجحة على المفسدة. وإذا كان الإمام يجمع الغنائم ويقسمها، لم يجز لأحد أن يغل منها شيئا {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} فإن الغلول خيانة ولا تجوز النهبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، فإذا ترك الإمام الجمع والقسمة، وأذن في الأخذ إذنا جائزا، فمن أخذ شيئا بلا عدوان، حل له بعد تخميسه، وكل ما دل على الإذن فهو إذن وأما إذا لم يأذن، أو أذن إذنا غير جائز، جاز للإنسان أن يأخذ مقدار ما يصيبه بالقسمة، متحريا للعدل في ذلك. ومن حرم على المسلمين جمع المغانم، والحال هذه، وأباح الإمام أن يفعل فيها ما يشاء، فقد تقابل القولان تقابل الطرفين، ودين الله وسط. والعدل في القسمة: أن يقسم للراجل سهم، وللفارس ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم له، وسهمان لفرسه، هكذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر. ومن الفقهاء من يقول: للفارس سهمان، والأول الذي دلت عليه السنة الصحيحة؛ ولأن الفرس يحتاج إلى مئونة نفسه وسائسه - ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة راجلين - ومنهم من يقول: يسوي بين الفرس العربي والهجين في هذا، ومنهم من يقول: بل الهجين يسهم له سهم واحد، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والفرس الهجين، الذي تكون أمه نبطية ويسمى البرذون - وبعضهم يسميه التتري، سواء كان حصانا أو حصانا خصيا، ويسمى الإكديش أو رمكة، وهي؛ الحجر، كان السلف يعدون للقتال الحسان، لقوته وحدته، وللإغارة والبيات الحجر؛ لأنه ليس لها صهيل، ينذر العدو فيحترزون وللسير الخصي؛ لأنه أصبر على السير.

• أصناف الأموال السلطانية الصدقات
الصدقات) وأما الصدقات، فهي لمن سمى الله تعالى في كتابه، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن رجلا سأله من الصدقة، فقال: إن الله لم يرض في الصدقة، بقسم نبي ولا غيره، ولكن جزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك}. (فالفقراء والمساكين) يجمعها معنى الحاجة إلى الكفاية، فلا تحل الصدقة لغني، ولا لقوي مكتسب (والعاملين عليها) هم الذين يجبونها ويحفظونها ويكتبونها، ونحو ذلك (والمؤلفة قلوبهم) سنذكرهم - إن شاء الله تعالى - في مال الفيء (وفي الرقاب) يدخل فيه إعانة المكاتبين، وافتداء الأسرى، وعتق الرقاب، هذا أقوى الأقوال فيها. (والغارمين) هم الذين عليهم ديون، لا يجدون وفاءها، فيعطون وفاء ديونهم، ولو كان كثيرا، إلا أن يكونوا غرموه في معصية الله تعالى، فلا يعطون حتى يتوبوا (وفي سبيل الله) وهم الغزاة، الذين لا يعطون من مال الله ما يكفيهم لغزوهم، فيعطون ما يغزون به، أو تمام ما يغزون به، من خيل وسلاح ونفقة وأجرة، والحج من سبيل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (وابن السبيل) هو المجتاز من بلد إلى بلد.

• أصناف الأموال السلطانية الفيء
الفيء) وأما الفيء، فأصله ما ذكره الله تعالى في سورة الحشر، التي أنزلها الله في غزوة بني النضير، بعد بدر، من قوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}. فذكر سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم على ما وصف، فدخل في الصنف الثالث كل من جاء على هذا الوجه إلى يوم القيامة، كما دخلوا في قوله تعالى: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم}. وفي قوله: {والذين اتبعوهم بإحسان} وفي قوله: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم} ومعنى قوله: {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} أي ما حركتم ولا سقتم خيلا ولا إبلا. ولهذا قال الفقهاء: إن الفيء هو ما أخذ من الكفار بغير قتال؛ لأن إيجاف الخيل والركاب هو معنى القتال، وسمي فيئا؛ لأن الله أفاءه على المسلمين، أي رده عليهم من الكفار، فإن الأصل أن الله تعالى، إنما خلق الأموال إعانة على عبادته؛ لأنه إنما خلق الخلق لعبادته، فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها، وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته، لعباده المؤمنين الذين يعبدونه، وأفاء إليهم ما يستحقونه، كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه، وإن لم يكن قبضه قبل ذلك، وهذا مثل الجزية التي على اليهود والنصارى والمال الذي يصالح عليه العدو، أو يهدونه إلى سلطان المسلمين كالحمل الذي يحمل من بلاد النصارى ونحوهم، وما يؤخذ من تجار أهل الحرب، وهو العشر، ومن تجار أهل الذمة إذا اتجروا من غير بلادهم، وهو نصف العشر. هكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ، وما يؤخذ من أموال من ينقض العهد منهم، والخراج الذي كان مضروبا في الأصل عليهم، وإن كان قد صار بعضه على بعض المسلمين. ثم إنه يجتمع من الفيء جميع الأموال السلطانية التي لبيت مال المسلمين كالأموال التي ليس لها مالك معين، مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معين، وكالغصوب، والعواري، والودائع التي عذر معرفة أصحابها، وغير ذلك من أموال المسلمين، العقار والمنقول فهذا ونحوه مال المسلمين. وإنما ذكر الله تعالى في القرآن الفيء فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يموت على عهده ميت، إلا وله وارث معين لظهور الأنساب في أصحابه، وقد مات مرة رجل من قبيلة فدفع ميراثه إلى أكبر تلك القبيلة، أي أقربهم نسبا إلى جدهم، وقد قال بذلك طائفة من العلماء، كأحمد في قول منصوص وغيره، ومات رجل لم يخلف إلا عتيقا له، فدفع ميراثه إلى عتيقه، وقال بذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، ودفع ميراث رجل إلى رجل من أهل قريته وكان صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه يتوسعون في دفع ميراث الميت، إلى من بينه وبينه نسب كما ذكرناه ولم يكن يأخذ من المسلمين إلا الصدقات، وكان يأمرهم أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، كما أمر الله به في كتابه. ولم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة، ديوان جامع، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه، بل كان يقسم المال شيئا فشيئا، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثر المال واتسعت البلاد، وكثر الناس فجعل ديوان العطاء للمقاتلة وغيرهم، وديوان الجيش - في هذا الزمان - مشتمل على أكثره، وذلك الديوان هو أهم دواوين المسلمين. وكان للأمصار دواوين الخراج والفيء وما يقبض من الأموال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يحاسبون العمال على الصدقات والفيء وغير ذلك، فصارت الأموال في هذا الزمان وما قبله ثلاثة أنواع: نوع يستحق الإمام قبضه بالكتاب والسنة والإجماع، كما ذكرناه، ونوع يحرم أخذه بالإجماع، كالجنايات التي تؤخذ من أهل القرية لبيت المال؛ لأجل قتيل قتل بينهم، وإن كان له وارث، أو على حد ارتكب - وتسقط عنه العقوبة بذلك، وكالمكوس التي لا يسوغ وضعها اتفاقا، ونوع فيه اجتهاد وتنازع كمال من له ذو رحم - وليس بذي فرض ولا عصبة، ونحو ذلك.

• الظلم الواقع من الولاة والرعية
وكثيرا ما يقع الظلم من الولاة والرعية: هؤلاء يأخذون ما يحل، وهؤلاء يمنعون ما يجب، كما قد يتظالم الجند والفلاحون، وكما قد يترك بعض الناس من الجهاد ما يجب، ويكنزه الولاة من مال الله، مما لا يحل كنزه، وكذلك العقوبات على أداء الأموال، فإنه قد يترك منها ما يباح أو يجب، وقد يفعل ما لا يحل. والأصل في ذلك: أن كل من عليه مال يجب أداؤه، كرجل عنده وديعة، أو مضارة، أو شركة، أو مال لموكله، أو مال يتيم، أو مال وقف، أو مال لبيت المال، أو عنده دين، هو قادر على أدائه، فإنه إذا امتنع من أداء الحق الواجب من عين أو دين، وعرف أنه قادر على أدائه، فإنه يستحق العقوبة، حتى يظهر المال أو يدل على موضعه فإذا عرف المال، وصير في الحبس فإنه يستوفي الحق من المال، ولا حاجة إلى ضربه به، وإن امتنع من الدلالة على مال ومن الإيفاء، ضرب حتى يؤدي الحق أو يمكن من أدائه، وكذلك لو امتنع من أداء النفقة الواجبة عليه مع القدرة عليها؛ لما روى عمر بن الشريد عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {لي الواجد يحل عرضه وعقوبته.} رواه أهل السنن وقال صلى الله عليه وسلم {مطل الغني ظلم} أخرجاه في الصحيحين واللي هو
المطل والظالم يستحق العقوبة والتعزير وهذا أصل متفق عليه: أن كل من فعل محرما، أو ترك واجبا، استحق العقوبة، فإن لم تكن مقدرة بالشرع كان يجتهد تعزيرا فيه ولي الأمر، فيعاقب الغني المماطل بالحبس، فإن أصر عوقب بالضرب، حتى يؤدي الواجب، وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم رضي الله عنهم عنهم ولا أعلم فيه خلافا. وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء والسلاح، سأل بعض اليهود، وهو سعية عم حيي بن أخطب، عن كنز مال حيي بن أخطب فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال: العهد قريب، والمال أكثر من ذلك فدفع النبي صلى الله عليه وسلم سعية إلى الزبير، فسمه بعذاب، فقال: قد رأيت حييا يطوف؛ في خربة هاهنا، فذهبوا فطافوا، فوجدوا المسك في الخربة} ، وهذا الرجل كان ذميا، والذمي لا تحل عقوبته إلا بحق، وكذلك كل من كتم ما يجب إظهاره من دلالة واجبة ونحو ذلك، يعاقب على ترك الواجب.

• وجوه صرف الأموال
وأما المصارف فالواجب: أن يبتدئ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين، كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة. فمنهم المقاتلة: الذين هم أهل النصرة والجهاد، وهم أحق الناس بالفيء فإنه لا يحصل إلا بهم، حتى اختلف الفقهاء في مال الفيء: هل هو مختص بهم، أو مشترك في جميع المصالح؟ وأما سائر الأموال السلطانية فلجميع المصالح وفاقا، إلا ما خص به نوعا، كالصدقات والمغنم.


القسم الثاني الحدود والحقوق وفيه بابان

1. حدود الله وحقوقه وفيه ثمانية فصول

أمثلة من تلك الحدود والحقوق
أمثلة من تلك الحدود والحقوق، وواجب الولاة نحوها وأما قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} فإن الحكم بين الناس، يكون في الحدود والحقوق، وهما قسمان: فالقسم الأول: الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين بل منفعتها لمطلق المسلمين، أو نوع منهم. وكلهم محتاج إليها، وتسمى حدود الله، وحقوق الله مثل: حد قطاع الطريق، والسراق، والزناة ونحوهم، ومثل: الحكم في الأمور السلطانية، والوقوف والوصايا التي ليست لمعين، فهذه من أهم أمور الولايات، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء ". وهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه، وإقامته من غير دعوى أحد به وكذلك تقام الشهادة فيه، من غير دعوى أحد به، وإن كان الفقهاء قد اختلفوا في قطع يد السارق: هل يفتقر إلى مطالبة المسروق بماله؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، لكنهم يتفقون على أنه لا يحتاج إلى مطالبة المسروق، وقد اشترط بعضهم المطالبة بالمال، لئلا يكون للسارق فيه شبهة.

عقوبة المحاربين وقطاع الطرق
عقوبة المحاربين، وقطاع الطريق الذين يعترضون الناس، في الطرقات ونحوها؛ ليغصبوهم المال، مجاهرة من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وفسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم، قال الله تعالى فيهم: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}. وقد روى الشافعي رحمه الله في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه في قطاع الطريق - إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي وأحمد وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله. ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم، فيقتل من رأى قتله مصلحة، وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيها، ويقطع من رأى قطعه مصلحة. وإن كان لم يأخذ المال، مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال كما أن منهم من يروي أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا، والأول قول الأكثر، فمن كان من
المحاربين قد قتل، فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء. ذكره ابن المنذر ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول، بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة، فإن هذا دمه لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية؛ لأنه قتله لغرض خاص. وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام بمنزلة السراق فكان قتلهم حد الله. وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا، أو القاتل مسلما، والمقتول ذميا أو مستأمنا. فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل لأنه قتل للفساد العام حدا، كما يقطع إذا أخذ أموالهم، وكما يحبس بحقوقهم.

واجب المسلمين إذا طلب السلطان المحاربين وقطاع الطريق فامتنعوا عليه وهذا كله إذا قدر عليهم
فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه، لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه، فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء، حتى يقدر عليهم كلهم، ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا، وإن أفضى إلى ذلك، سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا. ويقتلون في القتال كيفما أمكن، في العنق وغيره. ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم فهذا قتال، وذاك إقامة حد، وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام فإن هؤلاء قد تحزبوا لفساد النفوس والأموال، وهلاك الحرث والنسل، ليس مقصودهم إدامة دين ولا ملك، وهؤلاء كالمحاربين الذين يأوون إلى حصن، أو مغارة أو رأس جبل، أو بطن واد، ونحو ذلك، يقطعون الطريق على من مر بهم، وإذا جاءهم جند ولي الأمر تطلبهم للدخول في طاعة المسلمين والجماعة؛ لإقامة الحدود، قاتلوهم ودفعوهم مثل الأعراب الذين يقطعون الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات أو الجبلة الذين يعتصمون برءوس الجبال أو المغارات؛ لقطع الطريق. كالأحلاف الذين تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق ويسمون ذلك النهيضة، فإنهم يقاتلون كما ذكرنا. لكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار، إذا لم يكونوا كفارا، ولا تؤخذ أموالهم، إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق، فإن عليهم ضمانها فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا، وإن لم تعلم عين الآخر، وكذلك لو علم عينه، فإن الردء والمباشر سواء كما قلناه، لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه، ويرد ما يؤخذ منه على أرباب الأموال، فإن تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين، من رزق الطائفة المقاتلة لهم وغير ذلك. بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود ومنعهم من الفساد، فإذا جرح الرجل منهم جرحا مثخنا، لم يجهز عليه حتى يموت، إلا أن يكون قد وجب عليه القتل، وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه، إلا أن يكون عليه حد، أو نخاف عاقبته.

حد السرقة
وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة، أو الإقرار، تأخيره، ولا مال يفتدى به ولا غيره، بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها، فإن إقامة الحد من العبادات، كالجهاد في سبيل الله فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده فيكون الوالي شديدا في إقامة الحد، لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق، بكف الناس عن المنكرات؛ لإشفاء غيظه، وإرادة العلو على الخلق، به بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديب ولده، كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا لحاله، مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب، وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم، وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك، بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه، وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة. فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في
إقامتها متى كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات بجلب المنفعة لهم، ودفع المضرة عنهم، وابتغى بذلك وجه الله تعالى، وطاعة أمره ألان الله له القلوب، وتيسرت له أسباب الخير، وكفاه العقوبة البشرية، وقد يرضي المحدود، إذا أقام عليه الحد. وأما إذا كان غرضه العلو عليهم، وإقامة رياسته؛ ليعظموه أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال، انعكس عليه مقصوده ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن يلي الخلافة، كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ساسهم سياسة صالحة، فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب، فسأل أهل المدينة عن عمر كيف هيبته فيكم؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه. قال: كيف محبتكم له؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا قال: فكيف أدبه فيكم؟ قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة قال: هذه هيبته، وهذه محبته، وهذا أدبه، هذا أمر من السماء. وإذا قطعت يده حسمت واستحب أن تعلق في عنقه.

حد الزنا
وأما الزاني: فإن كان محصنا، فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت، كما {رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك الأسلمي، ورجم الغامدية ورجم اليهودية ورجم غير هؤلاء} ، ورجم المسلمون بعده، واختلف العلماء: هل يجلد قبل الرجم مائة؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره وإن كان غير محصن، فإنه يجلد مائة جلدة بكتاب الله، ويغرب عاما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض العلماء لا يرى وجوب التغريب. ولا يقام عليه الحد حتى يشهد عليه أربعة شهداء، أو يشهد على نفسه أربع شهادات، عند كثير من العلماء أو أكثرهم، ومنهم من يكتفي بشهادته على نفسه مرة واحدة ولو أقر على نفسه، ثم رجع فمنهم من يقول: يسقط عنه الحد، ومنهم من يقول: لا يسقط والمحصن من وطئ، وهو حر مكلف؛ لمن تزوجها نكاحا صحيحا في قبلها، ولو مرة واحدة، وهل يشترط أن تكون الموطوءة مساوية للواطئ في هذه الصفات على قولين للعلماء. وهل تحصن المراهقة للبالغ وبالعكس؟. فأما أهل الذمة، فإنهم محصنون أيضا عند أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين عند باب مسجده، وذلك أول رجم كان في الإسلام.

حد شرب الخمر
وأما حد الشرب: فإنه ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، فقد روى أهل السنن، عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال: {من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه} وثبت عنه أنه جلد الشارب غير مرة، وهو وخلفاؤه والمسلمون بعده. والقتل عند أكثر العلماء منسوخ وقيل هو محكم يقال: هو تعزير يفعله الإمام عند الحاجة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه ضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين} وضرب أبو بكر رضي الله عنه أربعين، وضرب عمر في خلافته ثمانين، وكان علي رضي الله عنه يضرب مرة أربعين ومرة ثمانين فمن العلماء من يقول: يجب ضرب الثمانين، ومنهم من يقول: الواجب أربعون، والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة، إذا أدمن الناس الخمر، أو كان الشارب ممن لا يرتدع بدونها ونحو ذلك. فأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب فتكفي الأربعون، وهذا أوجه القولين، وهو قول الشافعي، وأحمد رحمهما الله، في إحدى الروايتين عن أحمد وقد كان عمر رضي الله عنه - لما كثر الشرب - زاد فيه النفي وحلق الرأس مبالغة في الزجر عنه، فلو عزر الشارب مع الأربعين بقطع خبزه أو عزله عن ولايته كان حسنا، وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه عن بعض نوابه، أنه يتمثل بأبيات في الخمر فعزله.

المعاصي التي ليس فيها حد مقدر وبيان الحد الشرعي
وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة، كالذي يقبل الصبي والمرأة الأجنبية، أو يباشر بلا جماع، أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة، أو يقذف الناس بغير الزنا، أو يسرق من غير حرز، أو شيئا يسيرا، أو يخون أمانته، كولاة أموال بيت المال أو الوقف، ومال اليتيم ونحو ذلك، إذا خانوا فيها، كالولاة والشركاء، إذا خانوا، أو يغش في معاملته، كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك، أو يطفف المكيال والميزان، أو يشهد الزور، أو يلقن شهادة الزور، أو يرتشي في حكمه، أو يحكم بغير ما أنزل الله، أو يعتدي على رعيته، أو يتعزى بعزاء الجاهلية، أو يلبي داعي الجاهلية، إلى غير ذلك من أنواع المحرمات فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا، بقدر ما يراه الوالي، على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته، فإذا كان كثيرا زاد في العقوبة، بخلاف ما إذا كان قليلا، وعلى حسب حال المذنب، فإذا كان من المدمنين على الفجور، زيد في عقوبته، بخلاف المقل من ذلك، وعلى حسب كبر الذنب وصغره، فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم، ما لا يعاقبه من لم يتعرض إلا لمرأة واحدة، أو صبي واحد وليس لأقل التعزير حد، بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان، من قول وفعل وترك قول، وترك فعل، فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له، وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة، كما {هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا} وقد يعزر بعزله عن ولايته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعزرون بذلك، وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين، كالجندي المقاتل، إذا فر من الزحف، فإن الفرار من الزحف من الكبائر، وقطع خبزه نوع تعزير له، وكذلك الأمير إذا فعل ما يستعظم فعزله من الإمارة تعزير له. وكذلك قد يعزر بالحبس، وقد يعزر بالضرب، وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبا، كما روي عن عمر بن الخطاب، أنه أمر بذلك في شاهد الزور، فإن الكاذب سود الوجه، فسود وجهه، وقلب الحديث، فقلب ركوبه. وأما أعلاه، فقد قيل: " لا يزاد على عشرة أسواط ". وقال كثير من العلماء: لا يبلغ به الحد ثم هم على قولين: منهم من يقول: " لا يبلغ به أدنى الحدود ": لا يبلغ بالحر أدنى حدود الحر، وهي الأربعون أو الثمانون؛ ولا يبلغ بالعبد أدنى حدود العبد، وهم العشرون أو الأربعون وقيل: بل لا يبلغ بكل منهما حد العبد. ومنهم من يقول:
لا يبلغ بكل ذنب حد جنسه وإن زاد على جنس آخر، فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع اليد، وإن ضرب أكثر من حد القاذف، ولا يبلغ بمن فعل ما دون الزنا حد الزنا، وإن زاد على حد القاذف. كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " أن رجلا نقش على خاتمه، وأخذ بذلك من بيت المال، فأمر به فضرب مائة ضربة ثم في اليوم الثاني مائة ضربة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة ضربة وروي عن الخلفاء الراشدين، في رجل وامرأة وجدا في لحاف: " يضربان مائة " وروي {عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الذي يأتي جارية امرأته، إن كانت أخلتها له: جلد مائة، وإن لم تكن أخلتها له: رجم} وهذه الأقوال في مذهب أحمد وغيره، والقولان الأولان في مذهب الشافعي، وغيره.

جهاد الكفار القتال الفاصل
العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان: أحدهما: عقوبة المقدر عليه، من الواحد والعدد كما تقدم. والثاني: عقاب الطائفة الممتنعة، كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال فاصل، هذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله، فكل من بلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له، فإنه يجب قتاله {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}. وكان الله - لما بعث نبيه، وأمره بدعوة الخلف إلى دينه لم يأذن في قتل أحد على ذلك ولا قتاله، حتى هاجر إلى المدينة، فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}. ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم
لا تعلمون} وأكد الإيجاب، وعظم أمر الجهاد، في عامة السور المدنية، وذم التاركين له، ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب، فقال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} قال تعالى: {فإذا أنزلت سورة محكمة، وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}. وهذا كثير في القرآن، وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله، في سورة الصف التي يقول فيها: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك
الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}. وكقوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم}. وقوله تعالى: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}. وقال تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} فذكر ما يولده عن أعمالهم، وما يباشرونه من الأعمال، والأمر بالجهاد، وذكر فضائله في الكتاب والسنة، أكثر من أن يحصر، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع، كما دل عليه الكتاب والسنة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد}. وقال {إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة، كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله} متفق عليه. وقال {: من اغبر قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار} رواه البخاري وقال صلى الله عليه وسلم: {رباط يوم وليلة، خير من صيام شهر وقيامه. وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان} رواه مسلم. وفي السنن: {رباط يوم في سبيل الله، خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل} ، وقال صلى الله عليه وسلم {عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله} قال الترمذي حديث حسن وفي مسند الإمام أحمد {حرس ليلة في سبيل الله، أفضل من ألف ليلة يقام ليلها، ويصام نهارها}. وفي الصحيحين: {أن رجلا قال: يا رسول الله، أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل الله، قال: لا تستطيع. قال: أخبرني. قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا
تفطر، وتقوم ولا تفتر؟ قال: لا. قال: فذلك الذي يعدل الجهاد}. وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إن لكل أمة سياحة، وسياحة أمتي الجهاد في سبيل الله}. وهذا باب واسع، لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها، مثل ما ورد فيه، فهو ظاهر عند الاعتبار، فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه مشتمل من محبة الله - تعالى، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله وسائر أنواع الأعمال، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر. والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائما، إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة، ثم إن الخلق لا بد لهم من محيا وممات، ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما، فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا، مع قلة منفعتها، فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد، وقد يرغب في ترقية نفسه حتى يصادفه الموت، فموت الشهيد أيسر من كل ميتة، وهي أفضل الميتات.
  رد مع اقتباس