المحاضرة التاسعة
....أساليب إضعاف العالم الإسلامي:
2- الاستشراق :
الاستشراق – كما يعرفه أهله – هو اشتغال طائفة من الباحثين بدراسة علوم الشرق وحضارته ، وأديانه ، ولغاته وثقافته ، وأسهم تياره في صناعة التصورات الغربية عن العالم الإسلامي والعربي ، وعبر عن خلفية الصراع الحضاري – القديم والحديث – بين الغرب والشرق ، بالمستشرقين عندما درسوا الإسلام ، مبادئه ، وحضاراته وتاريخه تحت ستار ما يسمى بالبحث العلمي مثلاً ، لم يلتزم معظمهم بموضوعية البحث العلمي ، فلم يحرصوا على إظهار الحقيقة بل عمدوا إلى تشويهها بباعث من التعصب البغيض، والحقد على الإسلام وأهله ،والرغبة في طمس معالمه ، وهذا التعصب – كما يراه الكثيرون – راجع في جذوره إلى الحروب الصليبية ونزعتها العدائية للإسلام ، ومن ثم يمكن وصف الاستشراق بأنه أسلوب جديد وغريب للسيطرة على الشرق ، وإلى الهيمنة الفكرية ، والسيطرة على مقدرات المنطقة سياسياً واقتصادياً .
تبانيت وجهات نظر المفكرين في ظاهرة الاستشراق – أسبابها ودوافعها – وتعددت الآراء في تحديد فتراتها التاريخية ، بيد أن معظم المهتمين بالأمر أعادوا منطلقاتها الرئيسية إلى نزعة التعصب الديني ، وسمة الاستعلاء السياسي عند الغرب ، وأرجعها بعضهم إلى دوافع شخصية ، حين ازدهرت العلوم الإسلامية في القرن الثاني عشر الميلادي / السادس الهجري ، وانتشرت المراكز العلمية في العالم الإسلامي ، وإلى حوافز ثقافية ممن أغوتهم فكرة الاطلاع على ثقافة الغير ، والتعرف على حياتهم الاجتماعية ، والدينية والحضارية – لكن هؤلاء المستشرقين لم يكونوا على درجة واحدة من الإخلاص للعلم والمعرفة في أبحاثهم المتنوعة ، فهناك طائفة منهم أخلصت ، وكانت موضوعية في أبحاثها ، واستطاعت – على قلة عددها – أن تنصف الإسلام وتاريخه ، وحضارته من الافتراءات والمغالطات المردودة ، ولعل من أهم أولئك المستشرق ليوبولد فايس – الذي أسلم وتسمى باسم محمد أسد ، والمستشرق المبشر والذي أسلم أيضاً إبراهيم خليل أحمد – وهناك آخرون .
أما الطائفة الثانية من المستشرقين – وهي الأكثرية – فقد تعمدت الدس والتشويش ، وتقصت سلبيات المجتمعات الإسلامية ، فضخمتها محاولةً أن تجعل من التفاصيل قضايا عامة ، ملحقةً أخطاء بعض المسلمين بالدين نفسه ، بغية إضعاف مواطن القوة ، واغتنام أماكن الضعف ، ولم يترك هؤلاء منفذاً يؤمن هدفهم ، ومصلحة دولهم السياسية إلا استفادوا منه ، سواء عن طريق التأليف والنشر ، أو عن طريق الجمعيات العلمية ، والمدارس ، والجامعات ، وإقامة المؤتمرات والندوات – وهم في كل ذلك لا يريدون سوى : إيجاد دراسات تاريخية ودينية تشوه الإسلام .
إن معظم المعطيات التي بين أيدينا – من كتابات المستشرقين الأدبية ، والتاريخية ، والسياسية والدينية ، تدين حركة الاستشراق وأهدافها المشبوهة ، وتربطها بعجلة السياسة الغربية التي لم تتردد يوماً عن استخدام كل الوسائل والسبل للوصول إلى غايتها الاستعمارية ، ويمكن تلخيص أهداف حركة الاستشراق في أمرين :
الأول : التبعية للغرب ، والاستسلام لقيمه المادية الحديثة .
الثاني : بث روح التخاذل الديني بين المسلمين ، بالتشكيك في دينهم ، وتاريخهم وإرثهم الحضاري ، وذلك بالتركيز علة النواقض والسلبيات في هذه الجوانب ، وبتأويل النصوص الدينية ، وشرحها شروحا ً منافية للتعاليم الإسلامية ، مما يقوي فكرة الشكل ، ويضعف الرابطة الدينية ، ويؤدي إلى (( تغريب )) العقلية الإسلامية .
إن نظرةً سريعة إلى أعمال معظم المستشرقين تكشف بوضوح مدى محاولتهم تشويه التراث الإسلامي ، والدس على الإسلام بمختلف الأساليب ، ونشر الأباطيل حوله ، مثل القول ببشرية القرآن ، والادعاء بأنه من صنع محمد صلى الله عليه وسلم ، ودعواهم بأن الإسلام اقتباس من الأديان السابقة ، اليهودية والنصرانية ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تأثر بتعاليم تلك الأديان ، وحرف في نصوصها ، وجعل القرآن – على حد قولهم – مضربة ، كما أنهم صوروا القرآن على أنه دين العنف والدماء للانتقاص من مكانة الجهاد ، وشككوا في قدرة الإسلام واللغة العربية في مسايرة التطور ، وقالوا إن الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني ، وأثاروا ما يسمى بقضية تحرير المرأة – وموقف الإسلام منها ، وغير ذلك من الإدعاءات والأباطيل .
كما أن الاستشراق نال من المناهج التعليمية ، والثقافية ، والفكر في العالم الإسلامي خاصة على يد تلاميذ المستشرقين ، والغرض من ذلك خلق جيل لا يعرف دينه جيداً ، ولا يعرف حضارته إلا بصورة شائنة بسبب تلك المناهج التعليمية ، وبسبب ما بثه المستشرقون من أباطيل حول ثقافة الإسلام وفكره ، وكل هذه العوامل تضعف من فكر الأمة ، ومن ثقتها بنفسها وبعقيدتها ، فيسهل على المستعمر استعبادها .
وكما يلاحظ أن الاستشراق أصبح بعد الحروب الصليبية ذا صبغة سياسية ودينية ، وأن بعض رجاله اهتموا بدراسة بلاد الشرق وعلومه ، تحت دوافع سياسية مشوهة ، حيث ظهر أن معظم كتابات المستشرقين في الدول المستعمرة ذات أهداف مشبوهة وأحكام مسبقة ، لم تلتزم بالأمانة العلمية ، ولكن هناك بعض الأعمال الجليلة التي قام بها بعضهم ، فقد بلغ ما ألفوه في قرن ونصف القرن منذ أوائل التاسع عشر الميلادي حتى منتصف العشرين ستين ألف كتاب فيه الغث وفيه الثمين ، وفيه المتحامل ، وفيه الموضعي ، وقد لاحظ بعض الدارسين لحركة الاستشراق أن الألمان من أكثر المستشرقين دقة في التأليف ، وموضعية في استقصاء الحقائق التاريخية ، وربما يعود ذلك إلى ان ألمانيا كانت أقل الدول الأوروبية استعمارية ، وقد تجلى هذا الإخلاص في البحث والمعرفة من خلال الأعمال التي قام بها (( جوهان جاكوب رايسكه )) سنة1716 – 1774 هـ مؤسس الدراسات العربية في ألمانيا والذي تفانى في دراسة وخدمة اللغة العربية وآدابها ، وهناك آخرون أمثاله ,
ولعل الدور المطلوب حالياً من رجال الاستشراق ، بعد أن أصبحت عملية التعارف بين الشرق والغرب ممكنة وسهلة ، هو أن يقوموا على دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية ، والأخذ بمنجزات العصر الحديث ومكتشفاته ، والانفتاح بإخلاص وموضوعية على منجزات الشرق الإسلامي وحضارته الإسلامية العريقة .
- حركة التنصير والبعثات التنصيرية :2
التنصير هو عملية التحول إلى النصرانية سواء من الإسلام أو غيره من الديانات السماوية كاليهودية ، أو التقليدية كالوثنية وغيرها ، وللتنصير وسائله المتعددة من مدارس ، ومعاهد ، وجامعات ، ومستشفيات ، وملاجئ ، وصحافة ، وأفلام ، وإذاعة ، ودور نشر، وندوات ومؤتمرات ، وغيرهما من الأساليب والتكتيكات المدروسة والمجربة .
ودوافع حركة التنصير نابعة من العداء الذي يشعر به الغرب والكنيسة النصرانية للإسلام , ومن خوفهما منه , بسبب الاعتقاد الراسخ بأن الدين الإسلامي هو العقبة الحقيقية القائمة في طريق تقدم حركة التنصير في العالم , وفي سبيل سيطرة أوروبا على الشرق الإسلامي , فالعداوة بين الإسلام وبين الغرب مزيج من عدة دعاوي دينية وسياسية , ففي جانب الدعاوى الدينية يقول أحد دعامات حركة التنصير المدعو " زويمر " – " إن الهدف من التبشير هو تحويل المسلمين عن التمسك بدينهم " – ويقول غلادستون أحد رؤساء وزراء بريطانيا السابقين " ما دام هذا القرآن موجوداً فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق , ولا أن تكون هي نفسها في أمان " – ويقول متنصر آخر : " إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق تقدم التبشير بالنصرانية في أفريقيا " .
أما من جانب الدعاوى السياسية , فإن المتنصرين في نظر الاستعمار هم عيونه الذين يقومون بتمهيد السبيل له باستعمار الأمم الإسلامية , فيمدونه بما يحتاجه من معلومات عن المسلمين وعقائدهم , وآدابهم , وثقافاتهم , ويعملون على إظهار المستعمرين في غير مظهرهم الحقيقي حتى لا يتحد المسلمون في مقاومتهم له .
فالتنصير إذاً يهدف إلى تغريب أبناء الشرق المسلم , وإبعادهم عن دينهم وقيمهم وربطهم بأوروبا , وإلى تقطيع أواصر القربى بين الشعوب الإسلامية .
والذي لاشك فيه أن حركة التنصير خطر داهم على الإسلام والمسلمين لأنه تتستر وراءه مظاهر براقة خداعة , من ذلك وسائله والتي تبدو وكأنها أعمال خير , وهي ليست كذلك , فالغاية منها ليست خيراً , وإنما الوصول بالنصرانية إلى الشعوب الأخرى – المسلمة وغيرها – وإنشاء المستشفيات والمصحات والملاجئ , والأندية , والجمعيات الاجتماعية , والأندية , والمخيمات والإعلام وغيرها من الوسائل , بغرض نشر دينهم النصراني .
ومن أهم وسائل التنصير :
أ- إدخال المسلمين إلى الديانة النصرانية .
ب- فتح المؤسسات التعليمية , من رياض للأطفال , ومدارس , ومعاهد , وكليات , وجامعات في أنحاء العالم الإسلامي .
ج- تحطيم الحواجز بين المسلمين والكفار تحت ستار المساعدات الإنسانية الطبية والغذائية , وبخاصة في إندونيسيا , وبنغلاديش , وبعض البلدان الأفريقية.
د- التركيز على إفساد المرأة المسلمة , ومحاربة اللباس الشرعي ( الحجاب ) .
هـ- مراقبة العالم الإسلامي , والتجسس عليه , ورصد الحركات الإسلامية , والثابت الآن أنه لكثير من المؤسسات التنصيرية صلات مباشرة بدوائر الاستخبارات في بلادها .
و- السيطرة على العالم الإسلامي عن طريق التغيير التعليمي , والعمل الاجتماعي , بإحداث المؤسسات , وتقديم الخدمات المختلفة تحت ستار الإنسانية , وكذلك عن طريق المشروعات الاقتصادية والعمرانية .
وكنموذج لاستهداف المتنصرين للعالم الإسلامي نورد مثالاً وحداً هو استهدافهم لإندونيسيا المسلمة , ومنه سندرك حجم التآمر الذي تتعرض له بلدان المسلمين , وما يستوجبه ذلك على الأمة الإسلامية من يقظة وحذر , فالغارة التنصيرية على هذا البلد نشطة على الحد البعيد , وفي سباق مع الزمن لتحقيق أهدافها , لقد وضعوا خطة عملهم ضد إندونيسيا في مؤتمرهم الذي عقدوه في مدينة ( مالانج ) الإندونيسية في عام 1967م , حيث قرروا أنه يجب الانتهاء من تنصير جزيرة " جاوا " والتي بها حوالي 65 مليون نسمة خلال ستين عاماً , بكل السبل والوسائل , ولو عنى ذلك شراء المسلمين بالمال في ذلك البلد الفقير – ولدينا إحصائية توضح مدى الخطر الذي يهدد المسلمين في إندونيسيا , وهي :
( إحصائية لعام 1990م لمجلس كنائس إندونيسيا لطائفة البروتستانت ) والتي توضح أنه يوجد في إندونيسيا :
- 15819 كنيسة بروتستانتية .
- 6997 قسيس بروتستانتي .
- 20203 متنصر ( مبشر ) متفرغ .
إحصائية لعام 1990م للكنيسة الكاثوليكية في إندونيسيا والتي توضح :
- 10520 كنيسة كاثوليكية في إندونيسيا .
- 8730 قسيس كاثوليكي .
- 10116 متنصر ( مبشر ) متفرغ .
ليس هذا فحسب بل إن مؤسسات التنصير تملك عدداً كبيراً من السفن , والطائرات العمودية لمساعدة المتنصرين على الانتقال بين المدن والقرى , والثلاثة آلاف جزيرة التي تتكون منها إندونيسيا – كما أن المتنصرون يمتلكون عدداً كبيراً من دور النشر , والمطابع الحديثة التي تقوم بطباعة كتب الأطفال , والقصص المصورة , وطباعة الإنجيل وتوزيعه مجاناً , هذا بالإضافة إلى المكتبات العامة , وشبكة اتصالات لاسلكية حديثة لتنسيق أعمال الإرساليات ولهم وسائل إعلامهم من صحف , وإذاعات محلية في شتى أنحاء البلاد , ولهم عشرات المعاهد , والجامعات , والمستشفيات الكبرى والمتنقلة , وتكفي الإشارة أن مؤسسة تنصيرية واحدة تقوم على 180 مستشفى , 129 مستوصف للولادة , 345 صيدلية , و45 عيادة متنقلة .
كما أن مجلس الكنائس العالمي والفاتيكان يسهمون بطريقة مباشرة في أعمال التنمية في إندونيسيا تحت شعار ( من الكنيسة إلى المجتمع ), حيث أنشأوا " هيئة مجلس الكنائس " للمساهمة في أعمال التنمية كمدخل جديد للوصول إلى قطاعات من السكان لا يستطيعون الوصول إليها بالطرق التقليدية , وهناك العديد من المنظمات الأمريكية غير الحكومية العاملة في مجال التنصير والتي تحصل على دعم من بعض وكالات الأمم المتحدة , مثل منظمة الصحة العالمية , who , ومنظمة الأغذية العالمية fao , ومنظمة اليونسكو , واليونسيف إلخ , علماً بأن الدول العربية والإسلامية تسهم في ميزانيات منظمات الأمم المتحدة تلك , ومن تلك المنظمات المستفيدة من دعم الأمم المتحدة هي :
أ- مجلس الإرساليات الطبية الكاثوليكية والذي يعمل من خلال الطب والصحة والعامة .
ب- خدمات الإغاثة الكاثوليكية .
ج- صندوق الأطفال المسيحي .
د- جمعية الرحمة الدولية , وتعمل في مجال رعاية الأيتام , والأطفال اللقطاء إلخ .
هـ- المنظمة الكاثوليكية .
وهذه مجرد أمثلة لبعض المنظمات التنصيرية المدعومة دولياً والتي تعمل في جد ومثابرة في إندونيسيا .
وإلى جانب هذه المنظمات فإن هناك العديد من المدارس , والمعاهد والمستشفيات , وملاجئ الأيتام , ودور العجزة ومراكز الشباب التي تتبناها وترعاها منظمات ومؤسسات تنصيرية في هولندا – الدولة التي كانت تستعمر إندونيسيا .
ويبقى الفقر منفذاً أساسياً يتسلل منه المتنصرون إلى صفوف المسلمين , ولابد للحكومات والمنظمات الإسلامية من سد هذه الثغرة , والتنبيه لخطر حركة التنصير , والوقوف – بطرق علمية مدروسة – أمام مخططاتها الشريرة .. فهي تعمل عبر وسائل ماكرة خادعة .
4- الميراث الاستعماري:
اهتم الاستعمار بتشجيع النزعات القومية والعنصرية برغم أن الإسلام دين لكل البشر , والناس كلهم سواسية في الإسلام , وأمته أمة واحدة , دينها واحد , ورابطها واحد , وليس في الإسلام عصبية , أو قبلية , أو قومية , فقد حاربها الإسلام جميعاً حينما جعل المسلم أخا المسلم , فقال سبحانه وتعالى في سورة الحجرات :} إنما المؤمنون أخوة { .. ولما كان الاستعمار يدرك هذه الحقيقة , ويعلم أهميتها بالنسبة للمسلمين , فقد عمل على إزالتها من نفوسهم , فمثلاً أراد أن يبعث في مصر فكرة " الفرعونية " التي تقوم على إحياء التراث العمراني – تراث ما قبل الإسلام – والاعتزاز به , كما بعث " الفارسية " في إيران , وسوغ لها وللحضارات الفارسية القديمة السابقة لحضارة الإسلام , الاعتزاز بتاريخ الفرس القديم , وكذلك أثار الاستعمار دعوى " الفينيقية " في بلاد الشام لنفس الأسباب والأهداف ثم " الآشورية " في العراق , و " البربرية " في المغرب , ولكن أهل المغرب قاوموها , والغرض من كل هذه الدعوات الإقليمية الضيقة هو سلخ أجزاء العالم الإسلامي بعضها عن بعض تمهيداً لاستعمارها والسيطرة عليها .
ولما لم تنتصر هذه الدعوات الضيقة لجأ الاستعمار إلى نشر أفكار جديدة , مثل فكرة العروبة التي أراد لها أن تكون رابطة قومية للعرب مناقضة للإسلام , ثم أشعل النار بين القوميتين – العربية والتركية – وحاول التفريق بينهما , بعد أن كان الإسلام يجمع بين الأمتين على مدى العصور الإسلامية المختلفة .
وفي ظل القومية العربية انسلخ القوميون عن جسم العالم الإسلامي , ونظروا إلى قضاياه بما ينسجم ونظرتهم القومية , لا كما يمليه عليهم إسلامهم , فمثلاً سميت قضية فلسطين بالقضية العربية كأن لا علاقة للدول الإسلامية غير العربية بها , وهي في الواقع قضية إسلامية .
والغرض من إثارة كل هذه الأفكار العنصرية الضيقة سواء كانت قومية , أو وطنية , أو اشتراكية , وغيرها – هو اعتبار الدين عنصراً لا أهمية له ,
ولعل من أوضح الأمثلة على تشجيع الاستعمار للنعرات العنصرية مشكلة جنوب السودان , ومشكلة الأكراد في العراق , وتركيا وسوريا وهو ما سنتناوله بشيء من التوضيح فيما يلي :
أ- مشكلة جنوب السودان :
هي مشكلة ورثها السودان من الاستعمار البريطاني , وهي من صنع ذلك الاستعمار , الذي سعى بكل السبل إلى تعمق الفوارق العرقية , والدينية والثقافية بين شمال السودان وجنوبه بهدف فصل الجنوب عن الشمال – فعزل الجنوب إدارياً , وثقافياً ودينياً عن الشمال , وأدخل في روح الجنوبيين أنهم مستعمرون من سكان الشمال المسلمين , وأن العرب في الشمال يستغلونهم ويغمطونهم حقوقهم السياسية والاقتصادية , وأن أهل الجنوب عرقياً مختلفين عن أهل الشمال , ومن أجل تعميق هذه الأفكار وغيرها أطلق للإرساليات التنصيرية يدها في الجنوب , فمنحها كل ما تحتاجه من عون وسند , وبالمقابل حارب الإسلام هناك , ومنع انتشاره بكافة السبل , وسن القوانين لمنع اختلاط أهل الشمال بأهل الجنوب خوفاً من أن ينتشر الإسلام بينهم , وقد أدت سياسة العزل السياسي والحضاري هذه إلى المواجهة بين الشمال والجنوب , وليست الحرب الدائرة في جنوب السودان الآن – والتي تستنزف موارد البلاد كلها – حرباً بين الإسلام والنصرانية كما تصورها أجهزة الغرب الإعلامية الاستعمارية , وإنما هي نتيجة لتفاعلات الخلافات الحضارية , والثقافية والسياسية التي زرعها الاستعمار البريطاني , والمؤسسات الكنسية في أرض الجنوب , وهي أيضاً نتيجة الأباطيل التي ملأ بها الاستعمار عقول بعض الجنوبيين ممن تخرجوا في مدارس الجنوب ,
ب- المشكلة الكردية :
وهي أيضاً من صنع الاستعمار يوم أن خطط الحدود السياسية التي تفصل بين أمة تركية وأمة عربية , وأمة إيرانية – ثم فرق الأكراد ,وألحق كل مجموعة منهم بوطن من أوطان هذه الأمة الإسلامية , فمزق هويتهم , وعمق إحساسهم بالضياع والتشتت , فمواطنهم متعددة وواقعة في أرض وعرة التضاريس , بعضها في شمال العراق , وبعضها الآخر في شرق , أو جنوب شرق تركيا , وبعضها الثالث في غرب إيران , ومن ثم تولد للأكراد شعور بأنهم حبيسوا هذا الوطن المحدد تحيط بهم الأمة العربية والأمة الإيرانية , والأمة التركية من كل جانب , وأنهم سلالياً مختلفين عن هذه الأمم –
ج- المشكلات الحدودية :
وهذه من أقسى المشكلات التي ورثتها الاستعمار للحكومات الوطنية التي خلفته في حكم كثير من بلدان العالم الإسلامي , فقد قسم الاستعمار البلاد الإسلامية التي سيطر عليها إلى مناطق نفوذ , بريطانية , وفرنسية , وإيطالية إلخ , ثم قسم مناطق النفوذ تلك إلى مناطق وحدات متعددة وقد بدى ذلك واضحاً في سياسة الاستعمار الفرنسي في سوريا , حيث قسمها إلى أربع وحدات , ثم إلى وحدتين هما : سوريا ولبنان , وسياسة الاستعمار في كل ذلك هي ترسيم حدود جغرافية مصطنعة دون مراعاة لخطورة تمزيق العناصر البشرية الواحدة , وهد الاستعمار دائماً هو تمزيق العالم الإسلامي جغرافياً وسكانياً , وخلق بؤر صراع بين كل دولة وجارتها وبخاصة في المناطق ذات الثراء الاقتصادي , فمثلاً عمد إلى خلق ما يعرف بالمناطق المحايدة بين بعض الدول الخليجية وغيرها , الأمر الذي أثار صراعات حدودية بين تلك الدول ,فهناك الآن صراع بين المغرب والجزائر على بقعة من الأرض ذات ثراء معدني , ثم كانت قضية الصحراء المغربية , ثم اقتطع الاستعمار لواء الإسكندرونة السوري وألحقه بتركيا , وهناك قضية شط العرب والحدود بين إيران والعراق , وقضية كشمير بين الهند وباكستان , وبين بعض دول الخليج , بعضها مع بعض , والتي وصل بعضها إلى محكمة العدل الدولية بلاهاي .
د- سيطرة ثقافة المستعمر :
من الإستراتيجيات التي اعتمد عليها الاستعمار في تركيز هيمنته على الدول الإسلامية الواقعة تحت سيطرته , تغليب ثقافته ولغته على ثقافة ولغة تلك الدول , وخلق طبقة من متعلمي ذلك البلد – تعملوا في معاهده وعلى يديه – لتقوم بأعباء الحكم من بعده , وهذا ما عرف بتهيئة الأقليات للحكم , وبخاصة الأقليات النصرانية التي ستقوم برعاية مصالحه ( المستعمر ) على حساب مصالح أممها الإسلامية , فمثلاً تتحكم الأقليات النصرانية الحاكمة في عدد من البلاد الأفريقية ذات الكثافة المسلمة , كان ذلك في تشاد – على سبيل المثال – وحتى عهد قريب – فقد حكمت تلك البلاد فئة تقل نسبتها عن 10% من نسبة السكان المسلمين - وقد تغير هذا الوضع الآن , أما في أرتيريا , وأثيوبيا وتنزانيا مثلاً فالحكم للأقلية النصرانية التي تتحكم في رقاب الكثرة المسلمة هناك , ولعل السبب في ذلك أن الاستعمار قد عمل في تلك البلاد وغيرها على جعل الأكثرية المسلمة في حالة من الجهل , والفقر والتأخر بحيث لا تستطيع تولي المراكز القيادية في الدولة ,
هـ - إسقاط الخلافة الإسلامية في الدول العثمانية :
عمد المستعمرون بعون من الصهيونيين والعلمانيين – كما رأينا في موضع سابق– إلى إسقاط الخلافة العثمانية , لكونها نواة اتحاد المسلمين , ولكونها أساس الحكم في الإسلام , والقائمة على أمور المسلمين كلهم , وقد تعرضنا سالفاً لكيفية إسقاط الخلافة , والآثار السلبية التي ترتبت على إسقاطها .**