المحاضرة الأولى
لمحة موجزة عن الحجاز قبيل البعثة النبوية
الفهرس
تمهيد
أولاً: مكة المكرمة
ثانياً : انتقال السيادة إلى قريش
ثالثاً: الحكومة في قريش
رابعاً: مكة في عهد عبد المطلب
خامساً: علاقة قريش الخارجية
سادساً:نشاط أهل مكة التجاري
سابعاً: الحياة الاجتماعية في مكة قبل الاسلام
ثامناً:الحياة الدينية في مكة قبل الاسلام
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإنه يتحتم علينا ونحن ندرس السيرة النبوية أن نعطي ولو لمحه موجزة عن الحجاز قبيل البعثة النبوية الذي أخذ يتهيأ لاستقبال الدين الجديد والرسالة السماوية في جميع نواحي الحياة سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية .
أولاً: مكة المكرمة
لقد حافظ الحجاز على استقلاله منذ أقدم العصور، فلم يعبث بحريته الملوك الفاتحون، في الوقت الذي عبث فيه ملوك الفرس والروم باستقلال كثير من الأمم كذلك ظل محافظا على استقلاله أيام الإسكندر المقدوني الذي تمكن من الوصول الى بعض المناطق العربية والسيطرة عليها.
وكان من اثر تمتع أهل الحجاز بالإستقلال طول حياتهم، أن ظهرت فيهم طبائع خاصة بهم، من حيث عراقة أصلهم وشرف آبائهم وشهامتهم التى كانت ولا تزال مضرب الأمثال ولغتهم التي حافظت على نقائها وصفائها.
وكان لبلاد العرب دين واحد وعقيدة مشتركه مركزها مكة وكان العمالقة أول من نزل مكة وثم خلفهم قبيلة جرهم الثانية، وفي عهدهم نزل اسماعيل وأمه بوادي مكة وصاهرهم اسماعيل. ولما مات تولى البيت بعده ابنه ثابت، وهو أكبر أولاده، ثم تولى ولاة من جرهم استمرت ولايتهم إلى سنه 207 م.
ولما قدمت خزاعة من اليمن أجلت جرهم وانتزعت منها السيادة واستمرت خزاعة على ولاية البيت نحوا من ثلاثمائة سنه أحدثوا فيها الكثير من الأوهام الفاسدة ولا سيما عبادة هبل.
ثانيا : انتقال السيادة إلى قريش :
استمرت خزاعة على ولاية البيت حتى قويت قريش وتغلبت عليها في القرن الخامس الميلادي، وكانت على درجة كبيرة من الرقي، فاستولى قصي بن كلاب على أمر مكة والبيت الحرام سنه 440م من يد خزاعة وأجلاهم عنها بما كان له من العصبية، فرحلت خزاعة ونزلت في بطن مر (وادي فاطمة) ومن ثم عظم نفوذه واجتمعت له السقاية، والحجابة، والرفادة، واللواء، ولم تجتمع في رجل من قبله.
وإلى قريش يرجع الفضل في توثيق الروابط التي تربط من يؤمون البيت الحرام كل عام من مختلف القبائل، إذ أصبحت مكة المكان الذي تفد إليه القبائل من كافة أرجاء بلاد العرب حيث يجتمعون للحج والتجارة، وقد جعل هذا الأمر لقريش مكانةً خاصة في نفوس القبائل.
ثالثا: الحكومة في قريش:
ذكر المؤرخون أن بني سهم (ومنهم عمرو بن العاص) كانوا أصحاب الحكومة في قريش قبل الإسلام، ولعل هذه الحكومة كانت شيئا يشبه القضاء بحيث يحتكم القرشيون وغيرهم ممن يفدون على مكة من العرب إلى بني سهم، فيما كان يقع بينهم من الخصومات، وكان يلي الحكومة من قريش أصحاب الرأي والحلم والدهاء فيها.
رابعا : مكة في عهد عبد المطلب:
مازال فضل قريش يزداد بين القبائل حتى جاء عبد المطلب الذي اشتهر بتجديد حفر بئر زمزم سنه 540 م، وفي عهده خذل الله أبرهه الأشرم، وصده عن مكة والبيت الحرام ونجت مكة في أيامه من خطر الحبشة، فذاعت شهرته وقصدته القبائل من كافة أطراف الجزيرة.
وفي موسم الحج يأتي الناس من أصناف القبائل إلى مكة ويلتقون عند الكعبة وفي الأسواق، فيتعارفون ويتبادلون البضائع من بيع وشراء ومبادلة ويعقدون المجالس للمفاخرات والمشاورات وحل المشاكل، فساعد ذلك على تقريب العرب بعضهم من بعض واستقرار معنى القومية المشتركة في أذهانهم وتوحيد اللغة وتصفيتها. وقد استفادت قريش كثيرا من هذا الاحتكاك بجميع نواحيه سواء الدينية أو التجارية أو الفكرية.
خامسا : علاقة قريش الخارجية:
شهدت الفترة التى سبقت ظهور النبي صلى الله عليه وسلم صراعات عنيفة بين الفرس والروم وهما أعظم دولتين في ذلك الوقت وقد امتد صراع هاتين الإمبراطورتين حتى وصل إلى شبه الجزيرة العربية. وسقطت اليمن تحت الإحتلال الحبشي ثم الفارسي إلا أن مكة كانت بعيده عن ذلك الصراع بل انها قامت بنقل التجارة إلى خارج الجزيرة العربية، وقد حرص رجال مكة القرشيون على أن لا يزجوا بأنفسهم في مجال الصراع الدولي بل حرصوا على اتخاذ موقف الحياد.
وقد توسعت قريش في علاقاتها التجارية مع الجنوب والشمال والشرق فكانت لها علاقات طيبة مع زعماء اليمن وكذلك النجاشي زعيم الحبشة وكذلك الغساسنة والروم.
أما علاقة مكة بالفرس والحيرة، فإنه في الوقت الذي حصل فيه رجال مكة على عهود من اليمنيين والحبشة والروم للمتاجرة في بلادهم فإن أحد زعماء قريش وهو نوفل بن عبد مناف أخذ عهدا مماثلا من كسرى للمتاجرة في بلاد الدولة الفارسية.
وبهذه العلاقات التجارية الواسعة خرجت مكة من عزلتها الى المجال الخارجي واستطاعت أن تحتل دور الوسيط التجاري بين الدول المجاورة للجزيرة العربية.
سادسا : نشاط أهل مكة التجاري:
لقد قامت قريش على ترتيب قوافلها التجارية على إثر تلك العلاقات التي نشأت بينها وبين الدول المجاورة، فجعلت لتلك القوافل رحلتين في السنة، رحله في أشهر الصيف إلى الشمال، ورحله في أشهر الشتاء إلى الجنوب، وقد عملت على تأمين طرق القوافل بما عقدته من محالفات مع رؤساء القبائل الضاربة على جنبات هذه الطرق، فسيطرت قريش على التبادل التجاري بين الشمال والجنوب وعظمت قوافلها حتى لتبلغ القافلة الواحدة خمسمائة ألف بعير تحمل عروض التجارة المختلفة.
وكانت التجارة التي تحمل من الجنوب أو الشمال أو الشرق تفرق في مكة حيث تستهلك البيئة المحلية منها ما تحتاج إليه ثم يحمل الباقي إلى الجهات المختلفة.
وكانت في مكة سوق دائمة للتبادل التجاري، وخاصة مع القبائل القريبة منها، ولم تكن قوافل مكة تجارة أفراد، وإنما كانت تجارة مدينة، وكانت قريش كلها تشارك فيها، وكان كبار التجار يقومون على هذه القوافل التي تضم أموالا لأفراد متعددين منهم من يسافر على تجارته ومنهم من يستأجر آخرين.
سابعاً:الحياة الاجتماعية في مكة قبل الاسلام
كان التشكيل الإجتماعي للسكان في مكة هو التشكيل القبلي شأنها في ذلك شأن أجزاء الجزيرة العربية الأخرى، وكانت القبيلة الأساسية بمكة في منتصف القرن الخامس الميلادي هي قبيلة قريش التى جمعها قصي بن كلاب، ومن ثم فإن التشكيل الإجتماعي لسكان مكة كان يتكون من طبقات ثلاث:
طبقة الصرحاء - طبقة الموالي - طبقة الأرقاء. يضاف إليها الجاليات الأجنبية وأكثرهم من النصارى وقليل من اليهود.
المرأة في المجتمع المكي القديم:
كان العربي في الجاهلية لا يكتفي بزوجة واحدة، إما بقصد اعالتهن أو لغرض سياسي اذا كان رئيساً بين قومه، أو بقصد الإكثار من الذرية والتناسل وكان الزواج أنواعا منه:
زواج الصداق أو البعولة
زواج المتعة
زواج السبي
زواج الإماء
زواج المقت
وقد بالغ بعض الناس في بغضهم للبنات عند ولادتهن إلى حد الوأد: وهو أن يحفر الرجل للمولودة حفرة ثم يضع ابنته فيها ويهيل عليها التراب وشاعت هذه العادة الذميمة في بعض القبائل العربية كتميم وقيس وهذيل وكنده وبكر وقريش.
وتدل دلائل كثيرة على أن بنات الأشراف والسادة كانت لهن منزلة سامية فكن يخترن أزواجهن بأنفسهن، ويتركنهم إذ لم يحسنوا معاملتهن. وبلغ من منزلة بعض شريفاتهن أنهن كن يحمين من يستجير بهن إذا استشفع بهن.
وكانت من عادات العرب في الجاهلية أنهم يصحبون نساءهم في الحرب لكي يشجعونهم على الحرب والقتال, أما في السلم فإن المرأة في الجاهلية تقضي وقتها بين مساعدة زوجها في الزراعة أو الطهي أو حلب الأغنام وما إلى ذلك من مهن أخرى.
ثامناً: الحياة الدينية في مكة قبل الاسلام
كان معظم العرب في الجاهلية ومن بينها قريش وثنيه تؤمن بقوى الهية كثيرة تنبت في الكواكب ومظاهر الطبيعية، وفي أسماء قبائلهم مايدل على أنهم كانوا قريبي عهد بالطوطمية.
ثم تطورت وثنية العربي إلى عبادة قطع الصخور التى يستحسن مظهرها وهيأتها, وبعضها كانت بيضاء اللون, ومن أمثلة هذه الصخور ”الجلسد“ وكان بحضرموت على شكل جثة الرجل العظيم وهو من صخرة بيضاء لها رأس أسود وإذا تأملة الناظر رأى فيه كصورة وجه الإنسان ومنها ”ذو الخلصة“ وكان صخرة بيضاء منقوش عليها كهيئة التاج وكانت بين مكة واليمن.
كذلك كان للقمر منزلةً عظيمة, وهو الإله الأثير, ومكانته عند عرب الجنوب أسمى من مكانة الشمس التي كانت لحرارتها في الصيف تعرف بذات حميم ومثلت الشمس بصنم عبده العرب في فترة ما قبل الميلاد، وتسمى بها كثير من الأشخاص فعرفوا بعبد شمس.
وقد استعمل العرب اصطلاحين للدلاله على التماثيل التي كانوا يعبدونها في الجاهلية هما "أصنام" و "أوثان" ويذكر هشام بن محمد الكلبي: أن التمثال إذا كان معمولاً من خشب أو فضة أو ذهب وكان على شكل إنسان فهو صنم, وإذا كان من حجارة فهو وثن, أما النُصُب فهي أحجار كانت تنصب في الجاهلية ويذبح عليها العرب ذبائحهم وقرابينهم, وقد ذكرها الله في كتابه الكريم فقال: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"
مثلث الشرك الأعظم (اللات والعزىومناة)
لم تعظم قريش بمكة ولا من أقام بها من العرب من الأصنام تعظيمها العزى, ومناة, واللات, بحيث بات لهذه الآلهه من الشهرة ما لم يكن لغيرها من الأصنام.
ولقد بلغ من شدة تعصب العرب لهذه الآلهة الثلاث أنهم دافعوا عنها مخلصين وكانوا يُعذبون كل من يتخلى عن عبادتها، ويُسيمونه سوء العذاب والنكال.
1- اللات: جاء في بعض كتب التفاسير أن اللات بأرض نخلة، وكانت خاصة بقريش، وهي مشتقة من (لوى) لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون عندها متعبدين، أو يلتوون عليها أي يطوفون وزعموا أنها إنما سميت برجل منهم كان يلُت عندهم السمن بالزيت ويطعمها الحجاج.
2- العزى: وهي من أعظم أصنام قريش على الإطلاق, وكانت في الأصل لغطفان وهي عبارة عن سمرة أي شجرة أو ثلاث سمرات بأرض نخلة.
3- مناة: وهي ثالثة الآلهة إضافة إلى العزى, واللات, ويبدو أنها كانت دون الأخريين غير أنها كانت أقدم عهدا من العزى واللات, وهي أول ما عبد من الحجارة, وكانت للأوس والخزرج, ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر الأحمر, وقيل أنها كانت لهذيل وخزاعة . ولعل اسم مناه مأخوذ من القول منيت الدم وغيره, إذا صببته لأن الدماء كانت كما نعلم كانت تُمنى عندها تقرُباً إليها.
الخلاصة:
إن العالم الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم كان في أمس الحاجة إلى منقذ لأنه كان قد فسد في القرن الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم, وقد صور لنا القرآن الكريم ذلك الضياع الذي عاشه الإنسان في ذلك الزمن في قوله تعالى : (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس لنذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)
لقد جاءت هذه الآيه بمثابة إنذار وبشارة في الوقت نفسه, إنذار الى أن هذا الفساد الذي يغمر العالم إنما هو من صنع أبنائه أنفسهم, وأنهم يغرقون الآن إلى أذقانهم بما صنعوا, وبشارة لكل الذين انشقوا على دنس العصر واستعلوا على عفنه وفساده, وآلوا على أنفسهم أن يتحملوا المسؤولية وأن يسيروا وراء
رسولهم بعيدا عن الحفرة التى كان العالم يختنق فيها من أجل أن يخرجوا بالناس من ضيق الدنيا إلى سعتها, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن عبادة العباد الى عبادة الله, وتلك هي قمة الحرية التى بعث بها الرسول الأكرم لكي يمنحها للإنسان وغاية الدور الكبير الذي يفسر مبعثه عليه الصلاة والسلام.